الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منظمات المجتمع المدني ودورها في بناء السلام باليمن

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2018 / 4 / 9
المجتمع المدني


منظمات المجتمع المدني ودورها في بناء السلام باليمن


تمهيد
يأتي مشروع بحثنا لمنظمات المجتمع المدني ودورها في بناء السلام باليمن في سياق الجهود الدولية والمحلية الرامية لحل النزعات وبناء السلام في هذه البلاد التي اثخنتها الحروب والنزاعات بما يدعم الاستقرار الاجتماعي عبر تعزيز آليات منع النزاعات العنيفة وتسويتها وتمهيد الأرضية المناسبة لأجراء حوار شامل بين اليمنيين، بما يؤمن فرصة الوصول الى تسوية سياسية ممكنة للأزمة السياسية اليمنية الراهنة. وذلك من خلال فهم الموارد والقدرات التي يمتلكها المجتمع المدني والبحث في كيفية تفعيلها وتنميتها وتوظيفها في خدمة الهدف العام لبناء السلام المأمول.
إذ تعد منظمات المجتمع المدني من المكونات الأساسية للمجتمع اليمني، بوصفها تضم شرائح واسعة من الفاعليين الاجتماعيين الذين يضطلعون بوظائف وادوار حيوية في التنمية الاجتماعية، وقد شهدت الدوائر الأكاديمية والسياسية والإعلامية في غضون السنوات القليلة الماضية تزايد الاهتمام بالمجتمع المدني والاعتراف المضطرد بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه منظماته المتنوعة في مجتمعاتها المتعينة ومنها: منع نشوب النزاعات أو المساعدة في تسويتها حال نشوبها والاسهام في بناء السلام في المجتمعات التي شهدت نزاعات حادة، كما بينت تجارب البلدان التي شهدت حروبا ونزاعات عنيفة كالبوسنة والهرسك وما مارسته منظمات المجتمع المدني من أدوار في بناء السلام بعد الحرب. هذا هو ما أقرته مختلف تقارير الأمم المتحدة وإعلاناتها بما في ذلك تقارير مجلس الأمن الدولي والمنظمات العاملة في حل النزاعات وبناء السلام حول العالم. وقد تنوعت أدوار منظمات المجتمع المدني في حل النزاعات وبناء السلام اثناء الحروب وبعدها من ذلك: مبادرات الوساطة الشعبية والنخبة الفاعلة بالتفاوض والدعوة للحوار بين أطراف النزاع والإغاثة والتنمية التقليدية وممارسة الضغوط المدنية على الحكومات في سبيل التنمية.
وفي مشروعنا سوف نحاول التعرف عن واقع منظمات المجتمع المدني في اليمن وطبيعة الأدوار والأنشطة التي يمكنها أن تقوم بها في بناء السلام باليمن؟ وماهي قدراتها الكامنة للقيام بهذه الأدوار؟ وما الإشكاليات والمعوقات التي تعيق اسهامها الفعال في بناء السلام؟ وما حدود مساهمتها ووسائل وطرق وأدوات تلك المساهمة؟

منظمات المجتمع المدني في اليمن وتجربة الحرب
أثبتت الأزمة اليمنية وما شهدته من أحداث عاصفة منذ اندلاع المواجهات العسكرية قبل ثلاث سنوات مضت، الدور الحيوي للمجتمع المدني ومنظماته الأهلية والمهنية والثقافية دورا حيويا في حفظ المجتمع من الانهيار والفوضى، إذ رغم غياب مؤسسات الدولة الرسمية (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، وتدمير البنية التحتية للخدمات وتعدد أطراف الحرب وهيمنة الجماعات المسلحة والمليشيات وانتشار السلاح بين السكان على نحو لم يشهد له تاريخ اليمن مثيل، بحيث بات معظم سكان اليمن الذكور يمتلكونه، بل وحتى النساء القادرات على حمل السلاح تم تسليحهن والزج بهن في جبهات القتال في صعدة وصنعاء ومارب وتعز. في هذه البيئة الملغمة بكل أسباب النزعات وادواتها العنفية، كان المجتمع المدني هو الحاضر الوحيد في حفظ الرمق الأخير من الحياة الاجتماعية المشتركة للناس في المدن والأرياف وفي تأمين شبكة الطرق والمواصلات الرئيسة بين المحافظات اليمنية المترامية الأطراف، إذ قام المجتمع المدني بمختلف هيئاته المتنوعة بدعم قدرات المجتمع الذاتية وتعزير شبكات الأمن والاستقرار الاجتماعية وحل النزعات الصغيرة والحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي لسكان المدن والارياف، وهو بذلك قام بدور تعويض غياب السلطات والمؤسسات الرسمية، وذلك عبر سلسلة واسعة من المبادرات والتدخلات الفاعلة في تلبية الحاجات الحيوية للناس اثناء الحرب، إذ بادر الفاعلون المدنيون منذ قبيل اندلاع المواجهات الحربية في اليمن الى تقديم مقترحات مكتوبة لحل الأزمة بالطرق السلمية وعبر الحوار والتفاهم وبناء الثقة وقامت عدد من منظمات المجتمع المدني بمساعي عدة للتوسط بين أطراف النزاع والبحث عن أرضية مشتركة لبناء السلام، وفي اثناء الحرب تزايد أدوار منظمات المجتمع المدني، في توفير السكن للنازحين واسعاف الجرحى وحفظ جثامين القتلى، ومد المحاصرين والمعوزين والنازحين بالغداء والماء والدواء مواساة اسر الضحايا، وكان الفاعلون المدنيون اليمنيون في داخل الوطن وخارجه ولا زالوا يمارسون أدوار حيوية وبالغة الأهمية في الحفاظ على الحد الممكن للتماسك والاندماج الاجتماعي لسكان اليمن الذي يقدر عددهم ب بثلاثة ملايين نسمة متذذرين في ( 133000) تجمع سكاني كبير وصغير.
وكما تمكنت منظمات المجتمع المدني في اليمن من مواجهة تحدي الحرب وتفعيل ممكناتها في ممارسات أدوار فاعلة في تسوية النزاعات الاجتماعية في المجتمعات المحلية والحفاظ على المجتمع من الانهيار في الفوضى؟ تتوقع دراستنا هذه بان منظمات المجتمع المدني يمكنها القيام بأدوار مهمة في بناء السلام باليمن، عبر ممارستها نشاطات وأدوار متنوعة منها:
• نشر الوعي حول السلام وضرورته والتعريف بمخاطر الحرب وتوعية المجتمع المحلي بضرورة التخلي عن السلاح ومخاطر حمله في الفضاء العام.
• بناء قدرات النخب السياسية والإعلامية والمجتمعية حول مهارات وقيم ومعارف التعايش والتسامح التصالح والتضامن والسلام
• التوعية بأهمية العدالة الانتقالية، ودورها في بناء السلام، والقيام بتنفيذ برامج ثقافية توعوية عن العدالة الانتقالية وأهميتها في تجاوز الماضي المأساوي وتنمية ثقافة النظر الى المستقبل والمساهمة المباشرة في عمليات العدالة الانتقالية وبرنامجها.

• المطالبة بتفعيل المؤسسات الدستورية وضمان حماية مبدأ المواطنة المتساوية. مناصرة المفاوضات الرامية لتحقيق السلام، عبر الاسهام في بناء جسور الثقة بين الأطراف المتنازعة.
• الكشف عن الجرائم والانتهاكات التي تخالف مواثيق وقوانين حقوق الإنسان وتوثيقها والتنديد بمرتكبيها ومناصرة ضحاياها.
• تعزيز قيم الإنصاف والاعتراف عبر المساواة والشراكة الوافقية العادلة. المساهمة في تحريك عجلة التغيرات السياسية بتعزيز ثقافة الحكم الرشيد ومحاربة الفساد. نشر الوعي المنهجي في المجتمع المحلي بالحقوق الخاص بالنساء والأطفال وذوي الحاجات الخاصة وتعزيز دور المرأة والشباب في صناعة المستقبل. تعزيز ونشر ثقافة الحوار البناء بين مختلف شرائح المجتمع، القيام بمبادرات لحل الخلافات الهيكلية في المجتمعات المحلية. دعم أنشطة تحسين سبل المعيشة للأسر والأفراد.
• المساهمة في خلق وسائل إعلامية بديلة عن إعلام الحرب، وتعزيز إعلام السلام لتكون أداة لنشر ثقافة التعايش وقبول الأخر.
• . تسهيل التواصل بين الأطراف وخلق بدائل متعددة للحوار السياسي - المشاركة في المفاوضات السياسية وتيسير التوسط بين أطراف التفاوض.
• الاسهام الفعال في إيجاد "سلام عملي" على صعيد المجتمعات المحلية من خلال البحث عن أرضية مشتركة لحل النزعات وتنمية المجتمع.

فرضية البحث

تنطلق فرضيتنا من الاعتقاد بان منظمات المجتمع المدني بتنويعاتها وادواتها وعناصرها وعلاقاتها وتشبيكاها وشبكاتها الواسعة في اليمن يمكنها أن تلعب أدوارا جديرة بالقيمة والأهمية في تسوية النزاعات الناشبة وبناء السلام المأمول، بالشراكة مع الفاعلين الأخرين الحكومة والسلطات المحلية والهيئات الدولية. إذا ما تم أعادة تنظيم نشاطها وتعزيز قدراتها بالدعم والممكنات اللازمة.
منهج البحث
سوف نعتمد في بحثنا، منهجية الوصف والتتبع التاريخي في فهم الموضوع وطرائق البحث الميداني التطبيقي عبر المقابلات والاستمارات والملاحظات المباشرة للحالات الممثلة وجمع وتحليل البيانات.
الإطار المرجعي للبحث
على مدى السنوات المنصرمة حظي اليمن وأزمته المستديمة باهتمام عدد واسع من الباحثين والكتاب والمهتمين اليمنيين والعرب والأجانب الذين حاولوا التعرف عن اليمن وحياة اليمنيين من مختلف الجوانب الحياتية وقد أفضى هذا الاهتمام عن سلسلة متنامية من الإصدارات؛ كتب وأبحاث ودراسات ومقالات فضلا عن الورش والندوات والمؤتمرات المكرسة لليمن ومشكلاته، التي تشكل اليوم إطار مرجعي للبحث والدراسة نذكر منها لوسين تامينيان ، اليمن كما يراه الآخر، المعهد اليمني الأمريكي ، صنعاء ، وكتاب اليمن المعاصر لمجموعة من الباحثين ترجمة، علي محمد زيد، وكتاب، الثورة اليمنية الخلفية والآفاق، مجموعة من الباحثين ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، تحرير فؤاد الصلاحي بيروت ط1 أكتوبر2012م فاروق عثمان أباظة ، الحكم العثماني في اليمن 1872-1918، المكتبة العربية ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 19861.محمد عبد السلام ، الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي( القاهرة : شركة الأمل للطباعة والنشر، 1988). محمود علي محسن السالمي، محاولات توحيد اليمن بعد خروج العثمانيين 1635-1685م وكتاب اتحاد الجنوب العربي ، خلفيات وابعاد محاولات توحيد امارات الجنوب العربي وفشلها( دار الوفاق للطباعة والنشر 2015) ط1. عبد الملك المقرمي ، التاريخ الاجتماعي للثورة اليمنية : رؤية سوسيولوجية لتحول بناء القوة ( بيروت: دار الفكر المعاصر، 1991).محمد علي الشهاري ،اليمن، الثورة في الجنوب والانتكاسة في الشمال( بيروت: دار ابن خلدون، 1972). : سيد مصطفى سالم ، مراحل العلاقات اليمنية – السعودية ( القاهرة : مكتبة مدبولي 2003) فؤاد الصلاحي ، الدولة والمجتمع المدني في اليمن ( تعز: مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان، 2011)ط1.قادري أحمد حيدر، اليمن في تحولات السياسة والواقع: قراءة نقدية في علاقة الدين بالسياسة والسلطة والمجتمع ( بيروت : 2011) . مايكل هدسون-بول دريش ، حرب اليمن 1994:الاسباب و النتائج ( ابو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 1994). كتاب اليمن الثورة والحرب من تأليف ادجار اوبالاس ترجمه الى اللغة العربية الدكتور عبد الخالق محمد لاشيد هذا فضلا عن الوثائق والأدبيات الرسمية وتقارير مجموعة الأزمات الدولية ، ومجلس الأمن الدولي عن اليمن . عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي كتاب سياسي ( بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية (2007- و الدين والعلمانية في سياق تاريخيّ -الجزء الأول ( بيروت : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ،أكتوبر 2013) في الثورة والقابلية للثورة ، بيروت : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، والمجتمع المدني : دراسة نقدية . محمد عابد الجابري ، نقد العقل السياسي العربي، جوزيف شاخت وآخرون , تراث الإسلام ج2 , حسين مؤنس( مترجم) فؤاد زكريا ( مراجع ) عدد 234 الكويت: المجلس الوطني للثقافة يونيو/ حزيران1998 ويل كيمليكا، أوديسا التعددية الثقافية: سبر السياسات الدولية في التنوع ، إمام عبدالفتاح إمام (مترجم)،ج 2، سلسلة عالم المعرفة 378 (الكويت :المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, حزيران/ يوليو 2011تزفيتان تودوروف, الحياة المشتركة: بحث أنثروبولوجي عام، منذر عياشي, (مترجم)، ( أبو ظبي _ بيروت _ الدار البيضاء كلمة والمركز الثقافي العربي2009برتراند باداي , الدولة والمجتمع في الغرب والإسلام , نخلة فيرفر ( مترجم ) (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي 1996) وكتاب الدولة المستوردة جان فرانسوا بايار، أوهام الهوية ، حليم طوماس, (مترجم) ( القاهرة : دار العالم الثالث 1998 ط1).أمين معروف، الهويات القاتلة، نبيل محسن (مترجم) (دمشق: دار ورد للطباعة ط،1999).كلود دوبار، أزمة الهويات، مجلة إضافات المجلة العربية لعلم الاجتماع7، (بيروت: الجمعية العربية لعلم الاجتماع ، رئيس تحريرها ، ساري حنفي، صيف 2009).ماكيل كرانغ، الجغرافيا الثقافية: أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية، سعيد منتاف, ( مترجم) سلسلة عالم المعرفة 317 (الكويت:المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, تموز/ يوليو 2005 ). روجيس دوبريه، نقد العقل السياسي, عفيف دمشقية،( مترجم), (بيروت: دار الآداب, 1986ط1) جورج بالاندية, الأنثروبولوجيا السياسية, مركز الانماء القومي, بيروت, 1985 وغير ذلك من الكتب والدراسات المتوفرة . فضلا عن الكتب والدراسات المتصلة بالمجتمع المدني وبناء السلام ومنها: مارتينا فيشر، المجتمع المدني ومعالجة النزاعات: التجاذبات والامكانيات والتحديات. طوني بينيت، مفاتيح اصطلاحية جديدة: معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع،5ابو بكر السقاف، دفاعا عن الحرية والإنسان، منصور هايل، دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية وغير ذلك من مراجع نظرية.
محاور البحث
أولا: تحديد المفاهيم وتعريفها (مجتمع المدني، منظمات، أدوار، بناء السلام).
ثانيا: واقع حال منظمات المجتمع المدني في اليمن وممكناتها.
- وضعها القانوني، عددها، أنواعها، نشاطاتها.
- أدوار منظمات المجتمع المدني وخبراتها.
- نماذج من نجاحات واخفاقات منظمات المجتمع المدني

ثالثا: منظمات المجتمع المدني وقدراتها في بناء السلام.
- عناصر قوتها وحدود فعلها.
- علاقاتها مع الفاعلين الاخرين ووسائل ضغطها.
- الأدوار القادرة على القيام بها.
رابعا: مشاريع منظمات المجتمع المدني في بناء السلام.
- الرهانات والتحديات
- آلياتها وأدوات تنفيذها.
- تكاليفها ومصادر تمولها.
نتائج وتوصيات.
أولا: تحديد المفاهيم وتعريفها.

مصطلح المجتمع المدني تحولات المفهوم وسياقات المعنى
ربما كان علينا الحذر حينما نقارب مفهوم المجتمع المدني في سياقنا الثقافي العربي الإسلامي، لاسيما ونحن نعلم انه مفهوماً ولد ونشاء وازدهر واكتسب معانيه المتداولة في الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، والأمر كذلك يصعب الاكتفاء برصد التعريفات المعجمية لمفهوم المجتمع المدني كما عرفته الموسوعة الحرة "هو كل أنواع الأنشطة التطوعية التي تنظمها الجماعة حول مصالح وقيم وأهداف مشتركة. وتشمل هذه الأنشطة المتنوعة الغاية التي ينخرط فيها المجتمع المدني تقديم الخدمات، أو دعم التعليم المستقل، أو التأثير على السياسات العامة"( ) أو وصفه ب"مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات كالتنظيمات المهنية والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، ، ومؤسسات العمل ..الخ, بل نعتقد بان المجتمع المدني هو اكبر من هذا بكثير, وهذا ما يدفع إلى البحث في تحولات المفهوم وسياقات المعنى( ).
أن الفكرة الأساسية في مقاربة المجتمع المدني هي تلك التي تنطلق من النظر إلى المجتمع ككل بوصفه عدداً من المجالات, متناغمة مع قوى واحتياجات الذات الإنسانية الاجتماعية؛ قوة الحب والعلاقات الحميمية, في المجال الخاص, مجال الأسرة, مؤسسة القرابة التقليدية الأولى, والقوة العاقلة والعلاقات الضرورية للحياة الاجتماعية المشتركة, المجال العام, مجال السياسة والسلطة, والقوة الغريزية المتعطشة إلى الإشباع المادي, المجال الاقتصادي, وعلاقات السوق حيث المنافسة والربح والاحتكار, وقوى الموهبة والاهتمام, حيث يجد الإفراد فرص التعبير عن مقدراتهم وتطلعاتهم ومواهبهم واهتماماتهم الحرة, مجال العلاقات المهنية والحرفية الإبداعية وغير الإبداعية, المجال المدني, حيث تختفي علاقات القرابة الحميمية, وعلاقات السياسة التسلطية, وعلاقات السوق التنافسية الربحية, هنا يمكن لنا التعرف عن المجتمع المدني في الرحم الحي لتخصيبه, ولكن هل يمكن للمجتمع المدني أن يتخصب وينمو ويولد ويزدهر من ذاته ولذاته وبدون قوى وشروط فاعلة؟ وبالنظر إلى المسار التاريخ للمجتمع المدني المفهوم والسياق، يمكن لنا الجواب على هذا السؤال بالنفي، ليس بمقدور المجتمع المدني أن يولد وينمو ويزدهر بدون وجود قوة تحميه أو تبيح له فرصة الوجود الفاعل والديمومة، وهذا هو ما يقوله لنا جون أهرنبرغ, في كتابه المهم, المجتمع المدني: التاريخ النقدي للفكرة, الذي تتبع صيرورة المفهوم منذ أفلاطون وحتى هابرمانس.
في الحقيقة لم يظهر المجتمع المدني بشكله الأنضج إلا بعد استقلال المجال السياسي عن المجال الديني وهذا هو أهم منجزات العلمانية الحديثة في العهد الليبرالي إذ رأت النظريات الليبرالية أن المجتمع المدني يستلزم نظاماً قانونياً يدافع عن حقوق الملكية الخاصة والروابط المهنية ... فما يجعل من مجتمع ما مجتمعاً (( مدنياً)) هو أنه الموضع الذي ينظم فيه الناس أنفسهم بحرية في جماعات وروابط أصغر أو أكبر في مستويات متنوعة بغية الضغط على الهيئات الرسمية لسلطة الدولة من أجل تبني سياسات منسجمة مع مصالحها"_ يقصد تلك الجماعات المدنية( ) ويبين رتشارد سينيت في كتابه المهم( سقوط الإنسان العام ) الفروق الدقيقة بين المجال العمومي ومجال الحياة العامة (المجتمع المدني) والمجال الشخصي , فالمجتمع المدني هو مجتمع الغرباء, إذ أن المجتمع الحميمي يجعل الحياة المدنية أمراً مستحيلاً. فالناس لا يستطيعون تطوير علاقاتهم مع الآخرين إذا عدوها غير مهمة لكونها علاقات لا شخصية. والمجتمع الحميم على عكس تأكيدات أصحابه , هو مجتمع فظ؛ لان الحياة المدنية ( هي النشاط الذي يحمي الناس من بعضهم بعضاً, ويتيح لهم مع ذلك أن يتمتعوا برفقة الآخر) فالعيش مع الناس لا يستلزم ( معرفتهم) ولا يستلزم التأكد من أنهم ( يعرفونك) ... والحياة المدنية تنوجد عندما لا يجعل المرء من نفسه عبأ على الآخرين" ( )
على هذا النحو النظري العام يمكن لنا استخلاص: أن المجتمع المدني بوصفه مجالاً للحياة العامة المستقلة عن مجالات الحياة الأخرى، مجال السياسية ومجال القرابة ومجال الاقتصاد، ومجال الدين لا يمكن له أن ينمو ويزدهر ألا في ظل وجود دولة المؤسسات المنظمة بالدستور والقانون.
أما على صعيد السياق المحلي فنحن نعني بمصطلح (منظمات المجتمع المدني) الفاعلون غير الحكوميين بكل تنوعاتهم بالتوافق مع الخصائص اليمنية والشركاء والاقتصاديين والاجتماعيين ومنهم منظمات اتحادات التجارة والقاع الخاص، والاتحادات المهنية والنقابية والإبداعية والحقوقية والأحزاب وجمعيات النساء والطلاب والمبادرات الخيرية لرجال الدين والنخب الاجتماعية بوصفهما جماعات غير ربحية
غير أن ما يعنيننا لأغراض هذا البحث هو تحديد ووصف المجتمع المدني في المجتمع اليمني العربي الإسلامي، في الواقع لازال المفهوم بالنسبة لنا ينطوي على الكثير من اللبس والغموض، بحكم حداثته في أفقنا الثقافي التقليدي وتداخل مجالات الحياة المركب في بنية المجتمع العربي، إذ لا توجد مجالات مستقلة بقواعد لعبتها الخاصة. كما هو الحال في المجتمعات الديمقراطية الغربية. غير أن عدم وضوح مفهوم المجتمع المدني لا يعني عدم وجوده الواقعي. بل يمكننا التأكيد
بان الحرب الراهنة أكدت بما لا يدع مجالا للشك، بان المجتمع المدني في اليمن _ وربما كانت حالة فريدة_ يمكن تشبيهه بالدولة العميقة من حيث قوة رسوخه وحضوره وفاعليته في الحفاظ على المجتمع من السقوط في الفوضى الشاملة بعد انهيار الدولة كما هو حال الكثير من البلدان الأخرى.
ونقصد بالمجتمع المدني هنا، مجموع الطيف الواسع وغير المتجانس من الفاعلين الاجتماعيين (هيئات ومنظمات ومؤسسات واشخاص وقيم وعادات وتقاليد اجتماعية وثقافية ودينية وأخلاقية وإعلامية وإبداعية تقليدية وحديثة) ليست رسمية أو حكومية.
وإذا كانت روابط القرابة التقليدية المتمثلة بالعائلات والعشائر والقبائل والقرى والعزل تعد لحمة وسدى المجتمع اليمني التقليدي غير الرسمية في العهود الماضية، فقد شهد اليمن زيادة في عدد منظمات المجتمع المدني الحديثة الطابع في السنوات الأخيرة، حيث تظهر الأرقام نمواً سريعاً. فيوجد حالياً أكثر من 8300 منظمة وجمعية للنوع الاجتماعي، نحو ربعها نشأ بعد بدء الفترة الانتقالية في اليمن عام 2011، فضلاً عن عدد كبير من المنظمات والشبكات غير الرسمية. ويعكس نشاط هذه المنظمات تقليداً طويلاً من التضامن المجتمعي في اليمن، وعلى مدى سنوات الحرب الثلاثة الماضية برزت مبادرات وفعاليات واسعة للمجتمع المدني واضطلعت بأدوار حيوية في تعويض غياب مؤسسات الدولة الرسمية إذ كان لها دورا فعالا في تعبئة الشباب والمتطوعين داخل المجتمع المحلي. وهذا من أكثر الموارد غير المستغلة في اليمن، ما يخلق فرصة فريدة للحكومة لبناء شراكات مبتكرة في مجال التنمية وقنوات ليُعبّر المواطنون من خلالها عن آرائهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أربك الشرطة بقنابل وهمية.. اعتقال مقتحم القنصلية الإيرانية ب


.. ما الذي يحول دون العضوية الكاملة لدولة فلسطينية في الأمم الم




.. طلاب الجامعة الأمريكية في القاهرة يتظاهرون بأسلوبهم لدعم غزة


.. إعلام فرنسي: اعتقال مقتحم القنصلية الإيرانية في باريس




.. إعلام فرنسي: اعتقال الرجل المتحصن داخل القنصلية الإيرانية في