الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
كارل ماركس: نبيّ رغم أنفِه
ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين
(Nagih Al-obaid)
2018 / 5 / 5
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
كارل ماركس: نبيّ رغم أنفِه
عندما وصف فريدريك إنجلز كتاب "رأس المال" مجازا بأنه "إنجيل الطبقة العاملة"، لم يكن يتصور بأن ذلك سيصبح حقيقة في يوم ما. هذا المؤَلّف الرئيسي للفيلسوف والمفكر الاقتصادي كارل ماركس تحوّل بالفعل بعد وفاته إلى ما يشبه كتاب مقدسا في عدة جوانب. لا يتنافس رأس المال مع القرآن والإنجيل من حيث عدد الطبعات والنسخ والترجمات إلى عشرات اللغات فحسب. هذا الكتاب كان أيضا في القرن العشرين بمثابة العقيدة الرسمية لنظم عديدة تحكم أكثر من ثلث البشرية ومُرشدا لعشرات الأحزاب الشيوعية في القارات الخمسة. بهذا المعنى كان "النبيّ" ماركس ندا للمسيح ومحمد وبوذا من حيث عدد الأتباع وحجم التأثير. وكما حال غالبية المسلمين والمسيحيين الذين لا يقرأون إلا نادرا القرآن والإنجيل ويجدون صعوبة في فهم الجزء الأعظم من النص المقدس، كان معظم الماركسيين أيضا يعرفون "إنجليهم" بالاسم فقط لأنه كُتب بلغة فلسفية جافة وعصية على الفهم، حتى عندما يُقرأ بلغته الألمانية الأصلية، ناهيك بالطبع عن الترجمات باللغات الأخرى.
قضى ماركس أكثر من عقدين في صياغة هذا العمل الموسوعي التي تضمن أول وأهم نقد شامل للرأسمالية. قبل أن يصدر المجلد الأول من "رأس المال" قبل مائة وخمسين عاما - في إطار مشروع صُمم أصلا لكتابة مرجع شامل في الاقتصاد السياسي من 6 مجلدات - اشتكى مؤلفِه مرارا من تأخره في إنجاز هذا "الكتاب المقرف" في إشارة إلى أن "وحي" الكُتاب لم يساعده كثيرا في معالجة المادة المعقدة. لم تنفد النسخ الألف للطبعة الأولى إلا بعد سنوات، لكن نطاق تأثيره فاق كل التوقعات. كان القرن العشرين قرن كارل ماركس بامتياز. ولا يزال تحليله الثاقب يتحدى الزمن و"شبحه" يقض مضاجع النظام الرأسمالي مع كل أزمة مالية واقتصادية تنتابه. انطلاقا من عبارته الشهيرة : "كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم بشكل مختلف، بينما المهم تغييره"، لم يرد الثوري الكبير تغيير بلده ألمانيا فقط وإنما مسار البشرية كله. وهذا ما تحقق بعد وفاته، وإن بطريقة لا يمكن الجزم بأنها كانت ستُعجب الثوري الكبير.
لم يمضِ وقت طويل حتى أصبح رأس المال والبيان الشيوعي نبراسا لحركات ثورية في مختلف البلدان الأوروبية. وجاء الانعطاف الكبير- وربما لسوء حظ ناقد الرأسمالية الكبير - مع وصول البلاشفة بزعامة فلاديمير لينين عام 1917 إلى السلطة في روسيا حيث بدأت المحاولة الأولى لتطبيق أفكاره. لم يتوقف قادة البلاشفة كثيرا أمام حقيقة تخلف روسيا مقارنة بالبلدان الرأسمالية الأخرى، وأن أبيهم الروحي تنبأ بانهيار الرأسمالية بالدرجة الأولى، بينما بقيت تصوراته عن بناء المجتمع الجديد مقتضبة وشحيحة وغير مدروسة بتمعن. سرعان ما انغمر البلاشفة في تجارب كارثية معتبرين أن كل ما قاله "ما ينطق عن الهوى" حتى لو جاء بشكل عرضي في رأس المال وكتبه الأخرى. صحيح أن موجة تمجيد (أو عبادة) ماركس اكتسب زخما أكبر بعد وفاة لينين، إلأ أن القائد البلشفي مهد منذ البداية لإضفاء هالة من القدسية على ماركس. حدث ذلك من خلال تبسيط أفكار ماركس وابتذالها وصياغة عبارات وشعارات تشبه الآيات الدينية. لا أحد يعرف كيف كان ماركس سيرد لو أنه سمع لينين وهو يقول :"إن تعاليم ماركس كلية القدرة لأنها صحيحة." أو ماذا كان سيعلق على التبسيط الفج لنظرية ماركس عبر تقسيمها ألى خانات ثلاثة في كتاب ليينين المعروف "المصادر الثلاثة والأقسام الثلاثة للماركسية" والذي أصبح مرجعا أساسيا لتعليم أجيال عديدة من الشيوعيين على مدى عقود. ماركس أيضا كان في حياته قاسيا وفجا في التعامل مع كل من يعارضه في الرأي، ولكنه لم يصل إلى درجة وصف المعارضين بـ"المرتدين" وهو مفهوم ديني بامتياز، كما فعل لينين مع "المرتد كاوتسكي". ثم جاء ستالين ليطبق حد الردة على كل من يُشك بولائه حتى من رفاقه أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم.
سارت عبادة الفرد ماركس يدا بيد مع المظاهر الفجة لتمجيد لينين وستالين، واتخذت شكلا ماديا من خلال إقامة النصب والتماثيل الضخمة المنتشرة في كل مكان. كما تأسست في موسكو وبرلين وغيرها من عواصم المعسكر الاشتراكي حينها معاهد "علمية" للماركسية اللينينية. كان هدفها السهر على نقاوة النظرية والحيلولة دون تحريفها واحتكار الكلمة الأخيرة بخصوص تراث ماركس. هذه المعاهد اعتبرت نفسها المرجع ومركز الإفتاء الأخير فيما يخص تفسير نصوص نبي الشيوعية . كما أصدرت كتبا لا تحصى عن سيرة حياته. لكن معظم كتب السيرة هذه ركزت على عبقريته وخوارقه، ولم تتناول ماركس الانسان بكل التناقضات الكثيرة لشخصيته، وتجاهلت بتعمد تفاصيل من حياته الخاصة طالما أنها تخدش هالة نبي البروليتاريا، ومنها مثلا أنه كان على علاقة بخادمة المنزل وأنجب منها طفلا غير شرعي.
كما هو الحال في الأديان الكبري دّب أيضا بعد وفاة ماركس الشقاق في صفوف الحركة الاشتراكية بين اتجاهين: الأول يريد قلع العالم القائم من جذوره وبناء مجتمع جديد مكانه، والثاني يسعى لإصلاح الأوضاع السيئة تدريجيا وتحسين ظروف الطبقة العاملة وتخفيف أشكال الاستغلال، وكلاهما يستند إلى ماركس. وصل هذه الانشقاق إلى درجة الاحتراب وإقصاء الأخر وتكفيره، وساهم بالتالي في إقامة أنظمة قمعية باسم دكتاتورية البروليتاريا ذهب ضحيتها أيضا عشرات الآلاف من المؤمنين بتعاليم ماركس، ليس من المناشفة والاشتراكيين الديمقراطيين فقط، وإنما أيضا من البلاشفة والشيوعيين. وفي كل هذه الجرائم لعبت تهم "التحريفية" و"خيانة" النظرية دورا كبيرا في مؤشر على تحول أفكار ماركس إلى أيديولوجية تشبه العقيدة الدينية. بهذه الطريقة انتقم الدين من المفكر المعروف بانتقاده للأديان والذي اشتهر بعبارته "الدين أفيون الشعوب".
بطبيعة الحال لا يمكم تحميل كارل ماركس المسؤولية الكاملة عن توظيف أفكاره ونظرياته لاحقا في الصراعات المريرة على السلطة وفي إشعال ثورات عنيفة وارتكاب أعمال قمع، ولا عن جرائم ستالين وماوتسي تونغ وبول بوت وغيرهم. كما أن دور تعاليمه في قيام الأنظمة الشمولية التي رفعت ولا تزال ترفع راية الماركسية يبقى قضية جدلية. فهو على الأقل انتبه إلى ذلك مبكرا وصرح به لصديقه المخلص إنجلز في أواخر حياته قائلا "كل ما اعرفه هو أنني لست ماركسيا"، في محاولة لم يكتب لها النجاح للحيلولة دون تحول أفكاره إلى عقيدة جامدة.
من دون شك يبقى كارل ماركس حالة استثنائية بين المفكرين العظام في تاريخ البشرية. ويعود الفضل في ذلك بالدرجة الأولى إلى تحليله الشامل للرأسمالية وكشفه عن تناقضاتها وأسباب أزماتها. صحيح أن تنبوأه الأهم بانهيار الرأسمالية لم يتحقق حتى الآن، ولكن ذلك لا يبرر وصفه بالنبي الكذاب. وفي كل الأحوال يبقى كتاب رأس المال رمزا لمرحلة تاريخية هامة. وبهذا المعنى يحق له أن ينافس الإنجيل والقرآن. ربما لهذا السبب أيضا ضمت اليونيسكو إلى لائحتها للتراث الإنساني الوثائقي – من بين وثائق كثيرة - نسخة من الطبعة الأولى لرأس المال والنسخة الكاملة الوحيدة المتبقية من إنجيل غوتينبرغ، أول إنجيل صدر باللغة الألمانية عام 1452.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - مرض النبوة اليساري
ابراهيم الثلجي
(
2018 / 5 / 5 - 12:36
)
من منظور يعتمد المقارنة لرسم المشاهد واخراجها بوضوح وبالالوان
فقد رايت حضرتك ان من مهمة الانبياء تغيير ما كان يدين به الناس من قبله اما جذريا واما نجل وقص الزيادات البشرية التي طرات على اصل النص والعودة بالناس للاصل
ولد ماركس سنة 1818م في ألمانيا في عائلة يهودية، لكن والده اختار تغيير دين عائلته للمسيحية، فغيّر اسمه من هيرشل إلى هنريخ، كما غيّر اسم ابنه حاييم ذي الستة أعوام إلى كارل، ويرى بعض المؤرخين أن تبديل الأب لدينه كان حيلة اقتصادية ليندمج في المجتمع ويخلص نفسه وأولاده من الاضطهاد ضد اليهود، أما جد كارل فكان حاخاما ويدعى مردخاي ماركس.
فاشترك كما قلنا يمهمات النبوة في احتراف تغيير الاديان مبتدء بنفسه
وعليه لفت نظري الرؤيا التي تطرقت اليها بدون تعليق على المضمون
وانظر على الانبياء اليساريين عند العرب في نفس البلد تجد عدد لا باس به من الاحزاب او الجماعات الماركسية
حتى انه قد يجوز ان نسميه مرض النبوة اليساري
2 - الأنبياء السابقون يعتقدون أن الله قادر على صناعة ا
جلال البحراني
(
2018 / 5 / 5 - 23:06
)
أعتقد، أن أعظم إنجازات ماركس التي تتحدى الأنبياء وذلك ما جعله فوقهم
هو أنه انتشل الإنسان من سكرته و من الدهشة الأولى بهذا الكون
صفع بالفلاسفة و الرسل و الأئمة، يوم قلب منطق هيغل، بفعل ما عاشه و مارسه و لأول مرة بحياة الفلاسفة من العقل لحياة المصانع الألات العمل، لو لا العمل لما إختلف الإسنان عن الحيوان،، هكذا إكتشف ماركس و لم يكشف ذلك أي من الأنبياء
لكن صفعة ماركس (التي ربما تكون دين أخر للبشر) هو أنه سخر من الإنسان
هي!! أنت أيها الإنسان،، لست سوى لا شيء يذكر بالطبيعة و الكون، لذلك ثور على الله و استرجع منه عقلك! لتضعه في جسدك المادي،، كن جزيئ من الطبيعة (يعمل وفقا لقوانينها و إلا دمرت نفسك)
الأنبياء السابقون يعتقدون أن الله قادر على صناعة العالم من جديد بعد تدميره، حلم و أماني! ماركس نبه الإنسان أن ذلك ليس ممكن
.. المحكمة الابتدائية في تونس تقضي بإعدام 4 أشخاص أدينوا باغتيا
.. حكم بإعدام 4 مدنيين والمؤبد لشخصين بقضية اغتيال شكري بلعيد ف
.. شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني
.. فرنسا تدرس إحياء ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين
.. حركة النهضة تعتبر الأحكام في قضية اغتيال شكري بلعيد دليلا عل