الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المشهد الرابع، رواية ريح من داعش

رضا لاغة

2018 / 2 / 6
الادب والفن


ترتطم العجلات الحديدية للقطار السريع فتحدث صوتا هادرا و تظهر صورة شحيحة تطل على بقايا مشهد طيّب الأثر. كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا . قال لي أحد المسافرين وهو يتصفح مجلة بالفرنسية : سنكون في العاصمة بعد أربع ساعات و نصف و المحطة الوحيدة التي سنتوقف عندها هي الشلف التي تبعد 230 كلم عن العاصمة . التقطت نفسا طويلا من سيجارتي و تيارات الهواء البارد ترجف جسدي و عطر أبي يلاحقني من النافاذة. قلت له: >. ضحك و قال متفاخرا: > . قلت: <<الطائرة مغرية لمن يتحمّل كلفة التذكرة>>. قال: <<صحيح و لكن تراتيب الحجز المسبق مجحفة>> . قلت : <<و ماذا عن الطريق المعبدة؟>> قال: <<ازدحام السيارات مزعج و خطر الحوادث مفزع>>. كان مصعب متّكئا كعادته و وحشة أمه تتلألأ على وجهه حاملة معها وسامة عذبة. كان يتحاشى أن ينظر إليّ وهو يلتقط أنفاسه مودّعا إياها. كم كان يديم الالتفات بنظرات مرتجفة وهو يتأمّلها ثم يدفن وجهه في الأرض ليخفي دموع لم يقو على كبحها.
لا أدري لكم من الوقت قد نمت و القطار يشق مسيرته عبر ترددات ملتوية و مصعب لا يزال على حاله يلفّه صمت يعسر فهمه. نظرت إليه فعرفت أنني لا أستطيع أن أسلبه جيشان توحّده فثارت في نفسي فرجة المدينة التي لم يسبق أن زرتها و كلمات أستاذ الفلسفة تنفذ في أعماقي الرحبة: <<سأحادثك كصديق . إن النداء إلى المعرفة هو ما يجب أن يجتذب إعجابك فلا تستنزف جذوة طاقتك في أضواء المدينة الساطعة . مخبّأ فيك إنسان فرد يا صاح>>.
كنت أعاني دورانا خبيثا بسبب هذا الدرب الطويل فالوقت كان رتيبا و ها هي سهول عنابة تتوارى فتولد أسوار و أبراج و زجاج ملوّن على ضفافها. استيقظ مصعب من نومه و قال: <<أراك مفتونا بما تشاهد في فلك المدينة؟>>
قلت:<< أجل غير أن ألفتها تتطلب معايشة في أرجائها>>.
قال:<< أسكب شوقك من الآن فلعل الصورة تكون سرابية>>.
قلت :<<ما يظهر يبدو في شكل لوحة ألوانها زاهية و أظن أنها ستسحق سحر موانئ عنابة الذي يملأ وجداني>> .
أومأ برأسه قائلا:<<إني ألحظ فيك جذوة تبّشر بثورة تنعش الفضول>>.
قلت:<<ما من فائدة كعادتك ، أفكارك الساخرة تزحف في كل موضوع حتى في اللحظات المثيرة>>.
تنفّسنا الصعداء و صفارة القطار تخترق مسامعنا معلنة وصولنا إلى الجزائر . كانت الساعة تشير إلى 7 و 29 دقيقة حين تكلمت المضيفة بلغة عربية فصيحة : <<سيداتي سادتي ، أرجو الانتباه. مرحبا بكم ،أنتم الآن في الجزائر العاصمة . لحظات و ندخل إلى المحطة. تثبّتوا في أمتعتكم و أغراضكم. شكرا>>.
بدأ الركاب يتدفقون إلى أسفل بتناظم سريع. لم نشأ مغادرة قاعة الانتظار بسبب تهاطل الأمطار.
كان المنظر مشوّقا و لست أدري لأي سبب غمرني ارتياح و أنا أستقبل العاصمة ، أرض البطولات و ميدان التضحية و مهد الثورة و معدن الأصالة ، وجدتها بأبهى حلة و أبهر صورة .
استسلمت إلى تدبير مصعب الذي سنحت له الظروف أن يجيء إلى الجزائر العاصمة ، فقد أنهى فيها تعليمه الابتدائي و الإعدادي لينتقل بعد ذلك إلى وهران ، مسقط أبيه الأصلي الذي اختار أن يقضي فيه بقية حياته على إثر تقاعده من الجيش برتبة عقيد. إني لأغبط مصعب على هذه الأبوة فما رأيت في هذا الرجل فتنة منصب بل تواضع يستهوي على الامتنان. كان بصدد القول لنا: <<ابدؤوا حياتكم و احذروا ظلمات ثلاث: الضجر من العلم و المعرفة، الشهرة المعدودة اللاهية عن حب الوطن ، أن تتورطوا في مفازة الرذيلة>>.
كانت هذه اللحظات أشد ما مرّ بي من خواطر فتيّة لإفراز مولود بشري في داخلي. مولود يتحرّق إلى أمل عظيم و يتضوّر تلهّفا لأحداث جسام تجري على أرض مصر العربية . كانت جرعة الثورة لتحقيق الأهداف القومية تكاد تفتك بي. كانت كتابات عصمت سيف الدولة فادحة الآثار. في تلك الحقبة من المرحلة الثانوية انغمست في قراءة الفكر القومي و كنت منتظم الحضور في التجمعات العمالية لإعلاء هذا الطراز من الفكر.
ظهرت براعتي التنظيمية حين ارتضيت شراك مجلس التأديب بتهمة ترويج مناشير كنت قد استلمتها من أستاذة الجغرافيا ممن تتصدّر مهمة تأطير الحراك التلمذي .ورغم عظم الجريمة التي نسبتها لنفسي ، فقد زعمت أنني من طبع هذه المناشير. يحضر كافة أعضاء مجلس التأديب و مدير المعهد المنتمي إلى اليسار و بوجهه المؤيد للعمل السياسي يرفع يده محذّرا: <<لو لم يكن ملفّك الدراسي جيدا لكان لنا تصرّف آخر معك. هلا قلت كلمة للسادة أعضاء المجلس الموقرين؟>> أجبت بارتباك: <<أجل ، أنا حقا آسف>>. عوقبت يومها بالرفت لخمسة عشرة يوما.
هكذا كان تنظيمنا: شباب تلمذي و طلابي ينشط و يبثّ دعايته لأنصار الوحــــــــــدة العربية و تحرير فلسطين. وقد اكتسبت شيئا من رضا الإخوة القائمين على القيادة لذلك سرعان ما انغمست في تيار النضال الطلابي و السياسي.
كدنا نزحف زحفا و نحن نتأبط أغراضنا حتى بلغنا نهاية الشوط حيث وضعناها في أول سيارة تاكسي من السيارات التي اصطفت جنبا إلى جنب في انتظار المسافرين.
اتخذت وجهتنا بلدية باب الزوار حي 8 ماي 1945 قبالة سوق السوريكال، أين توجد شقة مصعب التي خرج بها أبوه من السنوات التي قضاها في الجيش. لقد طلب مني الحضور إلى المنزل. ولما ذهبت للقائه في ذات اليوم جلسنا أنا و مصعب قبالته فقال : <<أنا لا أضغط عليكما و لكن لا أريد الخوض في المسألة و هذا آخر ما عندي. لم أكن راغبا في إيجار المنزل أو بيعه و كل رجائي أن ينفعكما. وهو ممنوح لكما للإقامة . لهذا أناشدكما أن يكون كل منكما عونا للآخر >>. انصرف و هو يسدد خطواته في الجنان الفسيح.
قلت لمصعب: <<هذا بيان عسكري نبيل>>
ضحك قائلا:<< بلى كان عرضا جادا و صائبا من رجل طيّب النزاهة و الوطنية>>.
كانت إقامتي في الحي تزداد يوما بعد يوم حسنا ، فقد كنت أحاول مصادقة كل من ألتقي به من الشباب في مسجد عمر ابن الخطاب.
كان الإمام الخطيب يكبرني سنا لكنه منذ تعرّف عليّ بدأ يأنس للحديث معي. و قد صارحني بذلك. كان وقت فراغه كله يقضيه في المسجد. و مما لفت انتباهي أنه كان حليق اللحية . وهو منظر لم يعتد من قبل لرجل دين . و ذات مساء أتيحت لي مناسبة وسط ندوة صحفية عقدها الائتلاف المدني لمقاومة التطبيع ، أن ألتقي به.قال لي: <<إني أتلقى هذه الدعوة الكريمة في زمن لا يزال يجود بحب فلسطين>>. وعند انتهاء الندوة أصر على استضافتي إلى مقهى قريبة من الحي . كان على غاية من الثورية و حاول أن ينتزع مني خفايا الحياة الجامعية مستطردا عن أحوال الجامعة في نهاية الثمانينات . لاحظت حرصه المكرر لأسرد عليه بعض الأمور . و كان من عادتي أن أنساق بخفّة و حماس لشرح الظروف التي تحيط بالعمل الطلابي ، غير أن ثمة شك أيقضني و أرغمني على التحفظ في الكلام ، فمعرفتي به لم تتعد فترات صلاة الفجر . و قد علمت أن وزارة الشؤون الدينية اختارته كإمام خمس لعذوبة صوته.
طال شوقي و أنا أستحث مصعب للتوجه إلى الجامعة بعد خمسة أيام من وصولنا، لم يدر بيننا أي حديث و ونحن ننفذ في رحابها. كنت أستمتع بالإيماءات التي يبثها الطلبة و هم مبتهجون وسط هذا المركب العريض. كانت جامعة بومدين للعلوم و التكنولوجيا ببلدية باب الزوار تعتبر أكبر جامعة في الجزائر. و في اليوم التالي باشرنا الدراسة و اشتدت وطأة الدروس سريعا. كم كنت أتمنى أن أدرس مع مصعب في تخصص المعلوماتية و الإلكترونيات بدل العلوم البيولوجية و لكن هذا الشعور سرعان ما تلاشى. ربما لأن رباب نجحت في إنارة سراج الفؤاد. لقد طلبت صراحة صداقتها بعد أن كانت قد أنكرت عليّ تعليقا سقته في أول اجتماع لاتحاد الطلبة. لا زلت أذكر بدهشة و إعجاب ذاك الشاب وهو يجـــري و أنفاسه اللاهثة تكاد تسحقه و عيون الطلبة تنفلق من حوله. وقف وقفة شامخة فصفّق الحضور بخفقان عاشق. قال: <<بأي حق يسحل دعاة الحرية ؟ بـأي حق تحاك مكائد الموت للعزل الأبرياء؟>>
قلت: <<لا يتجاسر على القتل إلا وغد و مجرم جبان>>.
نظر إليّ نظرة بليغة و وجهه يضمر محادثة ضمنية. قال بثورية متغلغلة: <<ما من أحد علّق مصيره بالحرية إلا و كان عرضة لحملات الرجعية المتواطئة>>.
قلت بنزوع يصطرع استبصارا: <<المسلك الثوري الذي لا تكون فيه الحرية أصلا و وازعا يستحيل في الغالب الأعم إلى ثورة نظامية تعيد من حيث لا تدري إنتاج الاضطهاد الفكـــري و تكريس الاستبداد. و كل ثوري يستلم الحكم و لا يعبأ بحرية شعبه فهو ملعون و عدو للثورة>>.
وكزتني فتاة بلهجة ساخرة: <<كأنك لا ترى التاريخ إلا من خلال مفاهيم الإصلاح . و بهذا فأنت تسقط في فخ الثورجة . هل أنت ثورجي؟>>
قلت: <<لم تخطئي ، هو ذاك أنا ، هيّاج بتعاليم الثورجية>>. أمسكت يدها و قلت:<<و هل هذه اليد وطنية ، ديمقراطية؟>>
نظرت إليّ ببرود يتخفّى وراءه وجه أرجواني حبك بإتقان. كنت شبه مجمّد و أنا أرقب جمالها الساحر. سحبت يدها و خفّضت عينيها الخضر باحتشام رفيع و قالت : <<لهاثك عابث و الملهاة ليست راحلتي>>. ابتعدت مسرعة و هواء نقي يسافر كلما خطت مبتعدة. اجتاحتني لذّة عارضة طرب لها كل كياني. و في المساء بينما كنت أتابع محاضرة حول البيولوجيا و القضايا الجنسوية ، اقتنصت فتاتي . كان يجلس بالقرب منها طالب أبعد الشبه بالعرب . أظنه أزياتي كيا. يا للصدفة ،من كان يتوقع أن تكون في ذات الشعبة. لم أشأ تعكير صفوها فمن المرجح أنها مستاءة مني . قلت: <<سوف أبدأ بخير الإستراتجيات ألفة ووضوحا>>. انتهت المحاضرة و بدأ الطلبة في إخلاء القاعة. اعتراني اضطراب فاضـــح و هي ترمقني أثناء نزولنا من المدرج. استوقفتها مبتسما و قد اصطبغ صوتي بضرب من الارتعاش و قلت: <<أظنك مغتاظة مني يا آنسة، أرجو المعذرة>>.
