الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نِصْفَا الدماغِ: أيهما نحن؟

حكمت الحاج

2018 / 4 / 6
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


إنّ الأبحاث الجديدة التي كان العلم مجالا لها طوال السنوات العشر الأخيرة لم تعد تترك مجالا للشك في أنّ الدماغ ليس أكثر من غدّة إفرازية على غرار ما كان يقول به بعض الفلاسفة الإغريق قبل ألفي عام، وإنّ الهرمونات تتحكم بالغدة الدماغية تحكما يكاد يكون كاملا، وهي تنتقل باستمرار ما بين الجسم والدماغ ممّا يجعل الدماغ يشبه باقي أعضاء الجسد. أمّا مادة التفكير فهي ليست الكهرباء بل الهرمونات، كما وأنّ مكان التفكير ليس هو الرأس بل كامل أنحاء الجسد .
هذا هو ملخص النظرية التي وردت في كتاب نشره جراح الأعصاب الشهير الأسترالي الأصل ريتشارد بيرغلاند تحت عنوان "نسيج العقل" والذي أثار موجة من الاهتمام في الأوساط العلمية والثقافية على حد السواء، منذ أن نُشر لأول مرة قبل سنوات، وذلك لشهرة صاحبه ولمتانة الطرح العلمي لنظريته.
وثمة الآن في الدوائر الغربية عودة لتلك النظرية، ولكن هذه المرة من باب غير باب علم تشريح الأعصاب.
وهذه العودة الثقافية إن صح التعبير ليست هي الأولى ولن تكون الأخيرة في الحضارة الحديثة. كتاب "ريتشارد بيرغلاند" المعنون نسيج العقل عاش أكثر من موسم وهو الشغل الشاغل للثقافة الأمريكية حيث تعدت أهميته وفاعلية أفكاره نطاق الاختصاص الطبي الأكاديمي لتصل إلى أوساط المثقفين من غير ذوي الاختصاص وكعادة النظام الفكري الغربي فسرعان ما ستتم قراءة هذا الكتاب والنظرية الواردة فيه على أصعدة كثيرة ليس آخرها الأدب. وعلى ذكر الأدب نذكر أنّ كتابا علميا آخر لا يقل خطورة عن كتاب بيرغلاند كان هو المصدر الرئيسي الذي اعتمد عليه نقاد أدب أوروبيون ممتازون أخصّ بالذكر منهم الناقد الكبير "ديفيد بليش" المختص في مجال "نقد استقبال القارئ" وهذا الكتاب العلمي الخطير كان "بنية الثورات العلمية" من تأليف البروفيسور "توماس كوهن" (وهو مترجم إلى العربية ومن إصدارات دار الحداثة ببيروت) فيا ترى ما هي الآفاق التي تنتظر نظرية ريتشارد بيرغلاند هذه وهل ستكون لها أصداء قرائية في مجال الثقافة عموما والأدب على وجه الخصوص في عالمنا العربي؟
ولعل هذا الكتاب هو أول محاولة متكاملة تصب في الاتجاه العلمي القائل أنّ التفكير لا يحصل في الدماغ.
سوف يقودنا منطوق نظرية بيرغلاند المتضمن إزالة العقل من الدماغ وزحزحته عن مكانه الذي طالما اعتلاه كسيّد مطلق، يقودنا إلى استعراض تاريخ نشوء الدماغ البشري ثم تدهوره وانحطاطه، أي إلى مراجعة تاريخ الفكر العلمي الفلسفي والعقائدي لحوالي ألفي سنة وصولا إلى يومنا هذا. وقد يثير ذلك فينا مفاجآت كثيرة قد تصدمنا وتغير من نظرتنا إلى أنفسنا وإلى تاريخ حضارتنا على الكرة الأرضية. وهذا ما سيعمل على تبديل طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى المؤسسات الاجتماعية المعدة لاحتضان أدمغتنا وتقدمها.
من أهم الأفكار التي يناقشها بيرغلاند في كتابه هو مفهوم "نِصفـَيْ الدماغ"، ومن البداية يتفق المؤلف مع كل الذين قاموا بنقد تركيز الغرب على النصف الأيسر للدماغ وهو يرى بأنّ الحضارة الغربية بمفاهيمها قد ركزت على النصف الأيسر وأهملت النصف الأيمن الذي كان محط اهتمام الحضارات الشرقية ويضيف قائلا أنّ الحضارة الغربية ترى أنّ التفكير الصحيح هو ما يمكن التعبير عنه رياضيا وحفظه وخزنه في كمبيوتر مثلا في حين أنّ الحضارات الشرقية الصوفية الكلاّنية الشمولية تجد تعبيرا أفضل لعقائدها في النصف الأيمن للدماغ والأبحاث الجديدة التي قام بها العلماء الغربيون مؤخّرا أعادت النظر في تقويمهم للدماغ الأيمن وباتوا يعتقدون أنّ جميع الأفكار التي دفعت بالحضارة الأوروبية على الواجهة إنّما ولدت في الدماغ اليمن للإنسان وهذا واضح الآن في توجّه الغرب إلى الاهتمام بالديانات والثقافات الشرقية واعتمادهم الأساليب العلاجية الشرقية القائمة على التصوف والتأمّل وقهر الذات والسيطرة على الجسد.
إنّ بيرغلاند يؤكد على أهمية إعادة الاعتبار إلى الدماغ الأيمن للإنسان وإعطاء الدين والتأمّل والصلاة أهمية جديدة في حياة إنسان العصر الحديث.
وكل ما أخشاه أن يبادر مثقفو العرب الآن الى مباركة هذا التصور واقتطاعه من سياقه الحضاري باعتبار ان النصف الأيمن الايسر للدماغ مسؤول عن الأرقام والرياضيات والتجريب في حين ان نصف الدماغ الأيمن مسؤول عن اللغة والشعر والتصوف والإيمان.
ومنذ ما يقارب المائة عام ونحن نحاول أن نذهب في سبيل استعمال النصف الأيسر للدماغ، فقد رزحنا قرونا وقرونا تحت نير النصف الأيمن له، وأن نذهب في سبيل العلوم البحتة والرياضيات والصناعة وفهم الكون والحياة، وأن نتعلم التحليل بدلا من التركيب، وان ندرك سببية العالم ومسبباته، ها نحن أمام خشية أن يتلقف هذه النظرية وتطبيقاتها في غير المجال الطبي بعض من متنفذي الثقافة والتربية والإعلام في عالمنا العربي ليقول لنا أن نسعد بالبقاء في ما نحن كنا عليه، وهكذا ربما جاء من سيعيد لنا قصة المأمون الخليفة العباسي والترجمة وبيت الحكمة وقرون من جهود الترجمة الى العربية كان رائزها دائما هو مواءمة المترجَمِ من لغات تلك العصور الغابرة الى العربية أن تكون موافقة للشرع والنظام العام.
مرحبا بالنصف الأيمن للدماغ فنحن نعرفه جيدا ولا بضاعة لنا سوى الكلام والشعر العنتري والعواطف السائحة والتصوف الذي هو في حقيقته دروشة خالية من العمق، ولكن هل مطلوب منا أن نبقى فيه أو أن نعود اليه في ثياب جديدة دون أن نمر ولو من باب الخطأ الى النصف الأيسر ونتمرغ في تراب العلوم والأرقام والرياضيات؟
كم تكون ضاعت أدمغتنا في المسافة بين نصفي الدماغ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تفرض عقوبات جديدة على طهران بعد الهجوم الإيراني الأخي


.. مصادر : إسرائيل نفذت ضربة محدودة في إيران |#عاجل




.. مسؤول أمريكي للجزيرة : نحن على علم بأنباء عن توجيه إسرائيل ض


.. شركة المطارات والملاحة الجوية الإيرانية: تعليق الرحلات الجوي




.. التلفزيون الإيراني: الدفاع الجوي يستهدف عدة مسيرات مجهولة في