الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خذوا كل شيء وأتركوا الوطن

علي عبد السادة

2006 / 3 / 15
كتابات ساخرة


كان الرجل هادئاً، يتمسك بمقود سيارته، بينما كنت أنظر اليه من خلف زجاج مطعم مطل على الشارع. هكذا توقف في وسط زحام باعة السمك في الكرادة، وسط بغداد، وفجر نفسه.
بعد الصراخ والعويل ومشاهدة منظر مرعب،(لا داعي للذهول .. المشهد متكرر)...بدأت أقدام الناجين تسرع نحو الضحايا، في ذلك اليوم لم يكن يقف هناك جندي أمريكي واحد، ولم يكن باعة السمك يعملون في قاعدة أمريكية.
لأحمي نفسي من "الكأبة" ومصاحبة"نوبات القلق" اليومية، قاطعت أهل التلفاز والمذياع.. لقد تحولت ذاكرتي الى مجموعة من الاحصاءات: عدد الشهداء والجرحى، عدد الناجين والذين اصابتهم خطرة، عدد الاطفال والنساء والشيوخ من الضحايا، لقد تحولت ذاكرتي الى أرشيف لصور الضحايا والمفخخات، وأعتدت ان لا اسمع سوى اخبار تعزز هذا الارشيف.
الجزع ونفاد الصبر وضيق الصدر وضياع الامل، اجبرني على مصالحة المذيع مجددا، كان يتحدث عن اناس أختلفوا حول مكان مفاوضاتهم، مشاوراتهم (كما يحلو لهم تسميتها) لاجل تشكيل "حكومة".
المذيع مستمر: "ارتفع سعر البنزين.. وزارة الكهرباء تحتاج الى... مليار دولار لـ... عوائل تعرضت للتهجير وتركت منازلها".
المذيع.. يذكرنا مرة اخرى بأن "الساسة" مازالو "يتشاورون".
بينما كنا ننتظر "التشاور" وبينما كان الكادحون والعمال والعاطلون عن العمل وتلك النسوة اللواتي اثقلت "انابيب الغاز الفارغة" ظهورهن، وبينما كنت، انا، ارسم مستقبلاً وردياً لبلدي، وبينما كانت مدينة الثورة (مدينة الصدر) في طريقها الى السكون قبل رحيل الشمس. أنقضت على المدينة سيارات الموت. كان اخر الكلمات التي أطلقها الواقفون بالقرب من مطعم " هلي" لا تتعلق بشيء مهم، كانوا يتحدثون عن أسعار الوقود، وزحمة الشوارع، وربما كانوا مسرعين الى البائع المتجول في سوق "الكيارة" الذي يبيع بضاعته بسعر أقل، فالوقت متأخر..
هكذا سكنت تلك الكلمات صدور أصحابها، عندما تناثرت أشلاء الضحايا على جدران المحلات والمنازل. هكذا خضبت دماء الفقراء ارض المدينة المتشحة بالسواد. واحتقنت، كعادتها، عيون الثكالى وأفئدة الاطفال اليتامى.
في ذلك المكان، قرب مطعم هلي، وقبل دقائق من الحادث، ماذا لو سالنا الضحايا قبل رحيلهم؟، كنا سنتوقع الاجابات:" محمد : عائد الى المنزل، كنت في العمل"، "أم علي: أنهكها طابور محطة الغاز"، "الحاج ابو حسين: لم يجد دواء في المستوصف". لم يكن هناك أي مظهر من مظاهرالاحتلال، لم يكن هناك سوى أولئك المساكين.
وفي ذلك المكان، قرب مطعم هلي، وبعد ساعات من الحادث، ماذا لو سالنا أنفسنا ماذا علينا فعله، وارواح الشهداء مازالت تحوم في المكان ودماءهم مازالت تختلط برائحة عرق الكادحين، ودخان المفخخة مازال يختلط برائحة دخان النفايات، فالبلدية لم تات منذ زمن طويل.
ربما علينا الاجابة، الان، بكل جدية، بل حتما علينا اللجوء الى الوطن، ذلك الضائع، الذي نريده خاليا من اللثام الاسود والبندقية المشؤومة، حتماً علينا ترك المساومة في هذا الوقت الحرج، فمعنى أن يشارك الجميع في حكومه وحدة حقيقة، اننا انتصرنا لاولئك الشهداء. وخلاف ذلك، سادتي، يعني بالنسبة لكل السائلين الوصول الى نهاية النفق اننا سنبقى نفتش عن هوية ضائعه للوطن، بينما تنتهون من "التشاور".
سادتي... خذوا كل شيء، الكراسي والمساطب،
الدكاكين والجنابر..
واتركوا لنا الوطن..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا