الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في الإنسان والوجود والإلوهية - قراءة في كتاب -تصوف- لنيكوس كازانتزاكيس

كلكامش نبيل

2017 / 12 / 26
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


هذه هي المرة الثاني التي أقرأ فيها لكازانتزاكيس، بعد قراءتي لرواية "الحرية أو الموت" أو "الكابتن ميخيليس". وكالعادة كان كتابا مدهشا مليئاً بالافكار والتأملات العظيمة التي تستوقف القاريء طويلاً. كتب كازانتزاكيس مخطوط "تصوف: منقذو الآلهة" عام 1914 ولكنه نشر عام 1927. قرأت الكتاب بالعربية بترجمة سيد أحمد علي بلال. كازانتزاكيس كاتب رائع وغامض اتهم بالشيوعية وحاربته الكنيسة، لكن زوجته تقول بأنه لم يكن شيوعيا وانه كان شديد التدين، لكن بطريقته هو. كتب كازانتزاكيس على قبره، شعار حياته، " لا أطمع في شيء، لا أخاف من شيء، أنا حر." وهو شعار استوحاه من قصة هندية ويرد ذكره في هذه المجموعة من التأملات.

يتحدث الكتاب عن الحياة والوجود والموت والخلود برؤى جميلة وجديدة، حيث نقرأ، "نأتي من هاوية مظلمة وننتهي الى مثيلتها. أما المسافة المضيئة بين الهاويتين فنسميها الحياة." ويتكلم عن صراع جماعتين تقول احداهما بأن هدف الحياة هو الموت، فيما ترى أخرى بأن هدف الحياة الدنيا هو الخلود. لكن كازانتزاكيس لا يتفق مع أياً منهما ويحاول التوفيق بين الرأيين فيكتب، "في الاجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران: الصاعد، نحو التركيب، نحو الحياة، نحو الخلود. الهابط، نحو التحلل، نحو المادة، نحو الموت." ان نقاشه عن الوجود رائع وملهم بحق.

يتكلم الكتاب في مجمله عن الصراع بين العقل والقلب، بين الظواهر والجوهر، ونزعات كلٍ منها. نقرأ عبارات رائعة مثل (يهتف العقل "انا وحدي الموجود".) لكن القلب يعارضه ويقول بأن هناك شيء ما خلف الظواهر. نقرأ أيضاً عن ضبابية العالم، "لا تقل لي أزل الحجاب لأرى اللوحة، فالحجاب هو اللوحة نفسها." ونقرأ، "بامكان عقل الانسان ان يدرك الظواهر فحسب، لكنه عاجز أبدا عن ادراك الجوهر: انه عاجز حتى أن يعقل كل ظواهر المادة، وانما يستطيع فقط ان يعقل بعض ظواهرها. وبتحديد أكثر: انه لا يستطيع حتى ان يعقل ظواهر المادة وانما فقط يستطيع ان يعقل العلاقات التي تربطها ببعضها البعض." لكنه يدعو في ذات الوقت للتمرد والبحث، فنقرأ، "لا أقبل الحدود ولا تسعني الظواهر. إني أختنق! فلتعش هذه المعاناة العميقة الشاقة." ويستمر الكتاب في طرح رؤى تبدو متناقضة وكأنها لا توفر أجوبة، لكنه في الواقع يحاول ان يقول لنا بأن الحقيقة قد تكون مزيجاً من كل هذه التناقضات. كانت هناك نصوص مؤثرة مثل النص أدناه:

- احفر...ماذا ترى؟
- بشرآ وطيورآ، مياهاً وحجارة
- احفر أيضآ...ماذا ترى؟
- أفكارآ..وأحلامآ..بروقآ..وخيالات
- أحفر أيضآ. ماذا ترى؟
- لا أرى شيئا! ثمة ليل عاصف غليظ كالموت، لعله الموت.
- احفر ايضاً!
- آه لا أستطيع ان أعبر شبه الجدار المظلم! أسمع أصواتا ونحيباً، اسمع حفيف أجنحة آتٍ من الضفة الأخرى.
- لا تبك! لا تبك! انها ليست الضفة الأخرى. كل هذه الأصوات والنحيب وحفيف الأجنحة هي قلبك.
بعيداً عن العقل، وفي الهاوية المقدسة للقلب أتوازن مرتجفاً!

يستمر الكتاب في الدعوة للكفاح والتساؤل، حيث نقرأ، "عليك ان تحطم الحدود! ان تنكر ما تراه عيناك! أن تموت وأنت تردد لا يوجد موت" ونقرأ، "نحن نحارب لاننا نستمتع بذلك. نغني حتى اذا لم نجد أذنا تصغي لغنائنا. نعمل حتى اذا لم نجد رب عمل يدفع لنا أجرنا اليومي عند الأصيل. نحن لا نعمل للغير. اذ نحن ارباب العمل. ان كروم هذه الارض ملك لنا. انها لحمنا ودمنا. نحن الذين نحفر لها التربة، ونشذب فروعها ونجني عنبها ونعصره، ونشرب النبيذ، ونغني ونبكي، وتصعد الى رؤوسنا افكار واحلام." وهو يدعو للتخلي عن الأمل والسؤال وأن نواصل فحسب ونتقبل كل ما نجده بسعادة – ويكرر في اماكن اخرى مطالبه بالطاعة والتوقف عن طرح الاسئلة – حيث نقرأ، "توجد هذه اللحظة الحاضرة، مليئة بالمرارة ومليئة باللذة. افرح بها كاملة."

حوارات كازانتزاكيس عن الموت مرعبة ومحزنة بعض الشيء، لكنه يطالبنا بأن ننظر اليه على أنه خير تماماً كما هي الحياة. نقرأ، "لأن المحيط الأطلسي مليء بالشلالات، فإن الأرض الجديدة توجد فقط في قلب الانسان. وذات لحظة مفاجئة ستغرق أنت وسفينة العالم، في احدى الدوامات الصاخبة بشلال الموت."

كنت أقرأ وأنا أشعر بالحزن، وادمعت عيناي في بعض المواضع، وتذكرت أسئلة كثيرة راودتني في الاسبوع الأخيرة. كتبت وأنا أقرأ، "بكلمات العقل لامست قلبي يا كازانتزاكيس". عن الانسان يكتب، "أنا لست طيبا، ولست نقيا، و لست مطمئنا. السعادة لا تطاق و الشقاء لا يطاق. أنا مليء بهمهمات ذعر و ظلام، أتدفق دموعا و دماء داخل زريبة لحمي الساخنة هذه". ويقول أيضاً، "أنا لست الضوء، أنا الليل، لكن شعلة تربض ما بين أحشائي وتأكلني، أنا الليل الذي يأكله الضوء." ويدعو لعدم الاستسلام حيث يراه "أكبر الأخطاء هو الاستسلام للرضا". ومن المفاجئات الغريبة قوله، "المحاربون لا يتساءلون أبداً" وهو يدعو للطاعة والاستمرار في رؤيته للحياة والصراع في الاستمرار فيها.

عن الانسانية يقول، "وحده الذي يتخلص من جحيم ذاته. هو الذي يشعر بالجوع حين يرى أحد أبناء جنسه يتضوَّر جوعاً". ويطالبنا بعد الالتحام ببني قومنا بالالتحام بالانسانية جمعاء، حيث يكتب، "فلتملأك الرحمة على ذلك المخلوق الذى تنصل عن القرد ذات صباح عاريا بلا حماية وبلا قرون وبلا اسنان.. لا يحمل سوى نار مشتعلة داخل رأسه الرخو . انه لا يدري من أين أتى والى أين سائر. لكنه يريد عبر العمل والحب والقتل ان يسود الارض!" ويرى بان القلب يمكن ان يصلح ما افسده العقل، "ان القلب يؤالف كل ما يقسمه العقل. انه يتجاوز ساحة الضرورة ويحول الصراع الى حب."

يحاول كازانتزاكيس ان يدعونا لتقبل الحياة بكل مراحلها وما نمرّ فيه، "مامعنى السعادة ؟ هو أن تعيش كل أنواع التعاسة . مامعنى الضوء؟ أن ترى بعين غير معتمة كل الظلمات." وهو يدين اختزال الإله في صورة معينة – أمل أو ألم أو غيره – بل يراه تجسيداً لكل شيء من دون غلبة لأي عنصر على غيره. يقول عن إلهه، "كل كلمة تشبه قارب نجاة، نرقص حولها مسكونين بالقشعريرة ونحن ندرك أن الإله هو ذلك المقيم الرهيب بداخلها." ويقول عن إله العصر، "انه رجل وامرأة، زائل وخالد، روح وروث. يلد ويلقح ويقتل. انه العشق والموت معا. يولد مرة أخرى ويقتل، يرقص على الارض الفسيحة خارج حدود المنطق الذي لا يتسع للمتناقضات." ويراه قاسياً "يميز الافضل دون رحمة" ويعتبره على مدار صفحات الكتاب من يحتاج الى نجدتنا وليس العكس، حيث يقول، "ليس الإله هو الذي سينقذنا، وانما نحن الذين سننقذه .. محاربين ومبدعين ومحولين المادة الى روح." ويكتب عن كونه إله غير طيب، " انه ليس رب الاسرة الطيب، لانه لا يقسم الخبز بالتساوي بين أبناءه. فالظلم والقسوة واللهفة والجوع هي إناث الخيل الاربعة التي تقود مركبته على ارضنا المضطربة هذه." ويرى ان من الواجب الالتزام بالبحث عن وصايا عشر جديدة تتماشى مع رغبات إله العصر الحالي الذي تسوده الحروب والفوضى.

يحاول كازانتزاكيس البحث عن سر الوجود والروح والانسانية ومغزى الحياة وتفسير الموت وسبل تقبله. بالنسبة له "النجمة تموت لكن الضوء لا يموت." ومن الصعب التوصل لمعرفة ماهية الإله – الموجود في كل مكان حتى في البذور وفي داخل المرأة والرجل وداخل العدو – وهو يطلب النجدة على الدوام. نقرأ في ختام الكتاب، "ذلك السر العظيم المتسامي والرهيب: حتى هذا الواحد لا يوجد وجودا محضاً."

يضم الكتاب ايضا مقال بعنوان "الذي لم يساوم أبداً" بقلم هيلين كازانتزاكيس وهي تتحدث عن زوجها وعلاقتهما ورحلاتهما وظروف عيشهما وحقائق تتعلق بشخصيته بعد ان طلب منها ان تكتب لكي لا تحاك الاشاعات حول اسطورة هذا الكاتب اليوناني القدير الذي حُرم من جائزة نوبل والذي قال البير كامو بأنه يعتقد بأنه أجدر منه في الحصول عليها.

ختاماً، انه كتاب مؤثر ويمسّ القلب وتشعر وكأنه حوار ذاتي ومباشر مع الكاتب حول اسئلة لم يتمكن الانسان – رغم عقلانيته – من تجاهلها وواصل طرحها على الرغم من لا جدوى نقاشها في نظري. اتمنى لكم قراءة ممتعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أطباق شعبية جزائرية ترتبط بقصص الثورة ومقاومة الاستعمار الفر


.. الخارجية الإيرانية: أي هجوم إسرائيلي جديد سيواجه برد إيراني




.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي حانين وطير حرفا جنوبي لبنان


.. إسرائيل وإيران لم تنتهيا بعد. فماذا تحمل الجولة التالية؟




.. وزيرة الخارجية الألمانية: يجب وضع حد لإيران ولا نسمح بالانجر