قالت ببساطة متكتمة غير مصطنعة: <<لا عليك، الاعتذار في حد ذاته تلبيس للشهامة>>.
تتزاحم الأفكار في ذهني غير أنه لم يكن بإمكاني الحديث فأنا لا أكاد أحرّك شفتاي .كان لا بد أن أتخلّص من ارتباكي وهي تفحصني بنظرة جريئة و بابتسامة طفولية. مددت نحوها يدي مصافحا و قلت: <<حازم السنياوي ، طالب سنة أولى علوم بيولوجية ،من وهران>>.
قالت بمسحة من الخجل:<<رباب بوذراع من قسنطينة، سعدت بلقائك>>.
ضغطت برفق على أصابعها فسحبت يدها بابتسامة بريئة . لم أستطع منع نفسي أن تمرق داخل مدارات العشق بصمت جليل. قلت في نفسي: <<لقد اشتعل الحب من هذه اللؤلؤة العاتية>>.
وصلت أوج نشوتي حين اجتمع الطلبة و أنا ألمحها . تناهت إلينا أخبار قوية كالبرق المفاجئ لآفاق مخربة. لقد ظهرت صور صدام حسين بثيابه المهملة و شعره الكث . كانت هذه الصورة كالرصاصة التي صرعت النخوة العربية. صدام حسين الذي وعد بأن ينتحر الكلاب الأمريكان و الإنجليز على أسوار بغداد ؛ يظهر للجماهير العربية حبيس غرقته .قال الشاب صاحب العقيدة البعثية و كأنه يستغيث: <<السكينة تغشانا و بغداد في غمرة أحلامها المطرّزة بالنور يستوحشها غبار مميت؟ أتشهرون النضال أم الحداد؟ >>. تفرقعت أصوات الطلبة الذين تجمّعوا بأعداد حاشدة تهليلا : <<هو أمريكا واش تريد ؟ تريد الشعب يبوس رجليها ... لا يا أمريكا مش حنبوس و غدوة الثورة تدوس عليك>>.
قال بنبرات عصبيّة ووجهه يطفح غيظا: <<حياتكم أيها الرفاق و الإخوة، أيـــتها الرفيقات و الأخوات بارود مشتعل سيطهّر رجس الرجعية العربية و شهقات أيقونة الثورة تناديكم>>. هتف الطلبة بأصوات صاخبة: <<سحقا سحقا للرجعية و العمالة الأمريكية>>.
قال: <<أيها الأحبة ، لا شك أنكم شاهدتم صورة قائدكم في الأسر تتحلّق حوله أرهاط من الخونة. زعيمكم اليوم في شدة و الحياة تصبح موتا إذا لم نكافح و نسير على دربه ، درب العزة الذي خطّه الزعيم البطل جمال عبد الناصر>>.
بهذه الكلمة التي قالها إنك لتحسب و كأن الأرض انفجر فيها بركان حيث احتدمت الهتافات التي تمجّد الراحل : <<عبد الناصر عبد الناصر و اللي يخون الثورة خاسر>>. وجدت نفسي و صديقتي رباب وجها لوجه. كانت حرارة يدها التي لم تفارقني ملتهبة . توجّه الطالب الخطيب بكلماته القاطعة: <<فكّروا بروح الثورة ، أقبلوا على طريقها ، كافحوا و امضوا على بركة الله خارج هذا السجن المقفل حيث الجماهير التي تنتظركم>>.
كانت شوارع العاصمة في تلك اللحظات العصيبة تروي حكاية مشهد إعجازي لمظاهرة ضخمة تزحف إلى البرلمان. تنبّهت فجأة إلى أنها أصبحت معركة صادمة تدار بخراطيم المياه و قنابل الغاز المسيل للدموع . كانت المنازلة مباغتة وغير متكافئة . لقد كان هناك أمر عسكري مستفزّ، يحذّر الطلاب الثائرين من مغبّة هذا التصرف الطائش و العدول عنه. تفاقمت الأحداث على نحو لم يخطر ببال أحد فخرجت فيالق من الدرك مدججة بالسلاح . كانت كالذئاب المتعطّشة إلى القنص فبدأ استعراض القوة عبر سيل جارف من كلاب الصيد التي قذفت في قلوبنا الرعب ثم حوصر مبنى الجامعة بسياج من البوليس مزوّدين بموتوسيكل. و فيما كنا نقف بشجاعة منقطعة النظير شاهدت بأم عيني غرور قوات البوليس و هي تمعن بوسائلها الظاهرة و المعروفة في قمع المتظاهرين. لقدا انقضّوا علينا و شتتونا من الداخل بوابل من القنابل المسيلة للدموع بصورة مؤسفة و برّرت الحكومة عملها الدنيء بعد ذلك بلباقة أمن الوطن. سمعت الكثير من الطالبات يستغثن و هن يقعن في الأرض اختناقا و إغماء و يطلقن شهقات حبلى بالأسى. سدّت كل الطرق و أذيع مقتل طالبة فازداد الفـــزع و الجزع و رأيت الشباب من الطلبة يرشقون قوات الأمن بالحجارة. كان لا يشغلني حينها شاغل سوى الخروج من هذه الورطة خشية الاعتقال خصوصا و أنني لمحت في عيني رباب حيرة و ذهولا.
رجمتني حمى تحرق القلب و أنا أصغي إلى باسم الشاب الخطيب و هو يسرد لي حادثة اعتقاله. لقد استفاق فوجد نفسه في قبو مظلم.هو يعرف الآن ماذا حدث. أجل لقد انقضّ عليه الجناة وطرحوه أرضا و أشبعوه ركلا إلى أن أغمي عليه ثم حملوه في سيارة .
حين طلبت منه أن يصف ما حدث له في السجن قال لي:<<تلقّيت تهديدا من مخبر حقير. إن هذا الرجل خطير للغاية. هل يخطر ببالك ؟ لقد أعطاني سيجارة>> و قال لي: <<هل تنوي أن تكون زعيم عصابة تتآمر على الوطن؟ لتعلم أن هذا الطريق يسحق الرجولة التي تغدو هلوسة>>.
أودّ هنا أن أقف وقفة قصيرة مسايرة لأطوار هذه الحادثة. ففي ذلك الوقت تحوّل مطلب إطلاق سراح الطلبة إلي قضية مركزية مما جرّ كل الجامعات بما في ذلك جامعة بوزريرة ، إلى الدخول في إضربات فحوصرت مبانيها بالدبابات و المدافع الرشاشة . و في خضم ذلك الحراك ظهرت براعتي في تأطير الطلبة وهم يشتعلون حماسا لرد الاعتبار لهيبة الفضاء الجامعي الذي لا يجب أن تطأه أنعال البوليس المنحطة و الهمجية. و قد تولّيت في أحرج الظروف تنظيم الاجتماعات العامة و الدعوة إليها فكانت لنا جلسات تفاوضية عقيمة مع عميد الكلية . يجوز آنذاك أن وزارة الداخلية قد أخضعته إلى ضغط التهديد و التلويح بفصله من منصبه خصوصا و أن انقطاع الدروس طال أكثر مما يجب. و فيما يلي نص البيان الذي أصدره حين تعطّلت سبل التفاوض:
إلى أبنائنا الطلبة الأعزاء
إن الأحداث الأخيرة التي عصفت بالحياة الجامعية إنما هي فصل من فصول سياسة ترمي إلى تسميم الأجواء و النيل من سلامة الأمن عبر الزج بالجامعة في مستنقع التوظيف الإيديولوجي الرخيص. لذلك فإن إدارة الجامعة ، و إذ تتفهم تعاطفكم مع زملائكم الموقوفين ، فإنها و من موقع المسئولية الوطنية و إعلاء روح العلم كرسالة سامية إزاء جيل المستقبل ، صناع نماء الجزائر تندد بالشرذمة التي تنشط ضد هذه الأهداف لبث دعاية مغرضة تخدم أجندات خارجية و تعلن لجميع الطلبة أن يوم غد ستستأنف الدروس بشكلها الطبيعي و تجرّم كل عمل من شأنه أن يخالف هذا القرار و تعرّض فاعله إلى الرفت النهائي.
كان هذا البيان ، رغم جفوته و صرامته ، عديم الفائدة في ترهيب مشاعر الطلبة و لا أدل على ذلك ما أقدموا عليه من إعلان الإضراب العام الذي هزّ كل تراب الوطن . إن هذا المنعرج الخطير أدى إلى إقالة العميد لتفتح قناة حوار مباشرة مع الحكومة تشكّل بموجبها فريق تفاوضي كنت أحد أعضائه.
أسفر اللقاء مع رئيس الحكومة عن الإفراج عن كل الطلبة و ضبط في الغرض محضر اتفاق قضى بعودة الدروس إلى سالف سيرها . لكم أشاد الطلبة بشهامتي عقب هذه الحادثة فبذرت في شخصيتي مقدارا هائلا من التقدير عند عدد غير قليل من أساتذتي فضلا عن انتخابي ضمن الهيئة المديرة لاتحاد الطلبة .
على أية حال كان جل الطلبة ممن عرفوني عن قرب يعلمون أنني لا أبالي بذلك.فقد كانت مشاعري كلها بزمام رباب التي استطاعت في فترة وجيزة أن تسكن في أعماقي و تتربّع على عرش فؤادي.
كان مثقال حبي لها عتيّا. مضت الآن سنة على سفرها و قد صارت جزءا من الذاكرة ، و يا لها من ذاكرة.
ترعرعت رباب في وسط عائلة أرستقراطية ، و رغم ذلك كانت متأثرة بتيار اليسار الأوروبي و بدت مستعدة للتأكيد على اشتراكيتها بعدم اكتراثها بالبروتوكولات التي غالبا ما تتمسّك بها مثيلاتها من الفتيات ميسورات الحال اللائي ينحدرن من هذه الطبقة . لقد طردت ذات مرة سائقها الخاص وهو يركن سيارة المرسيدس السوداء أمام مبنى الجامعة. إنها اختارت أن تستلم متطلّبات الحياة الواقعية بنفسها عبر معايشة حياة عموم الطلبة. كانت تقضي أكثر من نصف يومها معي و نادرا ما كانت تعبأ باعتذاري لقبول دعوتها للغداء ، فهي تفحمني بإلحاحها المستميت . و في مطعم قريب من حي الفدائي علي عمار ، حي جامع اليهود القديم بصخبه و حيويته و على مرمى القلاع الأثرية الشامخة لمسجد كتشاوة بصومعته الضخمة ، جرت العادة أن نطلب أطباقا من السلطة و شرائح اللـــــــحم المشوية و البطاطا المقلية . و كما هي الحال كانت في الغالب هي من تدفع الحساب. و حين يعتريني حرج فاضح كانت تكتفي باقتباس عبارتها المعتادة: <<لا تنسى أننا واحد>>.خلال العامين الماضيين انتشر خبر علاقتنا التي استقطبت فضول جل الطلبة ؛ و اليوم تمرّ علاقتنا بمرحلة مقبلة يغلب عليها التعقيد ؛ فمن المحتمل أن تنتقل رباب للدراسة في انكلترا . لقد قالت إنها لم تفعل ذلك بنفسها و إنما هاجس احترام الجذور الذي بات تقليدا في العائلة هو ما يلزمها ، وهي مضطرة لتكمل المرحلة الثانية في الجامعة الملكية أين تدرس أختها مرام والتي ستحصل على الليسانس في الفيزياء.
قلت لها جزعا : <<هل أنا في سبات ؟ لماذا أنفقنا كل هذا الوقت ؟ و كيف يحدث ذلك؟>>
رباب وهي تخفي وجهها باكية في صدري: <<قد يبدو هذا فظّا ولكن أستطيع أن أتّصل بك في كل حين >>.
قلت: <<أنت تعرفين بلا شك ماذا يعني رحيلك؟>>
رباب بحسرة: <<أخبرني أنت ماذا يعني؟>>
قلت بانفعال وقد أبعدّتها عني:<<تلك هي الحال سيصبح محتّما عليّ أن أزيلك من ذاكرتي>>.
رباب: <<أنت تهذي يا حازم ، إنك سرّ لحظتي و سحرك ممزوج في جسدي ،هل نسيت ذلك؟ لقد تذوّقت معك معنى الحب و بهجة اللقاء>>.
قلت بنبرة تشبه النحيب: <<لا أدري كيف سأتحرر من سجنك؟ >>
رباب:<<إنك تفرط في شقوتك ، من قال لك أن تتحرر منّي>>.
قلت بعصبية: <<لنفترض أننا لم نتعارف>>.
رباب: <<هذا تدبير خاطئ و الحياة لا تكون لها فائدة من دونك>>.
شققت طريقي إلى الخارج تاركا إياها لوحدها في المقهى قائلا: <<احتفظي بتقاليد عائلتك اللعينة و لننسى أننا تحادثنا. تذكري ذلك جيدا. نحن لم نلتق أبدا>>.
شكّل هذا اللقاء الأخير صدمة نفسية حادة تركت ثغرة مضرة على شخصيتي . كنت كمن جفت منه شرايين الحياة و أضحيت شخصا مأخوذ بذهول غامض. و رغم ذلك كنت متميزا في دراستي و لم أكتف بحيازة الليسانس في العلوم البيولوجية بل أثبتّ جدارتي في نيل الدرجة الثانية في اللغة الألمانية .إنه كفاح التعويض المتواصل الذي ما فتئ يسري في أعماقي . لقد تحوّلت إلى شخص بارد الإحساس يتصرف بمناورة مع المرأة . كنت أشبه بطريد وحيد يكرّس جهده في الفضاء الافتراضي بأسماء منتحلة . ينظر إلىّ مصعب طوال الوقت متعجبا . كان لا يتوانى في محاولاته المتكررة أن يخرجني من بوتقتي . كنت أتظاهر و نحن نطوف في وسط العاصمة أنني تخلصت من شقوتي . لم أكن أريد أن أقلقه وهو كعادته و بأسلوبه البديع يخترق حواجز التيه التي تضطرم في حاضري.
كنت في نظر رباب عديم الرحمة ، هذا على الأقل ما باحت لي به فيما بعد أو هكذا بدا لي. كانت شخصيتي أصلب من أن يطيح بها بكاؤها و هي تطوّقني بذراعيها الناعمتين . كان بوسعي أن أمسح عينيها المترقرقتين بالدموع ، ربما أردت بذلك أن أنتقم لنفسي فقد كنت في مزاج توشك فيه أفراحي أن تتلاشى . كنت كمن هبّ على جسمه هدير من اليأس . وخزتني ثرثرتها المملوءة بالمرارة و مصعب يبوح لي باعترافها الأخير و هي تغادر أرض الوطن. كان كالوصية المزلزلة .لقد قالت له: << إن علاقتها بي أشدّ فترات حياتها انتشاء و سعادة لأنني أقطن في دمها>>.
لا داعي للقول أن ذلك التصرف كان غلطة. ففي لحظة الرثاء تلك عمدت إلى سبيل الغلظة و القسوة و لكنه كان جادا بالنسبة لها . لم يكن يخطر في بالها مرة أن تنتهي علاقتنا بهذا الشكل لذلك أصرّت على مصعب أن يوصل لي بطاقة صغيرة طرّزت بكلمات ذهبية و بدمها الغالي: <<لن أنساك و ستظل موعدي الذي أنتظر>>.
عندما انتهيت من تناول فطور الصباح كان مصعب لا يزال يجلس على الأريكة . لقد كان يتحدث مع شخص ما عبر الهاتف. كان الوقت مبكّرا و لم يكن من عادته أن ينهض في هذا الوقت .كان لا يكفّ عن التأكيد بأسلوب متسامح : <<لا عليك ، سأهتم بالأمر>> و ما أن أنهى مكالمته قال لي : << ربما يمكننا تناول العشاء سويا هذا المساء>>.
قلت باستسلام مراهق: <<ما دمت مدعوّا فلا بأس>>.
هل كان في وسعي أن أتخيّل أن رباب هي من رتّب هذا اللقاء. طبعا لا . لقد خلوت مرة واحدة إلى نفسي أتكلم مع ماضيّ . منذ سنة و نصف تقريبا لم أحاول أن أفكر فيها حتى أنني تعرفت على غندورة شديدة الفرح و متباهية بأنوثتها . تصور أنها حلفت بأغلظ الإيمان أن المرة الأولى التي قبّلها فيها رجل كانت معي . لقد بكت بكاء حارا عندما قهرت نـــــــزوتي و غالبتها و نحن نحتفل بعيد ميلادها في شقة أظن أنها أجّرتها خصّيصا لهذه المناسبة. كان جسدها ملفوفا بفستان حريري أحمر اللون يكاد يحدث فرقعة جنسية مثيرة لدى الناظر.في الواقع لا زلت أمتدح مذاق شفتيها . كانت تقول لي: << يا لك من فنان غاو>>. كنت قابضا على نهديها أنظر مستطلعا. كان يمكن أن أنزع ثيابها فذلك أمر مباح بالنسبة إليها . هل كان يمكنني فعل ذلك؟ و ما الذي يمنعني؟ فهي من خطط و جسدها الذي يشتعل نارا ميّال للمضاجعة . فما من حصن ، ما من فضولي وسط هذا الليل الملتهب. بدت مسالمة و عذبــــة و عينيها الصافتين تنطق إغراءا . لقد أضرمت فيّ نظراتها تمردا وعبثا حاولت أن أحاصره. هل تتصور؟ لقد بدا لي وجه رباب بلينه و طراوته و بشرته الرائعة. لم يسبق أن رأيت رباب واجمة بهذا الشكل. لقد بدا لي و كأنّ وجومها مسموم بسخرية لاذعة. لبست قميصي على عجل و أدركت أن خير ما أفعله هو مغادرة الشقة. لقد جن جنون غندورتي ، فهي حانقة من تصرّفي ، لا شك أنه الغرور . لا زلت أذكر عبارات الشتم التي أمطرتني بها. قلت في نفسي: <<يا لني من معتوه، أنساق وراء لذة محرمة و طيفك هو من ينهرني>>.
مضت ساعة و نصف تقريبا على مغادرة البيت تاركا مصعب يحلق ذقنه. حين دخلت إلى مخبر الكلية. كان اليوم الأخير على مدى العشرون يوما التي أنهيت فيها تجاربي حول القسم التطبيقي لنيل شهادة الليسانس. كان عملا مملا و لكنه في النهاية كان خياري . لطالما قضيت يوما بكامله في مطاردة فرضية تافهة . كان أستاذي المشرف الذي تفيض نفسه زهوا يكتفي بهز رأسه قائلا: <<يوجد خطأ ما اقترفته. اعمل على تداركه>>. ثم يأتي في اليوم الموالي قائلا: <<هل الأمور على ما يرام؟>> فأجيب كالمعتاد: <<أجل ، يبدو أنني تصرفت بإجحاف >>. فكان يقطّب حاجبيه ثم يقول: << لا بأس، الخطأ فعل يستحق شغف العزم ، إنه انخطاف ينبثق منه وميض النجاح>>.
لم يبق سوى خمسة أيام تفصلني عن موعد المناقشة ، سيكون بلا شك هناك أسئلة و محادثات حول أطوار العمل و الصعوبات المعملية التي واجهتها . طبعا لا أنوي مجادلة أعضاء اللجنة بأسئلتهم الغريبة التي لم يسبق أن لمحتها و أنا بصدد الإعداد لأطروحة البحث التي خصصتها للعلوم العصبية و البيولوجيا الحاسوبية. سأحتاج إلى طاقة إيجابية و ربما يجب أن أرضخ لبعض الرياء الدبلوماسي الذي لم أتورط فيه طوال حياتي التي خلت.
ساورني شيء من القلق حين أقفلت أبواب القاعة ، لعله لم يكن من الضروري أن أرتدي ربطة عنق. هي على كل حال نصيحة مصعب فقد قال لي ناصحا:<<إنها تمنح الثقة و تحمي أسطورة الذات. إنك تلعب لعبة الحضور الركحي و من لحظة ارتـــــــدائها يولد الاحــــترام و يعرفك الآخر كمعجزة>>.
أشعلت سيجارة فيما أنتظر قرار اللجنة . كان كل رفاقي يشحذونني بالثقة و يمتدحون الطريقة الممتازة التي تقيّدت بها و أنا أدقق في تفاصيل الأسئلة التي طرحت عليّ . لقد دهشت أنا نفسي من هذه الحذلقة. طبيعي أن أنظر بكثير من الحب إلى أبي وهو منبسط الأسارير. كانت قسماته تحتمل البشاشة و الحزن. أجل إنه يختلس النظر إليّ خلسة لسبب ما. لقد عرفت ، أظنّه تذكّر المرحومة أمي وسط كل هذه الوجوه. أظنّه تمنّى لو كانت بجانبه. ابتسمت له ابتسامة عذبة. لقد فقه مغزاها . فقلت له :<< أفهم شعورك أبي و لكنها مشيئة الرحمان>> .
ما كان أعظم حنان أمي و عذوبة رقّتها . كانت مودّتها سخيّة و تحرص على وقار أبــــــــي و مهابته. لقد كان يعمل قاضيا بمحكمة الاستئناف بوهران . ماتت أمي بمرض أنفلونزا الخنازير وهي تؤدي مناسك الحج مع أبي. لم أتجاوز حينها الرابعة عشرة و كانت أختي الوحيدة التي تكبرني بثلاث سنوات قد تزوجت من ابن عمي ، نادر أخ مصعب . لقد شكرت القدر أن وهب لها زوجا مثله. كنت أتجاذب معها أطراف الحديث قائلا: <<لعلك تذكرين أنك عطر أمي>> ، فتربت عليّ قائلة: <<ما أسعدني بك يا أخي>>.
و أنا أعطف على الوجوه الحاضرة كانت عاطفة رباب الحارة تهبّ بروعة في نفسي. لا أدري لماذا يشتعل وجهها بحمرة مفاجئة . فليباركك الله يا حبيبتي ،لن أنسى ما حييت الأثر الذي تركته في نفسي و أنت تتكبّدين عناء السفر فقط لكي لا تفوّتي هذه اللحظة.
كانت رؤيتها بالنسبة إليّ أقرب ما تكون إلى الخيال وهي تتقدم نحوي ووجهها الفاتن متجمّل بمساحيق خفيفة تعبّر عن روح جريئة. قال مصعب: <<هذا ما لم يخطر لك على بال>>. كنت مفعما بالشوق الذي يبذر في القلب رضا و سرورا. غير أن ثمة عاطفة أخرى لا أفهمها دفعتني إلى كبح جماح فرحتي . لكم أشفقت عليها و أنا أقاوم ملاطفتها لي وهي تهمّ بأن تحضنني بطريقتها الرقيقة والبريئة. لقد قرأت في نظرتها أسى دفينا. قالت لي وهي خجلى : <<المعذرة يصعب على المحب أن يعيش طوال هذه المدة يتخيّل من أحب يطوف حوله دون عناق. و ما عسى تكون طباعه وهو يراه أمامه>>.
اغتاظ مصعب من جفوتي حتى أنه خاطبني بنبرة ماكرة: <<قل هذا لغيري ، قلبك يضجّ بالحب تجاهها، فلا تكن متجلّدا. لقد جاءت رباب خصيصا لكي تراك و تحضر مناقشتك لليسانس. و رغم أنفك أيها المحترم ستسلمنا نفسك و لا تتحذلق>>. ما هي إلا لحظة من الزمن حتى اتجهنا ثلاثتنا إلى نزل السوفيتيل المطلّ على حديقة التجارب الشهيرة و القريب من المتحف الوطني للفنون الجميلة. يضمّ النزل ثلاث مطاعم راقية تجمع بين الطهي الفرنسي و النكهة الجزائرية اللذيذة . كاد الطرب يهزّني و رباب تلاحق بفضول يقظ تفاصيل السنوات التي خلت . أعتقد أنها كانت مهووسة بصورة لا تصدّق بمعرفة ما إذا برزت فتاة في حياتي . وهذا شيء يفهمه على الفور كل من كان مملوءا بالحب ، ذاك الدرب الذي تحفّه الغيرة و ورطة التملّك. ذهلت من تعليق مصعب الجالس على الطرف المقابل من المائدة وهو يرشف بهدوء عصير التفاح حين قال بمرحه المعتاد: <<يا لكما من شقيّان. إن حياة كل واحد منكما كانت محبطة بلا شك>> . ظللنا ننظر إلى وجهه وهو يتكلم .لا أنكر أن وقع ملاحظته أعجبني فهو يضمر حبا نقيا لكلينا و لكنه أضحكني أيضا لأنه فكر في بعض الحماقات التي يمكن أن أسردها . كيف ينسى العلاقات التافهة و الماجنة التي أقمتها مع بعض الطالبات . كنت منحرف المزاج حين سافرت رباب . لم أكن جادا . كنت كمن يعاقب نفســه و ينزل عليها أذى عظيما.قلت معقّبا:<< أعترف أنني لم و لن أعيش دونك>>. شعرت رباب بسعادة فائقة و سطع وجهها نورا و هي تتلذذ بسماع هذا الاعتراف. رنّت آلة الكمان بنغم صادح مترعا بالحنين ، فصمتنا . كأنما الأنغام كانت تأتي من القلب . يجب أن أعترف هنا بأنني لست مولعا بالموسيقى . بدت رباب مسترخية حتى غمرتني أنا النشوة أيضا فلم أنتبه إلى النادل وهو يضع أطباق سرطان البحر أمامنا. دوّى التصفيق عاليا للعازفة الشابة و بدأ عدد نزلاء الفندق يتزايدون .هبّت نسمة خفيفة على وجهي . فقد كنا نجلس في الطابق الثالث حيث الهواء الطلق . قلت مازحا: <<الموسيقى كنز رائع و لكن هذا الطعام اللذيذ أشد إغواء>>.
لم أشأ أن أسأل رباب عن حمرة وجهها و لكنها على أية حال بدت لي هادئة البال . كانت المرة الأولى التي تلتقي فيها بأبي . لقد انتزعت منه سرّا. كان ينظر إليها فرحا و يصغي إليها صامتا و يوشك أن يسألها : <<هلا تزوجتما؟>>
أحسست أنه مغتبط بها ، كنت قد لاحظت ذلك أثناء حديثه مع مصعب الذي يحبه كثيرا. أغراني المشهد حتى كدت أنسى حكم اللجنة الذي انتظرته بشوق. فتح الباب و أذن لنا بالدخول من جديد إلى القاعة . رأيت في وجه أستاذي مزاجا تكاد تضيئه شموع الطرب. كان لا بد من انتظار نصف الساعة تقريبا لكي يصرّح رئيس اللجنة بنتيجة التقدير المشرف جدا التي نلتها. علت ضجة و قهقهات . كان ثمة أنواع فاخرة من الحلويات. في الواقع إن رباب هي من تكفل باقتنائها. لقد ألحت بشدة على مصعب أنه ليس من المقبول بالنسبة إليها أن يقدم بسكويت عادي للسادة الحضور. إن تعبيرات رئيس اللجنة ، و هو يتمتع بمرح شديد بمذاق الحلويات ، لا يحتمل أدنى شك. هو على الأرجح يفتعل الرصانة ، غير أن يده لا تكفّ عن التقاط المزيد . إنه يتظاهر بانغماسه في الحديث مع أستاذي و قد أحاطا بأبي و هما يفرطان في الثناء عليّ.لقد أحببت كثيرا أفكار رباب اللامعة .إني لأعجب حقا من حماقتي فقد كدت أفرّط في أيقونة القلب و مهجة الفؤاد.
كانت تخرج من فمي بين الفينة و الأخرى عبارات الشكر و الامتنان لكل من جاءني مهنّئــا. و عندما انفردت برباب و نحن نتنزّه في حديقة الكلية خلت نفسي أبتلعها وهي مقحمة بين ذراعيّ. كانت نبرة صوتها عابثة حين قالت لي: <<لطالما أصابتني نوبات من الإحساس بالوحشة و أنا في الغربة>>. ثرثرنا على مدى ساعتين . رنّ هاتفي الجوال، إنه مصعب يستحثّنا على القدوم في الموعد لحفلة العشاء التي ستقام الليلة ...
لا أعتقد أنني أمضيت ليلة أسعد و أبهج من تلك الليلة. كان المشهد عائليا بامتياز . لقد حجزنا جناحا خاصا في الفندق . كان أبي و عمي و مصعب و أختي فردوس و زوجــــــــها فارس و ابنتيهما سوار و هديل و أب رباب محمود و أمها إيمان و أختها مرام و أخوها فارس يجلسون حول منضدة كبيرة . كان شعر أم رباب كثيفا و وجهها ناعما و رائحة عطرها تمزق الأنوف طيبا و حلاوة. بدا لباسها متحررا خلافا لرباب . كانت نظّاراتها المذهّبة تحيل فعلا على امرأة تنحدر من طبقة أرستقراطية عريقة. لم يكن أبا رباب يعلم إلا القليل عن حياتي السابقة و حتى الراهنة مما أخبرته به عني رباب. و لكنه على كل حال بدا مهتما بذلك. فهو يعلم أن سعادة ابنته يتوقف على قبوله بعلاقتنا. و لعل مثل هذه المناسبة تعزز التعارف و التواصل بين العائلتين. كنت مطمئنا بأنه في استطاعتي أن أجعله يفتخر بي كزوج مستقبلي لابنته رغم الفوارق المادية بيننا. فقد لاحظ هذا الافتتان بي من خلال التقدير الذي حظيت به من أساتذة الكلية حتى ممن لا يدرسونني و حرصوا على حضور مناقشة موضوع البحث في شهادة الليسانس فضلا على زملائي من الطلبة. قال لي وهو يخاطبني بنغمة أرستقراطية فخمة: <<لقد كنت بارعا في عرضك هذا الصباح. و لكن قل لي ما هي خطوتك الموالية ؟ أقصد هل من مشروع للمستقبل؟>>
قلت: << ما من خيار آخر سوى الدراسة>>.
كان الجميع يصغي باهتمام حين استطرد قائلا: <<أنا متأكد أنك ستــــفلح في ذلك أيّما فلاح. و لكن لماذا يبدو ذلك كإلزام و ليس كاختيار؟ طبعا هذا ما فهمته من قولك . هلا شرحت لي ذلك؟>>
قلت:<<ما قصدته أنني لست ممن يفنون أعمارهم في انتظار وظيفة قد لا تأتي أصلا>>. عندئذ أشعل سيجارة و لبث بضع لحظات ينفث الدخان بنفس عميق ثم قال: <<أمر رائج للأسف و يحدث كثيرا مع شبابنا الذين يخلصون دوما إلى اعتبار أنفسهم ضحايا . يفرّطون في الدراسة لتنهشهم الشوارع و المقاهي المتناثرة في كل مكان>>.
أبو رباب:<<أجل و لكن كل هذا سينتهي يوما ما>>. في هذه الآونة يتدخل عمي مؤيدا:<< أنا أتفهم شعوركم أنتم معشر الشباب. تريدون وطنا ينمو مع أحلامكم غير أن ذلك ليس بالأمر السهل>>.
رباب:<< المشكل من وجهة نظري تكمن في نظام الحكم الذي لم يمنحنا فرصة القيادة>>.
عمي: <<هذا تقدير صحيح ، إن التهميش يولّد الهروب و الهجرة إلى أوروبا. انظروا إلى خيرة شبابنا. أين هم ؟ أليسوا هم ذات العقول التي ما فتئت تصنع أمجاد الغرب؟>>
ــ أبي:<< شخصيا أرى أن الارتحال إلى أوروبا هو شكل من أشكال المجازفة غير محمودة العواقب>>.
مصعب: <<و أين تكمن تجلّيات هذه المجازفة . لعلك تعسفت قليلا يا عماه في إدراج هذا المصطلح>>.
عمّي :<<على العكس ، أن تهاجر يعني أن تتأقلم مع إحداثية ثقافية مغايرة ،لعل أوّل اشتراطاتها الزعم بما يسمى المواطنة العالمية مقابل إضاعة فكرة الانتماء . أنا لا يمكنني حتى أن أتخيّل حياة خارج تراب الجزائر>> .
رباب: <<يا جماعة ، على قدر حماسكم بالوطن وهذا أمر أجلّه فيكم ،فان الهجرة ليست دائما هروبا . لقد خيّل إليّ أنها كذلك في بادئ الأمر و لكنني أدركت أنها تجربة سخية وهبتني إمكانية إعادة إنتاج الصورة النمطية التي أحملها عن وطني . حب الوطن يا جماعة يعني الانفتاح على الآخر و كلما سنحت لنا الظروف لننفذ إلى عوالم أخرى مغايرة لعالم الأنا الثقافي ؛كلما ازددنا تجذّرا بهويتنا و كينونتنا التاريخية و الحضارية>>.
أبي: <<قد يحدث هذا معك و لله الحمد و لكنه مجرد استثناء. إن الهجرة هي عبارة عن شرفة تنقذف منها الأمركة . أنا لا أعتقد أن هجرة الشباب تمثّل تجربة ظافرة ؛ بل لعلّني أقول إنها تتنزّل في سياق أجندة تصحير الوطن من ينابيعه ، أعني من عقوله. باختصار إنها أجندة الاستلاب الثقافي و سلعنة الحضارة الأنقلوسكسونية كنموذج إرشادي وحيد>>.
مصعب: << و ماذا عن النظام الرسمي ؟ ماذا قدّم لهذه العقول ؟ أليس هو من يتجسس عليهم. أليس هو يحترز منهم و يمثّلون عبئا عليه؟ المشكلة يا جماعة سياسية أو لا تكون. امنحني نظاما سياسيا ديمقراطيا و عادلا و وطنيا ،أعطيك شبابا مبدعا و خلاقا.هذا كل ما في الأمر>>.
عمّي: <<أنا على ثقة أن النخب النيّرة من شبابنا سواء ممن كانوا في الخارج أو الداخل هم وهج كل تقدّم و عزّة نرتجيها لهذا الوطن الغالي الذي ارتوى بدم الشهداء الأطهار. أنا هنا لا أنظّر و لكن شاهد عيان على شموخ هذا الوطن >>.
مصعب: <<اسمح لي يا أبي هذا هو التنظير عينه . ألا توافقني الرأي أننا اليوم ننغمس في نمط من الحياة الذي يقدّس الأنانة و الفردية القاتلة التي لا تأبه حتى لمن هو من ضلعها . انظر حولك ستفاجأ بالتفكك العائلي و تفسّخ هذه المعاني الراقية التي تستدعيها من موقع المعايشة>>.
رباب:<< ديانة الغرب التي بدأت تتفاقم عندنا للأسف: ضع سعادتـــــك الغامـــرة في كفّة ،و المجتمع كمصدر لإعيائها في كفّة أخرى>>.
مصعب: <<و أيّ حياة هذه التي يسعد فيها المرء بمفرده. في ظني إنه أمل خاو>>.
ظلّت أم رباب تنظر إليّ نظرات فاحصة. إنها تبغي الاطمئنان على مصير ابنتها لتعيش كما عاشت طليقة و حرّة من أسر الحاجة. و رغم أنها كانت تراقبني طول الوقت ، لم يعتريني سأم أو كدر ؛ فقد كانت تتطلّع بلطف و شرف. على كل حال أنا لا ألومها فقد كانت دوما على صلة متينة بابنتها. و حين انهمك الجميع في تناول العشاء كانت رباب تضع في صحني شرائح اللحم المشوي التي أحبّها و حساء الكافيار الشهي وهي تبادلني النظرات و تكتفي بالابتسام و كأنها تحثّني على أمر ما. صحيح كدت أنسى يوجد غرض شيّق لهذه السهرة الليلية الرائعة. إنها العادات يا سادة التي رسّختها التقاليد. صدّقوني نفس المخرجات التي يشترك فيها الغني و الفقير في كل ولايات الجزائر. إليكم الطريقة التي يتمّ بها سبر اللقاء. تنعقد في البداية حوارات عامة بين الرجال يغلب عليها المجاملة و حتى الرياء أحيانا و لكنه رياء ضروري . و إذا حضر الطعام يقبض كل فرد على فرشاته و سكينه ثم يذاع أمر الصفقة فتطلق النسوة الزغاريد . و رغم أنني غير عابئ و لا مكترث بهذه النواحي البروتوكولية ، إلا أنني لم أقاوم رغبة المجاراة و الملاطفة مضمرا لأبي أن الوقت سانح لطرح موضوع السهرة. ضحك الجميع و كانوا سيسترسلون في القهقهة لو لا أن أبي شرع في الكلام بقوله: <<ما دمتما ، في غير مرة تصرفتما التصرف الصريح الذي يفصح عن رغبتكما الجامحة في الارتباط على سنة الله و رسوله فان ضميري و أبوّتي يمليان علي أن أبارك مصاهرة عائلة نبيلة و ذات مقام و نسب. و إنّي و إذ أتقدم بطلب يد ابنتكم المصون زوجة لابني حازم ، فإني أعلمكم أننا عائلة لا تمـــــلك مالا كثـــــيرا و لــكنها تقدّر العهود و متلاحمة و لها باع في العلم و المعرفة و الوطنية . و ما عساي أقول و هذا أخي أفنى حياته في خدمة الوطن و الذود عن رايته . و هذا ابننا مصعب متألق كأخيه في الدراسة و له خلق محمود. أما حازم فما علمت عنه أنه أغضبني أو اشتكى منه أحد. يشتعل ثورية و مؤمن بقدرته و محب لابنتكم أيما حب.هذه هي عائلتي التي أعتزّ بها ؛ و أشكر ربّ الأكوان الذي تطمئن له القلوب عند النداء ، أن رزقنا بعائــــلة جــــديدة نفــخر بها و نتقاسم معها أفراحها و أتراحها>>.
كنت أشرب قدحا من القهوة بينما كان أبي يلقي خطبته العصماء. قلت في نفسي : <<حديثك أيها الأب كالثلج يوشك أن يأخذ في الذوبان لشدة حلاوته و كياسته>>.
انتعشت كثيرا حين قال أبو رباب بلهجة تدرك منها مودة و عاطفة تنم عن صدق و تواضع: <<هل كنت في صباي غنيا؟ أبدا. كان أبي نجّارا بسيطا. لا شك أنه كدح كدحا في تربيتي و كلّفه ذلك بيع مزرعته ، الأرض العزيزة على قلبه التي ورثها من جدّتي لكي أسافر إلى أمريكا. عملت هناك بجد و ركبت كل صنوف التجارب و عاملني الأمريكان باحترام شديد لأنهم عرفوا أنني ذو نباهة و ذكاء. زوجتي هي من تنحدر من طبقة أرستقراطية نبيلة.لكم عصارة تجربتي أيها السادة الكرام: إن الثروة لا تصنع الرجال و لكن الرجال هم من يصنعوها. و ما كنت قطّ و كذلك زوجتي محددين لخيارات أبنائنا . لذلك فإنه لشرف عظيم لنا أيضا أن يكون حازم زوجا لابنتنا رباب>>.
يمسك بيد أبي و يقول حاثّا: <<هيا لنقر الفاتحة يا جماعة>>.
كانت المدّة التي ستقضّيها رباب عشرة أيام لا تزيد . ها هي قد انقضت كالوميض الخاطف.في الواقع إن سفرها لم يمنعني من مواصلة حياتي العادية . كان لديّ الوقت فيما يمكن أن أفعله ، غير أنني أحتاج لرؤية أبي . ثمة فكرة تجول في خاطري وقد راقت كثيرا لرباب . كنت أفكّر في الهجرة إلى فرنسا لمواصلة الدراسة . يبدو أنني مدعو لأفكّر بطريقة صائبة لكي لا أخسر رباب التي لم يبق سوى وقت وجيز لحفل تخرّجها. سيكون لزاما عليها أن تنتقل هي بدورها إلى فرنسا. هكذا كان اتفاقنا إذ لم يعد من المقبول أن نظلّ غرباء . كنت أعرف أن أبي سينزعج للفكرة و لكنه حالما يدرك أنها رغبتي سيوافق دون تردد.
كانت المقابلة غير متوقعة بالنسبة إليه . لقد ذهبت إليه في المحكمة بوهران . تظاهر بعدم تفاجئه . قلت له ضاحكا: <<سيّدي القاضي الموقّر ،هلاّ منحتني مساحة ضيّقة من وقتك؟>>
أبي:<< بما أنك طلبت فبكل تأكيد . و لكن قل لي لم هذه الزيارة ؟ أنا أعرفك ما كنت لتتكبّد مشقّة المجيء إلا لخطب ما . يملؤني إحساس أيها الفتى بأن في جعبتك موضوعا مهما>>
قلت:<< لا أدري ، أحتاج إلى التحدث إليك>>.
أبي:<< و هل الأمر يمتّ بصلة إلى رباب؟>>
فأجبته قائلا:<<لا أبدا ، ليس بالضبط و لكن أحيانا يقبل الواحد منا على خيارات صعبة لا ينفع فيها البتّ بمعزل عن مشورة من يكنّ لهم الحب الوفير>>.
أبي و بريق القلق يسري في وجهه:<<هل معنى ذلك أنك تواجه مشكلة ما؟>>.قلت على الفور:<< الأفضل أن أفسر لك الأمر بوضوح أكثر ولكن ثق بأنها مجرد فكرة و إن لم تستطبها فلتعتبرها لاغية>>.
أبي وقد نفذ صبره:<<أشكرك و لكن هيّا تكلّم و لا تتركني عالقا في أعلى قمّة القلق>>.
قلت مداعبا:<<هل يمكنني الجلوس؟>>
صاح محذرا:<< كن لطيفا أيها الفتى الشقي و تكلّم>>.قلت و أنا لا أقوى على النظر اليه :<<حسنا ، ما رأيك لو أنني أكمل دراستي في فرنسا ؟ بهذا فقط أضمن العيش مع رباب التي ستنتقل بدورها إلى نفس الكلية>>
وجم أبي لبرهة فاستطردت قائلا: <<لا داعي لتقطيب الجبين . ما كان يجب أن أزعجك بما يجول في خاطري>>
جلس أبي على مكتبه ثم قال وعينيه منخفضتين:<<أنت بلا شك تقاسمني ما قاسيت من فراق أمك و لكنني مع ذلك كنت دائما أقول أنني محظوظ لأنني رزقت بابن مثلك ؛ لذلك ليس سهلا عليّ أن أفرّط فيك. باختصار أنت صفحة من نفسي . لا أبرح مكاني إلا و صورتك تمنحني طاقة ساحرة. و لكنها سنة الحياة .أنا أعلم أنه لا يجدر بي أن أكون أنانيا .هل تعرف لماذا ؟ لأنني أقرأ في عينيك تصميم يغويني بالموافقة. نعم أنا متحمس مثلك للفكرة >>.
قذفت بنفسي في حضنه أقبّله بمزيج من الغبطة . نعم هذا هو أبي الذي تعلّمت منه حكمة الفداء و التضحية و الإخلاص . أبي الذي رفض الزواج وفاء لذكرى أمي. لقد ترجّيته مرارا أن يتزوج ثانية فكان يقول لي بمكر: <<ليس قبل أن تتزوج أنت أيها الشّقيّ>>.
كنت ألحّ في طلبي لأنني أخشى عليه من الوحدة ، فأمد تقاعده قريب .و قد استحوذت علي وحشة رؤيته فلبثت أفكر فيه طوال هذه المدة. كنت أنتظر عطلة هذه الصائفة لزيارة الوطن غير أن تربص الدكتوراه الذي سأجريه في جامعة هامبورغ بألمانيا حال دون ذلك . بالطبع يمكن لرباب أن تزوره ،فقد أنهت رسالة الماجستير و قررت أن تأخذ قسطا من الراحة لتتفرغ لحياتنا الزوجية . حاولت إقناعها بأنه لا داعي لذلك و نصحتها أن تسجّل بدورها في الدكتوراه و لكنني لم أفلح.
لم يطل بي الأمر لأسافر إلى ألمانيا فقد أديت تمرين اللغة بالسفارة و كنت واثقا أن الأمور على ما يرام. اتفقت تقريبا مع مصعب على أن يتكفّل بكل الترتيبات لحفل الزواج. لن تكون المهمة صعبة لأن رباب اقتنت الملابس التي سنرتديها في الحفل. إنه سيشرف على طباعة الدعوات و حجز الفندق الذي ستقام فيه السهرة.
قالت لي رباب مودعة : <<سيشقّ عليّ غيابك>>.
قلت لها مطمئنا وقد سلمتني يدها التي قبّلتها بوداعة : <<لا عليك يا عصفورتي ، هي ستة أشهر لا غير >>. كانت تلك عادتي فقلّما ألاقيها و لا أقتلع قبلة من يدها، حتى أنني أبقيها طوال الوقت بين كفتيّ.
مع أنني لم أزر الجزائر سوى مرة واحدة طوال هذه السنوات الثلاثة التي قضيتها في باريس ،إلا أن أمامي ما يكفي من الوقت لأتواصل مع مصعب بالسكايب. إنه رفيق دربي و علاقتنا أعمق من مجرد قرابة دم تعبر من جسد إلى جسد . إنه حب متبادل و عطاء لا ينضب في أشد الصعاب. كنا نؤمن بصداقتنا رغم أن آمال مصعب المستقبلية كانت مخصوصة فلم يكن مهتمّا بالسياسة و كان شغوفا بالفنون القتالية و ممارسا محترفا لها. إنه شخصية موهوبة لها قوى مميّزة في إحراز أهدافها المحددة. كان حلمه أن يفتح شركة الكترونيات فسافر إلى الهند عن طريق عقد عمل حصل عليه بعد تخرّجه من الكلية مع إحدى أكبر شركات الالكترونيات مما أتاح له بعث نيابة بالجزائر هي اليوم من أهم المراكز بالبلاد . إن حياته العملية مكّنته من تذوّق طعم الثراء فصرف نظره عن مواصلة الماجستير.
شعر حسان بسعادة فائقة حين علم بوجودي في هامبورغ . و رغم أنه تعذّر عليه رؤيتي في الأيام الأولى من وصولي ؛ إلا أنه وعدني أن يمضي نهاية الأسبوع معي. في الواقع إن ألمانيا قد حوّلته إلى إنسان مختلف. و الأهم من ذلك أنه أطلق لحية طويلة مذهّبة ، و بدا في حديثه متبدّلا. إنه وجه جديد . و جسمه الطري الذي تعوزه اللياقة أضحى مفتولا. لم أزعج نفسي لفهم سر هذا التغيير ؛ و بينما كنا نتناول الغداء مازحته بمكر: <<من يراك يا صديقي على هذه الهيئة يحسب أنك قادم من أفغانستان>>. هزّ رأسه لا مباليا فلمحت فيه قبسا من التكتّم الأخرق فأحجمت عن طرح الأسئلة.إن هذا الانتقال يبدو مستحيلا، انه قفزة خارج الزمن. حسان الذي كانت ذاته تمتلئ توهّجا للحداثة هو نفس هذا الشخص الذي ينشد الانعتاق من وطأتها. كان مستسلما بقابلية فذّة و بتوحّد شجيّ لحيرته و غربته. لقد أخبرني أنه أضحى يمقت التعايش مع نمط الحداثة و يريد أن يقهر حضورها بالتمرد على كل مظاهرها حتى في اللباس.
راح يحدّثني بصوت جهوري عن شعوره بالضياع من أول ما وطئت قدماه أرض ألمانيا ، فقد سحرته أنوارها و لكنه الآن كاره لها و جرس الحنين إلى الجزائر يقرع أعماقه. قلت بصوت ودود: <<حماسك كان واضحا لخوض التجربة . هل تريد أن أذكرك بحمّى الهلوسة التي رفرفت عليك. لقد كنت متموّجا بالتفاؤل>>. قال بصوت بالغ الانخفاض: <<هراء ، صدّقني كانت أكذوبة >>. فاستطردت قائلا: <<إذا كان هذا هو رأيك فما الذي أجبرك على البقاء طوال هذه السنين؟>>
استمر صامتا وهو شارد الذهن . خشيت أن أتحول إلى مصدر إزعاج؛ فقد كان القلق باديا على وجهه. يحدوني شعور بأن هناك ذكرى بائسة تشغل باله. كان علي أن أتسلل إلى دواخله. كاد النهار يتلاشى عندما غادرنا المطعم . لم يكن مكتظّا ، فقد كانت هناك أعداد متناثرة من الزبائن . في تلك الساعة كانت المدينة شبه غافية . و مع أن حسان قد قضى ما يقارب الستة سنوات بألمانيا إلا أنه ثمة انطباع سيطر علي بأنه لم يكن قد تعرّف على مدنها الكثيرة. فهو لا يملك من هاجس سوى الجزائر. كان يحرّك مقود السيارة مجتازا جسر كينيدي الذي يشق نهر الستر . كانت حركة المرور شبه معدومة .إنه يوم الأحد و من عادة الألمان أن يقبعوا في بيوتهم . و في غضون نصف ساعة وصلنا إلى مكان إقامته. تلك كانت رغبته .لقد قال لي :<<ستنزل ضيفا علي هذه الليلة >>. يقع المنزل في شارع يونغفيرن شتيغز وهو معروف بشارع التسوق و التنزه في هامبورغز و تعني كلمة يونغفيرن العذراء، حتى أن العائلات الألمانية قديما كانت تتنزه في هذا المكان يوم الأحد صحبة بناتها غير المتزوجات ، أما اليوم فقد أصبحت المنطقة مركزا للتسوق حيث تتوفّر فيها المتاجر الكبيرة و المحلات الراقية.
لكم أعجبتني براعة تصميم المنزل الذي يحمل بصمة أوروبية مذهلة حطّمت قيود المكان بأسلوب هندسي يمنحك حسّا بالحياة.فالغرف انسيابية بلا جدران : مطبخ "عصري" له إطلالة على قاعة الجلوس. كانت هناك لمسات خشبيّة ذات لون بني غامق على السطح الخارجي لخزائن لها نوافذ صغيرة و لطيفة مع إضاءة بالطول جدّ مميّزة في أركانها . كانت مثبتة على الحائط بأكمله و لونها الأبيض يخدع العين و يجعلها واسعة. و في جانبها السفلي تحتوي على أدراج مخفية . و منها ترى إلى آخر زاوية المطبخ غرفة للجلوس يوجد فيها صالون صغير و لكنه أنيق في تمام جدته و مطرّز بإكسسوارات من الفراء الطبيعي الأخضر. و في الزاوية الأخرى غرفة نوم مع ديكور خلاب لأريكة ذات ضفائر تهبط بروعة خلف نافذة كبيرة تعطي للناظر انطباعا بأنها كتابة هيروغليفية.
جلس حسان وهو يحمل كوبين من الشيكولاته الدافئة و اللذيذة قائلا: <<أنا في مكان ميّت>>. قلت بانزعاج: <<هل هذا حسان الذي أعرفه ؟ أراك تتغلغل في التشاؤم و لا تكاد تستقر. أين زهوك و مرحك ؟ أنظر إلى قسمات و جهك لقد تغيّرت و عيناك تعجّان بالقلق.ما السبب؟ هل أصبت بصدمة ما؟>>
أخذ يحدّق في النافذة باتجاه الشارع المضيء ثم قال: <<هل يعقل ألاّ تعرف ذاتك؟ أخبرني يا صديقي>>. قلت : <<على أيّ حال قرأت بعض ما قاله أقطاب الفلسفة الوجودية . إنهم يرون أن الإنسان مجرد مشروع. مشروع بصدد الإنجاز، كينونة بصدد التشكل >>. قال: <<و ماذا عن الأوهام؟ >>تساءلت مستغربا: <<أية أوهام؟>>
حسان: <<أف ، تلك الأنا اللعينة التي تعتصرني>>. قلت:<<سأعترف أن هذا لا يبدو منطقيا . إننا نستفيد من تلك الأنا التي تدفعك للغثيان حين نجرؤ على تخطّيها في عالم البراكسيس. هم يقولون كذلك؟>>
حسان:<<و من هم؟>> ، أجبته :<<الفلاسفة الوجوديون>>
حسان:<<و ماذا عن البراكسيس؟ ماذا يقصدون به؟>> قلت:<< الممارسة ، الأنا الحقيقية عندهم تتشكل في سياق الممارسة وليس التأمل>>.
حسان :<<و ماذا عن حالتي أنا ؟ لقد استيقظت ذات يوم بلا منطق . لم أعرف ما أكون>>.
ضحكت ثم أردفت قائلا:<<وفق زعم الوجوديين أنت بهذا تكون ربحت معركة>>.
حسان:<<وجهة نظري أنا تقول أنني خسرت معركة>>.
نصحته قائلا:<<هل بحثت في السبب، جرّب و ستجد طموح محارب>>.
حسان:<<كيف و إرادتي مكسورة >>.
من الصعب تخيّل حالة الانفعال التي انتابته .إنه يشكو من مشكلة عويصة . لقد بدا مسحوبا خارج ذاته. كان لا بدّ لي من مواساته و اكتناه الأسرار التي ترعبه. حاولت التحدّث إليه بعد أن فرغ من صلاة العشاء . لاحظت انه شارد فقلت له : <<أنت تعرف مكانتك عندي يا صديقي , إن كان ثمة ما تكتمه عنّي و تنوء به ،فأخبرني لعلك تجد منّي مشورة و عزاء>>. نظر إلي بتأمل وقال: <<خلال الأشهر الأولى التي عشتها في هامبورغ كان الأمر رائعا ، حسبت أنني في جنة الفردوس . لم يتسرّب الملل إلى نفسي قط . و في مساء دعيت إلى رحلة كانت قد نظّمتها إدارة الجامعة . إنها رحلة رخيصة . تعرّفت فيها على صداقة بور. لقد تخبّطت في القذارة حين جذبت انتباهي طالبة ألمانية رأيتها لأول مرة . كانت تعبث بها الرغبة . يمكنك أن تتخيل سحر وجهها الحالم. كانت تنظر إليّ نظرة مبللة بالجنس و كنت بدوري أراها كقطعة من الجبن الشهي. سألتني إن كان لي رفيقة ، قلت بارتباك :يا إلهي كلا. أصابتني الحيرة و هي تسحبني إلى البار. كانت الأصوات تنبعث من كل الزوايا و الطالبات يجلسن بصفاء تام و هن يشربن النبيذ المعتّق. راودتني أوتار أفكار شيطانية مجنونة. أنت تعرف أنني لا أحب الشرب . ليس لكونه لذة محرّمة فحسب ؛ و إنما بالإضافة إلى ذلك ، لأنني أكرهه و لا أستطيب حتى مجالسة من كان مخمورا. لقد تبخّرت تلك الطهارة بسبب الجوع الذي يهذي في أعماقي فسلبني كل مقاومة. أجل أصرّت أن تصطحبني إلى غرفتها . لم أكن في حالة تسمح لي بالرفض ، فقد أسرفت في الشرب . جلسنا و شرعنا نتبادل القبل بهمهمات ضعيفة. إنها نكسة خطيرة يا صاحبي ، نكسة باهظة الثمن . هل تدري يا حازم أن تلك الليلة كلفتني حياتي . إنه خطر الاكتشاف الذي جرني إلى الرذيلة. لقد توارت صورة حسان التي تعرفها . معك حق . أخبرتها أنني لا أملك فكرة عن الجنس . يا لدهشتي البالغة ؛ لقد اكتشفت طاقة مدفونة تسببت في مصرعي . هل سمعت لقد مات حسان و إلى الأبد.
الأمر لم يكن دعابة و لا حتى حلما ، أجل قد تكون المصادفة هي من صنعت قدري و لكنها أبادتني>>. صرخ صرخة كاد ينفطر لها قلبي و قال: <<منذ تلك الليلة دخلت في منطق اللامعقول .إن هذه المرأة حفرت أنفاقا عريضة في أعماقي و قد علقت في أسلاكها الشائكة. تصوّر لقد صرت أعاشرها معاشرة الأزواج .ذاك كان من أكثر الأمور جنونا. أما الآن فإن طيفها يطوّقني. حاولت أن أقنع نفسي بأن سلامة المنطق يقتضي أن أقتلعها من حياتي . اشتريت لذاتي أنا جديدة و استأجرت هذه الشقة . سأكون صريحا معك ، أنا نفسي تجتذبني أناي المرحة التي كانت منهمكة في الحياة بسخاء، غير أن جرعة الهوى التي نفثتها فيّ جعلتني كعلبة فارغة. هل تدري، يبدو أنني ما زلت متيّما بها؛ و المعلومات الخاصة المتوفرة لديّ تفيد أنها تعرّضت لأزمة خرافية حتى أنها نقلت إلى الطبيب النفسي للجامعة. قيل لي إنها تعرّضت لنوبة من الصرع الحاد. لقد تضاءل حضورها و باتت كثيرة الغياب. كان من الصعب عليها أن تفهم حالتي المعقّدة . و أنا أحبها و لكن طوفان الندم و التقوى هو من دفن علاقتنا. و ذات يوم ، لا أذكر إن كان جمعة أو سبت رحت أنظر إليها و أنا طريح الفراش بسبب حمى غادرة . كان ضميري يؤذيني و يقول لي: هل هاجرت لأمر كهذا؟ بئس ما أنت عليه أيها الصرصار الخسيس الواقع في قبضة الرذيلة. منذ ذلك الحين أصبح كل شيء مشوّش فغزتني ذات كابوسية . و بالرغم من أنني كنت مشحونا بالقسوة عليها إلا أن ذلك لم يقلل من حافزها لكي أتعافى . فكرت مليا في هذا الكابوس الخانق . أنا غير واثق بأن هذا هو الأسلوب الذي تعالج به الأمور. لقد قررت أن أسترجع الأنا التي بدأت بها. من الناحية الجوهرية إن هذا الكابوس اللعين قد يصبح عادة يصعب التخلص منها لذلك لا بد لي من مكان مسالم . استجمعت قواي و الحمّى تأكل من طاقتي و ذهبت إلى جامع النور بحي هورن . فقد كانت فرصة طيبة لألتقي بالإمام الخطيب الشيخ سمير ، وهو من الشام ، مقيم في هامبورغ منذ سنين. لقد عرف دائي . لقد بدا له كل شيء واضح تماما. قال لي : <<الرغبة يا بني تستنزف قواك . كن حذرا و لا تشوّه هذه الخلقة المباركة و لتكن الغلبة للواحد القهار. أقبل عليه بتوبة يانعة>>. قلت بانبهار: <<و كيف السبيل إلى ذلك يا شيخ؟>> قال بثقة : <<أن تفعل الصواب. هو ذاك ما يتوجب عليك فعله>>. تساءلت من جديد: <<حيّرتني يا شيخ و ما الصواب الذي إن فعلته أبدو في أفضل حال؟ >> .نظر إليّ بدهشة و قال: <<ألم تدركه بعد ؟ التوبة يا بني إنك بحاجة إلى فكر صاف لن تناله إلا بالتوبة >>. قلت:<<و ما عساني أفعل حتى أتوب؟>> قال و هو يبتسم : <<أبشر يا ولدي ، استأجر منزلا جديدا لم تسفك فيه أدغال الرغبة المحرّمة ؛و لكن الأهم من ذلك قطع الصــــلة بالفتاة و إيتاء الصلاة في ميقاتها المعلوم>>. ثم سكت و لم يقل بعدها شيئا.
رجعت إلى البيت أضحك كالمجنون و شعرت للمرة الأولى بغبطة عظيمة ، فالمهمة مختصرة. أنا بحاجة إلى إيجار منزل جديد وهذا سهل المنال و أن أنهي حبي بصوفيا و هذه مراهنة لا أدري إلى ما ستؤول.
جرى حديث بيننا ، كانت نتيجته فظيعة جدا. لقد أطلعتها على قراري بروح جريئة . لم تنبس بكلمة . لقد نفذت الوصية . لم أكن متيقّنا من كونها على ما يرام . أخبرتني فحسب أنها بحاجة لنيل قسط من النوم و اتفقنا أن تغادر المنزل في الصباح . تلك كانت رغبــــتها. ظللت يقضا و قد لامس رأسي الوسادة . كنت منشغلا ، فبالرغم من تعلّقها بي لم ألحظ تغيّرا طرأ عليها . ترى هل هو كبرياء المرأة؟ ربما . ازداد قلقي قلت في نفسي : لا أحتاج إلى هدر الوقت . قبضت على مقبض الباب و فتحته . فزعت أيما فزع حتى كدت أفقد وعيي. لقد تناولت علبة من الأقراص المخدّرة . كانت في حالة من الإغماء التخشّبي . مكثت بحوارها طوال الليل . لقد طمأنني الطبيب فقال لي: <<حالتها مستقرة و من حسن الحظ أنك جلبتها في الوقت المناسب>>.
