الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المبدع محمد بلمو شاعر لا يركع للخراب

عبد الرحيم العطري

2006 / 3 / 7
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


بورتريه

قريبا من جبل زرهون بالمغرب العميق تنبت قرية غائرة في القدم تدعى بني عمار ، منها جاءنا الشاعر المغربي محمد بلمو ، يحمل بين ضلوعه انكسارات مغرب سبعيني مغموس في الجمر و الرصاص ، هناك قبالة الجبل المطل على ريف محمد بن عبد الكريم الخطابي ، جرب الفتي تطويع الكلمات و هزم البياض ، انتصر منذ البدء لوادي عبقر ، فإما أن تكون شاعرا أو لا تكون . هكذا اختار أناشيد التراب الندي، و أفنان الزيتون و ملح الأيام الرديئة، ليكتب سير المعذبين في متاهات الانحناء ، لكنه لم ينحن قط ، بل ظل شامخا كالطود ، يرفض و يثور و يستقيل من عمله ضدا في التطبيع و الهرولة الماسخة .
من بني عمار إلى فاس اليسار النبيل ، إلى السوسيولوجيا تحديدا سيرتحل محمد بلمو نحو مسارات جديدة من السؤال و النقد ، سيسعى إلى فهم مجتمع عصي على الفهم من خلال آليات المطبخ السوسيولوجي ، و في الآن ذاته سيغرق حتى النخاع في محاورة كتابات مهدي عامل و كل الأدبيات الماركسية ، لكنه لا ينسى الشعر بحيرته الجميلة ، لن ينسى الأدب الذي هاجر إليه منذ الصغر ، و سيتضح ذلك جليا خلال سنة الإجازة لما اختار سوسيولوجيا الأدب كأفق معرفي لبحث التخرج . هكذا هو محمد بلمو لا يفرط في الشاعر و الأديب فيه و لو في ظل شرط سوسيولوجي يستوجب القطع مع الحس و الحس المشترك .
مرة أخرى سيجد بلمو نفسه مدعوا للغرق من جديد في برودة العاصمة ، سيلتحق بمدينة ضاقت ذرعا بربطات العنق و لاعقي الأحذية ، سيلتحق بمهنة المتاعب بجريدة ملونة في زمن الألوان و الأشكال ، لكنه لن يفرط قط في الانتصار " للطريق " جريدته و يساره النبيل . من أجل الخبز سيجرب السفر المكوكي إلى مدينة بلا هوية ، إلى البيضاء التي تمعن في الانمساخ و التردي ، و لأنه جاء في زمن غير الزمن ، و لا يعرف جيدا من أين تؤتى الكتف ، فسوف يعود خائبا إلى الرباط مستقيلا من " مغرب اليوم " احتجاجا على الهرولة و التطبيع .
سنلتقي مجددا قريبا من " لاسافط " بالرباط نقارع أهوال " الثقافي " و "الاجتماعي" و نموت غيظا و ألما من تخريجات الوقت الرديء ، نمضي صباحات من الهم ، نتأمل وطنا متشظيا لا يهدي إلا الألم و اليأس لمواطنيه / رعاياه ، نتسكع في جرائد الآخر و النحن و نكتشف الهوة السحيقة التي تفصلنا عن صحافة الخبر لا الرأي ، حينئذ كان محمد بلمو كالطفل اللذيذ يبتهج و يبكي ، يغضب و يفرح ملء الحياة ، لأن الإنسان لم يمت فيه بالمرة ، و لأن بدويته العذبة لم تغادره بالرغم من كل هذه الكائنات الإسمنتية التي تحاصره و تمنعه من الحلم و الاشتهاء .
الشاعر فيه متوثب كما العادة ، يهدي شعرا ، يهدي بحرا بل بحورا من العشق و التراب و الهشاشة ، من الفوضي يخلق جمالا ، من الانتظام يكتب هذيانا و اغترابا لروح شقية لا تطمئن للجاهز و المستهلك من الصور و الأطاريح . و عندما يبدأ الشعر ينتهي العقل ، ينطلق موسم الحكي و الرحيل نحو أقاصي الكلام ، عندما يرحل الكبار كما الصغار من دولة الشعر ، يبكي محمد بلمو و يقطر شعرا و ربما دما و ألما ،" يفقد صباحه ما تبقى من أضوائه و تمعن الروح في اغترابه ، و البلاد تتسكع في البلاد ، تنتحب الأغنيات و يهيم النادي في صلاة الفقدان "
لن يكون إلا هو الإنسان حد الامتلاء و الشاعر حد الهشاشة ، لا يكتنز في أعماقه غير الحب و الشموخ الباذخ ، لن يكون غير حالم مائز يغرد في الليالي الباردة ، يحلق في سراديب الوقت ، برفقة الغيلان و حوريات البحر ، لن يكون هذا ال " بلمو" غير محمد بلمو كما هو لا كما ينتظر منه أن يكون .
هو القادم من قدم الريف المغربي ، هو الشاعر الملتهب السيزيفي المارد البسيط ، هو الإنسان الذي لم يستحل ذئبا يعوي و يتربص بأحلام صغيرة كما حبات رمل و اشتهاء .محمد بلمو شاعر من زمن مغربي لم يولد بعد ، لهذا ترك " الجمهور " و التحق بقريته الوديعة ، ترك مدينة موبوءة بالقحط الروحي ، ليقدم النموذج الحيوي لعمل جمعوي ينهجس فقط بالتنمية لا غير ، إنه لا يريد بلوغ قشدة المجتمع كما يفعل الكثيرون من زبانية المجتمع المدني ، إنه يهفو إلى إسماع صوت قريته الجميلة ، بكل الطرق الممكنة و المستحيلة ، لهذا نظم مسابقة أجمل حمار و مهرجانا أول لسينما القرية و كرس برفقة قدماء تلاميذ بني عمار تقليدا سنويا للاحتفاء و الفرح ، فالمغرب العميق المغموس في الألم و التهميش من حقه أن يفرح و لو في عز الضياع و القحط .
الشعر عند محمد بلمو معاناة و مكابدة مستمرة ، القصيدة عنده قد تأخذ شهورا كي تكتمل بهاء ، إنه لا يكتب الشعر كما باقي الكتبة و محبري الجرائد و المجلات ، الشعر كالتراب يتشكل عبر ملايين السنين من معادن و حيوات و مسارات شتى ، القصيدة لا تأتيه ساجدة متى شاء ، لكنها عندما تأتي تكون بهية شامخة و فاتنة في عيد الحب و الإنسان ، لهذا اختار " أناشيد التراب " اسما لانشقاقه البكر ، فالتراب يختزل كل تاريخ الإنسان و جغرافيا الروح ، و الشعر تراب ندي يعبق منه ريح الإنسان ، إنه كما قال عن نزار لما غادرنا تاركا ياسمينه في أعماقنا " شهادة في زمن الانسلاخ الصامت والمدوي، عنوان لبريد الشعر الذي لا يخاف وهو يترنح، ولا يتزلف وهو يغني، لا يركع للخراب، لا يتنكر للحقول، لا يفتح دكانا لتسويق اللغة " .
هكذا يفهم بلمو الشعر ، و هكذا يتمثله أسطورة واقعية لكتابة اندلاق الزمن و تاريخ الأشياء ، شهادة على موت الإنسان و رحيل الربيع ، صوتا مدويا في وجه الدمار و الانهيار الفادح ، و ميلادا لحب و وطن و أمل بعيد المنال ، الشعر التزام في زمن خلاسي فاقد للهوية و العذوبة ، لهذا تظل القضية حاضرة بقوة في المتن الشعري عند محمد بلمو ، و يظل هو كما لا ينسلخ من جلده و لا يستحم في الوحل و لا يصطاد فيه قبلا و بعدا . يدمن التأمل و البكاء و الضحك أيضا .
لكنه متيقن جدا بأن الموت وحده من يستقبل الشعراء بحفاوة هنا و الآن ، بالأمس رحل كثير من الأحبة من دولة الشعر " نعم ، تدور العقارب، كبغل طاحونة ،كلما دقت الساعة، تيقنت، وحده الموت ، يستقبلنا بحفاوة" ، أي نعم وحده الموت و التهميش يشرع الأذرع مرحبا بالشعراء ، فها محمد بديش يحتضر فمن ينقده يا بلمو ؟ و ها الفراشة مليكة مستظرف تطير في غير موعد الربيع فمن ينصت جيدا ؟ و من ينتصر للشعر و الإبداع و الإنسان عموما ؟ إلى ذلك لن تكون يا محمد بلمو إلا أنت القادم من تراب الصمود، لا تركع للخراب ، و لا تتنكر للحقول،و لا تفتح دكانا لتسويق اللغة و استكتاب الشعر المزيف ، فهنيئا لنا بك شاعرا لا ينمسخ، وصحافيا لا يهرول، و إنسانا عذبا ينتصر دوما للشعر و الشعراء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا