الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتحار بين السياسية والدين (الحلقة الأولى)

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2018 / 2 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


يبقى عبد المحسن السعدون (1879 - 1929) حالة نادرة في التاريخ السياسي العراقي المعاصر. تمثال رئيس الوزراء الأسبق والشارع باسمه وسط بغداد تحديا تبدل الأنظمة الملكية والجمهورية والحكومات والأيديولوجيات المتعاقبة في مؤشر على وجود ما يشبه الإجماع في تقدير ذكرى هذا السياسي في بلد معروف بالتقلب السريع للآراء والأمزجة. لكن السعدون ينفرد أيضا بأن هذا التقدير جاء رغم انتحاره بإطلاق النار على نفسه، وهي خطوة محرمة دينيا ومستهجنة اجتماعيا. ربما يعكس ذلك نوعا من شعور بالذنب لأن وصية السعودون تُعزي سبب الانتحار إلى خيبة أمل وإحباط عميقين تجاه العراقيين عموما وخصومه السياسيين خصوصا الذين لم يترددوا في اتهامه بالعمالة للأجنبي في سياق صراع مكشوف على السلطة. حينها بدا الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في قصيدته "إلى السعدون" حائرا بين التحفظ والاندهاش إزاء انتحار السعدون :"ماذا فَعَلتَ لقد أتَيتَ عظيمةً .....ينبو الأريبُ بها ويَعيَا المِصقَع" وبين الأمل بأن تصبح الطلقة القاتلة مفتاحا لتغيير الحاضر والمستقبل: "غيرتَّ راهنةَ الأمور بطلقةٍ .... مستقبلُ الأوطان منها يَلمَع".
في المقابل لم ينتحر صدام حسين وفضل الاستسلام للأمريكيين، وتحمل بكل "شجاعة" عار الهزيمة المذلة في عام 2003 ، وإن أبدى لاحقا في لحظة إعدامه صلابة ملفتة للنظر. كذلك لم يعرض أقطاب النظام البعثي أنفسهم لمثل هذا الاختبار، بينما كانوا يتشدقون حتى لحظة سقوط بغداد في نيسان أبريل 2003 بشعارات "الاستشهاد". وللمقارنة فقط أنهى هتلر وغوبلز وهملر ونحو 160 آخرين من مسؤولي النظام النازي الألماني حياتهم بإطلاق النار أوبتجرع السم في نهاية الحرب العالمية الثانية. ويشير الباحث والكاتب النمساوي واستاذ علم الثقافات في جامعة برلين توماس ماخو في كتابه الضخم الصادر مؤخرا بعنوان "الانتحار في الحداثة" إلى أن آلاف الألمان والألمانيات ساروا ولدوافع مختلفة على طريق "قائدهم الفوهرر". لم يختلف المشهد كثيرا في اليابان في عام 1945 حيث أقدم الكثير من العسكريين وحتى المدنيين على وضع نهاية لحياتهم بالسيف أو بطريقة أخرى ضمن تقاليد تستهين بالموت وكانت تنتشر في المجتمع الياباني في تلك الحقبة.
يختلف انتحار السعدون ومعظم الأمثلة السابقة عما يمكن وصفه بـ"الانتحار سياسيا". الأول عملية حقيقية تتوفر فيها كل أركان قتل النفس ولكنها تختلف عن الانتحار "العادي" لأن دوافعها وأهدافها سياسية بالدرجة الأولي، بينما الثاني تعبير مجازي يُستخدم عندما يُقدم سياسي على مغامرة غير محسوبة العواقب تهدد مستقبله السياسي، وهو ما شاع مثلا مؤخرا بالارتباط بالاستفتاء في كردستان وعلاقته بمصير رئيس الإقليم مسعود برزاني.
من البديهي أن تقييم ظاهرة الانتحار في العراق ومؤشراتها المعلنة والخفية تحتاج بالدرجة الأولى لأطباء وعلماء نفس ولدراسات وأبحاث ميدانية لرصد وتحليل الحالات وأسبابها ودوافعها، ولكنها تطرح أيضا العديد من التساؤلات حول علاقتها بالعوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية. في كتابه المذكور آنفا يشير الباحث توماس ماخو إلى أن البشرية شهدت في تاريخها ثقافات تستهجن الانتحار وأخرى تنبهر بالانتحار. غير أنه يُقرّ أيضا بأن نظرة المجتمعات إلى الانتحار تتغيّر بتغيّر الأفكار والقيم الثقافية والدينية والحقوقية والظروف الاجتماعية والسياسية السائدة. بالنسبة للعراق فإن السؤال الأهم: هل توجد في المجتمع العراقي ثقافة وعقلية ترفض الانتحار أو أنها تُمجد الموت الطوعي تحت ذرائع معينة؟ أم أن المواقف الاجتماعية تتباين باختلاف أشكال الانتحار كالانتحار نتيجة اليأس والإحباط أو لدوافع سياسية كالانتحار الاحتجاجي وغيرها. من الواضح أن البيانات المعلنة والتقارير المتاحة لا توحي بوجود أبعاد خطيرة لحالات الانتحار المألوفة رغم أن كل حالة هي في نهاية المطاف مأساة إنسانية. كما لم ينتشر بعد مفهوم الموت الرحيم في العراق بحكم التركيبة العمرية الشابة للسكان واحتفاظ العلاقات الأسرية بقوتها، بعكس الدول الأوروبية حيث يثير شكل الانتحار هذا، الذي يحدث عادة نتيجة مرض ميئوس منه أو الدخول في غيبوبة دائمة أو الإصابة بداء ألزهايمر، جدلا أخلاقيا وقانونيا وحقوقيا واسعا. غير أن هناك احتمالا لا يمكن التغاضي عنه في حالة العراق، وهو وجود "محرمات" اجتماعية تحول دون تناول ظاهرة الانتحار بصراحة الأمر الذي يرجح أن الأرقام الخفية تفوق المعلنة بكثير. فمن المؤكد أن الحرب العراقية الإيرانية شهدت خلال سنواتها الثمانية حالات انتحار غير قليلة بسبب الخوف من التجنيد أو المعارك الدامية أو بطش النظام. ولكن كل ذلك بقي طي الكتمان. وربما تُفسر هذه النظرة أيضا المحاولات اللاحقة لطمس أسباب انتحار عبد المحسن السعدون والإيحاء بأنها كانت عملية قتل نتيجة رفضه السياسة البريطانية.
من جانب آخر يتم في كثير من الأحيان التبرير بطريقة غير مباشرة للانتحار من خلال الترويج لثقافة التضحية بالنفس من أجل مُثل دينية أو وطنية أو عقائدية عليا. وهو ما يلاحظ في بلدان كثيرة. أبان الحرب الأهلية الاسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي كان الفاشيون بزعامة فرانكو يرددون بفخر شعار "يحيا الموت". وفي كوبا الاشتراكية بقي الزعيم الثوري فيدل كاسترو حتى وفاته وفيا لهتافه الأثير "الاشتراكية أو الموت". أما في العراق، فكان أنصار تيارات سياسية متبانية ومتصارعة أحيانا متفقين في الإعجاب الشديد بالبيت الشهير للشاعر الجواهري (شعب دعائمه الجماجم والدم ... تتهدم الدنيا ولا يتهدم). ولم يحتج حزب البعث سوى إلى تحوير بسيط ليصبح البيت "بعث تشيده الجماجم والدم....إلخ" لكي يتبنى لاحقا شعار الموت والقتل قولا وفعلا.
لكن كل ذلك أصبح مجرد تفصيل بسيط مقارنة بما حدث للعراق جراء موجة الإرهاب الانتحاري التي اجتاحت البلاد على يد القاعدة وداعش منذ عام 2003. يدعو الباحث توماس ماخو في كتابه المذكور إلى التمييز بين العملية الانتحارية والهجوم الانتحاري. يحدث الشكل الأول عادة في المعارك غير المتكافئة عندما يغامر منفذو العملية الفدائية بحياتهم من أجل اقتحام موقع محصن أو توجيه ضربة مفاجئة للخصم. صحيح أن احتمال الموت قائم هنا ولكنه غير محتم وغير مطلوب بخلاف الهجوم الانتحاري حيث يعتبر الموت الهدف والأداة في نفس الوقت. هنا تصبح نجاة المنفذ عنوانا لفشله. مثل هذا التقسيم أصبح تنظيم داعش يعتمده مؤخرا من خلال التفريق بين ما يدعى بـ"الانغماسي" و"الاستشهادي"، لأن الأول لا يشترط تنفيذ هجوم انتحاري يودي بحياته.
بحسب بيانات بنك المعلومات الذي أنشأته جامعة شيكاغو الأمريكية لرصد الهجمات الانتحارية حول العالم منذ عام 1974 ، يحتل العراق المرتبة الأولى في عدد الهجمات الانتحارية. حتى عام 2016 تعرض بلد الرافدين لـ 2208 هجمات انتحارية تسببت بمصرع نحو 24 الف شخص وإصابة قرابة 55 ألف آخرين. لا يشمل هذا الرقم بالطبع "الانغماسيين" ولا الانتحاريين الذين يقتلون قبل تمكنهم من تفجير أنفسهم وسط الجموع، أي قبل وصولهم للهدف. لكن بنك المعلومات هذا يشير أيضا إلى أن العراق لم يشهد حتى عام 2002 أي هجوم انتحاري على الإطلاق، بينما كانت سيريلانكا وإسرائيل "تتنافسان" في احتلال مركز الصدارة في تلك الفترة. صحيح أن نسبة الأجانب بين الانتحاريين والانغماسيين من تنظيمي القاعدة وداعش في العراق كانت ولا تزال عالية ، إلاّ أن الجماعات الإرهابية نجحت بالفعل في تجنيد عدد متزايد من العراقيين لتنفيذ اعتداءات انتحارية، فضلا عن آلاف المعاونيين والمساعدين. يرى الكاتب توماس ماخو بأن تفشي الارهاب الانتحاري حول العالم (حتى عام 2016 رصد بنك معلومات جامعة شيكاغو 5430 هجوما انتحاريا في 40 بلدا) يعود أيضا إلى ظاهرة انبهار الحداثة بالانتحار الأمر الذي يتجسد بشكل خاص في اعتداءت الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك. حتى الآن ينجذب ملايين المشاهدين بشدة لصور ارتطام الطائرتين ببرجي مركز التجارة العالمي وانهيارهما، وكذلك صور ضحايا يقفزون إلى الموت المحتم من طوابق شاهقة هربا من النيران، إضافة إلى إنتاج كمٍ هائلٍ من الأفلام السينمائية والوثائقية والصور الفوتوغرافية والروايات واللوحات والأعمال الفنية الأخرى عن الأحداث. وفي كل الأحوال فإن الارتفاع الحاد في الاعتداءات الانتحارية في العراق وبقية دول العالم الإسلامي منذ بداية الألفية الجديدة يثبت بما لا يدع مجال للشك وجود ثقافة متجذرة تُمجد الموت وتبرر اللجوء للانتحار كوسيلة للصراع. ولا ريب فإن ثقافة الانبهار هذه بالانتحار ترتبط بمفهوم الشهادة المُلتبس في الإسلام..

يتبع.........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقطاب طلابي في الجامعات الأمريكية بين مؤيد لغزة ومناهض لمع


.. العملية البرية الإسرائيلية في رفح قد تستغرق 6 أسابيع ومسؤولو




.. حزب الله اللبناني استهداف مبنى يتواجد فيه جنود إسرائيليون في


.. مجلس الجامعة العربية يبحث الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والض




.. أوكرانيا.. انفراجة في الدعم الغربي | #الظهيرة