الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السفينة والبطيخ

آرام كربيت

2018 / 1 / 27
الادب والفن


قرية المناجير مقامة فوق مرتفع أرضي عالي أقرب إلى الجبل يطل على الخابور والسهول البعيدة، حيث يمكث الجمال والاخضراء والجمال.
وفي هذا المكان تنتصب الأرض فوق الأرض وتلوح للخابور بنهديها وضلوعها.
كم أحببت ذلك المكان الذي كنت أقف عليه، على السفح تحت دفق خلجات الشمس والنجوم، رافعًا رأسي بزهو نحو الفرح. وأرى امتداد الأرض المنبسطة تحت قامتي الصغيرة. وأرى كيف يدفع رجل فوق قارب بيده عصا أو مجداف يوجه مسار طريقه ليسير مع التيار. من هناك، من فوق ذلك المرتفع العالي كنت أرى السفينة الكبيرة من على بعد خمسمائة متر تحمل السيارات والبضائع والناس والحيوانات من ضفة إلى أخرى وبالعكس.
كنت في الخامسة أو السادسة من العمر.
احدى المرات جلب أحد الرجال شاحنة جبس " بطيخ الأحمر" وأراد ان ينقلها إلى الضفة الثانية من أجل بيعها للناس في المناجير. لم تستطع السفينة حمل الشاحنة والحمولة لهذا اضطر إلى تفريغها ووضعها هناك. كان من عادتي، مع بعض الأطفال أن نذهب إلى جوار الخابور لنسلم عليه ونعقد علاقة حب وصداقة بيننا.
مثل الصقر سمرت نظري على ما يحدث. نزلت إلى الأسفل وسرت بجوار الخابور، يحدني من اليمين الجبل والبيوت، ومن اليسار النهر العظيم. وصلت إلى غرفة المحركات العملاقة التي بناها ترزيباشي، لاستجرار الماء من الخابور وضخه عبر قساطل تصل إلى الأقنية البيتونية المفتوحة ليتم توزيعه في عمق الاراضي الزراعية الخصبة التي تمتد إلى عشرات الكيلومترات.
وصلت إلى السفينة رأيت خوشابا ذلك الرجل النحيف، الاسمر والاعرج والقصير القامة والضعيف البنية يصرخ بأعلى صوته علينا. قال:
ـ يا شباب، أرجوكم؟ أريد مساعدتكم. قلت له:
ـ ماذا تريد يا خوشابا؟
ـ هل لكم أن تركبوا السفينة وتأتوا إلى عندي؟
وكان الوقت غروبًا
ومن عادتنا أن ركوب السفينة والانتقال إلى الضفة الأخرى. نستغبي جهل أمهاتنا بمكاننا. تكون السفينة مربوطة بحلقة معدنية مغروسة في الأرض. نحرر الجنزير ونربطه بحلقة مربوطة في السفينة وبكبل مربوط من الضفة إلى الضفة، ونصعد عليها فتسير بقوة دفع التيار إلى الجهة الأخرى.
وصلنا إلى مكان وقوف خوشابا أمام تلة الجبس الممدود على الأرض. قال:
ـ إذا ساعدتموني في نقل هذه الحمولة إلى الضفة الثانية سأعطي كل واحد منكم جبسة واحدة.
طرنا من الفرح. قلنا له:
ـ بسيطة. المسألة سهلة. بأمان الله. اتفقنا.
كنا أربعة أطفال. رحنا نحمل الجبس، حبة وراء حبة ونضعها فوق ظهر السفينة. وما أن تمتلئ نجهز السفينة لتنقلنا إلى الضفة الأخرى.
بقيت الجبسة التي وعدني بها خوشابا مرسومة أمام نظري. سأخذ ثمن اتعابي. نسيت الوقت والزمن، أمي، البيت وأخواتي. غابت الشمس وحلقت النجوم في السماء ونحن على ما عليه نحن. نحمل ونملأ وننقل. وخوشابا يحثنا على المزيد من الجهد عبر كلمات وعبارات جميلة ومشجعة:
ـ بطل يا هاكوب. رائع وقوي أنت يا آرام. الجبسة التي حملتها يا سيمون كبيرة وثقيلة ولا يمكن لرجل قوي مثلك أن يحملها. تحول رأسي إلى كتلة كبيرة من الغرور والتكبر والفخر ولم أعد أرى أمامي الا كلمات خوشابا المعبرة.
تحت السكينة، وهدوء الليل تسير السفينة مختالة، يضربها الماء بنعومة. صوته الرقيق يأتيني نهنهة. أرى الخابور جميلًا، مخيفًا، قويًا جبارًا. في الليل له هيبة الوجود وأسرار الكون. يندفع نحو السفينة بقوة ثم يميل رأسه جانبًا. أرى فيه صورة أمي وأبي والناس والغموض.
قرابة الساعة العاشرة جاء رجل لا أعرفه، ومسكني من يدي بغضب ومسك يد هاكوب باليد الأخرى، قال لنا زاجرًا:
ـ أنتم هنا، وأمهاتكم يبكين ويندبن حظهمن العاثر على فقدانكم.
في طريق العودة أخذ هاكوب جبسة معه، بيد أني لم أخذ أي شيء. بقيت يدي بيد الرجل. وجرنا جرًا بسرعة البرق قال:
ـ ربما أمك رمت نفسها في النهر. علينا الإسراع بالعودة قبل ان تنتحر حزنًا عليك.
إنها تمشي كالسكرانة على ضفاف الخابور، تولول وتلوح له، تناجيه وتطلب منه السماح والمغفرة. تحولت البيوت كلها إلى غابة أحزان. وليل الخابور كما تعلم صامت. إنها لا تهدأ. عيناها مغرورقتين بالدموع، متورمتين وشعرها منفوش كالمجانين. ولا يوجد من يستطع أن يهدأ خاطرها.
في الحقيقة كنت مستغربًا من سلوك أمي، قلت لنفسي:
ـ لماذا تخاف؟ وما الذي يخيفها؟ كنت أعمل!
وصلنا إلى البيت، فرأيت الكآبة والحزن مسلطًا على أمي والجيران. وأخواتي يبكون ويندبون. وما أن راوني حتى جاؤوا إلي، عيونهم مغرورقة بالدموع والأسى. حضنوني وقبلوني ووقفوا أمامي مذهولين. ما أن اقتربت أمي مني حتى انهالت علي بالضرب والصفع:
ـ يا حيوان. أربعة ساعات وأنا واقفة على فم النهر العظيم أبكي. أراه يسير بصمت. اتحدث معه، اقول:
ـ يا خابور، يا غابة الأسرار والحزن والفرح، لماذا أخذت أبني مني؟ لماذا لم تحترم العشرة والجيرة والأخوة بيننا.
ولم تتوقف من البكاء. وتضيف:
ـ أليس في قلبك رحمة يا آرام. كيف ذهبت إلى السفينة ولم تقل لي. الا تخاف أن تقع في النهر أو تنقلب السفينة عليكم رأسا على عقب. كانت تضربني وتحضنني, تشتمني وتمدحني, تبكي وتضحك. كانت المشاعر متداخلة. قلت لها:
ـ لقد وعدني خوشابا بجبسة. إذا نقلنا الحمولة كلها سيعطيننا حقنا لهذا بقيت هناك إلى أن انتهي. على المرء أن يحترم وعوده وكلمته. أن لا يتراجع. لقد اتفقنا أن ننقل الحمولة مقابل جبسة. من المعيب أن انكث بوعدي.
ـ وهل تعتقد أن خوشابا رجل.
ـ بالطبع. فالرجل لم يجبرنا على عقد الاتفاق بالقوة. عرض علينا غرضه ونحن وافقنا.
ـ أنت طائش. ولا تبال بأهلك، أنا وأبيك واخوتك. لا يهمك إلا نفسك. تتفق، وتمارس قناعتك على حسابنا. على حساب مشاعرنا واحاسيسنا. حزننا وفرحنا. الله لا يعيك العافية يا عاق.
ـ لست عاقًا.
ـ لسانك طويل. واحاسيسك مثل احاسيس الميت. لا بارك الله فيك.
كانت والدتي غاضبة جدًا ولم تتصالح مع الحدث. وتعتقد أن النهر كائن جبار يختزن في داخله كل كنوز الخير والشر والبشر. وإنه دائم السهر على افتراس الناس وخاصة الأطفال. وإنه متجدد وحيوي لا يشيخ أو يكبر أو يموت. خلوده دائم ومستمر. في أعماقه حياة أخرى لكائنات أخرى كثيرة على أهبة الانتظار والاستعداد للافتراس. أنياب هذه الكائنات الجوفية مشرعة ومفتوحة على مصراعيها لتشد كل من يقع بين براثنيها إلى الاسفل, لتأكله.
ليله الخابور مرعب. يمشي على سطحه الغول والكائنات اللامرئية. يسهرون على حماية النهر، ويحافظون على هيبته وسلطته وقوة جريانه. يمكن للمرء أن يحس بهم أثناء الليل أو المشي إلى جانبه.
أحس أن ثقافة المنطقة كلها كامن في عقل والدتي. وتعبر عنه ببساطتها وحسها. وتختزن فيه تراكمات تاريخ الناس وأفكارهم الميثولوجية، وسلوكهم وخوفهم أو فرحهم أو قرابين وجودهم.
والخابور روح الحياة والوجود. عالم غامض قائم بذاته ومتجدد، يحمل فرحنا وخوفنا ولهاثنا ويحطها في ماضينا وحاضرنا. إنه وطن الحنين إلى الحنين.
إحدى المرات أراد أرتين معلم الكهرباء للسيارات أن يتحدى الخابور. عام على الماء ومضى في العمق بزهو، مفتخرًا بقوته وبأسه وشبابه نحو جزيرة تتوسط الخابور. لم تمض الا دقائق حتى سمعنا صراخه يملأ السماء. قال:
ـ النجدة أنني أغرق. الخابور يشدني نحو الأسفل. روحه، زله، صفصافه واشنياته وجنياته يشدوني إلى قاعه. الرجاء منكم أن تخلصوني. كان يصرخ ويولول ويرفع يديه إلى الأعلى والماء يشده إلى الأسفل.
انطلق العديد من الرجال نحوه. غاصوا في العمق وراحوا يفكون الحبال الخضراء الملتفة حول رجليه إلى أن تحرر بالكامل.
لم يكن والدي موجودًا في المناجير. كان يقود شاحنة فستقية اللون نوع شيفروليه جميلة جدًا موديل العام 1958. ينقل على ظهر صندوقها الجرارات سواء من الجنزير أو الدواليب من المناجير إلى الزهيرية في المالكية أو بالعكس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة