الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الرحمن منيف.. روائي الصحارى المتخيلة

حسين الهنداوي

2018 / 4 / 19
الادب والفن



غير الذي يعرفه الرائح والغادي عنه من توزع وتنوع وحنين خفي الى مرابع البداية. وغير انه ولد لأبٍ من نجد وأم عراقية ومسقط رأس اردني واقامة مصرية فسورية فلبنانية وحتى يوغسلافية وفرنسية قبل ان يرجع الى ديار الصبا من جديد. وغير انه درس الحقوق ولم يكملها وتخصص في اقتصاديات النفط ولم يمارسها واشتغل في الصحافة ولم يحبها، وغير انه تبعثن وتقومن وتمركس وتأنسن دون ان يغمض له على كسرة منها جفن. فان عبد الرحمن منيف ظل في اعماقه الصافية وفيا لقيم وروح صحراء محض عراقية- نجدية، ظلت حاضرة وطرية بين عينيه باحلامها واوهامها حتى لحظة رحيله المبكر في مطلع 2004 وبعيد بلوغه السبعين بالكاد.

فالصحراء، عندما تكون بأشجار وطيب وخرائط ومتخيلة، تكون بالرواية والبوح المديد احرى. و(الأشجار واغتيال مرزوق) كانت قد فضحت الحماس ذلك منذ 1973. بيد ان (شرق المتوسط) و(تقاسيم الليل) و(النهايات) و(سباق المسافات الطويلة) و(مدن الملح) هي في التحصيل الاخير، "رثائيات ذات" حميمة ومتعالية في آن اقرب الى، وربما استلهمت، ولو من بعيد جدا، وقطعا دون وعي، نفَسَ بعض البكائيات الجاهلية، العمروكلثومية خاصة، اكثر مما هي تسعى، كما توهم البعض عند الكتابة عن العمل الروائي لعبد الرحمن منيف، وربما كما توحي، الى تصفية حساب مع وعي سياسي او ايديولوجي فردي او قومي ما.

فإبن البادية هذا، ولو عن بعد، لا يفاجأ بالهزيمة ولا يغره الانتصار لانه يتوقعهما دائما ومتناوبين عادة، الا ان الكمد هو ما يغدر به وغالبا بسبب مرارة الصفاء والوفاء لا سيما اذا كانت مترعة بالتوق للتغيير منذ الصبا.

وفي هذا يتفوق فن منيف وفكره على مثيله لدى معظم الروائيين العرب وقطعا على الطيب صالح او حنا مينه وحيدر حيدر من حيث ان "الاستحضار"، ولنقل النظري، لا يتم واعيا او اصطناعيا في الموضوع الا نادرا، انما يأتي تلقائيا فيما يتركز الاستحضار على شروط لحظة الكتابة ذاتها التي تعتقد أن مادتها ليست متواطئة مع الواقع التاريخي او الاجتماعي او السياسي او ما شابه رغم انها تداهنه او تلويه احيانا حسب مستوى قوة العادة لحظتئذ. من هنا التنازل الطوعي في النص عن اي سلطة بما فيها سلطة السرد والرثاء: ليس هناك استراحة او نياشين او شعارات للمحارب لأن ليس هناك محارب اصلا، انما كل شيء يأتي لوحده ليمثل نفسه وليجدد أداة تطهير الروح من نزواتها الطارئة وهكذا عند شروق شمس كل يوم.

وهنا تكمن اسباب القطيعة مع المجموع الاول القبيلة او الصحراء او الامة كما يكمن سر الحنين اليها، اللواذ بها بالاحرى: كل شيء مجرد الى اقصى حد بما فيه الكتابة ذاتها.

لكن عبد الرحمن منيف لا يكتب نصا صحراويا او نصا للصحراء كما لا يكتب نصا قوميا انما نصا كونيا معتمدا على الصوت الواحد وبلا تعقيدات سردية وبروح وفضاءات صحراء ارض السواد العربية وحدها، صحراء النفط والبراءة وتمجيد الذات والقمع والتحولات والمقاومة والكرم والقسوة ومتعب الهذال والقرن العشرين. وهي فضاءات وروح يكاد يكون قد ورثها فطريا واكاد اقول ابديا كما تؤكده نشأة وسيرة ونجاحات وخيبات هذا الروائي المولود لأب من قرية قصيباء، من أعمال القصيم في وسط نجد السعودية، هاجر منها اولا ضمن إحدى القوافل البدوية الى بلاد الشام، ثم ارجعه الحنين اليها، ثم هجرها ثم وبعد رحيل متكرر بين نجد والشام، استقر ابراهيم المنيف في الاردن، فولد له فيها آخر أبنائه الذكور (عبد الرحمن) في العام 1933، وبعد ثلاث سنوات توفي الأب ونشأ الابن في المدن.

وكإبن صحراء بالوراثة، والصحراء امٌّ طاردة، لا ينضب خيال الروائي منيف عندما يهجرها انما ترافقه كظله البعيد اينما حل وهو يبتكر لها المواقع والهيئات ليدسها في حله وترحاله. فهي مع سجناء الضمير ومع تناقض الحرية-القومية، وحتى عندما تنأى عنه تماما، فان تاريخها هو ما يعود له كما في "ارض السواد"، كتابه الاخير الذي اراد له ان يكون ما يمكن اعتباره تاريخ العراق في القرن العشرين. بيد ان التجريد، الثروة العظمى للروائي الموروثة من تلك الام، تتحول مع تنائيها الى ادغال وهذا ما بدا واضحا في اعمال منيف بعد "مدن الملح" التي تظل درة اعماله.

فالتاريخ، كما قال منيف نفسه مرة، حالة منجزة اغلب الأحيان، وبالتالي فان الاقتراب منه بمقدار ما يبدو سهلا، فإنه شديد الصعوبة، لأن مهمة الروائي يجب ان تتساوق مع الروح الكامنة في هذا التاريخ، وليس اعادة انتاجه، على حساب هذه الفسحة من الخيال، او عبر خلق الشخصيات التي لم يكن لها وجود تاريخي، والتي تعطي ملامح عن التاريخ الحقيقي الذي وقع.

ومهما يكن الامر، وكجبرا ابراهيم جبرا شريكه في كتابة "عالم بلا خرائط" وفي روح "أرض السواد" ربما، والوافد مثله على العراق في سن متأخرة نسبيا، كان عبد الرحمن منيف روائيا عربيا كبيرا لكنه وكجبرا ايضا لم يكن مفكرا او مبشرا بنفس القدر.. فلقد كان مبدعا في قراءة التاريخ لا في كتابته لا سيما اذا كان ثريا وشائكا ومشاكسا كتاريخ ارض السواد. ومثله ايضا كان اقرب الى اديب مهجر بالنسبة لبلديه الاصليين العراق والسعودية، كما كان جبرا مع العراق وفلسطين. اذ لم يستطيعا كما يحصل دائما، رؤية الأشياء التي قد لا يستطيع رؤيتها الا المصهور بها ومنها كل ساعة وكل يوم. ووحده المستقبل ربما سيقول ما اذا كان هذا سيشكل اضافة جديدة وتكميلية في قراءة او كتابة مرحلة تاريخية معينة ام لا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق


.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع




.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر