الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حينما تكونُ إنساناً

محمد عبد القوي

2018 / 1 / 22
حقوق الانسان


أيها الكون ...أنعاك وأشفق عليك لأنك بعيون ميتة ...
إن كل الأشياء تسقط في عينيك ...كل الناس، كل الحشرات، كل الذنوب فكيف تظل عينيك مبصرة ؟!
كل الأحزان والدمامات والعاهات والآهات وكل الآلام ...عينيك أيها الكون كيف تبصر ؟!
إن كل الغباوات تسقط في عينيك ...كل التناقضات، كل العبث، كل التفاهات ...عينيك كيف تبصر ؟!
كل الطغاة يسقطون في عينيك ...كل العتاة، كل قساة القلوب، كل المتألهين، كل الجبارين، كل اللصوص، كل الملوثين، كل القتلة، كل صانعي الحروب والخصومات ...عينك كيف تبصر ؟!
كل السخفاء يسقطون في عينيك ...كل الثقلاء، كل الأغبياء ...عينيك كيف تبصر ؟!
كل المسحوقين يسقطون في عينيك ...كل المهزومين، كل الراكعين ...عينيك كيف تبصر ؟!
كل المنافقين يسقطون في عينيك ...كل الكذابين، كل المتملقين، كل الهتافين، كل المهرجين ...عينيك كيف تبصر ؟!
كل البائعين لشرفهم، لكرامتهم، لحرياتهم
كل المتنازلين عن شرفهم ...عن كرامتهم ...عن حريتهم
كل الهاربين من الشرف، من الكرامة، من الحرية
كل من وجدوا بلا شرف، بلا كرامة، بلا حرية ...يسقطون في عينيك
عينيك ...عينيك كيف تبصر ؟!
كل من يعيشون بالخبز وحده ...كل من يعيشون بلا خبز ولا روح ، كل من يعيشون بلا مستوي من الخبز والروح يسقطون في عينيك ...كيف لعينيك أن تبصر ؟!
كل من يعيشون بلا قامات، بلا هامات، بلا عيون، بلا إرتفاع، بلا أبعاد يسقطون في عينيك ...أني لعينيك أن تبصر ؟!
كل من يعيشون بلا غضب، بلا إحتجاج، بلا رفض، بلا إرتجاف يسقطون في عينيك ...عينيك ...عينيك هل تبصر ؟!
كل المعابد، كل المعتقلات، كل السجون، كل المعسكرات، كل المؤتمرات، كل الإستعراضات، كل القيود، كل الصحافة، كل الوسائل المرئية والمسموعة تسقط في عينيك كل صباح وفي كل وقت ...عينيك هل تبصر ؟!
كل الزعماء وهم يخطبون ...كل المعلمين وهم يعلمون، كل الوعاظ وهم يعظون يسقطون في عينيك، وتسقط في عينيك أكاذيبهم وغباواتهم ونفاقهم وتشوهاتهم ...فهل عينيك تبصر ؟!
كل دمامات الظالمين، كل دمامات المظلومين، كل آثام الحياة تسقط في عينيك ...عينيك كيف تبصر ؟!
كل كبرياء الأذلَّاء، كل خسَّة الأخسَّاء، كل حقارة الوضعاء تسقط في عينيك ... أني لعينيك أن تبصر ؟!
كل الوجوه المشوَّهة، كل الوجوه الدميمة، كل القامات المصلوبة، كل القامات المحطمة، كل الأيادي المبتورة، كل الأرجل المشلولة، كل العيون المسدودة تسقط في عينيك ...هل لعينيك أن تبصر ؟!
كل دموع المقهورين، كل دموع المحزونين، كل دموع الضائعين، كل دموع الخائفين، كل دموع اليائسين، كل دموع الفاقدين، كل دموع المفقودين تسقط في عينيك ...هل عينيك تبصر ؟!
كل الأيتام، كل الأرامل، كل المنبوذين، كل المطرودين، كل المطاردين، كل المحقَّرين، كل المرضي، كل الشيوخ يسقطون في عينيك ...عينيك كيف تبصر ؟!
كل الجثث، كل المقابر، كل النعوش، كل المآتم تسقط في عينيك ...عينيك كيف تبصر ؟!
كل الشموس الميتة، كل الشموس الغاربة، كل النجوم الهاوية تسقط في عينيك ...عينيك كيف تبصر ؟!
إن كل الناس يشحبون في عينيك، يتشوَّهون، يسقطون، يبكون، ينهارون، يجوعون، يتعذبون، يموتون ...كل الناس يسقطون في عينيك ...عينيك كيف تبصر ؟!
إن كل الناس يتكررون في عينيك، كل الأيام، كل الليالي، كل الأنهار، كل البحار، كل الشموس، كل النجوم تتكرر في عينيك بلا تفسير، بلا مذهب، بلا وقار وبلا تهذيب ...عينيك ...عينيك كيف تبصر ؟!
إن كل الناس يمارسون ذواتهم، يمارسون أوحالهم، يمارسون ضعفهم، يمارسون هوانهم، يمارسون خوفهم في عينيك، داخل عينيك بلا إحتشام ولا إستتار ...عيناك هل تبصر ؟!
كل الطبيعة، كل المذاهب، كل النظم تمارس خطاياها، جهالاتها، حماقاتها، أكاذيبها، وقاحاتها في عينيك، داخل عينيك بلا حب ولا صدق ...كيف يمكن لعينيك البصر ؟!
كل الناس يمرُّون من عينيك، كل الناس يفسقون بعينيك، كل الناس يوبِّخون عينيك، كل الناس يتفجرون في عينيك، كل الناس يعاقبون عينيك، كل الناس يشوِّهون عينيك، كل الطبيعة، كل الحياة، كل الحشرات، كل المذاهب، كل الطغاة، كل الكواكب، كل الشموس تسقط في عينيك ...أني لعينيك أن تبصر ؟!
أنعاك ...أنعاك أيها الكون وأشفق عليك لأنك بعيون ميتة ...
لقد ماتت عينيك ...لقد ماتت ...
إنك لن تستطيع الرؤية ...إنك لن تطيق الرؤية
لقد كان شيئا فوق الطاقة أن تري الأشياء، أن تري الطبيعة، أن تري الآخرين، أن تري ممارساتك لذاتك، لسلوكك، لنياتك
إن الرؤية هي الموت ...هي الغبن ...هي الإصابة بالعمي
وإذا كان هذا شأن الكون ومصيره فما بالك بعين إنسان قررت مشاعره وعواطفه وإنسانيته أن تفرض علي عينه كل هذه الأشياء لتبصرها - أي عينه - وتفهمها وتحللها وتتعذب بها وتتألم من أجلها
إنك حينما تصبح إنساناً فإنك تصبح بعيداً عن كل فرحٍ أو تجمعات البشر في الإحتفالات الوقتية ...إنك ستصبح بعيداً عن كل ذلك بعداً لا يُقاس أو يحدد بالمسافات لأنه بعد أكبر من المسافات، وأبعد من كل الأبعاد
إنك حينما تصبح إنساناً فإنك تعيش بعداً لا مثيل له في القسوة والغربة وهو بعدك عن ذاتك وما تطلبه من شهوات الطعام والشراب والزواج والراحة والأمان والفرح والحفلات
إنك حينما تصبح إنساناً سيتحول كل شيء سعيد لغيرك إلي تعذيب لك، إلي خروج عليك، إلي نقيض لعقلك ونماذجك وأمانيك وأشواقك وتطلعاتك ولعينيك التي تبصر جيداً معاناة الناس الآخرين وآلامهم وضياعهم وموتاهم
إنك حينما تصبح إنساناً ستتذكر الحزين عند رؤية السعيد، وتتذكر المريض عند رؤية السليم، وتتذكر الفقير عند رؤية الغني، وتنفق مالك إن كان لديك مال لتطعم قطط الشوارع بدلا من إنفاقه علي ذاتك
إنك حينما تصبح إنساناً ستكون نبيلاً، لا تهتم بالحياة ولا تعبأ بشيءٍ منها سوي تخفيف الألم عن الناس وعن الكائنات وعن قسوة الكون وآلامه ومظالمه
ومع هذا فإن أصحاب الحفلات والخروجات والتنزهات والمتقابلين في الشوارع والجامعات والضاحكين الباسمين المفروغين من كل فكر وكل ضجيج في داخل الذات ...يقولون لصاحب القلم فيما معناه ...كن بعين حجر لا بعين إنسان، لا تنظر إلي الآلام والأحزان والدموع وإذا نظرت إليها فلا تبصرها، وإذا أبصرتها فلا تفهمها، وإذا فهمتها فلا تفسرها، وإذا فسرتها فلا تنقدها، وإذا نقدتها فلا تطالبها بأن تكون كما تريد وتتمني أو يريد منطقك وقلبك ويتمني ...وأما إذا نظرت إليها وأبصرتها وفهمتها وفسَّرتها ونقدتها وطالبتها بأن تكون كما تريد وتتمني أو يريد منطقك وقلبك ويتمني فلا تبكي أو تحزن، لا تتألم أو تحتج أو ترفض
يقولون له فيما معناه، دع جميع الآلام والآهات الملتاعة الحزينة التي تعيش خارج ذاتك، دعها تعيش خارج مشاعرك ورؤيتك وتفكيرك وهمومك
إنك فيلسوف متشائم لأنك تري ما في الحياة والناس من هموم وعذاب وآلام وتحس بهذه الهموم والعذاب والآلام وتتحدث عنها وتحتج عليها وتتعذب بها، ولا يغفر لها في حسابك ما في الكون والحياة من شموس ونجوم وضخامة وجمال وجبال وقارات، ومن أطفال يضحكون بلا مسرَّات ويبكون بلا أحزان ويتشاتمون أو يتضاربون بلا مذاهب أو عداوات أو أحقاد
يقول له أصحاب الملاهي والشواطيء والسينمات والمهللين في الطرقات الجامعية والصاخبين فيها والمتسكعين في الحياة بلا فكرٍ أو علم، يقولون له فيما معناه، إنك متشائم لأن المتفائل هو الذي لا يستطيع أن يري في العالم أية ألم أو حزن أو بكاء، إذا كان يوجد فيه وجه واحد مبتسم، أو وجه واحد سعيد، أو وجه واحد ممتليء صحة، أو صوت واحد ينطلق بالغناء والضحكات العالية
إذن فلتكن سعيدا متفائلا مفرغاً من التفكير في غيرك مثلنا، معجباً بكل شيء، كن أنانياً، كن مثل كل الحشرات المستكينة التي لا تنقد شيئاً والتي لا تري شيئاً ضالاً أو معذباً أو باكياً أو حزيناً أو خارجاً علي منطقها وقلبها وأخلاقها ...كن مثل الحشرات السعيدة التي لا تحتج علي شيء ولا تعاني أية معاناة فكرية، إننا نريدك سعيداً مثلنا
إذن كن غير محتج، غير ناقد، غير باكي لأي ألم ...كن عضلات تحيا ولا تكن أفكاراً ونظرياتٌ تري وتنقد، ترفض وتتعذب ...كن عضلات تقتات بكل المهانات دون أن تحتج، دون أن تتشائم ...
أيها الواعظين ... أيها الواعظون ...
إن رؤية الألم في مكان حيث توجد اللذة في أي مكان آخر، هو تحقير لكل لذة
إن النظر إلي الوجه الدميم حيث يوجد وجه جميل، هو تحقير لكل معاني الحياة
أيها الواعظون ... أيها الواعظون ...
نعم، إن كل ما في الكون من جمال ولذات وغناء ومجد وصحة وشباب ونجوم وليل، لا يمكن أن يكون تعويضاً عن أي ألم، أو عن أي موقف ألم أو بكاء أو حزن، أو عن أي مرض، أو عن أي آهة ملتاعة حزينة باكية مسيلة للدموع والمشاعر المسكوبة سكباً هباءً، تضييعاً من نفس إنسان يعاني ويتألم ويحزن بحرقة ومرارة وعذاب وهوان
إن كل ما في العالم من أشياءٍ طيبة وجميلة لن يستطيع أن يجعل معذباً واحداً، أو باكياً واحداً، أو متألماً واحداً يشفي من آلامه أو من شعوره بها أو التخفيف عنها، إن كل ما في العالم لن يستطيع أن يكون عذاءً أو تعويضاً عما يلقي المتألمون ألمهم ووجعهم وأسقامهم، إن كل سعادة وغناء وجمال وصحة تتحول إلي تحدي لمن فقدوا ذلك وإلي عدوان عليهم وتذكير لهم بآلامهم
إن جميع الشموس المضيئة لن تكون يوماً تعويضاً عن ظلمةٍ في عيِّنْ
إن جميع القصور الباذخة لن تكون يوماً إعتذاراً عن حقارةٍ في كوِّخْ
إن كل شيء ملائم لنا هو عدوان علي نقيضه وحامل لنقيضه
إن الجمال عدوان علي القبح وحامل لنقيضه أي لنقيض الجمال أي حامل للقبح
إن الصحة والشباب والمجد والقوة وكل شيء يلائمنا هو عدوان علي نقيضه وحامل لنقيضه
إن الجمال هو أكثر الأشياء الطيبة عدواناً، إنه عدوان علي نقيضه وعلي كل المواجهين له والمتعاملين معه
أيها الواعظون ...أيها الواعظون المتجردون ...
خذوا نصائحكم وأعطوه مشاعركم ...خذوا ذاته وأعطوه ذواتكم، إنكم حينئذ لن تعظوه، وهو حينئذٍ لن يكون محتاجاَ إلي مواعظكم لكي يكون متفائلاً، لا يجد في الكون والحياة ما يصدم منطقه ورؤيته ويثير أحزانه وإحتجاجاته
ليتكم أيها الناصحون تجربون ...
ليتكم تجربون معاناة الأحاسيس التي يعانيها من تقسون عليه بنصائحكم، ليتكم تستشعرون آلام الآخرين وأحزانهم، ليتكم ترون دموع الناس وقسوة الكون، ليتكم تحسون هذه الآلام والأحزان والدموع من داخلكم وبأعماقكم كما يراها ويحسها من داخله وبأعماقه من تظلمونه بنصائحكم وتفاسيركم، ليت هذه الآلام والأحزان تنصب في عيونكم وأعصابكم بالعنف الذي تنصب به في عيون وأعصاب من تنصحون
إن الذين يتعذبون بإحتجاجاتهم لم يتعلموا عذابهم بالنصائح، إذن كيف يشفون من عذابهم بالنصائح ؟! ...إنهم لم يتعلموا الإحتجاج ضد الألم والقسوة لأنه قيل لهم (إحتجوا) إذن كيف يتركون الإحتجاج ضد الألم والقسوة، إذا قيل لهم (لا تحتجوا) ؟!
ليته كان ممكناً أن ينتقل كل ما وراء بعض الكلمات من رؤيةٍ وحماس وروعة عذاب إلي نفوس وعقول من يتلقون تلك الكلمات، ليته كان ممكناً أن تؤثر فيهم الكلمات الصادقة في عذابها وبلاغة إرتجافاتها تأثيراً مساوياً لما في نفوس وعقول من يطلقونها
ليته كان ممكناً أن ينتقل الناس بعضهم إلي بعض، ليت تبادل العيون والأعصاب والرؤية كان ممكناً، ولكن كلا ...نعم كلا وألف كلا فالذين يتعذبون بكل آلام وعذاب الآخرين لا يمكن أن يتمنوا العذاب لأحد، لا يمكن أن يتمنوا للآخرين الدموع الذين يسيلونها ألماً وحرقةً وعذاباً وإنفجاعاً علي الآخرين وآلامهم وعذابهم
إن صاحب القلم يريد فقط أن يبلِّغهم ليفهموا مشاعره، ولا يريد لهم عذاب حتي لا يزداد عذابه
فلتدعوه أيها الواعظين أن يبكي فما أكثر من يضحكون في لحظات البكاء
ولتدعوه أيها الواعظون أن يحزن فما أكثر المبتهجين في مواكب الأحزان
ولتدعوه أيها الواعظون أن ينقد فما أكثر المعجبون بكل التفاهات والسفاهات
دعوه - دعوه إذن أن يزرف الدمع فما أكثر من يبكون بلا دموع، ومن يبكون رياءً ونفاقاً
دعوه إذن يخبركم بقسوة الحياة حتي لا تزيدم هذه القسوة علي بعضكم البعض، حتي تهوِّنوا علي بعضكم البعض
إنه يتشائم أيها الواعظون لأن الأشياء تموت ...ولأنها لا تجيء كما يحبها، كما يتصورها، كما يتمناها ويتمني لها، كما ينبغي لها أن تجيء ...إن الأشياء تموت وتشاتم منطقه
إنه يتشائم ويحزن لأن الشمس ستموت وأيضاً القمر، وستموت أيضاً كل النجوم والبحار والأنهار، وأيضاً كل الزهور والعيون والبسمات، وأيضاً كل الحب حتماً سيموت
إنه يتشائم لأن كل صداقاتنا وعلاقاتنا ومسرَّاتنا وذكرياتنا ستموت، وأيضاً كل قلوبنا وعيوننا وخطواتنا وأيدينا ومشاعرنا وأحلامنا ...كلَّهُ سيموت
سيموت ذلك العصفور الذي يقف كل صباح علي نافذة غرفتنا مغرداً كأنه يسخر منا أو يفاخرنا أو يصافحنا، كأنه يوقظنا، أو يتحدانا
ستموت كل العصافير ...
ستموت كل قطرات المطر والندي التي تبلل برفق شرفات منازلنا وأتربة طرقنا، وتُغدِقُ بسخاءٍ وحنان علي ظمأ أرضنا
سنموت جميعاً، وتموت كل الأشياء من حولنا
سيموت كل أصدقائنا وأعدائنا، وكل حبنا وبغضنا وأنانيتنا
سيموت طالب الصدقة (الشحات) الواقف علي الطريق، يتحدَّي بكبريائه وشموخه شرف الإنسان وصداقته لنفسه، ويتحدي بضخامته ضخامة الكون والحياة
سيموت عامل المصعد وغاسل الأرض وكانس الطريق
ستموت كل تجاربنا ومعارفنا وعبقرياتنا وهمومنا وشهواتنا وشبابنا وشيخوختنا ...سيموت كل كبريائنا وغرورنا
سنعاقب علي الحياة بالموت، وعلي الصحة بالمرض، وعلي الشباب بالهرم، وعلي رؤيتنا لجمال الشمس بتحويل عيوننا إلي كهوف ميتة
سنعاقب علي ممارستنا الحب بتحويل أعضاءنا إلي خشب، حتي المرآة، ستعاقبنا المرآة
سنعاقب علي حبنا للحرية بمزيد من الطغاة
سنفقد كل أبنائنا وأحِبَّائنا، وسيفقدنا أبنائنا وأحِبَّائنا
إنه يبذل الحزن أيها الواعظون كما تبذل الزهرة أريجها أو الشمعة نورها
إنه يكتب أيها الواعظون كي يحيا
إنه يكتب حتي لا تنهمر الكلمات علي قلبه فتسحقه وتبيده وتبيد حياته كلها معه إنه أكتب تنفيساً وتخفيفاً علي أرتالٍ من الكلمات التي ليس لها لغات ولا تفاسير ولا صيغ ولا كينونات غير أنها وليدة حياته وحزنه وما لاقاه وشاهده من مواقفٍ حزينة بائسة لا تفارقه
إن الحزن يستمد حزنه منه ...إنه ليري آلام العالم كلها وقد تجمعت في كينونته ووجوده ووجدانه ...إنه لأجل هذا يستمد معانيه وصيغه وتفاسيره ...أليس الحزن له حقوق ؟! أليس الحزن يحتاج إلي ما يعيش فيه ؟!
إن تسكين الحزن في جسمه لهو أبسط حقوقه
إنه يهب كل العالم حقوقه ويتمني له أن يسترد كل حقوقه فلما الحزن لا يهبه حقوقه أيضاً ؟! ...إن جسمه وكيانه صار مستودعاً لكل صيغ وتفاسير الحزن ...ما أقسي هذه الآلام !
ما أقسي هذه الأحزان ! ما أقسي تلك العيون الباكيات ! ...إذهبي عنه أيتها الدموع المشوهات لكل الأحزان الخائنات لهم المفجوعة المرعبة لفراقهما لجسده ...هل وجدت أو يوجد عيون باكية تخاف البكاء ؟! هل وجدت دموع تخاف تسيل حد الهباء ؟! وهل وجد أو يوجد جسم يهتف للحزن ليبقي فيه بقاءٍ - بقاء !!!
إن سروره ليس إلا فراراً من الحزن وتعويضاً عنه ...وإن ضحكاته ليست إلا فراراً من البكاء وتعويضاً عنه ...إن غنائه ليس إلا فراراً من الأنين والأنّات وتعويضاً عنهما
ما أقسي وأصعب وأحزن وأبكا هذه الحياة...ما أقساها !!!
ما أقسي وأحزن أن توهب عقلاً عالماً مفكراً ...ما أقسي ذلك ...ما أقساه
ما أقسي أن تكون مفكراً ثم لا تكون حزيناً ولا ناقداً
ما أقسي أن تري المظلومين، الضائعين، الفقراء، الغرقي، الثكالي، المتألمين ثم لا تشعر بهم، وتحيا معهم، وتحزن من أجلهم، وتساعدهم ما أمكنك

إن الأغبياء والموتي هم فقط سعداء هذا الكون ...
إن جميع حواسهم لتبتلع كل الأشياء، بكل صيغها وأساليبها وظروفها وتعبيراتها ولغاتها ووقاحاتها وصرخاتها دون أن تصطدم بها أحاسيسهم، بل ودون أن تمر بأحاسيسهم أو أن تمر منها، بل دون أن تتحول فيهم إلى أي مستوى أو نوع من الأحاسيس
ما أقدر حواس هؤلاء البشر علی الإبتلاع !
إنها تبتلع کل الكون وکل ما فیه من وقاحات و ذنوب، إن مواکب الأحداث ووقاحات الأشياء لتطحنهم وتحطمهم دون أن تمر بأحاسيسهم ودون أن تتحول فيهم إلي أي نوع أو أسلوب من الأحاسيس
إن أحاسيسهم لا تتعامل مع حركة الكون ولا تتصادم ببذاءة الأشياء، إن كل تاريخ هؤلاء البشر وكل إحتمالات القدرة والإبداع فيهم تظل مختزنة داخل ذواتهم، لا تتحول إلى نشاط لأن أحاسيسهم صامتة مهزومة، لأن أي شيء لا يغضب أو يعاقب أحاسيسهم، إن كل الأشياء مسالمة لأحاسيسهم
إن أحاسيسهم لا تتحول إلى حرب، إنها لا تقاوم ولا تهاجم إن وقاحات ودمامات وذنوب الأشياء لا تتحول إلى تفجيرات داخل أحاسيسهم لتحول ذواتهم وما فيها من قدرات وإحتمالات إلى حرائق وقذائف ومعارك ضد هذه الوقاحات والدمامات والذنوب - لتحول ذواتهم وما فيها من إحتمالات إلى أناشيد، إلى أناشيد لم يسمعوها ولم يغنوها- لتحولها إلى أسفار بعيدة، بعيدة عن هذه الدمامات والوقاحات والذنوب، وفوقها
هؤلاء الذين لا تصعد أحاسيسهم إلى مستويات الإحتجاج على الطاغية أو على الذباب، شامخاً منتصباً مغنياً مسترخياً متثائباً فوق أنوفهم، يهجو ويشتم ويتحدى ويبارز كل ما لهم من مذاهب وتعاليم
هؤلاء الذين لا يضعون أنفسهم موضع المتألم من ألمه والحزين من حزنه والباكي من بكاءه والمريض من مرضه والدميم من عاهته
هؤلاء الذين لا تصعد أحاسيسهم إلي مستويات البكاء علي المظلومين والمضروبين والمشنوقين والثكالي والجياع والعطشي الذين يتألمون ويئنون والذين هم كل التحدي والهجاء والتحقير لكل من يقول أن الحياة سعيدة أو أن الكون جميل
هؤلاء الذين لا تُرقي مستوياتهم الفكرية والشعورية ليتصوروا أن يكونوا هم كل هؤلاء وكل هؤلاء هم - ليتصورا أنهم الشيخ الذي يهتز من كهولته أو المرأة التي أُسقط حبلها أو الطفل الذي يبكي لفقدان والده أو الأب الذي فقد إبنه أو الزوج الذي فقد زوجته
هذه الأكوام البشرية التي تأكل الاوقات أو التي تأكلها الأوقات مسترخية في الأوحال والطرقات وفي النوادي والجامعات وفي المعابد والمكاتب والبيوت المسكونة بالحشرات والعاهات والدمامات والآلام والهموم المتزاحمة
هذه الأكوام البشرية التي تأكل الأوقات وتأكلها الأوقات، كالمخدرة بأقوى المخدرات ضد الشعور بأي شيء، بأي ألم، بأي ظلم، بأية دمامة - ضد كل غضب ورضا وإعجاب واشمئزاز، ضد كل رؤية وإنفعال وإنزعاج وإنبهار وإنفجاع
هذه الأكوام البشرية التي لا تستطيع أن ترى الأهوال أو الدمامات أو القذارات، أو الآلام أو الأمراض أو معارك الجوع والحرمان التي تملأ وتسد حتي طرقها الكلية التي تسير فيها والتي تتجمع فيها كل الأوبئة، وكل هذه الأهوال والدمامات والقذارات والآلام والأمراض ومعارك الجوع والحرمان التي تعيش متجمعة متألقة في عيون ووجوه وأجساد أطفالها الشاتمين بتشوهاتهم وهزالهم وبكل مستوياتهم الرهيبة أخلاق الطبيعة، ومنطق التناسل، والتعاليم وكل المعلمين، ولتفاؤل جميع المتفائلين
هذه الأكوام البشرية التي لا تستطيع أن تغضبها بذاءة أو قبح الطاغية السارق الناهب خبزها، المشوه المحقر لوجودها، الباصق المتقيء على أنهارها وحقولها وعلى مجد ونخوة مذاهبها ومعلميها هذه الأكوام البشرية المخدرة بكل أساليب ومستويات ومعاني التخدير ضد الإحساس بالأشياء والإحساس ضد الأشياء
هؤلاء كلهم، كيف يمكن أن يرفضوا أي تخلف أو جهل أو حرمان أو ظلم أو هوان ؟! كيف يمكن أن يغضبوا علي شيءٍ من ذلك كله ؟! كيف ؟!
إنهم لا يرون لأن لهم عيوناً فقط ...إن العيون ليست رؤية، بل إنها قد تكون جهازاً للحماية من الرؤية
إن الرؤية ليست عيوناً، وليست سيراً في الطريق ولا تجنباً للخطر أو للتصادم، وليست أيضاً وقوفاً أمام المرأة إنها ليست النظر القوي الحاد، إنها ليست القدرة على رؤية أخفى المغازلات في أمكر العيون وأكثرها حياءً وأسعاراً وخوفاً
إن الرؤية ليست هي القدرة على قراءة أغبى الأفكار المكتوبة بأغبى الحروف على ضوء أغبى النجوم وأصغرها حجماً وأبعدها مكاناً
إن الرؤية موهبة إنسانية، إنها موهبة إنسانية صعبة، وإنه ليس كائن غير الإنسان يملك الموهبة، موهبة الرؤية أو يستطيع إمتلاكها أو معاناتها ...وإنه ليس كل الناس يملكونها، ليس أقل الناس هم الذين يملكونها، حتى ولا أقل الناس إنهم النادرون جداً هم الذين يملكون هذه الموهبة، هم الذين يرون. إنه لصعب جداً أن تجد من يرى. إنك قد تجد كل واحد وكل أسلوب وكل مستوى من البشر دون أن تجد رائياً واحداً، دون أن تجد من يستطيع أن يراك أو يرى الأشياء التي يتعامل بها
إنك إذا كنت ترى، إذا كنت تملك موهبة الرؤية أو عذاب الرؤية فأنت تمارس كل الكون وكل الناس وكل الأشياء. إنك حينئذ تعاني كل ذلك، كل ما في الكون من آلام وأخطاء وحماقات وهموم وعبث وسخف - تعانيه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، تعانيه متكرراً ومتجدداً ومتغيراً و ثابتا. تعاني کل تفاسیره ومنطقه وحوافره وأهدافه، تعانيه أسباباً ونتائج، خالقاً ومخلوقاً، مراداً ومريداً، قاتلاً ومقتولاً، ظالماً ومظلوماً - تعانيه بكل لغاته وأساليبه ومستوياته وظروفه - تعانيه في ذاتك وفي كل ذات وفي كل شيء ...تعانیه واقعاً ومحتملاً، صورة ومعنی وخیالاً تعانیه خوفاً وإنتظارآ
إنك إذا كنت ترى - أو لو كنت ترى - فإنك سوف تعاني كل شيء وسوف تمارس كل شيء : کل آلامه وأحزانه وحقاراته وعاهانه وتفاهاته وضعفه وعبثه وموته ومرضه وجوعه وضیاعه وغبائه وکل منطقه وتفاسيره ...إنك حينئذ سوف تعاني كل ذلك معاناة المخاصمة والمصادمة والمقاتلة، معاناة التحدي والتحقير والرفض والإشمئزاز
إنك حينئذ سوف تعاني آلام الناس ومظالمهم وأنَّاتهم، وتتعذب بها فيما كانت وفيما يحتمل أنها قد كانت، وفي كينونتها التي تشهدها، وفيما سوف يكون، وفيما قد يكون
إنك حينئذ سوف تعاني وتعيش كل عذاب وتفاهة وخطاً وظلم ودمامة وبلادة وتشويه الكون - تعاني كل ذلك وتعيشه بمشاعرك وبخيالك وبتفسيرك وبمنطقك وبتوقعك وبإشمئزازك وبرفضك وبنقدك وبكل مستوياتك العقلية والشعورية والتاريخية والشخصية والأخلاقية والإجتماعية والإنسانية، لأنك قد عانیته برؤيتك ...لأن لك عيوناً شاعرة وروحاً طيِّبة وعقلاً ذكياً مثمراً وحسَّاً مرهفاً وفؤاداً لا يستطيع أن يتغاضي عن أحد ولا عن شيء
إن دمامة المنظر لا يمكن أن تُري إلا بالعيون المبصرة
إن الإبصار ليس في العيون الرائية أو العيون السوية، ولكنه في الأحاسيس المبصرة أو المتوقدة
إن القدرة على الابصار ليست في الأعصاب السليمة بل في الأحاسيس المفجوعة أو المبهورة
إن الموت في خيال الإنسان ليس هو الموت في خيال أي حيوان
إن قبح الموت في مشاعرنا نحن لا في الموت نفسه لهذا فكل الأغبياء والموتي هم سعداء هذا الكون لأن السعيد هو الذي لا يفهم شيء ولا يعرف شيء بل هو الذي لا يري شيء ولا يستطيع رؤية أي شيء
أيها الكون …
كن قصيدة، قصيدة طويلة بليغة سعيدة تمجد التشاؤم والحزن والمتشائمين الحزاني، وتغني لهم
إنهم هم وحدهم الذين يرونك، الذين يعانونك بأحاسيسهم وعقولهم، وبأخلاقهم وعيونهم
إنهم هم وحدهم الذين يعانونك ويقاومونك لأنهم مصابين بكل الأمراض الشاعرية التي لا مثيل لها في قسوة أحاسيسها
أيها الكون ...
كن قصيدة طويلة منسوجة من الكآبات والأحزان ثم غنها، غنها دائما
غنها فوق كل معبد، فوق كل مأتم، فوق كل مرض وألم، فوق كل الأكاذيب والأحقاد، فوق كل الطغاة ومناصريهم، فوق كل العتاة ومبجليهم
غنها أيها الكون من أجل ذلك، وغنها ضد ذاتك ثم غنها لكل الهاتفين لك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الوضع الإنساني في غزة.. تحذيرات من قرب الكارثة وسط استمرار ا


.. الأمم المتحدة تدعو لتحقيق بشأن المقابر الجماعية في غزة وإسرا




.. سكان غزة على حافة المجاعة خصوصاً في منطقتي الشمال والوسط


.. هيئة عائلات الأسرى المحتجزين: نتنياهو يمنع التوصل إلى اتفاق




.. مقابر جماعية في غزة تكشف عن فظائع.. ومراقبون: ممارسات ترقى ل