الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الهاربة 1
حوا بطواش
كاتبة
(Hawa Batwash)
2018 / 2 / 23
الادب والفن
1
هذا الصباح، لا أدري لِم صحوتُ مبكرة على غير عادتي. فتحتُ عينيّ على عتمة الغرفة. سوادٌ شائع في كل النواحي. أحسستُ بضربات قلبي تتسارع في صدري شيئا فشيئا، لا، لم أكن خائفة، فالعتمة لم تعُد تخيفني منذ سنوات، منذ أن أقنعتُ نفسي بأن الجن والعفاريت التي لطالما خوّفتني بها أمي في طفولتي ليست إلا مجرد خرافة كانت تستخدمها لإحكام سيطرتها عليّ. وكم نجحت في ذلك! كل مجهول يخيفنا. لا تهمّني الحقيقة، ما الفائدة من تصديق وجود أشياء لا أراها؟ سنوات من الخوف عشتُها في بيتها، ولكنني تحرّرتُ... تحرّرت من الخوف... ثم... تمرّدت.
مددتُ يدا متثاقلة لأضيئ المصباح الذي على المنضدة. تنهّدت. حاولتُ التحرّر من ذلك الشيء الذي يقبض على نفسي، ذلك الشيء الذي لا أعرف كنهه. أهو القلق؟ نعم. ربما هو القلق. ولكن، لماذا؟ ألم أعوّد نفسي على التخلص منه هو الآخر؟!
لا. هذا الشيء لا يشبه القلق الذي عرفته من قبل. إنه شيء آخر، ليس كالخوف. ربما هو التوجّس من الذي قد يحدث. وما الأسوأ الذي يمكن أن يحدث؟ أن تصدّني؟ إنها تصدّني منذ خمسة عشر عاما، فما الذي تغيّر الآن؟ ألم يكن ذلك اختياري؟ نعم، هو اختياري. هناك ثمن لكل شيء. وأنا كنتُ مستعدة لدفع هذا الثمن... وما زلتُ طبعا.
تنهّدتُ مرة أخرى. قمتُ من سريري بعجل، أنفض عني كل الأفكار. أعددتُ لنفسي الشاي مع القرفة والعسل ومعها خرجتُ إلى الشرفة.
ريح باردة هبّت على وجهي وارتعشت لها أوصالي. جلستُ على الكرسي الهزاز وأخذتُ أحرّكه. نور الصباح بدأ يتفتّق من بين الغيوم الرمادية التي غطّت السماء، يصبغها بالأحمر. المدينة ما زالت نائمة، الشوارع خالية ومصابيح الشوارع بدت شاحبة. الصمت مطبقٌ على الكون. بعد قليل سيتكسّر كل شيء ويتهشّم الصمت تحت عجلات السيارات والشاحنات والحافلات وضوضاء المارة والبائعين والجيران. إنه الصمت الذي يسبق عاصفة النهار.
أطلقتُ زفرة طويلة وأغمضتُ عينيّ. اليوم، بعد خمسة عشر عاما، سأعود إلى القرية.
2
طرقات على الباب.
«منى، أما زلتِ نائمة؟ هيا، استيقظي.»
الساعة لم تكن قد تجاوزت السادسة والنصف بعد، وهي لم تكن نائمة. كانت تنتظرها.
نظرت في وجهها حين فتحت الباب، دخلت إلى داخل الغرفة واقتربت منها.
«أسرعي، يا منى. لا نريد أن نتأخّر.» قالت أمها.
أدهشها قولها، وكأنها لم تتأخّر خمسة عشر عاما!
«لن أتأخّر.» ردّت منى ببساطة وإذعان، كعادتها، وهل تملك أن تفعل غير ذلك؟
أمها ليست من النوع الذي يمكنك فعل شيء أمام أوامرها وقوانينها سوى الخضوع. إنها ليست إمرأة ككل النساء، أليست هي زوجة الدكتور مالك، والدها صاحب المال والجاه؟ لم تجرؤ منى يوما على رفض طلب لها. كانت هذه هي أسهل الطرق للتعامل معها. سماح كانت مثلها تماما.
كانت تكبرها بسبع سنوات. ورغم صغر سنها آنذاك، فهي تتذكّرها تماما وتتذكّر كل تحركاتها: نظرتها، ضحكتها، مشيتها، نبرة صوتها... إنها لم تكن فتاة يمكن أن تُنسى. وكانت، مثلها تماما، تسير دائما على الصراط الذي رسمه لهما والداهما باستقامة مدهشة... إلى أن تعرّفت على عزّام.
هذا الأمر ما زال يدهشها إلى حد الصدمة ولا قدرة لفهمها أن يستوعب كيف استطاعت أن ترمي كل شيء من ورائها، سنوات من عمرها، هكذا، ببساطة، تخلّت عن كل شيء وذهبت مع عزّام هاربة. خمسة عشر عاما لم ترَ خلالها أختها الكبرى.
لم يكن والدها مستعدا أبدا لمسامحتها على فعلتها الشنيعة. كيف يفعل؟؟ وقد أصابته ابنته المفضّلة بالذل كما لم يفعل أحد من قبل؟! مأساته كانت فوق الاحتمال. وبعد أشهر قليلة، داهمه المرض ومات قهرا. أما والدتها السيدة الراقية، الرزينة، القوية، فلم تستسلم لعواطفها. صمّمت على البقاء قوية، صامدة، لا تهزّها المحن، رافضة تماما مسامحتها، وحمّلتها ذنب وفاة أبيها. سنوات من القطيعة لم تمزّقها... إلى أن أصيبت بالمرض هي الأخرى.
مكثت في المستشفى طوال الصيف تتلقى العلاج ثم عادت إلى بيتها لتبقى راقدة في سريرها ثلاثة أشهر طويلة، عصيبة، وعندما قامت من رقودها الطويل وقد تحسّنت حالتها أخيرا، سألت ابنتها ذات مساء، إذ كانتا جالستين في غرفة الجلوس تشاهدان المسلسل التركي: «ألا تكلّمين أختك؟»
أذهلها سؤالها. «أختي؟» تمتمت بعد لحظة من التحديق.
«نعم، أختك.» قالت أمها، كأن الحديث عنها كان أمرا عاديا، وكأنها لم تمنع يوما كل حديث عن أختها. «أختك سماح. هل نسيتِ؟»
«... لا، طبعا.»
نظرت إليها أمها بعينين يلوح منهما الغضب، ثم قالت: «أنا أعرف أنك تكلّمينها من زمان، وهل تظنين أنني غبية؟»
لم تعرف منى كيف ترد، وماذا تريد منها أمها. «لا، طبعا.» قالت.
«إذن؟»
تملّكها شعور بالخوف واحتارت في أمرها. لم تعرف كيف ينبغي لها أن ترد. هل تعترف لها بالحقيقة وهي أصلا تقول إنها تعرفها؟؟ أم تصمّم على الكذب والإنكار؟؟ نعم، إنها ليست غبية، ربما تعرفها، وربما لا تعرفها، بل تنوي أن توقع بها في فخ الاعتراف؟ لم تكن متأكّدة.
بقيت على صمتها.
«تكلّمي!»
«أمي... أنا... لا أعرف ماذا تريدين مني.»
«قولي لي إنك تكلمينها.»
«لستُ أفهم لماذا تريدين أن أقول لك ذلك.»
تنهّدت أمها من أعماقها. دقائق طويلة مرّت دون أن ترد.
يتبع...
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فودكاست الميادين | مع الشاعر التونسي أنيس شوشان
.. حلقت شعرها عالهوا وشبيهة خالتها الفنانة #إلهام شاهين تفاصي
.. لما أم كلثوم من زمن الفن الجميل احنا نتصنف ايه؟! تصريحات م
.. الموسيقى التصويرية لتتر نهاية مسلسل #جودر بطولة النجم #ياسر_
.. علمونا يا أهل غزة... الشاعر التونسي -أنيس شوشان-