الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رأس العين

آرام كربيت

2018 / 1 / 14
الادب والفن


كنت في الحادية عشرة من العمر عندما خرجت للعمل في البراري ، المصالح كما كان يقال، لحصاد القمح والشعير في غرب رأس العين في العام 1969 مع جارنا كارو أبو ليفون.
في ظل الصيف الحار والصمت، والبراري العذبة والنقية، في بدايات شهر حزيران جلست مع صوت النسيم بحضور العمال والليل وأبو ليفون سيد المصلحة. في الحقيقة، كان مهابًا من الجميع بالرغم من أن طوله لم يكن يتجاوز المئة وخمسين سنتمترًا. من قال أن حضور بعض الناس لهم وقع عميق في الآخرين، لأنهم طول. صحيح أن الشرق يقدس الطويل والمهيوب، ولكن بالمقابل لا يمكن إلغاء قوة البعض مهما كانت صفاتهم. ففي لقاءنا النادر به كنّا نتطلع إلى وجهه ونتمنى أن يروي لنا ما تجود به قريحته من حكايات تتناسب مع ذلك الوقت من الزمن.
قال أبو ليفون بعد شفط جرعة من كأس العرق، ذلك الورد العالق في السماء، الذي أمامه مع القليل من الزيتون المغموس بالفليفلة والليمون وبعض المخلل على طاولة ثلاثية الأرجل، قال للرجال:
ـ إحدى المرات كنت على سفر بالجيب الويلس في براري الجزيرة العذبة. والدنيا برد ومطر. والغيم الأسود يغطي السماء والأرض. والعتمة المدلهمة تغلف الأرض من كل حدب وصوب. والعاصفة الهوجاء المعوجة تمد عنقها وتزرعه في لبي وعنقي، تعصرني وتنتشلني من مكاني لترميني في مكان آخر. ضيعت الأبعاد، الشرق والغرب، الشمال والجنوب. صقيع العالم كله حط رحاله علي في ذلك اليوم البائس. السيارة باردة وأنا بارد والمكان ظل مخفي لا يعرف الأبعاد، ورأيت شيئًا لم يكن في الحسبان!
رأيت أحد العمال فاغر الفم واللسان والعينين، رافعًا مقامه إلى الخيال والنور، ينظر بهوس صوب أبو ليفون قبل أن يقول:
ـ ماذا رأيت عمي أبو ليفون.
في الحقيقة كانت جميع العيون فاغرة. والأجساد مسترخية، من عتالين وسائقين وخياطين وبقية الدراويش والبسطاء، وعقولهم متجهة صوب أبو ليفون، صوب كلماته القادمة من وراء الغيم. وأبو ليفون ديك كبير، منتشي وسعيد بهذه الجمعة من المهتمين به وبأقواله، يمدون ألسنتهم وأذانهم، ليسمعوا ما تجود به قريحته من كلمات. من الدرر الفارغة التي يلفظها. بينما الآلة، الحصادة بأضواءها بعيدة، تقص السنابل وتملأ الأكياس بالحبوب.
قال أبو ليفون:
ـ رأيت ثلاث قطط سوداء اللون!
ـ قطط في الليل؟ في البراري؟
ـ ثلاث قطط في البراري. يرقصون أمامي ويلوحون لي. كلما أدعس على نابض البنزين، وأدفع السيارة نحو المزيد من السرعة، أرى القطط تزداد سرعة. كان يحرك يديه ورأسه إشارة على قيادته للسيارة، وتابع:
لم يتبللوا بماء المطر. كان وبرهم جافًا. المطر لا يقترب منهم على الأطلاق.
ـ هل خفت يا عمي أبو ليفون؟
ـ عمك أبو ليفون لا يخاف ابدًا، هكذا رد العم كارو أبو ليفون
ـ هل قلت بسم الله الرحمن الرحيم؟
ـ لم أقل أي شيء. كما تعرف أنا مسيحي. لم أرسم علامة الصليب. كما لم اقرأ ترنيمة أبانا الذي في السماوات. ثم ضرب يده على صدره بقوة شديدة حتى كاد يمزقه، واضاف:
ـ القلب حديد، فولاذ لا يخاف من الغيوم السود والقطط السود. إنهم عبارة عن حيوانات صغيرة. كانوا يرقصون. ولما الخوف؟
ـ وماذا فعلت بعد ذلك. ألم تُغرس السيارة في الطين والوحل.
ـ قلت لك معي الجيب الويلس. إنه حصاني الأسود. الا تعرف الجيب الويلس، ألم تسمع به من قبل؟ أذهب وأنظر إليه.
ـ أعرفه. إنه جيب صغير، قوي جدًا ولا توقفه وحول الأرض والسماء.
ـ معك حق. إنه يتحدى الجبال والوديان والوحل. وضعت الدبل كير، ولم أتركه يقف. وأبقيت على السرعة ذاتها. دهست القطط. وسرت بعون الله تعالى، بيد أنهم قفزوا وخرجوا من تحت الدواليب وعادوا للجلوس في منتصف الطريق الموحل.
رجل آخر، فاغر الفم والجسد والروح، قال:
ـ الله يوفقك يا أبو ليفون أكمل حديثك الشيق والرائع.
ـ كلما أدهسم أراهم أمامي. كانوا جن. أرسلهم الله لي في تلك الليلة الليلاء ليمتحن إيماني. لقد نجحت. الله يعرف أنني أعبده وأقدسه. لهذا تابعت سيري على بركة الله.
ـ يقولون يا عمي ابو ليفون أن الجن يخاف من الحديد وضوء مصابيح السيارة. هل هذا الكلام صحيح؟
ـ هذا الكلام صحيح، بيد أن الدواليب تبدد قوة الحديد لهذا يخرج الجن للإنس.
على ضوء القمر رأيت وجوه الرجال يشوبها الخوف والقلق والتوتر.
ـ وماذا بعد؟
ـ وعندما وصلت إلى طريق شبه جاف مرميًا على الصخر. أوقفت الجيب ونزلت منه، وألتفت نحو اليمين واليسار لم أر أي شيء. كان المطر يتساقط الهوينة الهوينة. والعاصفة تبددت، والحياة عادت للاسترخاء والتمدد. أخرجت علبة السجائر وعمرت لفافة واحدة ودخنت على مهل. استنشقت المزيد من الهواء النظيف ثم عدت للمقود، وما أن أدرت المحرك حتى عادت القطط مرة ثانية، بيد أني لم أبال بهم. تعاملت مع الموضوع كشيء عادي تمامًا.
كانت أنفاس الرجال مشدودة، فيها أناة، يسمعون لكل كلمة بدقة شديدة. وبين الفينة والآخرى اسمع شهقة وجع أو رنة ألم أو كلمة آه.
هناك شيء ما يدغدغ هؤلاء في حديث ابو ليفون الذي ملك لبهم وعقلهم.
كنت أسمع هذا الحديث والرعب يملأ كياني وقلبي. دقات قلبي كانت تزداد مع كل كلمة يخطها فم أبو ليفون. كنت أقول:
ـ قطط سوداء في الليل؟ إنه رجل قوي، جبار هذا الرجل القصير، صاحب العينين الواسعتين أن يدهس الجن ولا يخاف.
عندما عدنا إلى رأس العين قلت لوالدي حديث أبو ليفون. قال لي:
ـ إنه كذاب. هذه اضغاط رؤى. هذه أحاديث فارغة. لم ير قط قط. إنه جبان وكذاب. لا تسمع لمثل هذه الأحاديث، وهذه الأشياء الخرافية. لا يوجد جن أو أشياء لا مرئية.
في هذه اللحظة من حديث والدي رحت في رحلة غرائبية عن معنى أن يكذب الإنسان ويتعالى على الواقع ويسرقه ويضمه إلى نفسه. لقد أحبط والدي خيالاتي وخوفي، وأعادني إلى جادة الواقع والصواب قبل أن يتابع حديثه:
لقد عملت في البراري، في الصيف والشتاء، وسمعت مثل هذه الأحاديث الفارغة من الكثير من الناس، بيد أني لم أر أي شيء. كنت أقود الجرار في الأماكن البعيدة عن المدينة. في البراري الغير مأهولة. وتحت ضربات البرد والليل الثقيل والعتمة المدلهمة، وحدي، أفلح الأرض، وورائي سكة حديد، متعددة الرؤوس تشق الأرض. العتمة وحدها كافية أن تجعل أقوى رجل في العالم يخر منهارًا من الخوف. لم أر ما هو غريب أو خارج عن المألوف. رأيت الكثير من الذئاب والضباع والثعالب والأفاعي، لكنهم بمجرد أن يروا الجرار او ضوء الجرار حتى يولوا الأدبار.
لقد فلحت في منطقة جنوب الرد، في تلك المنطقة النائية والمعزولة عن الناس، وعلى حدود تركيا والعراق والرقة، وفي جوار الخابور، وفي أعماق حدود مبروكة ما بين الجزيرة والرقة.
خفت مرات كثيرة. الخوف من المجهول شيء طبيعي. هذا الخوف هو الذي يدفع الإنسان إلى التخيل واختراع كائنات غير حقيقة كالجن أو غيرها.
ثم مج سيجارته وأخذ مصاصة المتة وشرب شفة منها، وأضاف:
ـ أنت رجل قوي يا آرام. وأبق قويًا كما أعرفك. أبو ليفون رجل جبان يضرب زوجته وأولاده، ويهرب من واجباته الأسرية ويشرب العرق. إنه لا يستطيع النوم. كما ترى، يبقى سهرانًا طوال الليل يشرب حتى يتعب ويخدر جسده كي يستطيع النوم.
في المصلحة كنت أغسل الصحون والكأسات. وأدخل في الجملونات، في داخل مؤخرة الحصادة في يدي مفك البراغي ولاوية كبيرة. وهذه الجملونات مثل الشفرات الحادة، مسنونة الرؤوس تمتلأ في داخلها القش والسنابل التي لم تستطع الحصادة هرسهم. أبدأ بالمفك واتبعها باللاوية ثم ادفع القش للخروج من الجملونات على شكل كومة وراء آخرى.
إحدى المرات كنت أنظف الجملون، وإذ بأحدهم يشغل المحرك. صرخت بملء صوتي وتعربشت بالشفرات قبل أن يدور المحرك دورته الكاملة. ورميت نفسي من مؤخرة الحصادة، بيد أن أقدامي بقيت عالقة فيهم ورأسي تدلى إلى الأسفل. كنت أصرخ وأبكي. وما أن توقف المحرك حتى حملني أحدهم وأخرجني، قلت لهم:
ـ الا تعلمون أنني أنظف الجملون، أخرج بقايا القش والسنابل العالقة في المؤخرة. لماذا فعلتم بي هكذا؟
بلا مبالاة، قال أنترانيك الأبن الأوسط لكارو:
ـ كنا نمزح معك. لم نكن نريد أن نشغل المحرك. لقد أدرناه دورة صغيرة حتى نرى ردة فعلك. قلت له:
ـ أنظر كيف تمزق فخذي. هل هذا مزاح؟ اصعد إلى المكان الذي كنت فيه مدة عشرة دقائق. سأراك كيف ستتصبب من العرق. وستبول على نفسك من الخوف.
ـ أخرس. سد فمك ولا تطول لسانك. هل فهمت!
ـ لا لم أفهم.
ـ أنت واحد منحوس.
ـ المنحوس هو أنت وأبوك. هل فهمت؟ مصلحتكم فاشلة. وأنتم فاشلون يا أهل السخنة.
كان العم عزو والخياط ابراهيم واقفان لا يتكلمان.
وخيمت قبل بضعة أيام بالقرب منّا حصادة حمراء، عنتر/ انترناشيول/. الجميع تحدث بصوت واحد. قال أحدهم:
ـ أنت مخطأ. خوفك المبالغ فيه كان الدافع وراء رميك لنفسك من مؤخرة الحصادة. قلت لهم:
ـ من الأن وصاعداً لن أصعد إلى مؤخرة الحصادة إلا مفتاح محرك الحصادة في جيبي. وإلا لن أصعد. هل فهمتم. قال أحدهم:
ـ صاير بطل يا آرام.
قلت له:
ـ تركت البطولة لك. لأبوك. شرف، أصعد بدلا عني إن كنت رجلًا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم الحلقة كاملة | الفنان محمد عبده يطمئن جمهوره على صحت


.. كلمة أخيرة - ندمت على القرارات دي.. غادة عبد الرازق: لو رجع




.. تفاعلكم | 200 فنان يتضامنون لإنقاذ العالم من موسيقى الذكاء ا


.. أبرزهم شقو وعالماشي واحدهم وصل 38 مليون .. 4 أفلام تتنافس ف




.. شبيه عادل ا?مام يظهر فى عزاء الفنانة شيرين سيف النصر