الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحسكة

آرام كربيت

2018 / 2 / 5
الادب والفن


سألتني في لحظة العري الكامل:
ـ أي مكان في الأنثى يهزك، أي رؤى أو حلم؟
كانت عيني تتجه صوب الأشجارالمورقة، إلى غدران النهر، إلى فيض الخصب في جسد الحبيبة، وجنتيها وقامتها والكويكب النائم في حضن جسدها.
دخلنا أحشاء الغابة النضرة، جسدي فياض بالرغبة وفي أوج لحظات الصبا والعشق واندفاعات اللهب من منابعي العميقة. اقتربت منها كموج عارم، كامتزاج البحر بالبحر، ووضعت فمي على فمها ورحنا في عناق أزلي. مضت بنا الأمواج بعيداً، وسروج الخيل تحملنا على منحنياتها المتناثرة. كانت الظلال وورق الاشجار تحمي سرنا وتحمله. عندما نتعب، نقترب من الخابور، ندخل فيه، نروض الجسد الملتهب ليعيد اللون إلى لونه. كانت الأشياء واضحة لي، غير متردد. أعرف مسارات المكان ودهاليز الأرض ومسافاتها.
بقيت أتامل جمال الحبيبة، مكنونات جسدها الغضب البض. قلت لها بعد أن شبع جسدينا:
أنا جائع يا حبيبتي، كل مكان فيّ يصرخ وينادي ويطالب، ومعدتي منقبضة كأنها ستخرج من جسدي. معصورة مثل ليمونة جافة ومشدودة الاوصال تمنعني من التنفس .
ـ معي زوادة، جبن بلدي وخيار وبندورة وبطيخ وخبز.
فتحت صرة ملفوفة بخيط طويل. مدت أصابعها الحليبية وفرشت الطعام على الحشيش الأخضرالناعم.
النسائم عليلة هذا الربيع يا حبيبي.
كنا وحدنا عراة تماماً. الخابور سرنا وكاتم أسرارنا.
ـ أنت شارد وراحل إلى البعيد يا حبيبي. بماذا أنت سارح، بماذا تفكر؟ دع كل شيء جانباً ولنبق مع بعضنا ننهل من عشقنا صفاء اللحظات.
ـ أنا معك يا حبيبتي. أفكر بالزمن القادم، بك يا غيمتي البيضاء. بلقائنا الأول داخل أكمة الشجر ومجرى سواقي القمح.
ـ هل هو سر لا يمكن أن يقال؟
ـ لا . ليس سرًا، ربما ما يدور في عقلي لا يروق لك.
ـ سيروق لي. بيننا أمور عميقة جدًا، أعمق مما تتصور، كثيرة ومتشعبة. لماذا لا يروق لي الأن؟ لماذا تضع الحواجز والحدود بيننا؟
ـ هذا صحيح. نحن متعبون. ربما لا أستطيع أن أرسمها لك كما ينبغي فتضيع الصورة ومضمونها.
ـ أرسمها كما تشاء، أنا معك، أحب سماع ما تقول.
ـ احلم بطفلنا القادم، بالتراب الأسمرالحنون والنهر والحياة الأمنة في الزمن القادم، وأشياء أخرى كما قلت.
تابعت سيري بذهن شارد، يتناهى إلى سمعي صوت تشقق الأرض، نضوب الماء وارتحاله وهروبه ودخوله المنحنيات البعيدة وتعرجاتها، مطأطئ الرأس والروح وحيدًا صامتًا. الشمس تزداد قسوة كل دقيقة. والسراب كائن خادع يظهر ابتسامته الصفراء الكاذبة. تابعت أدراجي دون أن يدركني التعب، مستمرًا تحت ضغط الإجهاد النفسي والعصبي الذي نال مني من السفر الطويل، قادمًا من سجن تدمر إلى دمشق، ثم من دمشق إلى الحسكة.
الباص الذي حملني ساعات طويلة في صندوقه بعد سنوات طويلة من العزلة الكاملة عن الحياة والناس والعالم. الصمت المطلق. الدهشة سر ولعي بمعرفة نهاية هذا الخلاء الواسع. خلعت حذائي المطاطي ورميته على الأرض الجافة. مشيت حافياً وحرارة الأرض الملتهبة تلعب بقدمي بصدامها في الرمال المذببة وحواف الأشجار الميتة. سالت الدماء منهما، بيد أني تابعت طريقي بشغف حاملًا وجع الأرض في قلبي في حزن دفين. شغفي أن أعرف لماذا مات هذا الجميل.
شاهدت امرأة ريفية تمشي مترنحة في ظل الخابور الميت وأرضه الجافة فوق رأسها منديل ملون، وثوب طويل يعطي قدميها لونه أحمر وخمري وعلى وجهها ودقنها ويديها وشم باللون الأزرق، متجهة نحوي بخطى ثابتة. كانت كالسكرانة. وعندما أصبحنا وجهًا لوجه رفعت رأسها وحدقت في عيني. رفعت غطاء الرأس على غير عادات النساء في مثل وضعها فبان الشيب وكرات السنين المدورة على وجنتها وخدها. حافية القدمين مثلي. وفي أسفل أنفها حلقة من الفضة وتحت فمها الوشم الأزرق الغامض متمازجًا مع التجاعيد وخطوط الزمن المتحرك. حدقت في عيني بقسوة وحزن عميق:
ـ هل كنت سجينًا.
ـ نعم.
ـ لماذا عدت؟ لماذا خرجت من السجن؟ ألم يكن من الأفضل والاجدى لو أنك بقيت هناك، وراء الجدارن والصمت بدلًا من هذه العودة. أليس خيرًا أن ما تراه أن لا تراه؟
ـ السجين مثل الجنين في رحم أمه، ليس بإرادته البقاء أو الخروج. إنها إرادتهم يا أماه. إنها إرادة الآخرين في تقرير مصيره وشأنه ومستقبله.
ـ صدقت. لكنك عدت متأخرًا يا ولدي. عدت بعد أن جف هذا الرهوان العظيم. لقد نالوا من جسده بالكامل يا ولدي. حتى دماءه شربوها. أعلم أنك تركته شابًا في مقتبل العمر مملوءًا بالحيوية والنشاط، وها أنك تعود إليه ميتاً. وأنت ميت. الناس عابثه، لا مبالاية، لا تحافظ على موطنها واقدارها كما لا تحترم وجودها وارضها ومكانها وتاريخا. ثم أضافت:
ـ لا خير في أمة لا تحافظ على أنهارها.
ـ من قتل الخابور يا أماه؟
ـ الذي قتل الخابور كثر يا ولدي. لا يمكن في هذه العجالة العابرة وتحت الشمس الحارقة أن نضع اللوم على هذا أو ذاك. الموضوع طويل طويل.
الذي قتل الخابور هو الناس، الطمع والفقر المعرفي والإنساني واللانتماء. أنت تعرف أن للزمن اندفاعات غريبة ودورات متكررة على مدار الزمن والتاريخ يستعصي على واحد مثلي توصيفه. كما ترى، أنا امرأة من وهم، مثلك، لسنا من هذا الزمن المتحول إلى اشلاء. جاءه موج غامض فاقتلع كل شيء. بلادنا بلاد عبث. عبث به الطوفان وضيعه، فتيبست مروجه وماءه وأشجاره. وضعوا السروج على خيله ورُحل إلى أطراف مجهولة. أضحى كالوميض الغامض الضائع يدور في جهات الأرض الأربعة.
ماذا يمكننا أن نقول عن بلاد ليست مسؤولة عن وجودها وبقاءها. وليس لنهاياتها نهايات وليس لبداياتها بدايات إلا رعود الزمن الذي يحط رحاله في أي مكان ثم تختفي.
اقتربت مني كثيرًا، ثم وضعت فمها بالقرب من أذني ومضت هامسة:
في ذلك الزمن الجميل قبل أن ينضح الحلم ويكبر كحلم. وقبل أن يتكون الإنسان ويكبر. وقبل أن تهطل الأمطار. وتتخلل العاصفة رعود وبروق، ولد الخابور جنينًا في حضن دافئ. جسده طري وجميل، متمايل القسمات متمدد الأبعاد على مئات الكيلومترات فوق الأرض السورية وباديتها، يسرح ويمرح ويلعب ويغذي الناس والأرض والأسماك والطيور والحيوانات.
تم امتصاص ماءه وهوائه. رموه في حقول القطن المترامية الأطراف الموزعة على مساحات شاسعة. قتل الماء وتم رميه في الحقول المريضة التي لا تشبع من الارتواء.
مرات كثيرة كنا نجلس تحت ضوء القمر، عند التقاء رافدي النبعين، حصان وقطينة مع الخابور نتأمل تدفق الماء من جوف الأرض. بينما الخابورالأخضر يتمدد على الأرض باسترخاء، سارحًا، يستجلي حدود المدى الواسع، محملا بأوراق الشجر وبقايا الأغصان المكسرة.
إحدى المرات حفر أبي حفرة صغيرة في الأرض بالرفش، وإلى جانبه عشرات الأصدقاء يبغون التمتع بصفاء الصيف في رأس العين إلى جوار نبع عين حصان في العام 1969. كان النبع عامرًا بالماء والاطمئنان، دائري المساحة، قطره لا يقل عن مئة وخمسين مترًا. كنّا في رحلة ليلية. أشعل جدع شجرة ميتة ووضعها في الحفرة إلى أن أصبحت جمرًا فوضع عليه خاروفًا محشيًا بالرز والصنوبر والزبيب إلى أن نضج. ضوء القمر يرسل وشوشاته لنا ونحن نغني ونضحك ونصفق، وندخل في ماء نبع الحصان بفرح طفولي ونسبح ونخرج ونأكل ثم نعود.
كل يوم عطلة في الساعة الخامسة صباحاً نضع الفطور والطاولة في الصندوق الخلفي للسيارة ونتجه إلى الينابيع في مدينة رأس العين.
نختار نبع عين حمزة الدائري. تقشر أمي البطيخ الأحمر والاصفر، تجهز أختي الجبنة مع الخيار والبندورة. الماء صاف مثل البللور، حبات الرمل تتراقص تحت دفق تدفق الماء الخارج من الأرض. الأسماك الصغيرة تنتقل من جهة إلى أخرى. ندخل الماء ونسبح، نشرب منه ونجلس وأقدامنا في الماء. والنسيم عليل والطبيعة عامرة بالأشجار. على مبعدة قصيرة لا تتجاوز البضعة أمتار يوجد نبع عين الرياض والزرقاء.
الماء الماء يتدفق من كل مكان. ولا أرى أمام نظري إلا الماء الخارج من الأرض. أي جمال هذا الذي يسكن منطقتنا من هذا العالم.
الأشجار في كل مكان. والهواء يلعب في الطبيعة حيث يريد وكما يريد..
تمتد المدينة في ذاكرتي كغربة قديمة، كذاكرة ميتة. بيوت صلبة وشوراع قاسية. مستطيلات ودوائر، ومحلات كبيرة وصغيرة. عدت إليها بعد أن أنطفأ الحلم ومات. جلست في صحن الدار فوق أرآك فاخرة اشترتهم أمي أثناء غيابي الطويل.
استقبلت الناس ضجرًا أنفاسي متقطعة وذهني شارد راحل إلى الغياب. أنظر إلى وجوه الزوار الغضة، المملوءة نضارة، بوجه هو وجهي، متعب، مسحوب الفرح والأمل.
كانوا يتسامرون ويتهامسون بينما ذهني يرحل إلى صوب رفاقي النائمين على الأرض العارية في السجن.
كنت أقول لنفسي:
ـ لماذا جاء هؤلاء الغرباء إلي؟ ما سبب مجيئهم؟ هل هوحالة فضول عابرة، رفع عتب، ترميم غربة سابقة، إحساس بالواجب؟ أي واجب؟ ما هي الدوافع التي جعلتهم يفكرون بالمجيء إلى بيتي. كنت اثبت نظراتي المتعبة على الضحك الرخيص العابر والسريع. لم اصل إلى إجابة شافية رغم أنني بذلت جهداً إضافياً لامتثالي لهذه اللحظات الخاوية. لم أكن في الزمان والمكان الذي كانوا فيه، ولم يعو الذي أعيه. أقضي الوقت المنتفي لوقتهم في مفارقات هائلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق