الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فمن أبوه يا محمد!

محمد سرتي

2018 / 2 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا. وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة). فنحن لا نلوي أعناق النصوص لو قلنا بأن الرسالة المحمدية ليست سوى حركة مسيحية تصحيحية، أو ربما إصلاحية (بروتستانتية) إن أردنا. إن قصة المناظرة التي حصلت في مسجد المدينة بين النبي ونصارى نجران بقيادة أسقف يدعى أبو حارثة ابن علقمة. وهو، حسب المصادر الإسلامية، أحد الشخصيات المسيحية ذات الثقل آنذاك. وما نزل فيها من قرآن، وما انتهت إليه من دعوة للمباهلة، تشير إلى مدى عمق وحرارة المناقشات، ومدى أهمية النتائج والتوصيات التي تمخضت عنها، والتي ربما ترتقي في خطورتها ومصيريتها لأن توصف بـ "مجمع المدينة المسكوني" دون مبالغة. فعلى الرغم من أن تلك المناظرة/المجمع لم يأت ذكرها خارج المصادر الإسلامية، وعلى الرغم من شح هذه المصادر نفسها، سهواً أو إهمالاً، أو ربما عمداً، في سرد الحد الأدنى المقبول من تفاصيلها؛ إلا أن القرآن الذي نزل بعدها، بسببها ومن جرائها، كان كافياً جداً لتخليدها كنقطة فاصلة في تاريخ ومسيرة الفكر المسيحي، والتي يرجع لها الفضل الأكبر في تحول الغالبية العظمى من مسيحيي البلاد المفتوحة لاحقاً إلى التصوف الإسلامي. فعلى الرغم من أن التصوف الإسلامي قد تم اختطافه لاحقاً، ربما إسرائيلياً، وتجييره لمصلحة تأليه بني هاشم في أشكال وصيغ كهنوتية متعددة، شيعية أحياناً وسنية أخرى؛ إلا أن بداية التصوف الإسلامي الحقيقي لم تكن هكذا. إن تاريخ هذه البداية المباركة يرجع تحديداً إلى غار حراء، على أيدي القديسين الأوائل: محمد بن عبدالله، خديجة بنت خويلد، وورقة بن نوفل. وذلك قبل تكليف الله لمحمد بحمل هذه الرسالة.
(أنا والآب واحد) (ليكونوا واحداً كما نحن واحد) (إن تعليمي ليس مني بل ممن أرسلني) (وقالوا اتخذ الله ولداً لقد جئتم شيئاً إدا) (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم) (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة).
هل يوجد فعلاً تعارض/تناقض بين هذه الآيات؟ ولو على المستوى اللغوي/الحرفي؟
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) هذه هي الجملة المفتاحية، والخطيرة والمصيرية، التي يدفع بها القرآن، وبوضوح، نحو لاهوت التجسد والحلول كفحوى ميتافيزيقية لرباط الضرورة، رباط الواحدية ببعديها الأفقي والعمودي "بينونة صفة لا بينونة عزلة". في مقابل القطع والاغتراب الوجودي الذي قد يحدثه التركيز فقط على رمزية الصليب ككبش فداء.
(خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (ونفخت فيه من روحي) (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) فالكلمة "كن" تجسدت في آدم، وكذلك الروح، تماماً كما تجسدتا في بطن مريم (التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا). إذاً فالتجسد حصل/انتقل للجنس الآدمي ككل، في ذرية آدم عبر سلالته البيولوجية، وبشكل أوضح في الشراكة مع المسيح عبر الافخارستيا وليس عبر الصليب. لذلك كان القرآن يقاوم بشدة عقيدة "الابن الوحيد" الذي مات على الصليب كذبيحة تقدمة/خلاص (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).
فالقرآن يدفع بشدة نحو الوعي بواحدية التجسد والحلول للجنس البشري برمته، بينما يحارب ويقاتل ويعارض ويكفر (يهرطق) أية محاولة لحصر هذه الواحدية بين الله وخلقه في شخص المسيح وحده دون سواه. بمعنى أن العقيدة الإسلامية هي عقيدة تجسد لا تجسيد/تجسيم. هي عقيدة حلول لا تشبيه/تمثيل (ليس كمثله شيء). وهذا سر مطابقة القرآن لكريستولوجيا المسيح مع كريستولوجيا آدم؛ إن جاز التعبير. فهذه المطابقة جعلت رسالة الافخارستيا أكثر وضوحاً. (هكذا مكتوب ايضاً: صار آدم الإنسان الأول نفساً حية، وآدم الأخير روحاً محيياً) (وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه).
إذاً فـ "سوتيريولوجيا" القرآن، دعنا نسميها هكذا إن أردنا تناول فلسفة الخلاص الإسلامي من وجهة صوفية، تجمع بين كريستولوجيا آدم والمسيح في جملة منطقية واحدة، هذه الجملة حلت الإشكال الديالكتيكي بين لاهوت الإنسان وناسوته، بين الروح والجسد، بين الإيمان والعقل، بين ذاتية "لا إله إلا الله" وموضوعيتها. وحولت هذا الديالكتيك من عبء سيكولوجي إلى عشق روحاني تجاه الوجود، بخيره وشره.
أي أن القرآن يدفع باتجاه رمزية الافخارستيا مقابل رمزية الصليب (من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه). إذاً ليس هو الإيمان بيسوع الابن الوحيد كإله ومخلص شخصي من خلال موته وقيامته، بل هو الإيمان بكلمة الله المتجسدة في قلب كل من يقبل أن يكون جزءاً منها، حرفاً من أحرفها، من خلال الشركة معها عبر الافخارستيا. وهي شركة رمزية لا حرفية، تماماً كرمزية عبارة "أولاد الله" ورمزية (من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه). وبالتالي كل رمزية روحانية/طقوسية تنبش في أعماق اللاوعي لتخرج منه بنائية وحدة الوجود إلى الوعي. كل رمزية تجلي عدسة الشريحة البرمجية التي أودعها الله عقل آدم قبل تقلده منصب الخلافة على الأرض (وعلم آدم الأسماء كلها). وعلى رأس هذه الرموز جميعاً عبارة "لا إله إلا الله"، ثم تتمحور بعد ذلك جميع الطقوس والعبادات الإسلامية حول هذا المفهوم. ولربما، إن أراد الله، سنتناول لاحقاً كل طقس/عبادة على حدة لنستخرج من هرمنيوطيقيتها ما يؤكد هذا الكلام.
(فلما أحس عيسى منهم الكفر) الكفر بماذا؟! فاليهود كانوا مؤمنين بالله، بل ربما كانوا الشعب الوحيد الذي يوحد الله حينها. إذاً فالمطلوب منهم لم يكن مجرد الإيمان بالله حسب الوصايا العشر، بل الإيمان برسالة المسيح تحديداً، وهي، ببساطة، رسالة الوعي بوحدة الوجود مع الله. ليس وحدتنا نحن البشر فقط، بل وحدة كل الوجود، أو ما يوصف في التصوف بـ "الأحدية الصمدية". (وسع كرسيه السماوات والأرض) (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) (ليس كمثله شيء) (أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) ... فمعجزات المسيح كانت تربط بشدة بين درجة الإيمان (الوعي) ودرجة القدرة على خرق قانون السببية بإذن الله، أو لنقل: القدرة على التفاهم المباشر مع ذات الوجود لا موضوعاته، مع العلة الأولى، مع ذلك الأقنوم الوجودي الذي لا يخضع لمبدأ العلة بل يتحكم فيه.
(فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون نحن أنصار الله، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) فهل يستطيع بعد ذلك أحد أن يزعم انتسابه للإسلام دون أن يقبل المسيح ويؤمن برسالته (واشهد بأنا مسلمون)؟! (وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه).
إن البحث حول طبيعة المسيح في القرآن، حول طبيعة العلاقة بين لاهوته وناسوته، هو بحث في طبيعة آدم وفي العلاقة بين لاهوته وناسوته. وبشكل أكثر وضوحاً؛ بحث حول طبيعة العلاقة بين الله في ذاته والله في تجلياته، الله الكلمة والله المتكلم.
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) كلاهما كلمة من الله وروح منه، وكلاهما يمثل الكائن البشري بكليته. فهل أبناء آدم مجرد نسخ بيولوجية منه؟ أم نسخ أيضاً من كلمة الله وروحه التي تجسدت فيه وتجسد بها/منها؟!
فالبحث حول طبيعة كل من آدم والمسيح هو بحث حول طبيعة الكائن البشري بصفة عامة، طبيعة ذرية آدم أجمعين، طبيعة الإنسان باعتباره خليفة الله على بقية المخلوقات: ما مدى ألوهية هذا الكائن وما مدى حيوانيته؟ وهل يوجد فعلاً خط فاصل حقيقي بين لاهوته وناسوته؟ هل يوجد فعلاً خط فاصل حقيقي بين الإنسان الخالق والإنسان المخلوق؟ بين (إني خالق بشراً من طين) وبين (ونفخت فيه من روحي)؟!
هل يمكن رسم حدود واضحة بين شطري هذه الآية: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)؟! فهل الـ "نحنية" هنا مجرد لفظ تفخيم، أم إشارة مبطنة لحقيقة الوحدة في التعدد والتعدد في الوحدة "الأحدية الصمدية"؟ وهل يمكن تحقق التوحيد الكامل الخالص من كل أشكال الشرك/الواسطة/الوسيلة/الزلفى..... ما لم يتحقق الوعي الكامل بهذه الأحدية الصمدية (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)؟
ولكن لو كان هذا الكلام صحيحاً، قد يسأل أحدهم، فلماذا لا زال الخطاب القرآني يحمل طابع الغيرية "إليه"؟ بمعنى أن هنالك لا يزال ثمة "نحن" وثمة "هو"!
الجواب: لأن وعينا لما يكتمل بعد لإدراك حقيقة هذه الأحدية الصمدية. لأننا لا نزال بين الكاف والنون. لأننا لا نزال نحتاج لفهم طبيعة المسيح في ضوء طبيعة آدم.
(خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) فعل أمر "كن" يتلوه فعل مضارع "فيكون" أي أن الأمر لم ينفذ بعد، أو لم يكتمل تنفيذه. لم يصبح تنفيذ الأمر من الماضي (كان) بل لا زلنا حتى الآن نعيش صيرورته (يكون) نحو الاكتمال.
وأخيراً؛ لن يكتمل الخلق (ينتهي التاريخ) حتى يتم الفرز الكامل والنهائي والواضح والقطعي بين فسطاطين من البشر: فريق يقع ساجداً لإبليس، لعالم العلية، حيث منح الله إبليساً سلطة على هذا العالم. وفريق يقع له إبليس، وجميع الملائكة، ساجدين احتراماً لنفخة روح الله وكلمته المتجسدة من خلالهم، والتي منحهم الله بها سلطة على قانون السببية (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ولكن بكل كلمة تخرج من فم الله) (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س