الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوريا - المآلات العملانية وطهرانية الهزيمة

أنس نادر
(Anas Nader)

2018 / 3 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


ماذا بعد هذا الدمار الوحشي, ماذا بعد هذا التغول الأممي وتغطرس القدر على أحلام الشعوب وعلى نحيب الأصوات المسافرة عبر أدراج هذا الفزع المقدس.
فقد أمست سوريا مَكسر للقدر المهزوم, وملاذا لكل الهزائم المشرّفة والانتصارات المُخجلة, سوريا المسورة الآن بأطماع وشراهة المستثمرين السياسين والمسمومة الجراح بطعنات وتمزقات خناجرهم التي تقطّع أوصال جسدها وتبعثر تراثها وتذري ثقافها وأصالتها وذهبها العتيق.
فقد أصبحت سوريا الآن أمام ساحة سياسية وثقافية مختلفة وأجنبية الكيان عن ما خبرته بعصرها الحديث, ثقافات وأطماع سياسية دخيلة على ثقافتها وأعرافها وتقاليد شعبها وموروثهم السياسي والثقافي والاقتصادي, فبعد سيطرة النظام السوري وحلفاؤه على الغوطة أصبحنا أمام نهاية موشكة وواضحة المعالم إلى حد ما للمآلات السياسية ومناطق النفوذ والسيطرة للقوى المستثمرة في الصراع, فالغوطة الدمشقية كانت الثمن الباهظ الذي دفعه النظام للدعم الايراني منذ بداية الاحتجاجات الشعبية التي شهدها ضده, وأيضا ورقة الترضية الاستراتيجية التي قدمتها روسية لهذا التحالف ولقاءا للدعم الإيراني بالقوة البشرية والسلاح والدعم التقني واللوجستي والتحالف الاقليمي الذي صنعته في مواجهة القوى الاقليمية والدولية المناهضة للنظام. إن هذا الحزام المحيط بدمشق سيكون مثل الاصفاد التي تقيد القرار السياسي والاقتصادي لدمشق لاحقا, كما ان النفوذ الإيراني على الأرض السورية سيمتد عبر الجنوب الغربي لدمشق وصولا إلى لبنان ويتحكم ايضا بالتواترات السياسية هناك, فسيشمل هذا الطوق المحيط بعنق دمشق من الريف الشرقي إلى جنوب دمشق ايضا وصولا الى الغوطة الغربية وسفوح جبال القلمون المطلة على لبنان مما سيؤمن فضاء واسع لحرية الحركة الميدانية بين الدولتين ويقوي الانغماس الإيراني فيهما, وبهذا ستكون ايران قبضت ثمنا باهظا ماديا واقتصاديا وسياسيا ويرضي حجم تضحياتها الكبيرة من اجل الابقاء على النظام بدمشق, أما بالنسبة لتركيا فقد أخذت الضوء الأخضر بالإستيلاء على مناطق أقصى الشمال السوري وتوسيع نطاق نفوذها على حدودها مع سوريا مقابل الصمت والحياد لما جرى بالغوطة من خلال تفاهمات مع الروس والأمريكيين بما يضمن مصالح هذه الأطراف. وبالنسبة للاعبين الكبار فالولايات المتحدة تتمسك كالعادة بالمصادر الإقتصادية المباشرة لنفوذها وبوضع راعي عرقي أقلوي متباين الثقافة عن الحاضنة الأم ويعاني أساسا من قضية وجودية وانتمائية ليذكرنا هذا المشهد بالاقليم الكردي بالعراق على الرغم من التفرد الأمريكي إلى حد ما وتباين طبيعة الصراع هناك, ونصيب الأسد بالطبع للقوى العظمة الاخرى الروسية التي رسخت قواعدها العسكرية ومنافذها البحرية على البحر المتوسط بالساحل السوري وأرست موطئ قدم راسخ في الشرق الاوسط وعادت الى الساحة العالمية كمحور عالمي مواجها للولايات المتحدة والغرب الاوروبي, ووأثبتت نفسها كخيار سياسي واقتصادي جاد وملفت للكثير من التحالفات الطامحة والمصالح الاقليمية والدولية القادمة بفعل هذه المتغيرات الاستراتيجية والتغييرات بموازين القوى في المنطقة ولا سيما بعد استعراض وتجريب الروس لآلتهم العسكرية المدمرة في حروب المدن واثبات نجاحها بقلب الموازين العسكرية على الأرض كما أقر العالم وصرح الروس أنفسهم رسميا بذلك, أما النظام فسيحكم شعبه بالوصاية وسيكون وصيا مطيع للمصالح التي استثمرت خياره في حربه ضد شعبه وتمسكه بالسلطة واصراره على تدمير البلد لتكون مشروع مغري لإعادة التكوين الإقتصادي والسياسي فيها ووجهة ملفتة للتنافس الدولي في استيلاء كل منهم على مناطق نفوذه الجديده لما تستحوذه هذه البقعة من الأرض من حساسية وقضايا تاريخية وسياسية لا تزال عالقة وخاصة بوجود اسرائيل كأحد أطرافها, وأخيرا ستُترك لقوى المعارضة محافظة ادلب المثخنة بالجراح وذلك بحكم عدم قدرة المساس بهذه المدينة للحفاظ على مصالح نفوذ الجوار وعدم سماحية موجة نزوح جديدة هائلة تضر بمناطق نفوذ الولايات المتحدة وتركيا المتاخمة فضلا عن تجنب أزمة انسانية جديدة من الصعب تحملها, كما أنها ستكون مرتعا لفصائل المعارضة المتناحرة ومضرب مثل عملي لفشل قوى المعارضة الذي سيتخذه النظام مصيرا للقوى الثورية التي حاولت ان تتصدى لنظامه, وبالنهاية ستقاد المعارضة والنظام الى تسوية سياسية تجميلية ستحتفظ المعارضة بها بمحافظة إدلب تحت راية النظام وبعض المناطق الريفية المتفرقة ميدانيا بين حلب وادلب وربما حماة, ضمن عملية سياسية هزيله تحافظ على قوام نظام سياسي يلبي حاجات القوة المسيطرة ويستطيع خدمة مصالحهم سواء من المعارضة أو النظام.
إن الجديد في تجربة الصراع بين جميع هذه القوى المتناقضة المصالح والاستراتيجيات تكمن في أنها متواجدة على الارض عسكريا وميدانيا وليس فقط بالهيمنة السياسية خلافا عما يجري عادة في استراتيجيات الدول المتناحرة على النفوذ, ويُرجّح سبب ذلك إلى لضعف الشديد للنظام السوري الذي كان يستعين بقوة مختلفة كلما أوشك على السقوط عسكريا حتى انتهى الأمر بالتدخل الميداني المباشر للقوى العظمى في العالم بالإضافة للقوة الإقليمية, أما القوى الطامحة التي تحاول أن تأخذ مكانا إقليميا لها فكانت تستعرض وتطالب بأستحقاقها كقوة اقليمية مؤثرة من خلال الدعم العسكري والمادي وإتّباع نظام الحرب بالوكالة كما يفعل عادة الكبار, وهذا ما يسترعي الإنتباه لحساسية الصراع في سوريا في وضع خطوط جديدة واضحة المعالم في ميزان القوى ومبررا سياسيا لتطاول القاصي والداني سعيا لصياغة حجمه الجديد سياسيا في التصور العالمي لمكانته, وهذا ما سيترك لاحقا أثره العميق أيضا في التصورات الثقافية للشعب السوري مستقبلا بعد كل هذه المخاضات.
إن القوى الرئيسية المتواجدة على الأرض والمتلخصة عموما بروسيا وامريكيا وايران وتركيا سيكون لها حضور قوي بكل ما سيجري بسوريا على جميع المستويات وسيكون لها اثر كبير ومؤثر وشديد التباين ودخيل ثقافي وسياسي جديد على توجهات وموروث ثقافة الشعب السياسية والعقائدية وحتى القومية, وسيؤدي هذا الى مخاضات وتفاعلات وتقلبات وافرازات ثقافية سياسية واقتصادية عميقة, فمن جهة يعتبر هذا المآل هزيمة مريرة لقوى الثورة المسلحة وعودة سيطرة النظام على البلاد واقرار علني بهزيمة الثورة وبإنتصار آلة القمع والاستبداد على طموحات الشعوب ومطالبتهم بالحرية والعدالة الانسانية المرجوة, وعلى الرغم أن هذا واقعا ولكنه ليس حقيقة مكتملة, فعلى الرغم من نصر النظام العسكري على المعارضة المسلحة, إلا أن سلطة النظام على الشعب قبل الثورة لن تكون كما هي عليه بعدها, فالنظام سيكون خاضعا لنفوذ ومصالح الدول التي تقاسمت البلد سياسيا واقتصاديا والتي ستفرض واقع لا بد أن يتماشى مع التسويات فيما بينهم ويرعى مصالحهم, ويخرج عن نموذج وعقلية النظام الخارجة عن مسار التاريخ, كما أنه لن تكتمل الصفقة دون مشاركة المعارضة السياسية في شكل النظام السياسي القادم وفقا للقرارات الدولية في المحافل والمؤتمرات السياسية ولو كان بشكل خجول, وأيضا لا بد من أن تغلق الملفات الانسانية وتسوّى أوضاع المهجرين في الداخل والخارج, كما أن الافراز الثقافي والفني والفكري والسياسي الهائل خلال الثورة الذي تمثّل بمختلف الحركات والتجمعات والنشاطات والفاعليات والتحزبات الفكرية والعقائدية إضافة للاختلاط والتعايش مع ثقافات الشعوب الاخرى جراء موجات اللجوء والنزوح والتجربة المريرة للشعب السوري خلال جميع هذه التقلبات, كل هذه المؤثرات ستؤسس لتغيرات ثقافية كبيرة على الرغم من أنها لا يمكن أن تقارن مع حجم التضحيات والمآسي والخراب الذي أصاب البلد في البشر والشجر والحجر.
إن كل هذه التظاهرات والمتغيرات والجدل التاريخي والسياسي لا يمكن اختصاره بنصر أو هزيمة لأي طرف من الأطراف, بل أنه من العار أن يدعى نصرا وهو الذي قام على كرامة الناس وأحلامهم بالحرية, ومن المخزي أن يدعى هزيمة وهي التي سطرت أسمى التضحيات وحصدت أرواح نخبة الشباب السوري, فلم يكن من الممكن على الإطلاق أن تحافظ الثورة في بلد كسوريا تعاني من ثقافة الاستبداد منذ وعقود ومن أزمة تاريخية تعود لقرون وفساد عميق بالمؤسسات الثقافية وتعقيدات وانتماءات عقائدية واجتماعية غائرة جراء ذلك ,أن تحافظ ثورتها الشعبية على طهرانيتها أو غانديتها كما يقول البعض, أي أن تتجنب جميع أشكال العنف والأجندات والتبعيات الدولية بشكل كامل كما كنا نحلم جميعا بذلك, وذلك بسبب الانفصام بشخصية الدولة بفعل الفساد السياسي بين القاعدة والحاضنة الشعبية من جهة والنخب الفكرية والثقافية التي هي أساسا انقسمت على نفسها بتوجهاتها وأرائها من جهة أخرى ولم تستطع أن تفرز قاعدة فكرية وثقافية ثورية تحوْل بالهيجان الشعبي دون الوقوع في فخ العنف والتسليح والتحزبات الطائفية التي أسس لها النظام في كيان قوى الثورة منذ البداية, وبشكل عملي أبقت الثورة على طهرانيتها الأخلاقية من خلال الحراك المدني والسلمي في بداياتها أمام أعتى الأنظمة القمعية, والنشاط الإنساني لنشطائها وآلام معتقليها الذين يقاومون سجانيهم بمجرد الفكرة والوحي وبكتّابها وأدبائها وفعالياتها الثقافية التي لم تتوقف يوما ولو كانت خجولة أمام الافرازات العنفية لإختلالاتها, فالهزيمة العسكرية للمعارضة المسلحة لا يمكن أن تمحي الموروث الثوري للشباب السوري الذي صرخ في وجه الظلم يوما, والجدلية التاريخية لطبيعة الصراع الذي خرج عن ارادة السوريين لا يمكن أن تنقضي تداعياته دون أن يترك أثر تجربته القاسية والمؤلمة الممزوجة من الدم والصراخ والأحلام والإنهيارات النفسية بكل أشكالها وآفاتها وطفراتها الواقعية والحُلمية, فالطهرانية تكمن بالفكرة العملانية ولا يمكن أن تتجلى بالواقع العملاني على أرض الواقع في ظل هذا التاريخ الطويل من التبعيات الثقافية والتعقيدات العقائدية لشعوب المنطقة.
إن هذا المآل المؤلم لما حصل للشعب السوري في أرضه وبيته وأفكاره وأحلامه بلا شك أنه مزّق آمال الجميع وأصابنا بالخذلان والإحباط والعجز وكان بمثابة هزيمة لقضية جمعية وتاريخية ما كان يمكن لأحد أن يتخيل فشلها, فرمزيتها تتجاوز اقصاء نظام فاسد عن الحكم , بل مطالب اخلاقية وانسانية وحقوقية يظنها الجميع انها من ابجديات حقوق الانسان في العالم المتحضر, وإن تخلي العالم عن قضية بهذه الحجم ومأساة بهذا القدر من الترويع يلف العالم أجمع بخذلان تعتصر له القلوب بأن هذه الحضارة الانسانية بكل منجزاتها الثقافية لا تزال ترزح تحت نظام سياسي عالمي لا مكان للرحمة فيه عندما يخرج من كونه لا يتعدى شعارات انسانية للتبرج التاريخي والتزيين الثقافي لعار وإخفاقات المجتمع الإنساني, مع الاحترام للمؤسسات والمنظمات الانسانية العالمية التي لا تستطيع بالواقع سوى البكاء على الجرح والخجل من كل هذا الإمتهان الأخلاقي للبشر, فإن صوت المصالح الدولية للدول الكبرى يعلو على صوت جميع المنظمات الحقوقية ويحول هذه المنظمات إلى عيادات تجميل قام هو نفسه بتشويه ضحاياها.
ويبقى لنا, للشعوب الذي تصّير قدرها جرّاء طغيان هذا الثقافة الإنسانية ويدفع ثمنها جيل لا ذنب له من الشجعان والبائسين والمغلوب على أمرهم سوى أن نعوّل على الحقيقة الكلية للحزن بأنه أصدق أشكال التجارب وأطهرها معرفة وهو إرث أبناء الشعب السوري ومصيره بأن أن تكون هذه التجربة هي وحقيقتنا الحزينة وحريتنا المستعادة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254