كانت الثلاثة أيام التي أمضتها في المصحة ذات أثر فعلي على حياتي. لقد انتابني شعور بأنني مسؤول عن تعاستها . و لكنني أصبحت الآن واعيا تماما بحتمية الفراق. انتقلت بعد ذلك إلى هذا المنزل . و ها هي تمر سنتان نجحت خلالهما في التنقيب عن هويّتي ، فطفت في مساجد ألمانيا حين التقيت بإخوة أبرار. لقد تبيّن لي أن العبادة هي سلاحي لتدمير جراثيم الفسق في إنيّتي. هل تدري يا صديقي ؟ كلما أوغلت في معرفة ذاتي كلما ازددت يقينا بها . لقد كان ديكارت محقا عندما أراد أن يبني على أرض كلها له. أراد أن يتجنب الأرض الرخوة و الرمل المتحرك ليصل إلى الصخر و الصلصال. لقد قضيت و قتا طويلا و أنا أدقق في قواعد منهجيته بغية التوصل إلى احتمال وجود ثغرة ما . تلك كانت عادتي الجديدة ، لقد أصبحت حذرا ، لدي بذور من الشك تحوم حول كل شيء و لكن الغريب في الأمر أنني حين سلكت طريق البداهة و حللت و ركّبت و استقريت تماما كما كان يوصي تلامذته كسرا لإطار العادة ، أدركت في مجاهل شكّي أن رقعة الأنا التي بها أنا ما أنا ؛ما هي إلا ذرّة من ذات أوسع. آوه ذات لا أول و لا آخر لها. ذات تقدّست عن مشابهة المخلوقين . فكّرت لبرهة وقلت: عجبا انتهج طريق ديكارت لأظفر بأناي كمصدر كل يقين و كمنطلق أول للمعرفة فأخلص إلى ذات نورانية ، تصبح بوميض نورها ؛ ذاتي غائمة. هل هناك شيء أكثر جدة من هذا ؟ هكذا وجدت ذاتي منشغلة دوما بالبحث في معاني الذات النورانية التي تكشّفت لي . كان طيفها برّاقا و مميّزا . تعلمت رؤيته بالتقوى فأصبحت هكذا كما تراني، بلوك جديد . أنت وجدته غريبا أليس كذلك؟ في لحظة من الزمن رأيت الشــــعور ذاتــــــــه عند أساتذتي و زملائي من الطلبة و أنا أدخل الفصل. أنا أعلم تماما حال من ينظر بعيون الحداثة. هم يتوهّمون أنهم أنجزوا قفزة ارتقائية هائلة على كل الأصعدة و كوكبهم جعلهم يتشبّثون بربطة العنق أعني النموذج الإرشادي بلغة توماس كون هو عينه نموذجهم أما أن يوجد نموذج يتغاير مع نظرتهم فذاك في ظنّهم قلة تمدن. هم يريدون أن يروننا نأكل و نلبس على نحو ما يأكلون و يلبسون. إنه فخ الكونية المنصوب بإحكام ضد الآخر الثقافي . إنه فخ النمذجة الثقافية يا صاحبي التي لا تبقي على الهوية و لا تذر.و أنت تسلك هذا الطريق سيكون سهلا عليك ، أيّا كانت الظروف ، أن تثبت جدارتك. أجل رغم هذا الملمح فقد تفوّقت في دراستي حتى أنني سمعت أستاذي مصادفة يتحدث مع عميد الكلية وهو يقول: <<من الصعب عدم الإحساس بالتفاؤل من هذا الطالب الذي تشرّب من علوم عصرنا>>. شعرت بمتعة جعلتني أتصور أن حياتي بدأت للتو. أنهيت دراستي بنجاح و انتدبت للعمل في الشركة الوطنية لتخصيب اليورانيوم بخطة مهندس . و لكنني مع ذلك سأبوح لك بسر.إن عقلي لا يزال منشغلا بصوفيا. تصور أنني اتجهت إلى مكان عملها . لقد أخبرني بذلك أخي هانز. شاب ألماني درس معي و أشهر إسلامه مؤخرا. قال لي إنها تعمل في بنك في شباركاسي . مكثت أفكر فيما سأفعله و أنا أراقبها تحت شباك السحب تنقر على الحاسوب. كنت كمن لديه جناحين للطيران . سبحان الله هل خدعت نفسي حين افترضت أنني نسيتها؟
انحنيت نحو الشباك مستفسرا عن الإجراءات اللازمة لفتح حساب بنكي . رفعت نظرها . لم تصدّق ، شعرت بإحساس منعش يغمرها . ربما كانت تريد أن تحضنني و لكنها قاومت ذلك بسبب ضوابط العمل. على أية حال لقد انتظرتها حتى وقت متأخر من ذلك اليوم. أخذت أسلي نفسي بقراءة كتاب ما بعد الدولة الأمة لهابرماس . ها هي تسرع نحو سيارتها ، تحرّكت بخفة ملقيا التحية . الحقيقة أنها تفاجأت برؤيتي هذه المرة ، لقد اكتفت بتحريك يدها . لم أجد فائدة من إزعاجها فاعتذرت لها بلطف و استدرت مودعا. غير أنها استمهلتني و قالت على نحو غامض: <<مرحبا، زيارة لطيفة منك>>.
قلت لها: <<أنت فتاة ذكية . أجل ليست مصادفة ، جئت لأطمئن عليك>>. قالت برقّة: <<شكرا>> .توجّهت عائدا إلى قبري و صورتها محفورة كالصخر في الفؤاد. أجل لقد قطعت شوطا طويلا للقرب من الذات النورانية و لكنني أعترف أنني كنت سأكون على نحو أفضل لو كانت بمعيّتي. يا إلهي ، ذلك أمر مستحيل.
ارتسمت الدهشة على وجه حسان حين قلت له: <<و من يقف في طريقك ليحول دونك ودونها؟>> قال مستنكرا: <<هل تمزح ؟ هل تريد أن أرتد إلى عالم الرذيلة و نوادي هامبورغ الليلية ؟>> قلت : <<كنت تقول للتوّ أن صوفيا تتمتع بذكاء حاد ، فماذا عنك؟ المهمة أسهل مما تتصور. تزوّجها يا أخي على سنة الله و رسوله.فإن كانت كتابية فذاك ما يجيزه الشرع و إن كانت غير ذلك فادعها للإسلام ؛ فلو كانت تحبك مثلما تحبها ستفعل ذلك عن طيب خاطر و ستجازى على فعلك أيما جزاء>>.
لقد حدثت تطورات مثيرة بعد هذه الليلة ، كنت حاضرا في عقد قران حسان. لقد تم الاحتفال بطريقة بسيطة اقتصر فيها على استدعاء بعض من أصدقائه و بعض من أفراد عائلتها . لقد أدركت الآن سر شغف حسان بهذه المرأة فقد كان وجهها جميلا كأنه قمر مستنير و خدّاها بلون شقائق النعمان . إنها لوحة غربية القد و القوام. كنت شاهدا في عقد القران . في الواقع حاولت التخلص من هذه المسؤولية إلا أن حسان أصرّ على ذلك . كانت مهمّتي تقتصر على التوقيع. سئلت من قبل الشيخ منير ما إذا كنت أقر بأن صوفيا هي زوجة حسان على سنة الله و رسوله فأجبت بالإيجاب. و ذات السؤال طرح على عطاء صديق حسان المقرّب. لقد تعرف عليه خلال ارتياده لجامع النور . رغم أنني لا أعرفه إلا أنه بدا لي شابا شهما . شعرت بالسرور التام لملاقاته. لا أدري بم أفسّر الشعور الذي ساورني . فكأنني أعرفه من قبل . لقد كانت هيئته تشبه عالم فلك . فأنت من الوهلة الأولى التي تراه تعتقد أنه يعرف كل شيء . صحيح أنني لم أكن وقتها ملتزما بما فيه الكفاية . كانت تهبّ عليّ أحيانا مشاعر الصلاح فيغزوني أعظم إحساس بمكامن التقوى في قاع نفسي فأركن إلى العبادة و الصلاة. غير أن المرساة تهتزّ فجأة فأجد نفسي تلهث و راء الحياة التي منحتني بهجتها. ربما يعزى ذلك لشخصيتي التي انتقشت في ساحات النضال النقابي و السياسي . لقد وقعت في مصيدة التحزب السياسي بقواعد ليبرالية تنظر للسياسة كحيز للتنافس الوضيع الذي لا يعترف سوى بالمنفعة . الحق يقال كنت ممزّقا بين عقل واع متحرر و عقل لا واع معصوم بالإيمان.
حين دقّت الساعة الثامنة معلنة انتهاء عقد القران كنت تقريبا أنا و عطاء من بقي من المدعوين.كانت فرحته لا توصف بهذه الصداقة الجديدة غير أنه كان شديد الإعياء.
لقد اتضحت لي الصورة الآن بعد أن قدمت السلطات الألمانية مذكرة اعتقال في حق حسان. يبدو أنها إجراءات وقائية اتخذها النائب العام تحسّبا لأعمال إرهابية يمكن أن تطال ألمانيا كالتي حدثت في أمريكا . لقد كان حسان مسجلا لدى فرقة مكافحة الإرهاب كناشط سلفي في حملة " اقرأ" التي قامت بها الدعوة السلفية في ألمانيا لتوزيع القرآن الكريم على غير المسلمين و دعوتهم للإسلام. لقد تم تصويره في أكثر من مناسبة مع أحمد عطاء المصنف كمهندس أول لضرب مركزي التجارة العالمية في 11 سبتمبر 2001 . ثمة شـــــــــهادات و وثائق رسمية مؤكدة تثبت بما لا يدع مجالا للشك صلته القريبة بمنفذي الهجوم و تحديدا بأحمد عطاء. و رغم أن الحيثيات التي تم فيها اعتقال حازم يلفّها الغموض؛ فإن صوفيا لم تجلس في حجرتها تولول على زوجها بل وكّلت محاميا و دأبت على زيارته وهو رهن الإيقاف. كانت تسأله مرعوبة عن صلته بما جرى . كانت تقول له : <<أريد أن تشرح لي على وجه الدقة إن كان لك دور متهور فيما حصل>>. و استنادا إلى ما أخبرني به حسان كان يحجم عن الكلام مكتفيا بالابتسام لها .فتثور ثائرتها قائلة: <<لماذا تبتسم لي ؟ هذه الابتسامة قد تستخدم ضدك في جلسة المحكمة>>. كان حسان مستسلما لقدره . من الصعب أن يتصور كيف يمكن أن ينزاح عن هذه الورطة و لكنه مع ذلك كان يجد سبيلا ليطمئن صوفيا قائلا: <<ثقي بالله و احتسبي. إني لأعلم ما يجول بخاطرك ، أجل أنت تعرفين أن عطاء هو صديقي المفضل و لكن ذلك لا يعني أن لي صلة بالموضوع . لعله أسدى لي معروفا حين تقصّد عدم إخباري بما نوى و لئن فعل ربما كنت قد ذهبت دون رجعة معه>>.تطلق صوفيا صيحة استهجان قائلة: <<و ابنتنا يا حسان ،هل قدر لها أن تعيش بلا أب؟ أرجوك لا تنتظر النهاية لدينا بصيص أمل>>. أشرقت عينا حسان و أومأ برأسه إيماءة شكر لصوفيا التي كانت شديدة الرقّة معه . إنه سيشتاق إلى هذه القرنفلة و لكنها الأقدار التي تضعك أحيانا إزاء أخطاء مضحكة. كنت أنظر إلي عطاء بعينين مرتابتين لا أدري إلى يومنا هذا لماذا؟ ربما للبريق الساطع الذي يغمر شخصيته أو لشهامته و إصراره أن يمنحني سكنه لأقيم معه طوال الفترة التي أمضيتها في هامبورغ تقريبا. أجل الآن بوسعي أن أعرف السبب . إنها ذاته التي تجلب الابتهاج و تحقنك بالتباهي . و حتى في المرة التي كنت في طريقي إلى المجمع التجاري "فاندلهاله" لاقتناء بعض الهدايا قبل أن أقلّ القطار السريع متوجها إلى باريس ،كانت صورة عطاء ملتصقة بي . لقد قال لي قبل أسبوع أنه مسافر إلى أمريكا . لا أدري لماذا أحسست أنه جاء ليودّعني . كان في مرّات كثيرة ينحني و يحضنني أمام ذهولي لنوبة الوحشة التي تعذّبني. لا أدري ما سر هذه الهشاشة التي غزتني بسهولة . كنت في تلك اللحظة أودّع أخا . و حالما سمعت بخبر ما أقدم عليه أصبت بصدمة بليغة . كانت الساعات الأربعة التي تفصلني عن موعد انطلاق القطار جنائزية. كنت أدخّن معظم الوقت . إنه لشيء عجيب أن يفقد المرء صديقا يمنحه ولادة جديدة. أجل لقد أضحى عطاء بالنسبة لي كالشمعة التي تشعل الفؤاد . لقد نبت في عقلي . أجل الآن أتذكر ، يا لني من أحمق ، كان ينبغي أن أتفطّن أنه ما كان ليحضنني المرة تلو الأخرى إلا لخطب ما . كيف لم أنتبه إلى مظهره الذي بدا كأنه متخفّ بمظهر رجل أشقر محافظ . و تلك النظارة الشيك التي لم أكن قد رأيته يضعها من قبل. لقد أراد أن يرحل إلى عليين و يبرهن لي أن ذلك ممكن. كأنه أراد أن يقول لي انتقل إلى ضواحي باريس و كن شجاعا أنت أيضا تستطيع أن تعيش حياة التوبة و تستكشف فلسفة الجهاد. لا أدري ربما يكون قد خطط لهذا التحول الذي شطرني إلى ذات أخرى ، ذات تعلّمت من سخائه و وداعته كيف تقيم علاقة بالآخر الغريب . ليس بالكلام بل حين يراقبك ذاك الذي لا يعرفك عن كثب فيعلن بدون عقد اعترافه بك لأنك تسرّ عينه و تخلب لبّه بما تسلك من أعمال. لقد أشعرني عطاء بأنه جزء من عائلتي . كان كل من يلتقيه لا يتحدث عنه إلا بالمديح . قالوا عنه إنه شاب موهوب ذو قلب أبيض رائع فاستغربوا مما فعل. إنها لسعادة كبرى أن نلت شرف صداقته . انظر إلى أستاذه دينمار ما خوله ماذا يقول عنه:" ليس لدي رسالة إليه ، ليس لديّ سوى سؤال: لماذا يا عطاء؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟" . أنا أيضا يساورني نفس السؤال بعقد نفسية مدمرة . كنت مشدوها و أنا أتلقى الخبر . عطاء الذي تجده قلما يتعصب لفكرته ، عطاء الذي يمنحك قبولا لكي تعيد النظر في رأيك من خلال التنبه إلى الخط الفصل بين الصواب و الخطأ. عطاء الذي يتفنن في استخدام الجدل السقراطي فلا يعطيك موقفا و يسألك بشغف عن رجاحة فكرتك. قال لي ذات مرة : <<كيف تبدو لك الحياة ؟>>
قلت على الفور: جميلة، حلوة ، لذيذة...
فاستطرد قائلا: <<عفوا أقصد في الغرب>> .
قلت : <<أجد نفسي راضية حتى أخال أنني مواطن أصليّ>>.
يندهش عطاء و تفلت من شفتيه عبارة " غريب".
هتفت قائلا: <<و فيم يكمن وجه الغرابة يا شاطر؟>>
عطاء:<<يساورني انطباع مغاير، لا يهم ربما ليس من الحكمة أن أضايقك به>>.
سألته بقلق: <<أوه يا عطاء ، لم تسألني أصلا إن كنت ستتسبب في مضايقتي . سأسأسك أنا إذن ، هيا قل لي كيف تبدو لك الحياة في هامبورغ؟>>
عطاء: <<حسنا كأني بدأت أكره هذه الحياة>> .
استنكرت قائلا: <<لا تكن متشائما يا أخي ،لديك مكانة معتبرة هنا و ستصبح قريبا أستاذا جامعيا مرموقا يضرب بك المثل>> .
عطاء:<< اسمع يا حازم ، خط الحياة قصير و ليس لها عندي مواطن لأحلام كهذه . حين جئت إلى ألمانيا لم أكن عارفا بالحياة التي تنتظرني . أما الآن فقد أضحى هذا من الماضي ، الآن أنا أعرف الحياة على حقيقتها. لقد تلاشت الفكرة الساخنة عن أوروبا و إنني و إذ أشاهد من يقتلون أطفالنا في فلسطين و العراق ينعمون برغد العيش و أطفالنا الذين تسحقهم القنابل في زمن عربي حال المسلمين فيه مشلول ، أشعر بالغليان. إن أطفالهم تكبر لتقتل فرحة أطفالنا . ما عساك تقول لي عن الغرب و انتصار الحداثة الذي ينغّص عليك صفاء الرؤية ، اللعنة على هذا الوحش الضخم الذي يتجمّل بقيم الحداثة و لا يخفي شغفه بماستنا فلسطين التي تروق له كثيرا>>.
كنت أعيد بناء الأحداث التي عشتها في هامبورغ و أنا أمتطي القطار إلى باريس. كانت الرحلة هادئة . قدّمت لي المضيفة قهوة مثلّجة ، نظرت إليها بعدائية فقد كنت في مزاج سيّء . اتّضح لي أن حياتي بدأت تشهد تحوّلا . إنه شيء غريب أن أنظر إلى الغرب كحفنة من القتلة . كانت هذه الحقيقة المعقّدة تتسرّب إليّ عبر استحضار المظالم التي سلّطت على هذه الأمة . أستطيع الآن أن أرى بوضوح صورة الرجل الجديد الذي تلبّسني. إن دول الغرب كانت في السابق دولا قاهرة و تواصل عداؤها حاليا . هم فيما بينهم اعتذروا لبعضهم البعض و سددوا تعويضات للضحايا من حربهم العالمية الماحقة و الساحقة و لكنهم لا يعترفون حتى بسوء معاملتهم لنا . سامحك الله يا عطاء لقد فجّرت في داخلي هذا الظلم التاريخي الذي ارتكبه الغرب ضد أمتنا العربية. لقد رسمت عن عمد إنتاج أسس واضحة لمعارضة النموذج الغربي الذي دأبت على تثمين مزاياه. لقد نجحت في إقناعي و لكن دعني أسألك هل تمثّل القاعدة خيارا و إستراتيجية تحمل في جوفها روح الإسلام كيف لي ألّا أسأل و أنا قد أصبحت بالمصادفة المحضة إرهابيا خطيرا. من الصعب عليّ رغم المظالم التاريخية الماضية و الراهنة التي عانتها و تعانيها أمتنا العربية و الإسلامية أن أهضم ورقة اللعب بأمن الشعوب. ماذا أقول لجون رولز لطالما فتنتني وجهة نظره عن قانون الشعوب.أجل هو يشدد على عدم الوقوع في فخ الخلط بين قانون الشعوب و قانون الدول . هناك شعوب جيدة التنظيم و أخرى سمحة، قليلة التنظيم . على الشعوب أن ترتقي بوعيها عبر ترسيخ عدالة كونية و ترسيخ قواعد الحياة الديمقراطية لمجتمع جيّد التنظيم. أنا لا أستطيع أن أطلق الزناد لاستهداف ذات الشعوب التي ستضطلع بمهمة تطويق صلاحيات الدولة وفق نظرية سمحة في العدالة . و لكن كيف أفسّر أحوال المهاجرين الذين تأثّروا على وجه الدقة بأحداث الحادي من سبتمبر؟ لا أحد يفكّر في القرار الجائر لترحيل حسان إلى معتقل غواتنامو بعد أن أودع في حقه الأمن الفيدرالي بطاقة جلب لوضعه على ذمة التحقيق الأمريكي. إن مظالمنا التاريخية لا تكفي لتبرير إستراتيجية الجهاد الحادة لتـــنظيم القاعدة و لكن لم لا ينظرون إلى مظالمهم مثلما ننظر إلى مظالمنا؟ لماذا نظروا إلى أحداث سبتمبر كمظلمة تاريخية ندفع فاتورة حسابها نحن المهاجرون؟ كيف تبرر لهم هذه الفاجعة أن يبيدوا زهاء تسعة مائة ألف شهيد في العراق؟ و أين هي نزاهة القضاء الفرنسي الذي تجاهل قرار إيقافي بمجرد نزولي من القطار حين وصلت إلى باريس؟ أجل لقد استرجعوا الذاكرة فأظهرت لهم تحرياتهم أن لي صلة بعطاء في المدة التي قضّيتها في هامبورغ. لقد كانوا يتعقبونني حتى و أنا أطبّل للحداثة. كان الاتهام محدودا و مخصوصا و على أساسه تضمّن مسودة لترحيلي من التراب الفرنسي . و الواقع كان ذلك إحدى الأسباب التي تنامت بسببها ،فكرة اقترابي من الفكر السلفي . لقد كانت هذه الظروف المشئومة تجسّد لي قدرا غير متوقّع . لقد فشل المحامي بشكل أساسي في الحيلولة ضد قرار من أكثر القرارات مصيرية في حياتي ، فحرمت من مناقشة الدكتوراه التي لا يفصلني عن موعدها سوى بضعة أسابيع. لقد ترك الأمر غامضا و أصرّ النائب العام على مغادرتي للبلاد. قال لي المحامي متأسّفا: <<إن نص الحكم يعاني قصورا و لا ينطبق على حالتك لغياب القرائن . و لكن إذا فهمت حساسية الظرف لوجدت أن المنظور الذي يعكس الحكم ،يعتبر كافيا للتعامل مع التحديات التي تهدد الأمن الوطني خصوصا بعد التصريحات الخطيرة التي أعلن عنها أسامة بن لادن و بثّتها قناة الجزيرة عبر شريط تلفزي>>. واجهت ظروفا صعبة و دروسا مزعزعة و أنا أطأ التراب الجزائري ، لقد ذهب الكثير من أقربائي إلى قبول فكرة أنني تورطت مع القاعدة و أنني صرت متطرّفا . كنت حينها اشتراكيا . لا أنكر أنني لست نادما على صداقتي لعطاء و لكنها بنيت على حس متفرّد للإطلاع و ليس الانتماء. أعلنت الصحف الجزائرية عن اعتقال إرهابي خطير سلّمته السلطات الفرنسية بعد تنسيق أمني استخباراتي عالي الطراز و جاء التأييد الصريح من بعض المتزلّفين من النخب المغشوشة. و قد رأى القاضي أنني أمثّل خطرا على أمن الجزائر و افترض أن حمايتها المطلوبة تجعله لا يقبل فكرة أن أكون طليقا. لقد أثيرت الكثير من المناقشات حول الشبهة التي حفّت بسجني و اعتبر الحكم علي بالسجن لمدة خمسة عشرة سنة حكما قاسيا مما جعل الرأي العام الوطني و حتى فعاليات المجتمع المدني الفرنسي ينخرط في تحركات احتجاجية سلمية ضد التراجع المذهل في الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان من قبل النظام. لم يدهشني الحكم لقناعتي بأن الأنظمة العربية هي أنظمة جائرة أوليغارشية و لكن الصدمة كانت تتصل بالقضاء الفرنسي الذي حوّل مجرد اتهام لعلاقة انضمامية للقاعدة، إلى ضمانة قانونية على أساسها تمّت إدانتي لتتلقّفني الأقدار المريرة. لقد كان من الصعب أن أرى كفاحي المسالم من أجل علوية الأفكار التقدمية يتلاشى و ينهار لأغدو مجرد إرهابي لا قلب له و لا فؤاد. كانت رباب من تمثّل عبئا استمر يشغلني طيلة المدة التي قضّيتها في السجن . لقد كان قرارا صعبا لا بد من القيام به رغم عنادها الشديد . لم أكن لأقبل أن تحيا حياة معذّبة . كانت روحي قلقة بسببها؛ و كلما فكّرت في علاقتنا تصيبني قشعريرة حتى العظام . لن أنسى ما حييت درجة سخطها ذات مرّة وهي تزورني . لقد صارحتها بهواجسي و رحت أحدّثها عن حتمية أن تعيش حياتها، فلم الانتظار ؟ فما من عودة . يا لها من فكرة قابضة للنفس . لقد جلست عاجزة و هي تذرف الدمع. إن السؤال الذي يدور حول معضلتي: ما ذنبي أنني تعرفت على عطاء؟ كنت أحتاج بشدة إلى من يحميني من نفسي . عليّ أن أتذكر هنا مصعب ، توأم روحي الذي بات يشكّل حالة غريبة تتــــقد عنــفا. لقد هــجر السهرات و الأضواء و امتلأت نفسه برغبة الانتقام . لقد كانت خياراته واضحة رغم كونها لا تتناسب مع مكانته الاجتماعية المرموقة. لقد باتت مهمته و رسالته الأولى في الحياة مواجهة الغرب فانخرط في الحركة الجهادية و عمل على توسيع نطاق انتشارها لتتغلغل مع ملايين المهاجرين الذين توجّهوا إلى أوروبا و أمريكا.كثيرا ما تعرّض للمضايقات و التفتيش في عديد البلدان التي كان يزورها غير أن معاييره الموجّهة في الجهاد تختلف عن المألوف ، فلم يفرّط في البدلات الإفرنجية المكلفة و بدلات العنق الراقية . كان يقول لي :<< أنا أكره الحياد و المهم أن الحداثة غدت كذبة خسيسة>> . هكذا بدأت رحلة مصعب في السلفية الجهادية : العناية بالعمل الخيري فأسس جمعية للأيتام بأوروبا و اختير كرئيس شرفي لجمعية حفظ القرآن الكريم . لا يتّضح أبدا ما إذا كان الغرب يقلل من احتمال خطورة مصعب لعلاقاته الدولية الفعالة و المؤثرة خصوصا مع دول الخليج التي يطيب لبعض قنواتها أن تشيد بخبرته . كان يعترض على مقولة : << فليدمّروا>> و يقول لي :<< أنا لا أؤمن بالتدمير المباغت ، نريد أن نجرّهم إلى معارك استنزاف>>.كان مصعب ذو براعة عالية في التخطيط . إنه يحمل رؤية خطيرة للفكر الجهادي؛ رغم كون اسمه لا يزال مجهولا عند قيادات القاعدة و حتى عند الأمريكيين. فوجئت بقرار العفو الذي غمرني به رئيس الجمهورية . قرار جميل مفعم بالنبل ؛ قيل عنه في وسائل الإعلام الوطنية أن الدولة تنشد القطع مع المعالجة الأمنية المحضة، التي أثبتت التجربة أنها لم تحرز أدنى انفراج في الأفق لتجفيف منابع الإرهاب و ستسلك خيارات جديدة تقوم على الاحتواء النفسي و الاجتماعي.
لقد حاولت الدولة أن تستثمر قرار العفو الرئاسي بوصفه وجهة نظر. يجب أن يكون الأمر واضحا هنا و إني لأعجز عن شكر مصعب الذي بذل مجهودا غير قابل للتصديق لقرار العفو الذي نلته بعد خمسة سنوات من الأسر. كل شيء جرى كما خطط له تحت عنوان المصالح و شبكة العلاقات الدولية.وعلى الرغم من قرار العفو الذي استثمر لأجل تهذيب وجود السلطة ؛ فإنني ما زلت أواجه الملاحقة الأمنية . لقد كان ثمة من يتعقّبني حتى و أنا أستنشق هواء البحر في ميناء وهران ، عسى أن أبدد الصوت الذي تطلقه أنفاسي مرددة صدى ذكرياتها التي لا تعود. امتزج في خاطري صنفان من الزمنية : زمن التقدمية الذي ولّى و زمن السلفية الذي أضحت شخصيتي جزءا من نبضه.لقد أدهشني تمازج هذين الزمنين . إنه نبع يغذّي نسيج مشهد مرعب يفرّخ هلوسات تجعلك متلهفا لكي توقظ في داخلك الانتماء الصافي لللامعقول.
عشت زهاء سنة عاشقا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با