الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإيمان الهش... على سبيل النقد لأحد روافد الإلحاد (2)

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2017 / 12 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ما السبب في أن الإيمان قد هشَّ؟ وإلى أين قادتنا تلك الإشكالية؟!
لماذا الإيمان الهش؟!
قلت إن عدم وضوح مفهوم الصفات الإلهية في العقول وعدم تجذر فكرة الخالق الحكيم العليم في النفوس هما السببان اللذان يقفان وراء مشكلة هشاشة الإيمان الآخذة في التنامي بين جنبات المجتمع المصري، وهي المشكلة التي أعود وأؤكد أنها أخطر بكثير للغاية من الإلحاد الصريح لأسباب سوف يأتي مجال ذكرها بعد قليل بإذن الله. ما السبب وراء تشوش الأفكار وسطحيتها؟! هناك الكثير من الأسباب بعضها اجتماعي والآخر سياسي والثالث ديني والرابع كذا والخامس كذا، ولكنها كلها تحالفت لتوجه ضربات قوية لإيمان الكثيرين من أبناء المجتمع المصري قاذفةً بإياه على أول طريق الإلحاد بإيمان هش وعقل مضطرب. ومن بين هذه الأسباب.
1- انتشار المظالم والقيم السلبية
لا يمكن لأي منا أن ينكر انتشار الكثير من القيم السلبية في مقابل تراجع وجود العديد من القيم الإيجابية من المجتمع المصري المعاصر؛ فقد تراجعت العديد من القيم الإيجابية بخاصة تلك التي تدعو إلى التواد والتراحم والتعاضد لتحل محلها قيم الأنانية وإعلاء المصلحة الشخصية والتواكل والظلم والقسوة.
أدى هذا إلى إشكاليتين يواجههما العقل هش الإيمان. الإشكال الأول هو عدم القدرة على تصور وجود رحمة صافية تنبع من أي مصدر حتى وإن كان هذا المصدر هو الله تعالى؛ حيث اعتادت النفس الإنسانية على أن ترى الأنانية والظلم والقسوة في كل مكان لدرجة استحال معها لدى البعض أن يعتقدوا بوجود رحمة ومحبة صافيتين. كذلك بدأ التشكك يساور النفوس هشة الإيمان في وجود الخالق جل وعلا أو على الأقل تحليه بالرحمة؛ فكيف يتفق مفهوم الإله الرحيم مع كل ما في العالم من مظالم؟! كثير من الشكوك والأسئلة ثارت دون أن تجد إجابات رغم أن كل هذه الشكوك مردود عليها، وهو ما سوف يرد في قسم تالٍ من هذه الرسالة بإذن الله، ولكنني الآن أتصدى لعرض الأسباب فقط.
2- ضعف التربية الدينية
أدى ضعف التربية الدينية إلى الكثير من التشققات في العقول والنفوس هشة الإيمان؛ فالتربية الدينية تبني سدًا منيعًا يحول دون تسرب الهوام من الأفكار السلبية، وتعمل على نشر الأفكار الإيجابية مثل أن انتشار المظالم لا يعني غياب العدل، وأن كثرة القسوة لا تعني أن الرحمة قد تلاشت من الوجود؛ فشرط استمرار الوجود هو التوازن. وما دمنا موجودين في ظل القسوة، فهذا يعني أن هناك قدرًا مساويًا من الرحمة موجود في الكون. أفكار مثل هذه تأتي من التربية الدينية القوية، ولكن مثل هذا النوع من التربية الدينية العقلانية يغيب عن المجتمع المصري بصورة كبيرة، والعوامل كثيرة.
لا تقتصر التربية الدينية على المدرسة ولا الأسرة ولا دار العبادة فقط، ولكنها تشمل كل هذه المؤسسات وغيرها من المؤسسات المجتمعية الأخرى مثل جماعات الأقران والإعلام وما إلى ذلك. مشكلة التربية الدينية أنها إما تنبع من مصدر ضحل لا يملك المعرفة الدينية الكافية للتصدي للإجابة عن مثل هذه التساؤلات التي تنبت في العقل هش الإيمان، أو من مصدر متشدد متعصب ليست لديه أية مساحة لسماع أي من هذه التشككات أو التساؤلات ولكن لديه ما يكفي من المساحة لإلقاء اتهامات الكفر والإلحاد على من يتفوه بمثل هذه الأسئلة، أو تنبع التربية الدينية من مصدر مؤسسي يهدف إلى ترسيخ أفكار معينة تأتي بتعليمات من النظام السياسي الحاكم؛ فلا يربي دينيًّا بل يربي سياسيًّا مستخدما الدين أداة لتحقيق تلك التربية؛ فلا ينال الطاعة السياسية، ولا يحظى بشخص عالٍ في تربيته الدينية. لا ينفي هذا وجود العديد من مصادر التربية الدينية الرشيدة التي تخلق إنسانًا متدينًا يؤمن بخالقه ويحفظ واجباته إزاء مجتمعه، ولكن الإشكال الذي أدى إلى تنامي مشكلة الهشاشة الإيمانية هي تنامي تلك المصادر السلبية للتربية الدينية؛ فالتنامي في المصادر السلبية أدى إلى تنامي في الأفكار السلبية.
3- الإساءات التي تتعرض لها المرأة
من بين أهم عوامل الهشاشة الإيمانية يأتي الكثير من أوجه المعاملة السيئة التي تتعرض لها المرأة في المجتمع المصري بذرائع دينية من استيلاء على الميراث على سبيل المثال بداعي الحفاظ على الإرث بزعم أن المرأة غير قادرة على إدارة أموالها لعدم تمتعها بـ"القوامة"، كذلك الاعتداء بالضرب على الزوجة بداعي التأديب والتهذيب تحت غطاء من فهم مغلوط لآيات القرآن الكريم في التعامل مع المشكلات الزوجية وغير ذلك من المشكلات التي تواجه المرأة لأسباب تعود إلى فهم غير سوي ولا رشيد للتعاليم الإسلامية التي تخص وضع المرأة في المجتمع الإنساني.
الكثير من هذه المعاملات يعود إلى عادات وتقاليد سائدة من قبل أن يبعث الله تعالى رسوله الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، وترسخت وتجذرت ثم جاء الإسلام ليلغيها، ولكن بعقلية فذة استطاع الإنسان أن يتجاوز المعاني السامية ليأتي بفهم ملتوٍ لآيات الله تعالى يمنح غطاءً دينيًّا وهميًّا للانتهاكات والإساءات التي تتعرض لها المرأة. وإلى جانب العادات والتقالدي ومسئوليتها عن الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة، نجد لدينا الكثير من أقوال الفقهاء والمفسرين عبر التاريخ الإسلامي تنافي أبسط المعاني السامية التي أتى بها الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
كل هذه الأمور أدت إلى أن تعاني شريحة معتبرة من النساء المصريات من داء هشاشة الإيمان لعدم قدرتهن على الاقتناع بأن الإسلام دين العدل والسماحة يتيح للمجتمع أن ينهب حقوق المرأة بهذه الطريقة الفجة، وأن ينظر إليها باعتبارها من المخلوقات الدنيا لا باعتبارها إنسانًا كرمه الله تعالى.
4- الدعوات غير الرشيدة لحقوق المرأة
تبرز العديد من الدعوات لإعطاء المرأة حقوقها في المجتمعات الإسلامية بشكل عام، والمجتمع المصري بشكل خاص. ولا مشكلة من حيث المبدأ مع هذه الدعوات، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن بعض هذه الدعوات يعتمد في انتشاره على الطعن في الدين الإسلامي باعتباره السبب الرئيسي في الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة.
الحل يكمن في أن يفرق دعاة هذا الفكر بين النصين القرآني والنبوي وبين تفسيراتهما؛ فالانتهاكات تقع في المرحلة التالية على التفسيرات، وليست في النصوص نفسها، كما سوف نذكر في جزءٍ تال من هذه الرسالة بإذن الله.
5- ممارسات تيارات الإسلام السياسي
كان لممارسات تيارات الإسلام السياسي وحركاته في أعقاب ثورة يناير أثر بالغ في إشاعة حالة عدم اليقين والبلبة ليس فقط في أوساط المواطنين العاديين من أبناء المجتمع المصري، بل كذلك في أوساط المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسي وحركاته. لماذا؟!
رفعت تيارات الإسلام السياسي شعارات تستند إلى الإسلام وتؤكد أن اتباع تعاليم الدين الإسلامي سوف تعيد البلاد إلى جادة الصواب بعد فترة طويلة من الانحراف عنها مما أدى إلى سوء الأحوال. اندفع الكثير من المواطنين لتأييد هذه التيارات، بل سعوا كذلك إلى حشد الأصوات لها سعيًا إلى حل مشكلات البلاد، وطمعًا في الثواب الأخروي. حدث أن دخلت في نقاش مع أحد المعلمين حول الاختيارات في الانتخابات التشريعية التي جرت أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012، وقال لي إنه انتخب حزب النور الإسلامي السلفي. ولما سألته عن سبب اختياره، أجاب بكل صراحة بأنه لم يقرأ برنامج الحزب، ويرى أن الإخوان المسلمين أكثر تنظيمًا وتأهيلًا، ولكنه يرى أن الخطاب الديني لحزب النور أكثر تمسكًا بالتعاليم الإسلامية الصحيحة، وبالتالي خشي أن يُسأل في الآخرة عن سبب عدم اختياره حزب النور رغم أنه اختيار أقرب للتقوى من اختيار جماعة الإخوان المسلمين.
كان هذا الاتجاه قويًّا في المجتمع المصري في أعقاب ثورة يناير، ولكن الأمور سارت إلى ما لم تشتهه أي أنفس مصرية من اضطراب وارتباك من كافة القوى السياسية والدينية بخاصة تيارات الإسلام السياسي؛ الأمر الذي أصاب الكثيرين بحالة من عدم اليقين، وصلت لدى البعض إلى مرحلة الزعم بأن أصل الداء ليست ممارسات التيار الإسلامي، ولكنه الدين نفسه، وهو الأمر المردود عليه كذلك.
كانت هذه أبرز الأسباب التي قادت إلى ظهور إشكالية الإيمان الهش في المجتمع المصري. وما دامت هذه الأسباب قائمة، فلسوف تستمر الإشكالية في التنامي والانتشار. وهناك الكثير من الأسباب الأخرى ولكن هذه هي الأبرز والأكثر جمعيةً، وما سواها عبارة عن نتائج أفرزتها تلك الأسباب الرئيسية.
بعد هذا الاستعراض السريع للأسباب، يبرز سؤال: إلى ماذا قادتنا تلك الإشكالية؟!
******

إلى أين قادنا الإيمان الهش؟!
لإشكالية هشاشة الإيمان العديد من التداعيات السلبية على المجتمع، منها ما هو قائم ومنها ما هو متحمل أو يعتبر تداعيًا لما هو قائم بالفعل. وفيما يلي استعراض سريع لأبرز تلك التداعيات السلبية.
1- التردد
يعاني العقل هش الإيمان من التردد؛ فهو غير قادر على تحديد معتقداته هو نفسه؛ فكيف يتصدى إلى اتخاذ القرارات؟! لذا، نجد أن العقل هش الإيمان يتردد كثيرًا قبل اتخاذ القرارات؛ كثيرًا للغاية في واقع الأمر؛ مما يهدر عليه الكثير من الفرص؛ وهو ما يقوده في النهاية إلى هاوية الاكتئاب والتقوقع حول الذات فرارًا من الحياة العامة وما تتطلبه من اتخاذ القرارات تمس الحياة الشخصية والحياة العامة.
ومن بين أبرز القرارات التي يتردد العقل هش الإيمان في اتخاذها قرار الارتباط والزواج؛ فالنفس هشة الإيمان تقول إنها عجزت عن تحديد اتجاهها في الحياة؛ فكيف يمكنها أن ترتبط بإنسان آخر في سياق يتطلب منها أن تتخذ قرارات تمسه وتمس مصيره. بالإضافة إلى ذلك، يترتب على الزواج الإنجاب في كثير من الأحيان، ما لم تكن هناك عوائق تكون صحية في الغالب. الإنجاب يمثل الهلع الأكبر للعقل هش الإيمان؛ فكيف ينجب، وقد عجز هو عن تحديد مصيره؟! كيف ينجب في مجتمع يسوده عدم اليقين؟! هل ينجب لكي يذوق ما ذاقه هو وغيره من عذاب في الحياة الدنيا؟! إلى غير ذلك من الأسئلة التي تنبع من عقل مشوش متردد غير قادر على رؤية الأمور بالوضوح الذي هي عليه فعلًا.
2- ارتباك معايير الصواب والخطأ
المشهد حاليًّا مرتبك، يسوده التوتر والتشوش وعدم الوضوح. وفي ظل هذا المشهد المرتبك، لا يستطيع العقل هش الإيمان المشوش المتردد أن يحدد معايير الصواب والخطأ؛ فالكل يرتكب الفعل نفسه، ومن الناس من يعترف بأنه خطأ، ومنهم من يبرر لنفسه ارتكاب الخطأ بطريقة تجعله يظهر ذلك الخطأ على أنه عين الفضيلة. كيف يمكن للعقل المشوش أن يرتب معايير الصواب والخطأ؟! بالرجوع إلى القواعد الإيمانية؟! هذه القواعد الإيمانية تعاني الهشاشة والضعف؛ فهو عقل فاقد الثقة في المنظومة الإيمانية بشكل كبير، وبالتالي يستحيل عليه أن يلجأ إلى شيء هو فاقد الثقة فيه التماسًا للأمان والوضوح.
3- ضياع الهوية.
من الطبيعي في ظل التردد أن تضيع الهوية؛ فلا يوجد متردد يستطيع أن يحدد لنفسه هوية واضحة مميزة؛ فالتردد والانسحاب والاكتئاب ليست الأدوات المثلى لصياغة هوية محددة واضحة للشخص ناهيك عن المجتمع بأسره. إذن... العقل هش الإيمان يعجز عن صياغة هوية؛ فالأمر متلبسة أمامه، وهو غير قادر على تحديد معايير الصواب والخطأ؛ فكيف يمكن في ظل هذا المشهد المرتبك الذي يواجه عقلًا مرتبكًا أن نتوقع صياغة هوية مجتمعية أو حتى شخصية؟!

وهناك الكثير من المشكلات الأخرى التي يمكن أن يتسبب فيها ذلك الإيمان الهش، ولكن المقام يضيق عنها. وفي كل الأحوال نجد أن هذه المشكلات تمثل طعنات في الظهر للمجتمع أو ضربات تُوَجَّهُ إلى مناطق مفصلية فيه؛ فيعجز في النهاية عن الاستمرار. وإذا سقط، قد لا يتمكن من النهوض ثانيةً.
ولكن... إذا كان الإيمان قد هشَّ، كيف يمكن تمتين الهشِّ؟!
لهذا حديث آخر بإذن الله








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع


.. #shorts yyyuiiooo




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #