الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو فهم عقلاني للديمقراطية

سومر الياس

2018 / 1 / 3
مواضيع وابحاث سياسية



لا يوجد أدني شك بأنّ الديمقراطية هي أهمُّ مفهوم سياسي في العصر الحديث على الإطلاق، هذا العصر الذي يسمونه في التاريخ أساسًا بعصر الديمقراطية، حيث لا يجرؤ دستور دولة واحدة في العالم اليوم على أن يدعي أنّه شرعي، قبل أن يأخذ البركة من الديمقراطية، فللمفهوم مفعول السحر في نفوس الجميع، وشعبية كاسحة، تجعل حتى جماعة "الإخوان المسلمين" وغيرهم من الأصوليين وقاطعي الرؤوس يتعلقون بأهدابه، وقد يكون ذلك سببًا كافيًا لأن تتوقف للحظة عند هذا المفهوم العجيب الغريب، والذي يعني أشياء كثيرة لجماعات كثيرة، أو ذلك "المفهوم المشكلة"، الذي يرغبه جميع الناس في حين يفهمه كلٌّ منهم على مزاجه وهواه، أقول "المفهوم المشكلة"، لأنّه وعلى ما يقول روبرت دال "أنّ المفهوم الذي يعني كل شيء هو في النهاية ذلك المفهوم الذي لا يعني شيئًا"، ومشكلة هذه الشعبية الجارفة ليست مقتصرة على بلداننا، إذ أنّها وحتّى في البلدان المتحضرة جعلت من الديمقراطية حصنًا منيعًا، وملاذًا آمنًا يلجأ إليه السياسيون، وليس بمشهدٍ غير مألوف حال ذلك السياسي الذي إذا ما تلعثم في الإجابة على سؤال صحفي؛ تحدث فورًا عن الديمقراطية واستنجد بها. وهنا نتذكر من التاريخ ذلك السياسي الإنجليزي الحذق، والذي كلّما حُشر بسؤال كان يذكر اسم الزعيم "غلادستون"، ليكسب به عاصفة تصفيق من الجمهور تتيح له فرصة جيدةً للمخاتلة والكولكة والهروب من السؤال.

وعلى الرغم من أن دارس السياسة ينظر إلى الديموقراطية كمفهوم مهيمن على عقول الناس في هذا العصر (Master Concept)، إلّا أنّ أهميتها الحقيقية بالنسبة له لا تنبع من هنا، بقدر ما أنّها نابعةٌ من علاقتها أولًا؛ بما يسمى في السياسة بالشأن العام، وثانيًا من علاقتها الجدلية بمفهومي الحرية والمساواة.

فالسياسة كلّها، جملةً وتفصيلًا (بما في ذلك أيّ حديث عن الديمقراطية والحرية والمساوة) تنطلق من القدرة على التمييز بين ما هو عام (public) وبين ما هو خاص(private)، حيث أنّ ذلك التمييز هو جوهر الأساس وكلمة السر في أيّ عملية بناءٍ سياسيٍّ حقيقي، لا بل إنّه بداية أيّ كلام مفيد في السياسة، وما كل هذا الهذر المنتشر بكثافة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، عند الحديث في السياسة إلّا بسبب انعدام تلك القدرة على التمييز بين ما هو خاص وما هو عام في المجتمع، ولست أبالغ إذا ما قلت أنّ سبب فشل الإسلاميين الأساسي، وإقصائهم الأخير عن عالم السياسة مؤخًرا كامنٌ في انعدام قدرتهم على الفصل العقلاني بين ما هو خاص وما هو عام، والذي ظهر واضحًا بعد موجة ما عُرف بثورات الربيع العربي.

ففي مجتمعات لا تزال أبوية (patriarchy) في تركيبتها الأخلاقية أو دينية دعوية، إن صح التعبير، وحيث لا يزال الإنسان هنا يعدّ نفسه مكلّفًا من السماء ومسؤولًا أخلاقيًا عن الآخرين في مأكلهم ومشربهم و صلاتهم وصيامهم، وقيامهم وقعودهم، يصبح ما هو عام وما هو خاص أمًرا غامضًا ومبهمًا وغير عقلاني، و ينعكس ذلك، بلا شك، على التنظيم الاجتماعي والسياسة إجمالًا، فليس من المستغرب أبدًا أن يطرح أحد مجالس الشعب في دولة عربية مؤخرًا قانونًا لتجريم "الإلحاد"، وهي مسألة تتعلق بما هو خاصٌ وشخصي جدًا، عوضًا من أن يدّخر جهوده لطرح قانون لتجريم الفساد مثلًا، أو ذلك الشأن الذي يُعدّ من جوهر العام. وليس من الغريب أيضًا أن يتمّ اعتبار موضوعًا خاصًا بينك وبين خالقك، كالصلاة أو الصيام من صميم العام ومن اختصاص الدولة، وأن يتمّ جلدك على هذا الأساس في شارع من شوارع مدينة شرق أوسطية.

وبعيدًا، عن تلك الشعبية الجارفة وهذا الخلط بين الخاص والعام، ما قد يصدم المرء أنّ علماء السياسة اليوم يفهمون الديمقراطية كأزمة أكثر ممّا يفهمونها كنظرية سياسية، لا يأتيها الباطل من خلف ظهرها أو من بين يديها، صحيحٌ أنّ العصر الحالي هو عصر الانتصار الساحق للديمقراطية والدول الديمقراطية، إلّا إنّ الأمر لا يحتاج إلى فيلسوف للإقرار بأنّنا لا نعيش في أفضل عالم ممكن، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تؤكّد "منظمة العفو الدولية "أمنيستي" أنّ انتهاك حقوق الإنسان والاضطهاد والتعذيب يجري في أكثر من نصف دول العالم، وأنّ أغلب تلك الدول تُصنِّف نفسها ويصنِّفها العالم بأنّها ديمقراطية.

واقع الأمر أنّ أي محاكمة عقلانية للديمقراطية لا يمكن أن تبتدأ إلّا من خلال النظر إليها كنظرية سياسية في الحكم، نظرية مكلفة بتحقيق مبادئ الحرية والمساواة في مجتمعاتها وفي العالم عمومًا، أو تلك المبادئ العقلانية التي أصبحت بديهيات، تقوم عليها الحياة البشرية منذ عصر التنوير. فما هي طبيعة الحرية والمساواة التي تقدّمها الديمقراطية بصيغتها الحالية لمجتمعاتها؟ هذا هو السؤال، ومن هنا فحسب يمكن الحكم على الديمقراطية بأنّها جيدة أو غير جيدة، ومن هنا أيضًا يبتدأ البحث في كيفية الفصل بين العام والخاص وكيفية رسم الخطوط بينهما، ومن هنا في الحقيقة تبدأ أزمة الديمقراطية في الفضاء الأكاديمي المعاصر.

ومن أجل فهم أبعاد هذه الأزمة وحيثياتها، سأتحدث بدايةً عن ثلاثة نماذج شهيرة في التاريخ للديمقراطية، لأصلَ من خلالها إلى ما يدور في الغرب اليوم من نقاشات وجدالات ومماحكات حول أزمتها. وسأحاول أن أولي شيئًا من الاهتمام لكيف كانت تلك الديمقراطية تميز بين ما هو خاص وما هو عام، عبر تاريخها، وكيف كان ذاك التمييز يتغير من زمن إلى آخر، ومن فلاسفة المدينة اليونانية (polis)، حيث نشأ المفهوم والى الفهم الليبرالي المعاصر للديمقراطية.



ديمقراطية أثينا

لقد ألهمت "ديمقراطية أثينا"، والتي لم تدم أكثر من خمسين عامًا، الفكر السياسي الديمقراطي في العالم إلى حدٍّ كبير، حيث ترتبط أفكار الحرية والمساواة اليوم ارتباطًا وثيقًا بما كان يجري في القرن الخامس قبل الميلاد في المدينة اليونانية أثينا (polis)، حتى أنّ كلمة سياسة نفسها في اللغات الأوروبية مشتقة من تلك الكلمة، هذه المدينة الصغيرة التي لم يتجاوز عدد سكانها ثلاثمائة ألف نسمة، والتي لم يشارك في حياتها السياسية سوى أربعين ألفًا من الرجال، فيما جرى استثناء النساء والأطفال والعبيد والأجانب من الفضاء العام، إنّ هذا العدد الصغير من المواطنين جعل مشاركتهم في الشأن العام مسألة مختلفة عمّا نعرفه اليوم، فلقد كانت تلك المشاركة مباشرة وبكل ما في الكلمة من معنى، وليست عبر برلمانات كما هو حالها اليوم، كما أنّ قلة عدد المواطنين جعل العام يمتد ليشمل أمورًا تعتبر اليوم من أمور الخاص، كالدين والفن والرياضة والتجارة، وقد يكون هذا العدد الصغير هو نفسه ما جعل ديمقراطية أثينا تُصنَّف كأفضل ديمقراطية في التاريخ.

لكن ومع ذلك وبعد هزيمة أثينا على يدّ إسبارطه ظهرت لدى أفلاطون وأرسطو تساؤلاتٍ مهمة عن مدى فائدة سيطرة الجهلاء على العام وشؤونه، كما أثّرت في تلك التساؤلات محاكمة سقراط، والذي أعتبر شهيدا للديمقراطية وقربانًا للغوغاء. وعبّر أفلاطون عن ذلك في حواراته، عن الجمهورية الفاضلة أو تلك الجمهورية التي يجب أن يحكمها الفلاسفة، أو أولئك الذين يملكون سلطة روحية على نفوسهم. أمّا أرسطو فمن جهته اعتبر أنّ الإنسان بطبعه حيوان سياسي، وإنّ الإنسان الجيد هو فقط ذلك الإنسان الذي يشارك بفعالية في الحياة السياسية اليومية لمجتمعه.


الجمهوريات الإيطالية في القرون الوسطى

لقد كان هناك صمتًا مرعبًا في تاريخ الفكر الديمقراطي منذ أن دُمَّرت أثينا وإلى أن ابتدأ عصر النهضة في القرن الرابع عشر، وسبب ذلك الصمت من دون شك هو اجتياح الإيمان المسيحي للفضاء العام في الغرب من جهة وظهور الإقطاعية كشكل من أشكال التنظيم الاجتماعي من جهة ثانية. لقد قضى الإيمان المسيحي على القيم المدنية الإغريقية، وأصبح الخير كلّ الخير في أن تكون مؤمنًا حقيقيًا عوضًا من أن تكون مواطنًا صالحًا، وأصبحت غاية الحياة في عالم الغيب عوضًا من أن تكون في دولة حرة عادلة، كما كان الحال في أثينا. لقد جرى استبدال الفكرة اليونانية القائمة على أنّ البشر تستطيع أن تتدبر أمورها بنفسها بالفكرة المسيحية القائلة؛ بأنّ مصائرنا قد قُدِّرت لنا مسبقًا من قبل الله، وأنّ الأقلام قد رُفِعت والصحف قد جُفت.

كرّست الإقطاعية بدورها مفهوم عدم مساواة البشر، فسقوط الإمبرطورية الرومانية كان قد خلق فراغًا في أوروبا، سرعان ما ملأه زعماء عصاباتٍ، ما لبثوا أن تحولوا إلى ملوك صغار يحكمون باسم الله ويعدّون أنفسهم أرقى طينةً من أولئك الذين يحكمونهم.
ولكن وبتأثير ذلك، ومع بداية القرن السادس عشر، ظهر في شمال إيطاليا عدد من المجتمعات الصغيرة، تحولت إلى مدن جمهورية صغيرة فيما بعد، وحُكمت من قبل أعضاء مجالس منتخبين مسؤولين عن جباية الضرائب، وهذا ما حفّز الفكرة الجمهورية الإغريقية وبعثها للوجود من جديد، أي فكرة أنّ البشر قادرون على أن يُديروا شؤونهم بأنفسهم وبعيدًا عن العناية الإلهية، وهو ما أعاد أيضًا فكرة أرسطو؛ بأنّ الإنسان حيوان سياسي وهو قادر على أن يتطور حينما يُنظم شؤونه بنفسه. وعلى العموم فإنّ اسم العصر نفسه، النهضة ( Renaissance) )أو الولادة من جديد، بالإنجليزية (Rebirth)، هو مستوحى من ذلك الإحياء للكثير من الأفكار الإغريقية.


التنوير والديمقراطية الليبرالية

إذا كانت ديمقراطية عصر النهضة هي نتيجة لثورة على بعض من أفكار الكنيسة، واستحضار لبعض الأفكار المدنية الإغريقية، فإنّ ديمقراطية عصر التنوير هي نتيجة ثورة على الفلسفة التقليدية والعلم. فالتنوير كان حركة لفهم الإنسان والعالم على أسس عقلانية جديدة، وكانت الديمقراطية من جملة ما فُهِم على أسس عقلانية جديدة. إنّ لجميع الناس عقول، وهم يتساوون في القدرة على استخدام تلك العقول متى أتيحت لهم حرية المعرفة، ومن هنا تتساوى الناس، ومن هنا أيضًا يستطيعون أن يقرروا بتلك العقول مصائرهم، وبالتالي فهم قادرون على أن يختاروا تلك الحكومات التي ستحكمهم وتحقق مصالحهم. وعليه فالسلطة السياسية الشرعية لا يمكن أن تبدأ إلّا منهم وأن تنتهي سوى عندهم، وهي سلطة مطلقة في طبيعتها لا تُنَازع لا من حاكم مطلق ولا من دولة خارجية ولا حتى من السماء.

أنّ فكرة المساواة هذه ساهمت في شحذ همم الشعوب ضدّ مؤسساتها الدينية والسياسية والسلطات الاستبدادية التقليدية، والتي كانت لا توزع الثروات والأموال بين الناس بعدالة ومساواة، بالطبع تزامن هذا العصر مع نهاية الإقطاعيات وظهور اقتصاد السوق والرأسمال والسلع، ما أظهر مفهوم الملكيات الخاصة للوجود، وساهم ذلك كثيرًا في إذكاء روح الحرية.

لقد جلب هذا التغيير الاجتماعي معه ما يعرف اليوم في السياسة بالفكر الديمقراطي الليبرالي، وهو الفكر الذي لا يزال مسيطرٌ على العالم منذ تلك الأزمنة، هذا الفكر الذي أنتج للبشرية مبدأ الحرية ومبدأ المساواة والذي بدأ في طرحه كلّا من "هوبس" و"لوك" وتابع مسيرته "جون ستيوارت ميل"، وأهم ما يميز هذا الفكر عن ما سبقه من نماذج أنّ مفهوم العام فيه قد فُهِم بأنه مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية وكل ما هو خارج ذلك أعتبر حريات فردية ضمن نطاق الخاص، أضاف إليها ستيوارت ميل فيما بعد الكثير من الحريات الأخلاقية وحريات الأقليات، لقد خرج الاقتصاد والعائلة في هذه الديمقراطية الليبرالية من نطاق العام تمامًا، وأصبح في حدود الخاص. لقد فُهم العام هنا وكأنّه فضاء للاستبداد بالفرد، وكلّما تقلّص العام وامتد الخاص ممثلًا بحرية الأفراد السياسية والاقتصادية والأخلاقية كان ذلك خيرًا للدولة والمجتمع.


أزمة الديمقراطي المعاصرة

يمكن فهم أزمة الديمقراطية اليوم كأزمة مساواة لا كأزمة حرية، فحرية الإنسان كانت قد أطلقت من عقالها منذ عصر التنوير، وموضوع الحريات الشخصية قد أصبح من المسلمات، إلّا أن هذا قد أثّر على المساواة بين الناس بصورة كبيرة، ففي عالم يتحرك فيه الإنسان بحرية كبيرة تتعاظم فيه قدرته على مراكمة رأس المال، ومنه يزداد الغنى في المجتمع ويزداد معه الفقر، وتظهر الطبقات الاجتماعية وحركات الاستعمار والفروقات الثقافية بين الشعوب، ويظهر معها الظلم والصراع، ومن هنا تتجلى الأزمة المعاصرة ومن هنا أيضًا ينطلق الأكاديميون في دراساتهم، ويمكن تقسيم الخلاف في الفضاء الأكاديمي اليوم إلى خلاف ليبرالي–كوميونيتاري من جهة، وخلاف ليبرالي-راديكالي أو يساري من جهة أخرى.


الخلاف الليبرالي-الكوميونيتاري

لا يمكن فهم هذا الخلاف بدون الانطلاق مجددًا من التمييز بين الخاص والعام، فالعام بالنسبة لليبرالي هو مجتمع مكون من أفراد، أمّا العام بالنسبة للكوميونيتاري فهو مجتمع مكون من طوائف أو مجتمعات صغيرة.

يعتقد "جون راوول" كزعيم للاتجاه الليبرالي، إنّ الإنسان كفرد في المجتمع هو في صميمه وجوهره نموذج موحَّد، وبالتالي فإنّ القوانين في الدولة يجب أن تنطلق من هنا ودون أي اعتبار لهوية الإنسان الطائفية أو الإثنية أو الثقافية، وأن يكفل القانون المساواة بين الناس من هذا المنطلق لهو أمر كاف لتحقيق العدالة، فالاعتبارات الطائفية والاثنية لن تجعلنا نتفق مطلقًا إذا ما زُجَّ بها في القوانين. إنّ الفكرة الوحيدة التي نستطيع أن نتفق عليها جميعًا هي فكرة التسامح، وأي مبدأ طائفي آخر سوف يكون تهديدًا لجوهر الديمقراطية، فمن المستحيل علينا مثلًا أن نعبد الله بمفهوم طائفي واحد، ولا أن نتفق على تربية أطفالنا بطريقة واحدة، أو أن نتزوج وفقًا لمذهب واحد، لكن يمكننا أن نتفق على تسامح الجميع مع الجميع، فليعبد كلًّا منا ربه بطريقته، ولنغرس القيم التي نريدها في نفوس أبنائنا، ولنتزوج كما نريد ولنحافظ على الروابط الأسرية كما نريد، ولكن ليبقى كلّ ذلك خارج المعايير الأساسية التي تنطلق منها القوانين في الدولة.

لا يوافق كلٌّ من "أليساندر ماكلنتاير" و"تشارلز تايلور"، كزعيمين شهيرين للكومينيتارية على رؤية "راوول" تلك، ويقولان إن فهم الديمقراطية بتلك الطريقة سيقمع هوياتنا الطائفية الحقيقية، وهذا القمع سيبلور الأفكار الانفصالية إن عاجلًا أم آجلًا، إننا سنبتسم لبعضنا البعض في مؤسسات الدولة الرسمية وهيئاتها وسنتآمر لاحقًا على بعضنا في الخفاء، فالتسامح ليس أكثر من إجراء نتعامل به مع بعضنا البعض، ولقد استحضر تايلور جمهورية أرسطو المدنية ليعتبر أنّ الحياة السياسية تتطلب أكثر من التمثيل في مجلس الشعب، فالدولة مكان نكتشف به أنفسنا، نحن لا نكتشف هوياتنا بالعزلة، ولكن بالحوار في الفضاء العام، ومن هنا فعلى القوانين أن تولي اهتمامًا للتنوع الطائفي.

يردّ راوول مجددًا أنّ هناك ثمن يجب أن يُدفع لقاء مجتمع كبير، ينظر لنا سواسية كأسنان المشط، بغض النظر عن طوائفنا الدينية أو أي هوية أخرى، فالعام يجب أن يكون حياديًا تجاه الطوائف والاعتبارات الأثنية، لأنّ الناس تشترك في الأساسيات، كالصحة العامة والتعليم وحرية التعبير وحرية الإيمان وحرية عدم الإيمان مهما كانت طوائفها، ويكفي الدولة أن تؤمن للناس كل ذلك عوضًا من أن تناضل وتجاهد لكي تكتشف لهم هويات طائفية خاصة.

يقول راوول إنّ مبدأ المساواة متكامل في ذاته، وإنّ الفروقات الطائفية بيننا لا معنى لها في عالم السياسة، وإنّ الدولة يجب أن تفترضنا نماذج موحدة. من ناحية أخرى، يرد تايلور بأنّ ملاحظة الهوية الثقافية للأفراد ليست مجرد هوس طائفي، ولكنه عنصر أساسي في فهم مهمة الدولة، ويستحضر جمهورية أرسطو مرةّ أخرى ليقول، إن شيئًا آخرًا غير تلك المساواة الشكلية يجب أن يحكم الفضاء العام، وأنّ مزيدًا من الاهتمام يجب أن يولى للأفراد كما هم وبما يحملوه من قيم طائفية وثقافية.

الملخص هو أنّ الكومينتاري يريد أن يغرس في مؤسسات الدولة، كمؤسسات القضاء ومجلس الشعب ونظام التعليم بعض الحساسية للفروقات الطائفية والإثنية والثقافية بين الناس، بينما يريد الليبرالي تنزيه الدولة عن كل ذلك، والملاحظة الأساسية على هذا الجدل العقلاني، أنًّه لا يولي اهتمامًا للفرق بين المساواة السياسية والمساواة الاقتصادية بين الناس، ويكتفي بمناقشتها من زاوية ثقافية أو طائفية.


النقد الراديكالي اليساري

تنطلق أزمة الديمقراطية بالنسبة لليساريين الراديكاليين من الحديث عن تآمر بين رأس المال والديمقراطية، يقول ماركس، إنّ رأس المال قد يتسامح مع الديمقراطية فقط لأن القوة الحقيقية في الدولة ليست موجودة في نهاية المطاف في المؤسسات الديمقراطية، ولكن بأيدي هؤلاء الغيلان الذين يملكون المال ووسائل الإنتاج. إنّها ليس صدفة أبدًا أن حرية الفرد في الديمقراطيات الليبرالية هي وثيقة الصلة بالحقوق الاقتصادية والملكيات الخاصة.

فأصحاب رؤوس الأموال يتحكمون بالطبقات العاملة ويحكموننا ليس من خلال المؤسسات السياسية ولكن من خلال الاقتصاد، ويقول أنّه وفي أفضل صور الديمقراطية، فإنّ رأس المال يسجن المساواة في فضاء سياسي لا يتطفل على الفضاء الاقتصادي بكل ما فيه من ظلم و انعدام للمساواة، فعندما لا تكون نائمًا في دولة ديمقراطية فإنّ معظم ساعات يومك لن تكون في مجالس الشعب والهيئات السياسية الديمقراطية، ولكنها ستكون في العمل المرهق وحيث تكون خاضعًا للمال وسيطرة المال على حياتك ومصيرك، وأكثر من مكان العمل، أن معظم أوجه حياتنا محكومة بالرأسمال وضرورات السوق، فحتى في ساعات راحتنا القليلة تلك تدخل تلك الإعلانات التجارية كضيف ثقيل يفرض نفسه على حياتنا، صحيح أننّا نعيش في دول ديمقراطية ولكن الواقع يقول أنّ معظم حياتنا تكون خارج حيّز تلك الديمقراطية.

إنّ هذا النقد الراديكالي الماركسي العنيف قد تمّ إعادة صياغته مؤخرًا فيما يسمونه في السياسة بالنظرية الديمقراطية الراديكالية (Radical Democracy)، ففي عام 1985 كتب كلّ من الأرجنتيني "أرنست لاكلاو" وزميلة عمره البلغارية، "شانتال موف"، كتاب "الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية"، اعتبرا فيه أنّ الديمقراطية يجب أن تضيف إلى مبدأي الحرية والمساواة مبدأً آخرًا، هو الاختلاف ( difference)، لكي تخرج من أزمتها، ويمكن اعتبار هذا الاتجاه اتجاهًا ما بعد ماركسي، لكنّ مدرسة الديمقراطية الراديكالية هذه تختلف عن الماركسية، في أنّها لا تعتبر الفروقات الطبقية هي المصدر الوحيد لانعدام المساواة في المجتمعات المعاصرة، وأن المشكلة ليست في الاقتصاد فحسب، بل هناك مشكلة انعدام المساواة بين المرأة والرجل، الأسود والأبيض، أبناء الشمال وأبناء الجنوب، وما إلى ذلك من أمثلة كثيرة، وإنّ على الديمقراطية أن تأخذ في الحسبان جميع صور الاختلاف تلك بين البشر لكي يقال عنها أنّها جيدة.


خاتمة

في حين تبدو أزمة الديمقراطية في مهدها اليوم، وبعد تبلورها الأخير في صورة ديمقراطية ليبرالية، كأزمة مساواة، سواء تجلى ذلك في الجدل الدائر بين الليبراليين والكوميو نيتاريين من جهة، أو في ذلك النقد الماركسي والراديكالي العنيف لها من جهة ثانية، تبدو أزمتها في العالم العربي في واد آخر بعيد، إذ أنها تبدو كأزمة عقلانية قبل أي شيء آخر، أقول إنّها أزمة عقلانية، لأنها ما زالت بعيدة عن الفرضيات الأساسية حول العقل الحر المستحق للحرية والمساواة، أو تلك الفرضيات العقلانية التي انطلقت منها في الغرب منذ عصر التنوير، فصحيح أنّ الديمقراطية تفترض أنّ الشرعية السياسية لا يمكن أن تبتدأ إلا من الناس ولا يمكن أن تنتهي إلا إليهم، غير أنّ ذلك مبني أساسا على افتراض أساسي وجوهري مسبق، وهو أنّ للناس عقولًا يعقلون بها، ومن هنا فهم متساوون ومن هنا أيضا هم أحرار أيضا، ومن هنا فهم يستحقون الديمقراطية.

ومن هنا تبرز أغلب المفارقات والتناقضات في فهم الديمقراطية في مجتمعاتنا، فترانا نتحدث عن الديمقراطية بيسارنا فيما نحمل عصا التكفير والوصاية على العقل والحريات بيميننا، ذلك العقل الذي لازلنا نعتبره قاصرا وليس حرا بما يكفي لكي يفكر كما ما يريد ويتكلم بما يريد ويقرأ ما يريد ويكتب ما يريد و يؤمن بما يريد ولا يؤمن بما يريد، ومن هنا وفي أفضل الأحوال لازال فهمنا للديمقراطية محصورا بكونها وسيلة من وسائل الوصول إلى السلطة على أكتاف أكثرية يفتك بها الجهل والهوس الطائفي، إنّها ديمقراطية مرفوع فوق رأسها عصا الوصاية الدينية الأخلاقية على الفضاء العام والفضاء الخاص، تلك الوصاية التي تضرب أساس المساواة الفكري وتحرق أنفاس الحرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل