الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات من القامشلي 2

آرام كربيت

2018 / 3 / 26
الادب والفن


كنا ننام الواحد إلى جانب الآخر على الأرض. وفي الغرفة الأخرى ينام والدي ووالدتي وأختي الرضيعة. كان بيتنا يقع في الحي الوسطي، شارع دجلة رقم الدار /198/ بالقرب من الدكتور البلغاري وثانوية القادسية للبنات على مسافة قصيرة من الحمام وحارة اليهود.
بعد ثلاثة أيام دبر لي والدي مقعداً في ثانوية عربستان التي تقع على مسافة خمسين متراً من مقر الأمن السياسي، المكان الذي اعتقلت فيه. كانت المدرسة بعيدة جداً عن البيت، والدوام يبدأ في الساعة الثانية عشرة ظهراً، وعدد الحصص خمس، وننصرف الساعة الخامسة وخمس دقائق. وبسرعة اندمجت بالمجتمع الجديد. تعرفت على الطلاب، سمير عروب وجمال زيدان وسمير كرم وأفرام يوسف، ويوسف يوسف وجاك جوخجي وبشير حديد وبهرم بهرم، وبهرم حسين وعبد الرحمن عبد القادر وغيرهم.
ولدينا الكثير من المعلمين دمثي الأخلاق والروح، كأفرام غريب للرسم وزيد هنيدي للاجتماعيات وعيسى موسى للرياضيات وألبير عجرم للإنكليزي، ونصار نصر وغيره.
كانت مدينة القامشلي كبيرة نسبياً، شوارعها واسعة متقاطعة أفقياً وشاقولياً، بيد أن البيوت عبارة عن أحواش عربية، بيوتها ترابية من اللبن والوحل والقش. من النادر أن يرى المرء بيتاً وفق الطراز الهندسي الحديث باستثناء بيوت المزارعين القدامى كمعمار باشي وأصفر ونجار أو المحلات الكبيرة والأبنية الحكومية والمدارس.
السوق بُني من قبل الفرنسيين سواء القريب من الحارة الوسطى أو بالقرب من الجامع الكبير. هناك سوق للخضار وسوق للحم الغنم وسوق للحم العجل، وسوق للدواجن، الدراجات الآلية، الدراجات العادية. سوق للخياطين ولبيع الأقمشة وللصناعة، سوق لبيع الحمام، والذهب.
الحارة الوسطى يتمركز فيها عدد كبير من السريان والأرمن، وحارة قدور بك يتمركز فيها الكثير من الكرد والآشوريين. وحارة البشيرية يتمركز فيها الكثير من الأرمن الذين يتحدثون باللغة الكردية وزنود للعرب. وحارة اليهود المتمركزة في سوق الذهب في الحارة الوسطى. وهناك المحلمية في حي قناة السويس وغيرهم، بيد أن الجميع يتواصلون باللغة العربية. والكثير يتكلم اللغة الكردية بطلاقة تامة. والكثير من السريان يتكلمون لغتهم، والأرمن كذلك والآشوريون وغيرهم.
كانت العلاقات قائمة وفق نسيج اجتماعي ذي طابع ريفي. لم يكن بين الناس حواجز أو انقسام والعلاقات بين الناس مفتوحة على بعضها. ففي الصف الواحد في المدرسة يجلس الكردي بجانب العربي أو السرياني أو الأرمني أو غيره.
ولم تكن القومية أو الانتماء الديني عائقاً بين الناس. والسلطة ككيان متمركز حول ذاته وحد الهم الاجتماعي في هم واحد هو الغول المعيشي والإنساني والوطني والاجتماعي.
ففي ثانوية عربستان الجميلة التقيت بأصدقاء قمم إنسانية، هدية من الله، دفء من السماء والجمال. انفراج الأقدار على الفضاء. لون الحلم بالحلم ووضعه لي على رصيف الحياة لأبدأ خطوتي الأولى في جذر الرؤى والروية. وتشعب الطريق وانفتاحه على واسع.
كان سمير عروب نبيهاً لامع الذكاء جميلاً وراقياً، أصله من مدينة حمص، والده من كوادر الاتحاد الاشتراكي محباً للقراءة والعلم. وسلوك سمير الراقي ترك أثره بيننا. وجمال زيدان، والده من كوادر حزب البعث، من مؤسسيه كان له مكانته في الدولة والمجتمع في فترة بداية العام 1971. أذكر كيف كان المعلمون والموجهون يسألون عن والده كثيراً. ويكنّون له عميق الاحترام. وسمير كرم، أصله من حمص، ذلك الطفل، الإنسان المنفتح بلباقة على الآخر. وكان عريفاً للصف، وغنياً، ومنتمياً مثلي إلى اتحاد الشباب الديمقراطي. وعبد الرحمن الشاب الكردي الشيوعي الرقيق والطيب وصاحب الابتسامة الدائمة. علاقتي بهؤلاء الأطفال لونت حياتي.
أخذت رواية «سقوط باريس» لإيليا إيرنبورغ من سمير عروب، و»البؤساء» من ملك يوسف. وراح عقلي ينفتح على الحياة والآخر. قرأت الأساطير وولعت بها جداً، خاصة الرومانية. ورواية بائعة الخبز.
وفي الصيف قرأت رواية «الأم» لمكسيم غوركي. عبر هذه الرواية أحسست بالأدلجة. وكأن آلة ركبت فوق دماغي ومضى يوجه طريقي. هذه الرواية تفرض نفسها بقوة على الإنسان وتقزم شخصيته لتحوله إلى نسخة، صورة نمطية من شخصية بافل. لقد قرأت هذا العمل في العام 1971، بيد أني ما زلت أتذكرها بقوة. وهي حاضرة في ذهني بقوة. وربما احتجت إلى نضال كثيف ومعمق حتى أتخلص من هذه الشخصية التي اسمها بافل، المناضل المؤدلج المسخر لتنفيذ غاية، هدف سامٍ. الرجل المناضل الذي نسي نفسه على إنه إنسان. نسي الحب والإنسان وأحب الحزب فوق حبه للطبيعة وكائناتها وإنسانها. ومضى يمشي في طريقه كأنه آلة مبرمجة، موجه بأهداف سامية. ومنزوع الغرائز والحاجات الإنسانية.
أقضي وقتي في حارة سمير عروب وجمال زيدان وسمير كرم. كانوا جيراناً. بيتهم على مسافة قصيرة من الملعب البلدي، بجانب شركة كاتربيلار. ومن هذه الحارة إلى امتداد ضيعة حلكو كانت الأرض فارغة تماماً. أرض بور. تزرع بالمزروعات الشتوية البعلية كالقمح والشعير. ومن شارع القوتلي إلى حلكو. كان هناك ثانوية العروبة والملعب البلدي وقبور السريان الكاثوليك إلى حلكو فارغة تماماً.
وكان بيننا في الصف السابع الكثير من الأطفال المتزوجين، ولديهم أطفال. ذهلت عندما سأل المعلم أحمد سليمان:
ـ هل أنت متزوج؟
ـ نعم يا أستاذ. أنا متزوج.
ـ هل لديك أطفال؟
ـ لدي طفل واحد.
ويدون المدرس اسم الطالب ووضعه العائلي وكأنه حدث عادي.
كان «قدور بك» هو أساس مدينة القامشلي. منه خرجت بقية الأحياء. أول من سكن فيه هم اليهود، ثم فقراء الأرمن القادمين من الاناضول. جاؤوا كبقايا بشر. سنحت لهم الاقدار أن يصلوا إليها. كانوا صورة لقدرة الزمن على النزوح إلى هم البقاء. استغفلوا الجلاد المغمور بالدم ورائحته وهيجانه، وعمائه، عدم قدرته اللحظية في التمييز بين المقتول الأن وفي الزمن الآتي. وكانوا أول من خرج منها. إن فقراء الأرمن تركوا قدور بك وهاجروا اختيارياً إلى أرمينيا في العام 1964 و1965 و1966 وانتقل من تبقى منهم إلى الحارة الوسطى بعد أن اشتروا الكثير من الأراضي العامرة بالكروم. وهناك سكنوا.
لقد أحببت مدينة القامشلي بأحيائها الجميلة وبساطة الناس. مدينة أقرب إلى الريف. تجلس العائلات أمام الباب الرئيسي المطل على الشارع. ويفصفصوا البزر أو يتحادثوا مع بعضهم، نساء ورجال. وبجوارهم أولادهم يلعبون الكرة أو الكلل أو البرامات أو قصاصات أفلام السينما الصغيرة المرمية في الشارع.
في القامشلي تحررت من سطوة أمي ورقابتها لي. وطلباتها التي لم تتوقف في مدينة رأس العين:
ـ اذهب إلى السوق وأجلب لنا بندورة وخيار ولحمة وخبز. وبعد أن أعود.
ـ اذهب إلى السوق واجلب لي زراق غسيل رأس بقرة.
ـ لا يوجد زراق رأس بقرة. من أين أشتريه؟
ـ يوجد في السوق. دور كويس.
ـ لكني بحثت في كل مكان. في جميع المحلات والدكاكين.
ـ لم تبحث بشكل جيد. لا تعد إلى البيت إن لم تجلب معك رأس بقرة. وفي طريقك اجلب لي برش الغسيل وتايت سار. ولا تنسَ اللبن. خذ معك الإبريق حتى تملأه.
ـ لقد تعبت من الذهاب والإياب اليوم. مرات كثيرة ذهبت إلى السوق اليوم.
ـ ليش شو عمل تعمل؟ اذهب بسرعة. دست الغلي فوق البابور. عصا الغلي في يدي. أنت تعرف ماذا سأفعل بك. عليك أن تعود بسرعة ومعك الحاجات التي ذكرتها. ولا تعود دونهم.
أمشي مطرق الرأس. من أين سأجلب لها زراق رأس بقرة لتبييض الثياب أثناء الغلي.
وفي طريق عودتي أجلب لها زراق رأس حمار.
ـ رجعه. رأس الحمار لا ينفع. اذهب بسرعة وإلا؟ ونحتاج إلى بندورة جيدة. كبيرة، ناضجة. ولبن غنم. إخوتك جياع، دبر خبز مهما كلف الأمر.
أذهب مشياً على الأقدام كل يوم عدة مرات، أقطع خلاله هذه المسافة، بضع كيلومترات لجلب حاجيات البيت لإطعام البيت. وعليّ أن ألعب كرة القدم وأذهب إلى المدرسة وأدرس.
القامشلي مدينة ريفية مكتملة تماماً. الخضار على العربات تمر من جانب البيت. كل شيء مؤمن. عربة تذهب وعربة تعود. وأصوات الباعة يهز السماء والأرض.
تشتري والدتي كل شيء من ربطة النعنع والبقدونس إلى التفاح أو العنب أو الخيار. والبيض واللبن والجبن والدجاج والديك الحبش. والدكان أو اللحام على مسافة بضع عشرات من الأمتار. حتى الكلل أو البرامات أو الخبز على مسافة قصيرة. باختصار كل شيء في متناول اليد. حتى الخياطين لديهم دكاكين في الحارات.
أذكر في ذلك الوقت رجلاً كردياً يبيع البيض في سلة. ويبدو أنه لم يكن يعرف التحدث باللغة العربية كان يصيح أثناء المشي:
ـ للبيض بيض للبيض بيض.
كنا نضحك ونمشي وراءه ونقول له:
ـ ليش البيض للبيض يا عم. قل:
بيض.. بيض. يكفي.
ينظر إلينا باستغراب، بيد أنه لم يرد ويكمل جملته الشهيرة للبيض بيض.
في جوار بيت سمير عروب مدرسة ابتدائية كنا نتسلق أسوارها وندخل إلى الباحة، ونلعب كرة السلة يومياً تقريباً في فصل الربيع بعد خروجنا من المدرسة. أبقى لديهم إلى أن يهل الليل. أما في الصباح فإنني أخرج من البيت باكراً، معي حقيبتي المدرسة. واتجه إلى إعدادية زكي الأرسوزي المطلة على شارع القوتلي. وراء المدرسة تماماً كان لنا ملعب، نلعب كرة القدم أو نمشي قليلاً إلى الأمام. ووراء المشتل على نسق ثانوية عربستان، مكان فارغ أيضاً، نصنع لنا فيه ملعباً نلعب هناك إلى حين اقتراب موعد الدوام.
في الخريف والشتاء نخرج من المدرسة ليلاً في الساعة الخامسة والخمس دقائق. لم يكن في ثانوية عربستان إلا عدد قليل من الطلاب من الحارة الوسطى. نمشي أنا وملك يوسف كل يوم من الصباح ونعود إلى البيت في الساعة السادسة إلا ربع. نمشي في شارع الجسرين، نمتع عيوننا بمشاهد المحلات والسيارات والناس. ندخل المكتبات أو نسلم على الأصدقاء والمعارف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا