الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المآتم .. بين التفاخر والقيم الاجتماعية

عبد الحسين العطواني

2018 / 1 / 28
المجتمع المدني



يمكن القول أن النظام القبلي في العراق هو مكون رئيس من مكونات المجتمع مع حضور ملموس للمكونات الأخرى طبقيا وطائفيا , وان ظلت فاعليتها اقل من فاعلية النظام القبلي , على أن قوة النظام القبلي تتفاوت بين فترة وأخرى فيزداد دور القبيلة ويتعاظم نفوذها حيث تتراجع سيادة الدولة وتضعف سلطتها .
ونحن نعلم أن القبيلة خصوصية عراقية مستمرة الحضور بالتاريخ منذ القدم وحتى اليوم كونها حاضرة وفاعلة ومؤثرة في المجتمع العراقي وفقا للتقسيم والتصنيف الذي يعتمد في هذا البلد , وهي حاضرة في معظم مدن العراق وبشكل مؤثر في المحافظات الجنوبية الذي هاجر اغلب سكانها منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى العاصمة بغداد , الأمر الذي ساعد على نقل هذه الخصوصيات إلى مناطق في مدينة بغداد وبعض ضواحيها , باعتبارها مفاهيم وتصورات وأفكار وقيما نظرية وسلوكية بالقوة أو بالفعل , ونجد تجسيداتها وتمثيلاتها في بعض تعاملاتنا الجارية في ما بيننا اليوم بوصفنا بشرا ومجتمعا , مثل مفردات ومفاهيم الولاء والانتماء التقليدية , وبعض المفاهيم والسلوكيات القبلية الأخرى .
إلا إننا نلاحظ بعد 2003 بروز قوى شعبية تمكنت من الوصول إلى مستويات تعليمية مقبولة ما احدث تغيرا في منظومتها القيمية , والملاحظ أيضا أن هذه الانتماءات القبلية تمكنت من تجاوز الانتماءات شبه المدنية من خلال تأثيرات شبكات التواصل الاجتماعي ,وبروز شكل جديد لقبلية سلمت دورها الفاعل لابناءها , فالقبيلة بما هي تنظيم اجتماعي سياسي سابق على ظهور الدولة تميل إلى المحافظة ولا تتردد من توظيف عناصر الحداثة التي تخدم بقاءها رغم ارتفاع نسبة التعليم والتعرض لوسائل الاتصال الجماهيري مازالت هذه القيم القبلية راسخة ومتأصلة لدى كثير من أبناء الشعب .
الشئ الذي نريد أن نقوله انه لا يختلف اثنان على أن المآتم التي تقام على أرواح الموتى وجدت لتقديم التعازي لذوي المفقودين والتخفيف من أحزانهم كموروث اجتماعي تناقلته الأجيال عبر الزمن بغض النظر عن مستوى العلاقة التي تربط المواسين بذوي المصيبة أو الجدوى منها , ومثلما روي عن الإمام علي ( ع ) عندما جاء ليعزي الخليفة عمر( رض ) انه قال : ( إنا نعزيك لا إنا على ثقة من الحياة ولكن سنة الدين – فلا المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي ولو عاشا إلى حين ) .
فمن المؤسف جدا أن تنسلخ هذه المآتم خاصة منها التي تقام في المناطق الشعبية ببغداد وبعض المحافظات الجنوبية عن محتواها الحقيقي وتتحول إلى ممارسة ظواهر لها تأثيرات مباشرة على حياة المجتمع في جوانبها الاجتماعية , و الأمنية , والاقتصادية , سنوضح أهمها, الظاهرة الأولى : أهازيج المدح (الهوسات ) التي غالبا ما يتولاها أشخاص معروفين لدى الجميع, لديهم القدرة والإمكانية على استمالة المحتشدين وتجييسش عواطفهم نحو تصورات مشحونة بالعصبية والولاءات القبلية المخالفة لأبسط قواعد الدين والشر ع , وبعضها إشعار باللهجة العشائرية تضع الفقيد في أعلى مراتب الشجاعة والكرم , والمكانة الاجتماعية في قدرته على حل النزاعات والمشكلات العشائرية بغض النظر عن حقيقة الأمر أو عدمه , ولو دققنا بحياة الكثير ممن وافاهم الأجل بسبب المرض, أو الشيخوخة , وأقيمت لهم هذه المراسم لم يحض أي منهم ولو لمرة واحدة بزيارة هؤلاء الذين يتباكون وينشدون بفضائلهم , أو تقديم العون والمساعدة لهم عندما كانوا بأمس الحاجة لها , أما الظاهرة الأخرى : فهي إطلاق العيارات النارية في الهواء المصاحبة لهذه الأهازيج وكم أودت بحياة الأبرياء , على الرغم من تحذير المرجعية الدينية العليا للكف منها , وعدتها جريمة يكلف المخالف بدفع دية عن كل طلقة تطلق في الفضاء دون مسوغ امني , أما الظاهرة الثالثة : وهي مسألة البذخ والتبذير في كمية ونوعية الموائد المقدمة لتأخذ منحى أخر غير الذي كان متعارف عليه في السابق , فأصبح الطعام يقدم بالأواني الكبيرة المفتوحة والمملوءة بالرز والخبز المقطع بدلا من الأواني الصغيرة , أما اللحوم فهو من نوع (الغنم ) ويتم تقسيم (الشاة ) من ( 2 – 4 ) أقسام لتكون حصة (الصينية ) الواحدة في أسوء الأحوال لا تقل عن (5 ) كغم , وتخصص لأربعة أشخاص , وقد يصل عددها إلى المئات في بعض المآتم , ولا يكتفي بذلك بل تعزز بكميات كبيرة من الفواكه والخضر, والحلويات , والمشروبات الغازية , وكأن الناس في حفلة وطرب, لا في فاجعة ورثاء , وكل ذلك ناتج عن ضغط التقاليد العشائرية لا بالمبادرة الطوعية , دون الإحساس بإضرارها التي تنعكس على عائلة المتوفي وتجويعها بسبب صعوبة تسديد الديون التي تلحق بهم من جراء هذا البذخ , الظاهرة الرابعة : مسألة التقاط الصور الجماعية بأجهزة الموبايل الحديثة بين شباب اغلبهم يرتدون الملابس الفاخرة بالزى العربي, وعدد قليل من مختلف الفئات العمرية , وبوجوه مبتسمة ومتفائلة , يظهر عليها الفرح والسرور كما هي في حفلات التعارف , ليتم نشرها لاحقا على صفحات التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك ) , معززة ومسبوقة أسماء البعض منهم بلقب ( الشيخ ) بعيدا عن الخوض بمرجعية هذه المشيخة ومصدرها, وبعنوان ( وفقنا الله إن نلتقي بالشيوخ الأفاضل والإخوة والأعمام الثناء .. الخ ), دون مراعاة الحد الأدنى لمشاعر أصحاب المصيبة , وحرمة الموت ) , الظاهرة الخامسة ( سجل الواجبات ) , أو ما يسمى ( بالدفتر ) ليلزم المكلف بهذه المهمة بالتجوال داخل ( الجادر ) وبالنظر يمينا وشمالا نحو الحضور ليشعرهم بتسديد الواجب , هذه الممارسة التي يعتبرها البعض جباية شبه جبرية , أوهي ضريبة يدفعها المواسي مقابل حضوره , أو تناول الطعام , مع أنها نسبة ضئيلة لا تغطي 10 % من مجمل المبالغ المصروفة , لكنها تسبب احراجات للبعض منها للذين لا يجدون قبول لهذه الجباية في مناطقهم , والأخرى لمن لا تساعدهم حالتهم المادية في دفع هذه المستحقات فتقف حائلا أمام حضورهم إلى الكثير من المآتم , أما الظاهرة السادسة : فتتعلق بوضع الرخيم ( الجوادر ) في الطرقات العامة وعرقلة مرور العجلات , وتعطيل الأعمال , وغلق المحال التجارية وكم نسمع من الشتائم والعبارات التي لا تليق بحرمة وكرامة الميت من جراء هذا الوضع , فضلا عن كونها هدف واضح للتفجيرات الإرهابية التي حصلت في العديد منها وحصدت أرواح العشرات من الأبرياء , وأخيرا ظاهرة : ( السبعة , والأربعين ) لتكتمل المسيرة وتكون خاتمة لنفاذ ما تبقى من قوت العائلة المنكوبة إذا لم تثقل كاهلها بديون إضافية لتهيئة المآدب للأقارب , والمعارف , والجيران , والمقربين من العشيرة لحضور هاتين ( المناسبتين ) , والعجلات اللازمة لنقلهم إلى ( المقبرة ) , ناهيك عن حوادث اصطدام السيارات في طريق النجف عند زيارة أربعين المتوفى , وما ينتج عنها من خسائر بالأرواح
علينا أن نعيد صياغة علاقتنا ببعضنا بصورة إبداعية ونقدية خلاقة , لنضع تقاليدنا وتصرفاتنا وفقا لوضعنا ونبتعد عن التفاخر والتباهي , ونفعل كل ماهو يسهم بعملية التغير الاجتماعي نحو الأفضل , ويرسخ بداية علاقة جديدة في المجتمع والتاريخ , كما هو الحال في محافظات الفرات الأوسط , وبعض المدن الغربية , وان نعتمد القاعات المتوفرة في المساجد والحسينيات لهذه المراسم مع ملاحظة الابتعاد عن نقل حالات ( الطبخ والصلخ , والجباية) في هذه ألاماكن, وتقتصر المواساة على أصحاب المصيبة فقط دون أداء التحية أو السلام على جميع الحضور لما تسببه من ارهاقات صحية للبعض, خاصة في المآتم التي يصل طولها مئات الأمتار, مع أن نسبة كبيرة من هؤلاء لا يعرف بعضهم البعض الأخر,فضلا عن الزخم الناتج للوقوف المزدوج للقادمين والخارجين, لذلك يجب أن ننتبه جميعا لهذه الظواهر التي ما انزل الله بها من سلطان , وجميعها مخالفة للقيم والأعراف الاجتماعية , وحتى للمسؤولية الشرعية , لأنها لا تجلب للشعب إلا الضرر والعوز خاصة لا صحاب الدخل المحدود , وعلينا أن نسهم من مواقع التفكير الموضوعي والعلمي في كسر هذه الممارسات , من خلال تقديم علاقة سليمة وصحيحة بين الواقع والمنطق الغائب في الكثير من عاداتنا وتقاليدنا العشائرية , وان نضع نصب أعيننا حاجة المتوفى إلى الصدقات من خلال تخصيص جزء من المبالغ المصروفة للأيتام والفقراء والمحتاجين بدلا من صرفها على حالات البذخ والتبذير المشار إليها والتي لا تغني ولا تسمن من جوع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. مجلس الأمن الدولي يفشل في منح العضوية الكاملة لفلسطين


.. رياض أطفال بمبادرات شخصية بمدينة رفح تسعى لإنقاذ صغار النازح




.. مندوب السعودية بمجلس الأمن: حصول فلسطين على عضوية كاملة في ا


.. فيتو أمريكي يسقط مشروع قرارا بمجلس الأمن لمنح فلسطين العضوية




.. السلطات الإسرائيلية تفرج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين من سجن