الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعرفة في الفلسفة الاسلامية

عامر عبد زيد

2018 / 5 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


" قيمة المعرفة في الاسلام و ادوات المعرفة ابن سينا انموذجا "

المبحث الأول - قيمة المعرفة في الإسلام
نجد أن الشك هو تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر( ) وقال السمعاني: هو التردد بين طرفي نقيض( ) وقال الرازي: هو أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات.( ) لكن الشك بوصفه وسيلة لنفي المعارف الظنية وإبدالها بمعارف يقينية بعد إعمال النظر أمر لا خلاف عليه بين مفكري الإسلام، وإنما ثار خلافهم حول: متى يجوز للمسلم أن يشك؟، ومتى يتوجب عليه هذا الشك؟، وأيضاً متى يمتنع عليه اتخاذ موقف الشك؟.
بدأ الشك بوصفه منهجاً معرفياً مع ظهور المذاهب العقلية في الإسلام أي المدارس الكلامية، وعلى رأسها المعتزلة، وهذا يعني أن فقهاء الصحابة والتابعين لم يتعرضوا للحكم على الشك والشكّاك، فهذا ما يؤكده الجاحظ نقلا عن النظّام - أحد شيوخ الاعتزال - قوله: (لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك) ويبدو أن هذا الشك منهجي ؛ إلا أن هذا المنهج العقلي لم يكن معروف عند المسلمين من قبل بحسب وقد يكون بتأثير النقل من الفلسفة اليونانية إلا أن الجاحظ يرى أن علماء المسلمين لم يُجمِعوا على أن اليقين طبقات كالشك، فهناك من ذهب إلى أن اليقين لا مجال فيه للتفاوت، والزيادة، والنقصان، ولكن الذي يعنينا هو الشك المنهجي المؤدي إلى الحق واليقين والذي أسهم المعتزلة في تأسيسه، حيث جعل الجبائي ان(849-916 م) الشك جزءاً واجباً من النظر العقلي. ووصفه أبو هاشم الجبائي(888-933م) بأنه أول الواجبات.

I - الشك عند الغزالي:
1-2-2-الشك عند الغزالي:
إن الغزالي يمثل حقبة مهمة في الفكر الشكي المنهجي في الإسلام إلا أنه من ناحية يمثل مرحلة من مراحل تقوض الخطاب الفلسفي الإسلامي في المشرق فــ(نقد الغزالي كان نكبة أصابت للفكر الفلسفي الإسلامي، من حيث انه ضيق الخناق على الفلسفة في المشرق)( )
وهذا النقد له أبعاد عقائدية مذهبية بدفع سياسي كرد فعل على الخطاب الفلسفي السابق الذي ارتبط بالأفكار التي يمثلها المد الشيعي وحضوره في الفكر الاسماعيلي في الدولة الفاطمية الذي ترك آثاره في الفكر الفلسفي والكلامي عند الفارابي وابن سينا خصوصا فقد جمع الغزالي بين توجهين مع نقد الفكر الكلامي من ناحية ونقد (الفكر الفلسفي الذي ينتسب إلى أرسطو و بالذات المشاؤون خاصة الفارابي وابن سينا)( )
حتى عد البعض من مؤرخي الأفكار في الفكر الإسلامي أن المنهج النقد الشكي لم يظهر بوصفه منهجاً معرفياً متكاملاً إلا على يـد الإمام الغزالي ( )الذي حدد مهمتـه، وأكد وجوبيته في مقولته الشهيرة (فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة).وقد تحول إلى موقف عند اغلب الأشاعرة من بعدة فقد اعتنقوا هذا الاتجاه أيضا لكن اقل شمولية واضعف أثرا ( )
ويؤكد الجابري في تحليله إلى لحظة الغزالي بوصفها فهو تطور العلاقة بين العرفان والبيان والتي تكتمل مع لحظة الغزالي حيث تداخلت الأنظمة وهنا يقدم لنا عابد الجابري تحليلا تكوينيا بتابع النمو التاريخي للازمة المعرفية فيقدم استعراضا عموديا لمحور تواجد التصوف ونموه إلى لحظة الغزالي وتقارنه بطريقة المتقدمين عليه. لهذا يقدم عابد الجابري تحليلا ينائيا ليكشف ما أحدثته لحظة الغزالي في تداخل الأنظمة المعرفية :
1-2-2-1: المستوى العمودي:
1-2-2-1- 1:على المستوي المعرفي وتحولات المنهج : يتخذ من عصر المأمون نقطة لانطلاق للتصوف بانفصاله عن التشيع من خلال القطيعة بينهما وهو عصر هيمنة المعتزلة ومحنة (أهل السنة) ؛ بسبب خلق القران وعصر تقنين الرأي والتشريع للمشروع مع الشافعي حيث عرف هذا العصر بالفتن السياسية والحرب الأهلية بين المأمون وأخيه ولقد كانت التناقضات مدعاة للوقوع في أزمات فكرية( ) ونقطة البداية كانت مع الحارث المحاسبي (165 – 243) الذي انطلق من الفقه والكلام إلى التصوف والعرفان لكن دون أن يخرج نفسه من دائرة (البيان) فأراد إن يأخذ من الهرمسية الطريق والمنهج ويترك بـ (علم المعاملات) فاشتغل بالتأليف في الزهد والخشوع والتوبة وأحوال النفس( ). وقد ترسخ التصوف مع البسطامي (المتوقي سنة 56هـ.) والجنيد (المتوفي سنة 297 هـ.) وقد ظهر من بينهم من استخف بالواجبات والطقوس متذرعا بانشغاله بمراقبة الله مراقبة روحية، وبذلك ترسخت العداوة بين التصوف والفقه لكن سرعان ما أعيد النظر في التصوف؛ وذلك لأن الموقف المزدوج للتصوف يخدم جهد منافسة الشيعة في (سلاحهم)( ). ونزع الطابع السياسي عنه لكنه أيضا كان يعمد إلى مسايرة ومهادنة الدولة من جهة أخرى( ). وقد أثّر هذا في تقديم جديد للتصوف من جانب أهل السنة الأشاعرة والعمل على إعادة كتابته تاريخيا بالشكل الذي يضفي عليه المشروعية السنية وكان هذا بمثابة محاولة المصالحة بين البيان والعرفان والتي قام بها أبو بكر محمد الكلاباذي (المتوفي سنة 380 هـ.) بكتابه المشهور (التعرف لمذهب أهل التصو) وكذلك كتابه (اللمع) لأبي نصر السراج الطوسي (المتوفي سنة 375 هـ) والذي كان معاصرا للكلاباذي الذي عمل على التماس المشروعية للتصوف إما أبو طالب المكي (المتوفي سنة 386 هـ.) والذي عاش في المدة نفسها فقد اتجه بكتابه المشهور (قوت القلوب) الاتجاه نفسه وهذا امتداد لكتاب المحاسبي (الرعاية لحقوق الله) ثم جاء كتاب الغزالي(إحياء علوم الدين) مقتصرا على نقل مادة هذين الكتابين وإعادة تنظيمهما وتبويبهما حتى قال ابن تيمية (661 – 728 هـ.) إن كتاب (الأحياء) للغزالي يغني عنه كتاب (الرعاية) للحارث المحاسبي و (قوت القلوب) لأبي طالب المكي( ). . وفضلا عن ذلك يمكن عد اثر المد الفاطمي في القرنين الرابع والخامس على الخلافة العباسية ودولها السنية هو المؤثر الذي فرض المصالحة بين العرفان الصوفي والبيان العربي وتوج أزمة الأسس في الثقافة العربية( ).
1-2-2-1- 2:المشروع السياسي ودور الغزالي فيه : فجاءت لحظة الغزالي عندما جند في الرد على الفلاسفة والباطنية-الاسماعيلي- الذين كان يضعهم في موقع واحد هو موقع الخصم( ) . لكن كتابيه (تهافت الفلاسفة) و (فضائح الباطنية) يظهران رد الفعل الواحد. وهذا هو رد فعل سياسي ضد الحركة الإسماعيلية بالنتيجة، إما من جهة الغزالي فإنه كان خائفا لأن كتابته ضد الباطنية لم تنل الرضا من الخليفة؛ لأنها كانت أقرب إلى تأييد الباطنية من الهجوم عليهم( ). ويرجع عابد الجابري هذا الموقف إلى أنّ الغزالي يذكر في بعض كتبه أقوالا يدعي أنها (أسرار الحقائق) وهي أقوال الصابئة المتفلسفة وقد غيرت عباراتهم وأطرت في قالب التصوف والعبارات الإسلامية( ).
1-2-2-1- 3: تأثر الغزالي بخصومه: ويرى الجابري أن تأثير الغزالي بالهرمسية جاء عن طريق ابن سينا والباطنية والمتصوفة( ). ويرى مظاهر الهرمسية تبدو في بنية الهرمسية في مظاهر الوجود بقوله: فأشرف المبدعات هو العقل (الكلي) أبدعه (الله) أمره من غير سبق مادة أو زمان وما هو المسبوق بـ(الأمر) فقط ولا يقال في الأمر انه مسبوق بالباري تعالى وما دون العقل هو النفس وهو مسبوق بالعقل متقدم عليها بالذات لا بالزمان والنفس سابقة على الزمان والروحانيات ولا يعتورها الزمان، بل الزمان والدهر يبتدئ منها، أعني من شوقها إلى كمال العقل( ). وما يسميه الغزالي بـ (الأمر) أو (الكلمة) أو (المطاع) وما هو سوى ما سماه (تومنيوس) بالإله الصانع والواصلون هؤلاء لا يرون المطاع على أنه هو الرب ذاته بل على أنه كائن ألا هي أخرم تميز عن الأول الأعلى المنزه عن كل وصف هؤلاء الواصلين. . تجلى أيضا لهم إن هذا المطاع موصوف بصفة تنامي الوجدانية المحض والكمال البالغ : الشيء الذي يعني انه ليس هناك وحدة مطلقة في الألوهية بل هناك ثنائية صميمية ضرورية؛ ذلك لأن (الأول الأعلى) لا يجوز أن يقال فيه انه يدير العالم ومن ثمَّ لا يجوز إن يقال فيه انه يعلم الجزئيات بل المطاع هو الذي يدرك السماوات والجرم الأقصى ... الخ( ). إما تسمية هذا المطاع بالأول الأعلى المنزه، كامل التنزيه فتكسبه أنوار الشمس إلى الشمس ذاتها، ومن المطاع توجه الواصلون فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر قبلهم فأحرقت سبحان وجهه الأول (الأعلى) الذي يعرف لدى الغزالي بالسلب تماما كما تقول الفلسفة الهرمسية( ). ويؤكد (عابد الجابري) أن الغزالي تبني أطروحات الهرمسية كقوله بـ(قدم العالم) وبأن الله لا يعلم الجزئيات وإنكار حشر الأجساد( ). حيث يصف المفاهيم الهرمسية التي أصبحت بالنتيجة (العقل المستقل) الذي غلب على كل نبضات عقله في الفقه والكلام( ). ومن ثمّ تكريسه للهرمسية في دائرة البيان( ).
1-2-2-2:المستوى الأفقي :
1-2-2-2-1 : إدخال التصوف في البيان السني : فان تأسيس أزمة الأسس وما سماه عابد الجابري بـ (التداخل التلفيقي) ابتدأ مع الغزالي ليدشن مرحلة أخرى في الفكر العربي الإسلامي ويخص المشرق خاصة، إذ قال الغزالي بتفكك وإعادة توزيع القطاعات المعرفية في الثقافة الإسلامية ويشير وبصورة ممنهجة وفي مجال العرفان فصل بين العرفان التعلي والعرفان الصوفي والبيان وعمد إلى إدخال التصوف إلى الدائرة البيانية فجعله قسمين علم المعاملة وعلم المكاشفة وقد أدخل التصوف بقسميه العملي والنظري إلى دائرة السنة من باب السنة الواسع (الفقه)( ). فأصبح منذئذ مكونا أساسيا من مكونات الفكر السني لابد منه للعقل البياني نفسه( ).
1-2-2-2-2 : إدخال البرهان في البيان : إما في المجال ألبرهاني فقد فكك الغزالي المنظومة إلى أجزاء عزل بعضها عن بعض. فقد أخذ المنطق وعده مجرد آلة ودعا إلى اصطناعه منهجا وفي المقاليات خاصة( ). وللبيان الوضع الذي أحدثه الغزالي منذ اللحظة الغزالية التي لم تعد تمثل (العقل البياني) كما شيده المعتزلة والمتقدمون من الأشاعرة بل (العقل العربي) الذي انتهى إلينا عبر (طريقة المتأخرين) التي ظل منذ الغزالي مسرحا لصراع المقولات واختلاط المفاهيم( ). لهذا يقارن بين طريقة المتقدمين كما لدى أبي منصور عبد القاهر البغدادي (المتوفي 429 هـ.) الذي كان من أبرز علماء الأشاعرة وما كل مبهم في كتابه (أصول الدين) الذي عرض فيه باختصار رسائل علم الكلام الأشعري في صورة تمثل أرقى ما وصلت إليه طريقة المتقدمين) من حيث التبويب والتنظيم، إما المضمون فقد بقي هو هو( ). إذ يمكن القول انطلاقا من تحليل هذا الكتاب إن علم الكلام حسب طريقة المتقدمين يتألف من جزئين: المقدمات (العقلية) والمعتقدات الدينية. والمقدمات صنفان : صنف يقدم نظرية في المعرفة: العلم وأقسامه وطرقه. . وهو مقال في المنهج، وصنف يطرح قروض نظرية حول العالم والإنسان تؤطرها نظرية الجوهر الفرد التي تؤسس الرؤية البيانية للعالم، إما المعتقدات الدينية فموضوعها ذات الله وصفاته وأسماؤه وأفعاله وتوظف المقدمات العقلية في الدفاع عن وجهة نظر معينة( )، والانتقالة كما يراها عابد الجابري جاءت مع كتاب الغزالي (الاقتصادي في الاعتقاد) فهو يمثل مرحلة الانتقال من (طريقة المتقدمين) إلى (طريق المتأخرين) وهكذا فكتاب الغزالي من حيث المنهج (يقطع) – شكليا على الأقل – مع طريقة المتقدمين. إما من حيث المضمون فان أعراضه عن المفاهيم الفلسفية على عكس ما سيفعله المتأخرون بجعله أقرب إلى أولئك من هؤلاء( ). وفي مناهج الأدلة التي اعتمدها في مسائل علم الكلام فهي ثلاثة الأول يسميه (السير والتقسيم) وهو القياس الشرطي المنفصل باصطلاح المنطق وقد استعاره من الفقهاء مفضلا كعادته استعمال مصطلحات بيانية مع إعطائها مضمونا منطقيا إما الثاني فهو لا يسميه بل يكتفي بالتمثل له، وهو القياس الحملي كما هو معروف في المنطق والثالث لا يسميه الغزالي أيضا والمقصود هو القياس بالخلف وهو من أنواع القياس في المنطق. ويؤكد (إن ما هو غائب عند الغزالي هو أساس في كل من المنهج البياني والمنهج البرهاني إما ما هو حاضر فهو الجدل منهجا ومقدمات)( ). لهذا جاءت طريقة الغزالي منتمية إلى المتقدمين بمضمونها والى المتأخرين بشكلها. ونجدها كاملة شكلا ومضمونا عند (فخر الدين محمد بن عمر الرازي) (544 – 606 هـ) الأشعري المذهب في تاريخ الفكر النظري في الإسلام، إذ أمكن القول بدون تردد إنه يسجل نقطة تحول في تاريخ العلاقة بين الكلام والفلسفة. ففي كتابه (المباحث المشرقية في الطبيعيات والإلهيات) لا يتقيد بالطروحات الأرسطية والمشائية، بل يقتفي أثر ابن سينا في الانتقاء والتلفيق( ). يعكس التأثير البعدي لكتابي الغزالي (مقاصد الفلاسفة) و(تهافت الفلاسفة) في الكلام الأشعري. ولهذا يوضح أثر الغزالي في الرازي ويرصد هذا في المنطق والعرفان إذ عد الغزالي المنطق إلى( ).
1-2-2-3: الشك عند الغزالي :
على الرغم كل هذه المواقف السياسية والمنهجية إلا أنها ساهمت في بلورت موف نقدي كما بينا في البداية كان له تأثير عميق على من جاء بعده. لهذا يصنف عن الباحثين في تاريخ الأفكار بوصفه من أكبر الدعاة إلى استخدام العقل ورأينا رفضه لمن يأخذون الدين (الاعتقاد) تقليداً، فالمقلد بنظره شخص عيم في الحياة يوم علمه على ترديد أراء السابين ( ) وهذا هو موقف الأشاعرة عموماً في عدم تجويز الاعتقاد بالتقليد حتى أن الإمام الأشعري(874-936) كان قد قضى بتكفير المقلد، واشتهرت من أقوالهم مقولة (ليس مؤمناً من لم يستدل). ومرد هذا أن نظرتهم إلى الترابط بين النص والعقل فإن (الاستدلال عند الأشاعرة يكون بالأدلة النقلية (نصوص الكتاب والسنة) وبالأدلة العقلية على وجه التعاضد، فالأدلة النقلية والعقلية عندهم يؤيد كل منهما الآخر، فهم يرون أن النقل الثابت الصريح والعقل الصحيح لا يتعارضان. والأشاعرة عندما يوجّهون خطابهم إلى مخالفيهم الذين لا يقيمون وزنا للكتاب والسنة، فإنهم يقدمون الأدلة العقلية على النقلية، وذلك يكون فقط في مجال الاستدلال في العقائد في باب العقليات، لأنهم يرون أن المراد هو الرد على المخالفين، كالدهرية والثنوية وأهل التثليث والمجسمة والمشركين ونحوهم، فهؤلاء المخالفون لا يرون حجية للقرآن والسنة، إلا بعد إقامة الأدلة العقلية على الإيمان بالله وأن القرآن كلام الله وأن محمد ابن عبد الله هو رسول الله)( ) وانطلاقا من هذه المرجعية كان الغزالي ينطلق في رده على حجة الشكّاك بعدم الاعتراف بقبول النظر العقلي بأن قبولهم بمناظرة الغير هو نفسه اعترافاً ضمنياً بقبول النظر العقلي، يقول: (فالسفسطائي كيف يناظر؟ ومناظرته في نفسها اعتراف بطريق النظر).وقد اعترض الغزالي على الفلاسفة أيضا في إهمالهم الجانب النقلي، إذ ينكر على الفلاسفة حق اختيار الإمامة في ضوء فلسفة اليونان السياسية، وبدون شك فهو يشير بذلك إلى ابن سينا، مبيناً ذلك بقوله : ولا ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذاً من العقل، فإنا بيّنا أن الوجوب يؤخذ من الشرع، مثلما فعل الماوردي.
عرف الغزالي بالشك لدى الفلاسفة والمفكرين من المسلمين وغيرهم، ولكن الذي اختلفوا فيه أمران:
1-2-2-1- هو مدى ارتباط الغزالي بالفلاسفة، ومن ثمّ مدى إمكان عدِّ أقواله وآرائه نظريات فلسفية، أو هي اجتهادات فقيه مسلم في نطاق صفته بوصفه فقيهاً متصوّفاً، ومرد ذلك أنه على الرغم من مناهضته للفلاسفة جملة، ورفضه كثيراً من القضايا التي شكّلت موضوعاً للمعرفة( ) أو طُرُقِ الخوض فيها، وأحياناً ينصب رفضه للنتائج التي يتوصل إليها الفلاسفة، (إذ اعترض الغزالي في كتابه " تهافت الفلاسفة " فالمهم أنه في كل ذلك كان يستخدم كثيراً من أدوات الفلسفة، وأساليب الفلاسفة، بل عَدَّ المنطق والقياس من الأدوات اللازمة للفقيه المسلم.
1-2-2-2- والأمر الآخر الذي أثار حوله الجدل هو موقفه من الشك فهل كان هذا الشك مطلقاً أم منهجياً؟ فالذين ينسبونه إلى الشك المطلق يتحدثون عن فترة عابرة في حياته شك فيها في كل شيء وكاد يقنط من تلمس طريق اليقين، وهو يقر بأنه تجاوز ذلك بنور قذفه الله في قلبه.
إن الغزالي يختلف عن الفلاسفة والمناطقة القدامى الذين كانوا يثقون بالمنطق ثقة مطلقة ويؤمنون بصحة استعماله في جميع المجالات، ففي رأي الغزالي إن البرهان المنطقي قاصر عن إن يصل بالإنسان إلى اليقين وخاصة بالقضايا الإلهية والروحية ،لأنها أعمق وأعظم من إن تدركها عقولنا المحدودة لأنها خارجة عن نطاق البرهان والنظر العقلي ؛ لأنهم جميعا يعتمدون على الحواس والعقل يقول الغزالي إن من الواجب أن نقيم إيماننا الديني على أساس ما جاء به الوحي أو الكشف الصوفي؛ لأنه يعتقد أن وراء العقل إدراك أسمى منه هو الإدراك الذي يتمثل في وحي الأنبياء وكشف المتصوفة وهو الذي يجب إن تقوم عليه العقائد الدينية.
لقد استعصى الكشف على إفهام الكثير؛ لأن الناس إنما تدرك الشيء المألوف لديها وما يحسونه في أنفسهم ويرونه عيانا في غيرهم إما ما لا عهد لهم فيه فهم في ريب من وجوده. لقد دارت حول الغزالي آراء متضاربة حول هذا الكشف، فمنهم من عده من أهل البدع والضلالات. وبعض المعاصرين له وضع رسالة في تكفيره وبعضهم اعتبره إماما في العلم والتحقيق، وممن دافع عنه وانتصر له الفيلسوف محمد بن إبراهيم الشيرازي صاحب كتاب الإسفار والمعروف بصدر المتألهين الذي اعتذر عن تكفيره وقال فيه : (إن الغزالي فعل ذالك غيرة على الدين وحرصا على الإسلام).

المبحث الثاني :أدوات المعرفة عند ابن سينا أنموذجا

ان ادوات المعرفة في الموقف المعرفي الذي يمتد من الفلسفة اليونانية والعصر الوسيط يقوم على الأدوات الآتية: أولا: الحس، وثانيا: الحس الباطن، والثالث: العقل، والرابع: الحدس، والخامس: الوحي.
نحن هنا نحاول أن ندرس الموقف المعرفي وهو موقف سابق على الفهم الحديث لنظرية المعرفة، والأخيرة مختلفة عن الموقف العلمي الوضعي، فالموقف المعرفي هو الذي لم يكن يعي وجود ذات مستقلة عن العالم يقابلها موضوع خاضع إلى إدراكها كما استقر في نظرية المعرفة الحديثة.
أما الموقف المعرفي فهو الذي ينطلق من الموقف الطبيعي الذي يعتمد على الحواس والعقل والحدس والوحي.

المطلب الأول : الإدراك الحسي (الظاهر والباطن)

ينقسم الحس الإنسان إلى نوعين: الحس الظاهر، والحس الباطن :
الأول -البعد الحسي الظاهر
وهو عبارة عن جهاز يحتوي على مجموعة آلات تمكن النفس من اكتشاف الخارج المادي، وكل واحدة من هذه الآلات قد ركبت بنحو يُتعرف بواسطتها على نوع الكيفيات المحسوسة المختلفة، وقنواتها الجوارح الخمس، المتصلة مباشرة بالمادة، وهي : اللمس، الذوق، الشم، السمع ،والبصر.
اخذ ابن سينا في باب عرضه لهذا البعد أثناء تحليله للإدراك في النفس الحيوانية إذ يقسمها إلى محركة( ). وأخرى مدركة، وهذه الأخيرة يقسمها إلى قسمين:- فإن كانت القوة المدركة من خارج فهي: الحواس الخمسة، وهي الحس الظاهر، وهي تكون من عضو الحس وقوى الحاسة ومنها القوى المدركة من الداخل وهو إدراك ارفع من الأول وهو الإدراك الحس، الباطن، والذي يشترك مع الحواس في تكوينه( ).
لكن ما الفرق بين المستوين داخل هذا البعد الحسي. فهذا الأخير عند ابن سينا يرتكز على تمثل حقيقة الشيء فالإحساس: إدراك الشيء الموجود في المادة الحاضرة عند المدرك على هيئات مخصوصة به محسوسة من الأين، والمتى، والوضع، والكيف، والكم، وغير ذلك( ). وبذلك يتوقف إدراك المحسوسات على حضورها. ولهذا فالمعرفة مصدرها الإحساس، ولا يمكن أن تصل المعرفة إلى النفس عن غير طريق الحس فليست المعرفة (تذكراً) لما سبق ان عاينته النفس في عالم عقلي أعلى كما ذكر (افلاطون)، وإنما ترجع إلى انفعال الحس بالمحسوس كما يقول أرسطو: (ينشأ الإحساس عما يَعْرضَ حركة وانفعال) ويقول ابن سينا: (إن الإحساس تأثر مّا وانفعال ما).
وهذا يعني أن ابن سينا كان اقرب إلى أرسطو الذي يعطي أهميته إلى الحس منه إلى أفلاطون الذي همش المعرفة الحسية مقابل (المثل) لكنه في تصويره لوظيفة (الحس على أنها تمثل الصورة الحسية المجردة على المادة مع احتفاظها بلواحقها المادية، فكان الحس إنما يعاين المحسوس فقط ويشهد بحضوره( ).
ومعنى هذا أنّ وظيفة الإحساس تبقى ضئيلة الأهمية في تصور ابن سينا الذي يساير التصور الأرسطي الذي يعطي الأهمية للكل) فيجعل منه موضوع العلم من خلال ثباته واستقراره باعتماده الماهية عبر التجريد، وهذا يجعل من الحس مجرد وسيلة لتحقيق غاية أخرى، وفي هذا يقول ابن سينا:- (إن الإنسان قد يحتاج إلى دابة وآلات ليتوصل بها إلى مقصده، فإذا وصل إليه ثم عرض من الأسباب، وما يعوقه عن مفارقتها صار عائقاً)( ). ومعنى هذا ان الحس ضروري فقط في بداية المعرفة لأنه يمكننا من معرفة المحسوسات ومنه يصعد إلى معرفة أعلى منه انطلاقاً من استقراء الجزئيات، وصولاً إلى الكليات؛ لأن الجزئي ضروري للكلي لكن التوقف عند الجزئي الحسي ساعتئذ يصبح الحس عائقاً أمام المعرفة كما هو الحال مع السفسطائية الذي توقفوا عند الحس فقاوم إلى الشك في إمكانية قيام معرفة. ولغرض الإجابة عن السؤال الذي بقى مؤجلاً حول الفرق بين الحس الظاهر، والباطن فإننا سوف تحلل بنية الحس بشكل تتحدد به الذات إزاء الموضوع، والأوساط بين الاثنين حيث تظهر لنا أن بنيه الإدراك لدى ابن سينا على أنها تتكون من ذات مدركة تمثل، وجود بالقوة او استعداد ثم الشعور الذي يرافق عملية الإدراك، وعلى هذا فالإدراك الظاهري يتكون من الآتي:-
الأول/ موضوع المعرفة (المحسوس): حيث يشكل الموضوع حجر الزاوية سواء في الحس أو العقل كما سنرى فيما بعد، أما في مجال الحس حيث يشترط في حدوث الإحساس وجود خارجي هو المحسوس الخارجي، يؤثر عضو الحس فيقول: (المحسوسات كلها تتأدى صورها إلى آلات الحس وتستطيع فيها فتدركها القوة الحاسة وهذا في اللمس والذوق والشم والسمع، كالظاهر)( ). وهو في هذا يظهر اتفاقاً مع السابقين لكن في حاسة ((البصر)) فإنه يدرك الخلاف الذي ساد بين السابقين فاستعرض مواقفهم في هذا.
- قوما ظنوا ان البصر قد يخرج منه شيء، فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج، ويكون ذلك ابصاراً، وفي اكثر الامر يسمون ذلك الخارج شعاعاً.
- واما المحققون، فيقولون إن البصر إذا كان بينه وبين المبصر شفاف بالفعل، وهو جسم لا لون له متوسط بينه وبين البصر تأدى شبح ذلك الجسم ذي اللون الواقع عليه الضوء إلى الحدقة، فأدركه البصر. وهذا التأدّي شبيه بتأدّي الألوان بتوسط الضوء، اذا انعكس من شيء ذي لون، فصبغ بلون جسماً آخر، وان كان بينهما فرق، بل أشبه بما يتخيل في المرأة( ).
ويصل بعد مناقشة مطولة إلى نتيجة تقوم على مساندة الرأي الثاني وبطلان الرأي الأول بقوله (فإذا ليس الأبصار بخروج شيء منا إلى المحسوس، فهو إذا بورود شيء من المحسوس علينا، وإذا ليس ذلك جسمه فهو اذاً شبحه)( ). فهو أبطل الرأي الأول وأقام الرأي الثاني على ثلاثة أبعاد:
1- ورود شيء من المحسوس علينا، وهذا معناه ان الموضوع هو المؤثر في المدرك من خلال انفعال الأخير:
2- ليس ذلك جسمه بل هو شبحه وهو يرفض أن تكون فعالية الإدراك حدوث تشابه بين الشيء وبين المدرك، وهنا يخوض ابن سينا في تلك الآراء التي يستعرضها أرسطو في كتاب النفس في رفضه آراء انكساجوراس وهيرقليطس اللذين ذهبا إلى أن إدراك التغير لابد أن يتم بين الشبيه واللاشبيه، أما أرسطو فالإحساس استحالة في النفس تقوم على تأثير المحسوس في عضو الحس، وهذا التأثير هو تلقي صورة المحسوس لا مادته، بمعنى آخر المحسوس (فاعل) والمحسوس (منفعل) وبذلك استطاع أرسطو أن يرجح رأياً من آراء القدماء على آخر، وهو أن الشبيه يؤثر في الشبيه( ).
وموقف ابن سينا تناول هذا القول من خلال بعدين.
البعد الأول: من ناحية الكم يؤكد على أن الإدراك يتم من خلال التشبه بالمحسوس، (إذ لولا وجود عناصر مادية في عضو الحس تشبه العناصر المادية في المحسوس لما تم أي إدراك حسي)( ). أي التشابه بين عضو الإدراك والشيء المدرك من ناحية الكم.
البعد الثاني: من ناحية الكيف فإن ابن سينا يرى أن عضو الحس لا ينفعل إلا عما يخالفه في الكيفية، فلا يدرك اللمس حرارة الملموس إذا كانت حرارته مشابهة لحرارة عضو اللمس( ).
وعلى هذا نجده يصنف المحسوس من خلال زاوية الإدراك إلى الآتي:
1- المحسوس بالذات:- وهو المحسوس الذي تحدث منه كيفيه في الآلة الحاسة( ). وهو يأخذ نوعين: أحدهما المحسوس الخاص بكل حاسة كالملموس للمس والمرأى للبصر وثانيهما المحسوس المشترك بين الحواس، فيكون محسوساً بها جميعاً كالحركة والسكون والعدد والشكل والعظم والحجم.
2- المحسوس بالعرض:- كقولنا ان هذا الأبيض هو (ابن درياس فتدركه بالعرض أيضا، لان الموضوع المحسوس قد اتخذ (الأبيض) عرضاً (وهو ليس محسوس ولكنه مقارن لما يحس بالحقيقة مثل أبصارنا أبا عمر وأبا خالد ولا يوجد في أنفسنا خيال أحدهم عن هذه المحسوسات( ).
الثاني/ المتوسط:- (أي الوسط الذي تحدث من خلاله المعرفة كالهواء والماء حيث يشكل وجوده شرط ضروري في حدوث الإحساس إذ بدونه لا يمكن أن يحدث الاتصال بين المحسوسات الخارجية (موضوع المعرفة) وبين الحواس اداة لمعرفة (الذات). وبدون هذا الاتصال لا تنفعل الحواس ولا يحدث الإحساس.
فإذا كان الهواء والماء وسط لكل عنصر من البصر والشم والسمع والماء وسط الذوق. أما اللمس فيحس بالملامسة المباشرة بينه وبين الملموس.
ويلاحظ أن ابن سينا يتردّد في أمر اللمس، فتارة يقول إن اللحم وسط، وتارة يقول إن اللحم ليس وسطاً ولكنه آلة اللمس( ).
الثالث/ الحاسة:- هي أداة المعرفة أو الذات المدركة تتكون من الجزئيين الآتيين:
1- العضو الحاس: إذا كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجردة عن مادته فيتصور بها الحاس( ). فهو انتقال بنسبة للحاسة من وجود قدرة على الإبصار بالقوة إلى إبصار بالفعل بوجود موضوع محسوس وتوفر الوسائط المناسبة لتحقق الإدراك ويصبح الكمال الذي كان بالقوة فأصبح بالفعل.
والإحساس على وجه العموم هو أن تستحيل صورة المحسوس إلى العضو الحاس أي تتمثل منه بوجه من التجريد إلا أن هذا لا يعني انتزاع سائر اللواحق المادية عن الصورة نزعاً محكماً، بل يجب ان تكون الصورة المحسوسة التي يتمثلها الحس: على تقدير ما وتكييف ما( ). وهنا يظهر لنا امران.
الأمر الأول: تصنيف الإدراك إلى بعدين الأول/ إدراك جزئي ليس مجرداً عن المادة. مقابل الكلي المجرد عن المادة تحصيل ما لصورة الشيء وحقيقته على نحو من جزئيته أو كليته، أي ان الإدراك الحسي هو الذي يتمثل صورة المحسوس في الحواس في حالة جزئية وهذا الجزئي من خلال نسبة علاقته بالمادة ايضاً متفاوت ليس واحداً وهو ينقسم إلى حس ظاهر وحس باطن( ) اما الإدراك العقلي فهو تمثل صورة المعقولات في العقل( ).
الأمر الثاني : هو أهمية العضو الحاس (بآلة جسمانية) وفيه يقول ابن سينا: لو كانت الإحساسات تقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات الجسمانية لكانت هذه الآلات في خلقة لا ينتفع بها( ).
2- القوة الحاسة: انه يرجع الإدراكات إلى النفس (إن النفس موجودة كلها في الجسم كله موجودة بقواها في كل جزء منه، فهي في العين بقوة الأبصار وفي الأذن بقوة السمع).
فالإدراك يتحقق بضوء الحس وهو مادة جسمانية، لكن يعقل قوة روحية هي القوة الحاسة التي تقود الروح الحيوانية) ويقول (المحسوسات كلها تتأدى صورها إلى آلات الحسّ وتستطيع فيها، فتدركها القوة الحاسة وهذا في اللمس والذوق والشم كالظاهر)( ).
الحواس الظاهرة ووظائفها
بهذا نكون قد تناولنا تحليل آلية المعرفة (ذات) من عضو حاس والقوة الحاسة متمثلة في الحاسة ثم صلتها بالمدّرك (الموضوع) والوسيط ثم ما يتركه الإدراك من اللذة أو آلم، والآن ندرس الحواس والوظيفة التي لكل منها نلاحظ هنا ان ابن سينا يعتمد مناهج مختلفة في دراسة الحواس وهي:-
اولاً/ يقدم ترتيباً للحواس يقوم فيه على دراسة (فائدتها) في حياة الحيوان، ويلاحظ انه يقسم الحواس إلى قسمين قسم ضروري لازم في بقاء الحياة وقسم كمالي يمكن ان يستغني عنه الحيوان في قوام حياته( ).
ثانياً/ اعتمد طريقتين إما أن يبدأ بدراسة البسيط ثم التدرج منه إلى المركب كما هو حاله في الشفاء او ان يعتمد البدء بالمعقد ثم ينتهي بالبسيط كما هو حالة في النجاة( ).
فإذا أخذنا ناحية النفع فإننا نجده صيغها بالآتي:
1/ اللمس:- أول الحواس من ناحية كونه آلة للحياة وله مواضع متعددة منتشرة في البدن ويتم الإحساس من اللمس بالممارسة بدون متوسط اي يتم في الجلد المحيط بالبدن وليس في الأعصاب اذ انها عنده مجرد قابل للإحساس وموصلة له واللمس ضروري لبقاء الحيوان( ).
ويذكر كارادوفو أربعة أوجه للمس هي: الأولى حاكمة في التضاد الذي بين الحارَّ والبارد، والثانية حاكمة في التضاد الذي بين اليابس والرَّطبْ، والثالثة حاكمة في التضادَّ الذي بين الصلب واللين، والرابعة حاكمة من التضاد بين الخشن والأملس( )
2/ الذوق:- فهو نوع من اللمس، ولكنه يختلف عنه في انه يحتاج إلى متوسط هو (الرطوبة اللعابية) ويمارس الذوق وظيفة عن طريق نهايات الأعصاب المنتشرة في طبقة اللسان الظاهرة.
3/ السمع والصوت:- محسوسة أولا إما عضوه فهو الحداد المفروش عليه العصب الحاس للصوت في الآذان. وليس الصوت أمرا قائماً بذاته، بل ينتج عن حركة عنيفة صادمة تحدث بين المقروع والمقروع به. وهو يعرض مع حركة تموج من الهواء أرقى الماء- التي ينتهي أثرها إلى الصماخ من الأذن، وهناك تجويف فيه هواء راكد يتموج بتموج ما ينتهي إليه ووراء كالجدار مفروش عليه العصب الحاس للصوت( ).
4/ والبصر:- آخر الحواس الظاهر في الترتيب، ويعرفه ابن سينا (بأنه كيف ينفعل عن الألوان)( ). وهو مرآة يتشبح فيها خيال المبصر مادام يحاذيه( ). وهو قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما يتطبع من الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات الألوان( ). وهنا ابن سينا قريب من أرسطو بعيد عن أفلاطون لأنه يعدو الرأي الذي يَرْضاه إلى ارسطو ويعدو الرأي الأول الذي يَرْفضُ إلى أفلاطون( )

الثاني - الإدراك الحسي الباطن (الحواس الباطنة)

ان التمفصل الذي يحدث داخل الذات المدركة، وهي بين الحواس الظاهرة، والباطنة انه يقوم على ان القوى المدركة من باطن، فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات، وبعضها قوى تدرك معاني المحسوسات، ومن المدركات ما يدرك ويفعل معاً، ومنها مايدرك، ولا يفعل. ومنها ما يدرك إدراكاً اولياً، منها ما يدرك إدراكاً ثانياً. الفرق بين إدراك الصورة، وإدراك المعنى ان الصورة هي الشيء الذي تدركه النفس، والحس الظاهر معاً، لكن الحس الظاهر يدركه اولاً ويؤديه إلى النفس، مثل إدراك الشاة لصورة الذئب. اعني شكله وهيأته ولونه، فإن نفس الشاة الباطنة تدركها، ويدركها اولاً حسها الظاهر. واما المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير ان يدركه الحس الظاهر اولاً، مثل إدراك الشاة لمعنى المضّاد في الذئب، وهو المعنى الموجب لخوفها اياه وهروبها عنه، من غير ان يكون الحس يدرك البتة، فالذي يدرك من الذئب اولاً بالحس، ثم القوى الباطنة، هو الصورة، والذي تدركه القوى الباطنة دون الحّسْ فهو المعنى( ). والحواس الباطنة عند ابن سينا، اما مدركة فقط او مدركة متصرفة فإن كانت مدركة فقط، فاما ان تكون مدركة للصور الجزئية او للمعاني الجزئية والتميز بينهما يكمن بين إدراك المصورة وإدراك المعنى.
هنا نلاحظ انه ممكن ان نلمس تقسيمين بين: المدرك للصور، الجزئية يسمى حساً مشتركاً) وهو الذي تجتمع فيه صور المحسوسات الظاهرة، وبين المدرك للمعاني الجزئية يسمى (وهماً) ثم لكل واحدة من هاتين القوتين خزانة، اذا خزانة الحس المشترك هي (الخيال) وخزانة (الوهم) هي الحافظة.
اما المتصرفة: فهي التي من شانها ان تتصرف في المدركات المخزونة وذلك من خلال عملها على التركيب اي بين تلك المدركات المخزونة او العمل على التحليل من خلال استخدمها لذات المدركات هذا في النجاة ويقسمها في الاشارات والتنبيهات الى:-
الأولى: مدركة الصور: وتسمى (حساً مشتركاً)؛ لانها تدرك خيالات المدروسة المحسوسات الظاهرة بالتأدية اليها، والثانية: معينتها بالحفظ، وتسمى خيالاً، ومصوّرة، والثالثة: المتصرفة في المدركات، وتسمى متخيلة ومتفكرة، والرابعة: مدركة المعاني، وتسمى وهما، ومتوهمة، والخامسة: معينتها بالحفظ. وتسمى حافظة وذاكرة. وانما سمى الجميع مدركة وان كانت المدركة منها اثنين فقط لان الإدراكات الباطنة لاتتم الاّ بجميعها( ).
ان بنية الإدراك الحسي الباطني بشكل عام يتكون في هذه الحواس الخمس وهي الآتية:-
اولاً/ مدركة للصور (الحس المشترك) :-وهي القوى المدركة الباطنة والحيوانية قوة فنطاسيا، أي (الحس المشترك) وهي قوة مرتبة في اول التجويف المقدّم من الدماغ، تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأديه اليه منها( ). و ابن سينا يضع للحس المشترك وظائف كما فعل ارسطو في النفس( ).
1/ حيث اتسم بقدرته على التمييز بين موضوعات الحواس المختلفة، اذ لابد ان تقوم بهذه الوظيفة ملكة خاصة بعد عجز الحواس عن ذلك وفي هذا يقول ابن سينا فإن لو لم تكن قوة واحدة تدرك الملون والملموس، لما كان لنا ان نميّز قائلين، انه ليس هذا( ).
2/ واتسم بقدرته على إدراك المشترك بين الحواس المختلفة في (الحركة والسكون والعدد والشكل والمقدار)( ). فهذه المشتركات هي ضمن المحسوس بالذات وخصوصاً النقطة الثانية وهي المشتركة بين جميع الحواس كما سبق الذكر ويقول ابن سينا: (ان الحس المشترك يتلقي الإحساسات ويدرك ما هو مشترك بينهما( ).
3/ إدراك المحسوسات التي بالعرض: ينسب ابن سينا هذا الإدراك إلى الحس المشترك، وهذا المحسوس بالعرض ليس محسوسات بالحقيقية وإنما هي مقارنة بما يحُس فحينما تقول: إن هذا الأبيض ابن فلان فإننا أدركنا ابن فلان عرضاً عندما ما تحقق لحاسة البصر إدراك اللون الأبيض، هو هذا المعنى، لما كنا اذا سمعنا غناء الشخصي، أثبتنا عينة الشخصية( ).
والحس المشترك - كما يرى ابن سينا- عضو مستقل في الدماغ، بينما يرى ارسطو انه الطبيعة المشتركة بين الحواس الظاهرة( ). وقد يعود هذا إلى اخذ ابن سينا بأقوال الفلاسفة المتطببون على وجود ثلاث حواس باطنة أو ثلاث درجات للعمل العقلي:
1- جميع الصور الحسية الجزئية بجملتها في مقدمة الدماغ.
2- التصرف في هذه الصور بمعرفة الصور الموجودة قبلها؛ ليحدث الإدراك على الحقيقة، وذلك في التجويف الأوسط من الدماغ.
3- حفظ الصور المدركة في الحافظة ومركزها مؤخرة الدماغ( ).
ثانياً/ الخيال: يصفها بالقول: - الخيال والمصوّرة وهي قوة مرتبة أيضاً في آخر التجويف المقدم من الدماغ، يحفظ ما قبله الحس المشترك الجزئية الخمس، وتبقى منه بعد غيبة المحسوسات( ).
والفرق بين الحس المشترك والخيال (المصوّرة)
أولاً:- إن الحس المشترك قوة قبول الصورة والخيال قوة حفظها، قوة القبول غير قوة الحفظ، حيث إن القبول وقد يوجد من غير حفظ، كما في الماء، اذ فيه قوة قبول الإشكال دون حفظها( ).
ثانياً:- الحس المشترك حاكم المحسوسات والخيال غير حاكم، بل حافظ فقط المصورة المحسوس تحفظها القوة التي تسمى المصورة والخيال وليس لها حكم البتة بل حفظ، وإما الحس المشترك والحواس الظاهرة فإنها تحكم بجهة ما أو بحكم ما ( ). ولا تنحصر وظيفة الخيال في حفظ الصور فحسب بل انه قد يتناول الصور المخزونة بالجمع والتفريق فيؤلف منها صوراً جديدة لم يقابلها الإنسان في الحس. من حيث إن لها هيئات مستحدثة من عناصر متفرقة في خزانة الخيال. وهذه الصور والأشكال الجديدة هي مثل ما يراه النائم في نومه والحالم في يقظته وهو ما تناوله ابن سينا في (الأحلام والنبوة) وهي أقوال في النبوة تشكل استمراراً لما قاله الفارابي وفيه يوظف المسلمون نظرية ارسطو في تأويله للأحلام يربطوها في النبوة( ). وفي هذا يقول ابن سينا: (إن المتخيلة تستعمل الصور في المصورة عند رقدة الإحساس وقوى العقل فتظهر هذه الصور كأنها موجودة في الخارج. وكأنها حقيقة. وقد تنشأ الرؤية في حالة النوم واليقظة بتأثير سماوي. فيشاهد النائم صورًا إلهية عجيبة مرئية)( ).
وهكذا يظهر اهتمام ابن سينا بالخيال وأهميته في القدرة على التركيب والخلق والمؤلف وهذه الأهمية كان ارسطو مدرك لها فيقول ارسطو: (يكون التخيل الحركة المتولدة عن الإحساس بالعقل. ولما كان البصر هو الحاسة الرئيسية فقد اشتق التخيل (فنطاسيا) (Phantasia) اسمه من النور (فاوس Phaos) إذ بدون النور لا يمكن أن نرى، ولما كانت الصور تبقى فينا وتشبه الإحساسات فإن الحيوانات تفعل أفعالا كثيرة بتأثيرها. وبعضها الآخر لان عقلها يحجب بالانفعال أو الأمراض أو النوم كالحال في الإنسان)( ). أي أن الخيال يعمل في ظل غياب العقل.
ثالثاً: الوهم وهي قوة مركبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ، تدرك المعاني الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب عنه، وان الولد معطوف عليه( ).
وهنا ينظر ابن سينا: ((هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان ان حكماً ليس فصلاً كالحكم العقلي؛ ولكن حكماً تخيليا مقرونا بالجزئية وبالصورة الحّسية وعنه يصدر أكثر الأفعال الحيوانية( ). أما عن طبيعة حكمه فابن سينا يفصل هذا بالقول: إن ذلك الوهم من وجوه: من ذلك الإلهامات الفائضة على الكل من الرحمة الإلهية، مثل حال الطفل ساعة يولد في تعلقه بالثدي…، وقسم اخر يكون لشيء كالتجربة، وذلك ان الحيوان اذا أصابه الم او لذة او وصل اليه نافع حسي، او ضار حسي مقارنا لصورة حسية، فارتسم في المصورة صورة الشيء او صورة مايقارنه وارتسم في الذكر معنى النسبة بينهما والحكم فيها فإن الذكر لذاته ولجبلته ينال ذلك، فإذا لاح للمتخيلة تلك الصورة من خارج تحركت في المصورة، وتحرك معها ما قارنها من المعاني النافعة او الضارة،…، والوهم حاكم في الحيوان يحتاج في أفعاله إلى طاعة هذه القوى له، واكثر ما يحتاج اليه هو الذكر، والحس، أما المصورة فيحتاج إليها؛ بسبب الذكر او التذكر والذكر قد يوجد في سائر الحيوانات. أما التذكر وهو الاحتيال لاستعادة ما اندرس فلا يوجد على ما أظن في الإنسان( ). وعندما يقارن ابن سينا في درجات الإدراك للنفس الحيوانية يقول: الحس لم يجردها عن المادة تجريدا تاماً ولا جردها عن لواحق المادة، وأما الخيال فإنه قد جردها عن المادة تجريداً تاماً ولكنه لم يجردها البتة عن لواحق المادة؛ لأن الصور في الخيال هي على حساب الصور المحسوسة وعلى تقدير ما وتكييف ووضع ما(…)، وأما الوهم فإنه قد تعدّى قليلاً عن هذه المرتبة في التجريد، لأنه ينال المعاني التي ليست هي في ذواتها بماّدية، وان عرض لها أن تكون في مادة وذلك لان الشكل واللون والوضع وما أشبه ذلك امور لا يمكن ان تكون الا مواد جسمانية( ). وهنا نلاحظ ان ابن سينا في (الوهم) كان يتابع الفارابي الذي يقول فيها: وقوى تسمى (وهَمْاً) وهي التي تدرك من المحسوس مالايحس مثل القوة التي في الشاة اذا تشبحُ صورة الذئب في حالة الشاة فتشبحت عداوته وردإته فيها( ). وهذه القوة الحافظة.
الرابعة: الحافظة او الذاكرة هي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ، تحفظ ماتدركه القوة الوهمية، من المعاني الغير المحسوسة، الموجودة في المحسوسات الجزئية ونسبة القوة الحافظة إلى القوة الوهمية كنسبة القوة التي تسمى خيالاً إلى الحس، ونسبة تلك القوة إلى المعاني كنسبة هذه القوة إلى الصور المحسوسة( ). وهي تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة في المحسوسات الجزئية( ). فهي خزانة الوهم وتسمى متذكرة، فهي حافظة لأنها تصون ما فيها وهي متذكرة لسرعة استعدادها ( ). وهذه القوة تتميز بالتعقيد فيقول عنها: والحقّ أنّ الذكر ملاحظة المحفوظ. فهو مركّب من إدراك لشيء أُدرِك في وقت آخر وحُفِظ(…) والاسترجاع طلب تلك الملاحظ بالفكر. فإذن الذاكرة ليست هي قوةّ بسيطة؛ بل هي مبدأ فعل مركّب يتركب من أفعال قوتين: مدركة وحافظة والمسترجعة مبدأ فعل يتركب من أفعال ثلاث قوى. متصرفة، ومدركة وحافظة)( ).

المطلب الثاني :الإدراك العقلي

إننا نلمس أن كل الدراسات السابقة تتعامل مع مفهوم نظرية المعرفة من زاوية الأداة فقط ومستوى التجريد الذي تقوم به في حين تهمل المكونات الثلاثة لنظرية المعرفة وهي الذات والأداة والموضوع والوسط الذي عرضنا له في مجال المعرفة الحسية وعلى هذا نحاول هنا أن نلمس هذه الأبعاد الثلاثة للمعرفة. حيث نلاحظ أن المعرفة لدى ابن سينا تتعامل مع عالمين لكل منهما وسطه ويحاول أن يشطرهم إلى عالمين عالم مادي حسي وعالم روحي عقلي يعطي للأول مكانة أدنى من الثاني فيتمركز حول الروح ويقصي المادة وهو بذلك خاضع لتأثيرات متباينة منها:
1/ محاولات التوفيق بين أفلاطون وارسطو اي بين _مثالية أفلاطونية خالصة تمتد هذه النظرية التي هي تجربيه في أولها بما تعطيه الحواس من شأن أساس فتكون ارسطوطاليسة)( ). وقد ابتدأت هذه التوفيقية بجهود الكندي في رسالته (العقل) التي تجدر مقارنتها بنظرية العقل السينوية؛ لأنه يقول بالعقول الأربعة مستوحياً الاسكندر الافردسي( ). وجهود الفارابي في هذا المجال واضحة وجدت تأثيرها في ابن سينا حيث يرجع النصيب الوافر من هذا الجهد. أما السنة التي سار عليها هؤلاء المفكرون فمن الجَلِيّ انها طريقة الافلاطونية الجديدة في الانتخاب( ). وهذا واضح على مستوى المرجعية الفكرية التي تقوم على أن المعرفة هي الغاية فالسعادة هي في المعرفة بإدراك ما يلائم الإنسان وما يختص به ومن ثَمَّ يصبح للإنسان وظيفة أساسية تقوم على إدراك حقيقة الوجود والتطلع إلى المبدأ الأول باعتبار انه إدراك كمال خير لهذا الجوهر ينتج لذة لا محال وهي أقوى لذة وأبهجها بالمقارنة باللذة الحسية( ). ونلاحظ أن نظرة تمتد طويلاً في التراث اليوناني قائم على تشطير العالم إلى أعلى سماوي وأدنى أرضي.
2/ إن التراث الإسلامي وما يشكله من مرجعية فكرية وسياسية واجتماعية ذات بعد عقائدي وجدت لدى ابن سينا أثرًا كبيرًا في منظومته الفكرية وخصوصاً حالة النبوة وإثباتها قائم على تشطير الكون إلى سماوي روحي ثابت وأرضي مادي متغير وإعلاء من شأن السماء على حساب الأرض وبُعْدها الغرائزي- الجسدي، حيث يواصل ابن سينا هذا الأمر الذي وجدنا له أصلاً عند افلاطون و ارسطو.
فانطلاقاً من الموضوع المادي فهذه الإدراكات مترتبة في التجريد، فالحسي مشروط بثلاثة أشياء: حضور المادّة واكتناف الهيئات، وكون المدرك جزئياً والتخيل مجرداً عن الشرط الأول. والوهم مجرّد عن الأولين والعقل عن الجميع( ). ويوضح الوظيفة التي تقوم بها القوى الحيوانية من معرفة النفس الناطقة أمور اربعة.
اولها: انتزاع النفس الكلّيات المفردة عن الجزئيات، على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة، وعن علائق المادة، ولواحقها، ومراعاة المشترك فيه، والمتباين به، والذاتي وجوده، والعرضي، فيحدث للنفس من ذلك مبادئ التصور، وذلك بمعاونة استعمالها للخيال، والوهم.
الثاني: إيقاع النفس مناسبات بين هذه الكليات المفردة على سلب وإيجاب، فما كان التأليف فيها سلباً أو إيجابا بينَّاً بنفسه أخذته، وما كان ليس كذلك تركته إلى مصادفة الواسطة.
والثالث: تحصيل المقّدمات التجريبية، وهو ان يوجد بالحسّ محمول لازم الحكم لموضوع لزوم الإيجاب، أو السلب، او منافساً له، او تالياً، موجب الاتصال، او مسلوبة، أو موجب العناد، أو مسلوبة، غير مناف له (…)، ويكون ذلك اعتقاداً حاصلاً من حس، وقياس إما الحس: فلأجل مشاهدة ذلك، وإما القياس فلأنه لو كان اتفاقياً لما وجد دائماً، او في أكثر الأمر.
والرابع: الأخبار التي يقع التصديق بها لشد لتواتر. فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور والتصديق( ).
ثم تنتفي الحاجة إلى الجسد، وما يرتبط به بقوله: وأما إذا استعملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق، وتكون القوى الحسّية، والخيالية، وسائر القوى البدنية صارفة لها عن فعلها( ).
وعلى هذا يحدث تشطير في القوة العقلية: فالعقل يكون وسط السلسلة بين السماء والأرض الأعلى والأدنى، وعلى هذا تكون هناك جنبتان، فهذه القوة العاملة التي لها بالقياس إلى الجنبة التي بالقياس إلى الجنبة التي توقه لينفعل ويستفيد منه ويقبل عنه( ). والعقل عند ابن سينا شابه لما عند ارسطو الذي لديه العقل نظري موضوعة الكلي الضروري وعملي أو حاس موضوعة الوسائل الجزئية( ).
البعد الروحي العقلي: حيث نلاحظ ان البعد المادي شكل المقولات، والاستعداد، لكن الموضوع الذي سوف يكون موضوع المعرفة هو العالم العقلي والذي هو يؤثر في الإنسان، ويجعله ينتقل من استعداد بالقوة إلى العقل وهكذا ممكن ان نلاحظ ان المعرفة لها موضوعان موضوع سماوي موضوع ارضي البعد ارضي المادي هو الأدنى والبعد السماوي هو الأعلى والإنسان يبدأ بالانفعال بما هو مادي الذي يتحول مجرد وسيلة لتحقيق غاية هي معرفة أسماء (العلم الإلهي).
وهنا نلاحظ مراتب للمعرفة هي تنقسم إلى ما يكون كاملاً بالقوة والى ما يكون كاملاً بالفعل: وهي كاملة بالقوة مختلفة أيضا بحسب الشدّة والضعف فمبدؤها كما يكون للطفل من قوة الكتابة، ووسطها كما يكون للأمي المستعد للتعلم ومنتهاها كما يكون للقادر على الكتابة الذي لا يكتب وله أن يكتب متى شاء. فقوة النفس المناسبة للمرتبة الأولى تسمى عقلاً تشبيها إياها حينئذ بالهيولي الأول الخالية في نفسها عن جميع الصور المستعدّة لقبولها. وهي حاصلة لجميع اشخاص النوع في مبادئ فطرتهم( ).
وقوتها المناسبة للمرتبة المتوسطة تسمى عقلاً بالملكة. وهي ما يكون عند حصول المعقولات الأولى التي هي العلوم الأولية بحسب الاستعداد لتحصيل المعقولات الثانية التي هي العلوم المكتسبة, ومراتب الناس تختلف في تحصيلها فمنهم من يحصلها بشوق ما لنفس إليها يبعثها على حركة فكرية شاقّة في طلب تلك المعقولات. وهو من أصحاب الفكرة، ومنهم من يظفر بها من غير حركة أما مع شوق أولا مع شوق. وهو من أصحاب الحدس وصحاب المرتبة الأخيرة ذو قوة قدسية
وأما قوّتها المناسبة للمرتبة الأخيرة فتسمّى عقلاً بالفعل، وهي ما يكون عند الاقتدار على استحضار المعقولات الثانية بالفعل متى شاء بعد الاكتساب بالفكر او الحدس وهذه قوّة النفس( ). او هي:
1- معرفة المبادئ الأولى أو المقدمات: والتي يقابلها (العقل بالملكة) وقد سمي كذلك لان القوة فيه مهيأة للخروج إلى العقل.
2- ومعرفة المعاني المجردة يقابلها العقل بالفعل الذي يدرك فعلياً الصورة المعقولة التي يدركها بالقوة العقل الهيولاني او العقل بالملكة.
3- المعرفة بإشراق من الله، يقابلها العقل المنبثق او العقل الموحى به الذي يأتي من الخارج( ).
وهنا نلاحظ أن الموضوع الخارجي هو الذي يحول الاستعداد الذي تولد بعد عملية طويلة لتجريد تحولت إلى معاني مجردة من تصورات وتصديقات يأتي الموضوع الخارجي فيحول تلك القوة إلى فعل قادر على إدراك المعاني المجردة وهذا يتحقق عبر العقل الفعال. أي بين العقل (بالقوة) والعقل بالفعل الذي هو عقل منفصل عن الأول وهو جزء من سلسلة الفيض السماوية فهو مستقل عن الذات خارجها، الذات تتعقل بفعل تأثيره فيها. لكن العقل الفعال لدى ارسطو كان جزءاً من العقل الإنساني يبقى بعد فناء النفس وهو نوعان:
الأول/ ما يصلح ان يكون هيولى لكل نوع وهذا هو بالقوة جميع أفراد النوع.
الثاني/ هو العلة والفاعل لأنه يحدثها جميعاً، والأمر فيهما كالنسبة بين الفن إلى هيولاه، فمن الواجب ان نحدد هذا التميز، بين العقل الذي يشبه الهيولي لأنه يصبح جميع المعقولات، من جهة أخرى العقل الذي يشبه العلة الفاعلة، لأنه يحدثها جميعاً، كأنه حال شبيه بالضوء، لان الضوء أيضا بوجه ما يحيل الألوان بالقوة إلى ألوان بالفعل. وهذا العقل هو المفارق اللامنفعل غير الممتزج، من حيث انه بالجوهر فعل، لان الفاعل دائماً أسمى من المنفعل(…) وبدون العقل الفعال لا نعقل( ).
وهنا أرسطو يأخذ بفكرة (انكساجوراس) عن العقل القائلة انه يعقل جميع الأشياء، غير ممتزج حتى يستطيع أن يأمر (اي يعرف) لأنه حين يظهر صورته إلى جانب الصورة الغريبة، فإنه يعترض سبيل هذه الصورة ويحول دون تحقيقها( ).
لكن العقل الفعال يغدو مع ابن سينا خارج الذات موضوع المعرفة الموجود بالفعل والقادر على تحول العقل بالقوة بعده استعداداً إلى وجود بالفعل. أي من عقل هيولاني كقوة مطلقة أو استعداد محض إلى عقل بالملكة وهو الذي تحصل فيه المعقولات الأولى التي هي مبادئ التصور التي يقع بها التصديق لا باكتساب مثل قولنا: إن المستقيم اقصر مسافة بين نقطتين، وان الكل أعظم من الجزء. ثم العقل بالفعل فهو الذي تحصل فيه المعقولات الثواني التي تستند في حصولها على المعقولات الأولى، واخيراً نجد العقل المستفاد: وهو كمال العقل بالفعل، وتكون فيه المعقولات حاضرة بالفعل يطالعها ويعقلها بالفعل ويعقل انه يعقلها.
ويكون دور العقل الفعال أن يُخرج المعقولات من القوة إلى الفعل وهو بالنسبة لنا كالشمس بالنسبة للبصر(..) فهو همزة الوصل بين الإنسان وعالم العقول العليا. وهو أساس أي إدراك عقلي وعن طريقه يستطيع الإنسان معرفة الغيب( ).
لكن كيف يتم الانتقال من المعقولات الأولى إلى المعقولات الثانية بالفكر او الحدس وهنا ضرورة تحديد حدود هذين المفهومين لدى ابن سينا فالفكرة (هي حركة ما للنفس في المعاني مستعينة بالتخّيل في أكثر الأمر، يطلب بها الحد الأوسط او ما يجري مجراه مما يصاربه إلى العلم بالمجهول حاله الفقد استعراضا للمخزون في الباطن وما يجري مجراه فربما تأدّت إلى المطلوب، أو ربما انبتّت.
وأما الحدس وهو أن يتمثل الحدّ الأوسط في الذهن دفعة أما عقيب طلب وشوق من غير حركة وأما من غير اشتياق وحركة ويمثل معه ما هو وسط له او في حكمه).
وحيث يوضح الفرق بين الاثنين فالفكر حيث (النفس مستعينة بالتخيل في أكثر الأمر) إشارة إلى أن الفكر يكون في الجزيئات أكثر. لأنها في الكليات تكون مستعينة بالتفكر وهما متغايران بالاعتبار كما مر(..). فالتفكير حركة في المعاني من المطالب يطلب بها مبادئ تلك المطالب كالحدود (الوسطى وغيرها فربما اثبت. وربما تأدتّ ويتم إذا تأدتّ بحركة أخرى من الحدود الوسطى إلى المطالب.
وأما الحدس فهو ظفر عند الالتفات إلى المطالب بالحدود والوسطى دفعة وتمثل للمطالب في الذهن مع الحدود الوسطى كذلك من غير الحركتين المذكورتين سواء كان مع شوق او لم يكن( ).
في طرق اكتساب النفس الناطقة للعلوم، واعلم أن التعلم سواء حصل من غير المتعلم أو حصل من نفس المتعلم، متفاوت فإن من المتعلمين من يكون اقرب إلى التصور؛ لأن استعداده الذي قبل الاستعداد الذي ذكرناه أقوى، فإن كان ذلك الإنسان مستعداً للاستكمال فيما بينه وبين نفس سمي هذا الاستعداد القوى حدسا، وهذا الاستعداد قد يشتد في بعض الناس، حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كبير شيء والى تخريج وتعليم، بل يكون شديد الاستعداد لذلك، كأن الاستعداد الثاني حاصل له، بل كأنه يعرف كل شيء من نفسه، وهذه الدرجة أعلى درجات هذا الاستعداد، ويجب ان تسمى هذه الحال من العقل الهيولاني عقلا قدسيا. وهو من جنس العقل بالملكة( ).
وهكذا نلاحظ انه يحدد خطين للعلم بواسطة حصول الحد الأوسط في القياس، فتارة يحصل بالحدس، والحدس فعل للذهن ومبادئ التعليم الحدس، فإن الأشياء تنتهي لا محالة إلى حدوس استنبطها أرباب تلك الحدوس، ثم أدوها إلى المتعلمين( ).
فيصبح الحدس المصدر للمعرفة إلا أنه يقول: جائز مما يتفاوت بالكم والكيف. (اما الكم فلأن بعض الناس أكثر عدداً في حدس، وأما في الكيف فلأن بعضهم يكون في أسرع زمان يحدس. وهذا يمكن توجيهه فإن اختلافه في الكيف لما اعتبر بحسب زمان الحدس والحادس يصنع الظاهر فيتصل بالعقل الفعال فيفيض منه عليه المبدأ المرتب)( ).
هكذا يظهر أمامنا مستويان من الإدراك والتنوع يكون في الموضوع المدرك وما يوجبه من أداة تدركه تحدث تشطير في إنسان فتجعله بين السماء حيث الاعلى والأرفع والأرض حيث الأدنى والأسفل. وهذا يظهر في المقدمتين: (ان كل ما ترتسم فيه صورة معقولة فهو ليس بجسم ولا جسماني. وان كل ما ترتسم فيه صورة محسوسة او متعلقة بها فهو اما جسم واما قوة في جسم( ). وهذا الفصل يوضح اثر المدرك بالقوة المدركة والتشابه فيما بينهما ويفصل في مابين الاثنين حسية او عقلية ويوضح هذا بقوله: اما القوى الجسمانية فقابلة للقسمة إلى جزئين يكون احدهما مدركا والآخر حافظا لكون الأجسام قابلة للتجزئة. واما العاقلة فلا تقبل الانقسام، لما سياتي، فإذن يجب ان يكون شيء غيرها بالذات ترتسم في المعقولات ويكون هو خزانة حافظة لها وذلك الشيء لا يمكن ان يكون جسما او جسمانيا. لامتناع ارتسام المعقولات فيهما، ولا يمكن أن يكون نفسا لان النفس من حيث هي نفس لا تكون المعقولات مرتسمة فيها بالفعل، بل بالقوة. فإذن هاهنا موجود مرتسم بصور جميع المعقولات بالفعل ليس بجسم ولا جسماني ولا بنفس، وهو العقل الفعال( ).
ثم نرى ابن سينا يقيم بين الاثنين (السماء والارض) صلة عبر فعالية الإدراك للإنسان فيقول: انك تجد العقل المستفاد بل العقل القدسي رئيسيا بخدمة الكل، وهو الغاية القصوى، ثم العقل بالفعل بخدمة العقل بالملكة، والعقل الهيولاني بما فيه من الاستعداد بخدمة العقل بالملكة، ثم العقل العملي يخدم جميع هذه، وانه مدير لكل العلاقة وتخدمه الوهم والمتخيلة( ).

المطلب ثالث:الحدس الصوفي (التصوف العقلي عند ابن سينا انموذجا)

هنا نلاحظ ان لدى ابن سينا ثلاث مشاكل متداخلة بشكل واضح هي:-
اولا/ الميعاد: وهو يعرض لمصير النفس الإنسانية بعد انفصالها عن الجسد ودخولها في عالم ثاني فقد تركت تلك العلاقة التي تربطها بالجسد- آثارها عليها، في رحلتها الأخروية وهو يعرض للميعاد من خلال بعدين بعد شرعي حيث لا سبيل إلى إثباته إلا عن طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو البعث للبدن وحال السعادة والشقاوة بحسب البدن والطريق الثاني من خلال البرهان وهذه المقولة هي التي تقوم على قول ابن سينا وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس التي للأنفس( ).
ثانياً/ السعادة والألم: السعادة (اللذة) فإنه يقول ان اللذة ليست الا إدراك الملائم، والأول افضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك، فهو افضل لاذ وملتذ وان إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس، لانه، اعني العقل، يعقل ويدرك الأمر الباقي الكلي وبتحديه ويصير هو هو ( ). وانه يقارن بين اللذة التي يجلبها الإدراك العقلي واللذة إلى يجلبها الإدراك الحس بقوله: (لا نسبة بينهما) الا انه يبرر عدم شعورنا بالألم لفقدان تلك اللذة العقلية التي يعطيها الصدارة لكوننا داخل البدن لهذا يرى اللذة تتحقق في حالة انفرادنا عن البدن لكنا بمطالعتنا ذاتنا، وقد صارت عالما عقليا مطابقاً للموجودات الحقيقية والملذات الحقيقية، متصلة بها اتصال معقول بمعقول نجد من اللذة والبهاء ما لانهاية له( ).
ثالثا/المعرفة والطرق المؤدية لها:- هي المعرفة القائمة على الاتصال بالعقل من النفس ويحصل هذا من خلال بعدين الأول في حالة الموت وعودة الروح أو في حالة المعرفة التي تحصل من خلال طرق الزهد او النبوة وليحكما بالاتصال بالعقل الفعال هكذا يضع ابن سينا أمامنا طريقين لتحقيق النجاة في هذه الحياة الدينا وبلوغ الخلاص النهائي في الحياة الآخرة.
الطريق الأول وهو الشرع المدرك بالمخيلة عبر العقل القدسي، ويعتمد الرموز ويتناول فيه أمران هما الشرع والعامة، والثاني اثبات البوة والية الإدراك.
الطريق الثاني فهو المدرك بالعقل والممارسة الصوفية وهو الذي يصل به العارف إلى الحقيقة.
اما الطريق الأول-(الشرع) حيث يعتبر ابن سينا أن الشرع طريق مهم في إثبات(المعاد) وفي هذا يقول: (يجب ان نعلم ان المعاد منه مقبول من الشرع، ولا سبيل إلى إثباته إلا عن طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا تحتاج إلى ان تعلم. وقد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها نبينا المصطفى محمد()حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن( ). من الواضح انه يجعل هذه مرتبة اقل ويصفها انها مرتبطة بالبدن، وهي المعرفة الشرعية قد جاءت أساسا كمرتبه ثانية عبر الاتصال بالعقل الفعال عبر المخيلة. وهنا نلاحظ بعدين لهذا الطريق:-
1/العامة: حيث يؤكد ابن سينا على الشرح وهو يوجه خطابة إلى العامة من الناس،الذين يحتاجون إلى أمثلة حسية تقرب لهم الأمر، ثم يربط هذا بمنبهات وهي اما الحركات واما اعدام حركات، تفضي إلى حركات. فآما الحركات فمثل(الصلوات) واما إعدام الحركات مثل(الصوم) ويقرب هذا بالحج والجهاد والقرابين على انها جميعا تعين على معرفة الله وتقوية السنة وبسطها( ). وهذه تعين على تدبير احوال الناس على ما تنتظم به أسباب معيشتهم ومصالح معادهم ويلاحظ ان هذه الأنفس التي لم تدنس فإنها إذا ذكرت بالجنة والنار حصل لها شوق وأصابها وجد مبرح مع لذة.
2/النبي: العمل على إثبات النبوة كان أول من قام به الفارابي به رغم المؤشرات التي لمسها من فيلسوف العرب الكندي، وقد اندفع الفارابي مدافعا عن النبوة ضد الطاعنين فيها ولاسيما محمد بن زكريا الرازي 351-413 وخصوصا في كتابه (العلم الإلهي) المنشور ضمن الرسائل الفلسفية التي جمعها وحققها بوكراس. حيث أنكر الرازي مدعيا دعاوى فيلسوف المعرة حين قال:
كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه ومساءه
ونظر الفارابي إلى النبوة على أنها جميع المعارف الفائقة التي تسمو على الأحداث الجزئية، وترتفع نحو المستقبل او الحاضر،بمخيلة تتجاوز حدود القدرة الإنسانية المتعارفة، وتبقى مرتبطة بالنفس ارتباطا فطريا وليست هي بسيطرة قوى خارجية على النفس، بل هي إمداد للقوة العاقلة كي يبلغ الإنسان بها ومنها إلى مرحلة الكمال المرغوب فيه وعمليتها الأصلية هي الوحي وقد ميز الفلاسفة بين الوحي فجعلوه للنبي دون سائر المرسلين وأما الإلهام فللعارفين والأولياء والمرسلين( ) والفئات الموصلة بين النبي والعقل الفعال بنظر الفارابي هي المخيلة إذا بلغت قوة المتخيلة نهاية الكمال- فيقبل في يقظته عن العقل الفعال الحاضر والمستقبل او محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها، فيكون له- بما قبله من المعقولات- نبوءة بالأشياء الإلهية، فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي أليها القوة المتخيلة( ). فقد أكد الفارابي على مستوين من الاتصال بالعقل طريق العقل وطريق المخيلة او طريق الأمل وطريق الإلهام، وقد أصبحت المخيلة ممكنه الاتصال بالعقل الفعال وهذه هي حالة الأنبياء فكل إلهاماتهم وما ينقلون ألينا من وحي منزل اثر من اثار المخيلة ونتيجة من نتائجها( ). وقد انطلق الفارابي مدافعا عن النبوة موظف كل مرجعياته وهي هذه المرة ارسطو وخصوصا (رسالة الأحلام) ورسالة التنبؤ بواسطة النوم). واعتنق الفارابي هذه النظرية الأرسطية في الأحلام وقال معه انها اثر من اثار المخيلة ونتيجة من نتائجها( ). ثم جعل منها الفارابي أي المخيلة ممكنة الاتصال بالعالم العلوي واختراق حجب الغيب وقد سار ابن سينا على خطى الفارابي. اذ يعرف ابن سينا(الوحي) في رسالة (الفعل والانفعال) بأنه
(الإلقاء الخفي من الأمر العقلي بأذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول هذا الإلقاء في حالة اليقظة ويسمى (الوحي).
وأما في حالة النوم ويسمى(النفث في الروع) وأذن فحقيقة النبوة أنها تتم بالاتصال بين النفوس المستعدة لها وبين الأمر العقلي (جبرائيل) وابن سينا يضع للنبي خصائص ثلاث.
1- إن يكون متمتعاً بقوة قدسية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال من غير فكر ولا نظر، فتصل به إلى كمال العلم من غير تعليم بشري. حتى يحيط علماً بما شاء الله تعالى على قدر الطاقة البشرية من معرفة الإله الحق. وطبقات الملائكة. وسائر أصناف الخلق وكيفية المبدأ والمعاد، إلى ذلك مما دل عليه قوله تعالى(علمك ما لم تكن تعلم).
2- أن يكون متمتعاً بمخيلة قوية تعينه على تخيلات الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلية، ويستطيع بها أن يدرك كثيراً من الأمور التي يقوم وقوعها بزمان طويل فيخبر عنها، وكثيرا من الأمور التي تكون في الزمان المستقبل فينذر بها.
3- أن تكون نفسه المحركة قادرة على أهلاك وقلب الحقائق من التدمير على قوم بريح عاصف. وآخرين بصاعقة أو طوفان. وهكذا مثل الزلزلة فأبن سينا في هذه الكلمات القلائل يجعل النبي في أعلى مستوى بشرى، لأنه يملك قوة قدسية ذات حدس يمكنها من إدراك الحقائق بحدودها الموصلة أليها.
ومخيلة قوية يستطيع بها أن يدرك الجزئيات على اختلاف أنواعها. وأن يكون في الوقت نفسه قادراً على خرق العادة لتحقق على يديه صنعة الإعجاز، وهو بإثباته لهذه الخصائص لا يناقض الدين( ). ويقدم ابن سينا أدلة لإثبات النبوة والرد على منكريها حيث يؤكد أننا نتوصل إلى إدراك الأمور الفعلية عن طريق اكتشاف الحدود الوسطى الموصلة إليها. ومن المشاهد أن هذه الحدود إما أن تحصل عند الإنسان:
1- أما أن تحصل عند الإنسان بطريق (الحدس) وهو فعل للذهن يستنبط به بذاته الحد الأوسط.
2- إما ما يسمى بالذكاء إن هو إلا قوة هذا الحدس.
3- وإما أن تحصل بالتعليم وفي هذه الحالة الأخيرة لا بد أن تكون هناك مبادئ للتعليم قد حصلت بالحدس عند أربابها ثم انتقلت إلى التلاميذ والمريدين، والمشاهد أن من الناس من يصل بحدسه إلى الحد الأوسط فينعقد في ذهنه القياس بلا معلم فيدرك الحقيقة المجهولة.
وإذا أمكننا أن نثبت أنه من الممكن أن يثبت للنبي هذه الخاصية فبالإمكان أن يثبت له الاتصال بالسماء والاطلاع على الغيب أشد ظهوراً وبداهة وذلك لان التجربة والقياس يشهدان بأن بعض الناس يستطيع الوقوف على المجهول في أثناء النوم. إذن فليس ببعيد أن يستكشف النبي ذلك حال اليقظة لاشتغاله بالحق على الخلق وأعراضه عن عالم الحس إلى جانب القديس( ).
الطريق الثاني فهو البرهاني المدرك بالعقل والقياس البرهاني وهذا الطريق هو الذي يقوم على قول ابن سينا:(السعادة والشقاوة والثابتتان بالمقاييس، اللتان بلا نفس)( )
ويظهر ان ابن سينا يرسم طريقين للخلاص جعل الأول هو الشريعة القائم على المخيلة بما يفيض عن العقل الفعال وهو يقوم على تصورات ذات طابع حسي بدني، أما الطريق الثاني فهو الأرفع وهو النصوص(العرفان) الذي يقوم على النجاة للأنفس والمراد هنا ان الطريق الثاني أرفع بالنسبة للعامة التي تتلقى الشريعة وهي تعتمد على الشريعة التي تقدم لهم بصور ومجازات تقرب الحقائق الكلية لهم أما الإلهام فهو للنخبة من الطالبين ولكن يبقى العقل القدسي (النبوي) أعلى من الجميع من العامة ومن النخبة لارتفاع استعداده وفي ما يخص الطريق الثاني يقول ابن سينا يصف النخبة: (والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفتون إلى تلك وإن أعطوها، فلا يستعظمونها في جنب هذه التي هي مقاربة الخلق الأول، على ما نصفه عن قريب)( )
وهكذا تغدو مقولة (المعاد) مقولة مركزية في النظرية النفسية ذات البعد الميتافيزيقي وهي تقوم على ثنائية السعادة (اللذة) الشقاوة (الألم)، إن إدراك تلك الثنائية مرتبط بالعلاقة بين النفس، والجسد حيث تظهر النفس، وكأنها قد تأثرت بذلك الجسد، ومن هنا نلمس مسعى ابن سينا إلى إثبات حدوث النفس، والبرهنة عليه مع العمل على رفض التناسخ، إلا أنه يجعل من الجسد العائق أو شعور النفس بفقدانها اللذة لأن الجسد يقف حائلاً دون ذلك الإدراك ويشترط قدرة النفس على التجريد حيث هي اشد تقصياً للمدرك وتجريداً له، ولا يمكن (أن نطلبها إلا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب والخوف من أعناقنا)( ) لان انشغالها بالبدن قد أنساها نشأتها ذاتها ومعشوقها كما ينسي المرض الاستلذاذ بالحلو واشتهائه( ) لكن ما ان يزول المانع حتى تشعر بالبلاء العظيم، وهذا يحصل:-
1- في حالة حدوث الموت حيث تزول غشاوة الجسد و يتم اكتشاف الحقيقة.
2- وفي حالة تحرر الإنسان في حياته الدنيا من البدن و شواغله احس باللذة حسب درجة تحدده، و اذا لم يتحرر شغله البدن ليس فقط عن شعوره باللذة بل الشعور بالالم الناجم عن فقدان اللذة ساعتها اما ان تكون (من شقاء كامل ابدي او موقف حسب درجة انشغالها بالبدن)( ) وعلى هذا نجد لديه تصنيف لهذه الانفس بحسب تحديدها من البدن بالاتي:-
أ- النفوس العالمة: وهي تلك النفوس التي اكتشفت الحقيقة وتجاوزت حاجز البدن فتمكنت من المعرفة التامة بالوجود ويقول ابن سينا:(ان النفس الناطقة كمالها الخاصّ بها ان تصير عالماً عقلياً(…) فتنقلب عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كله، مشاهداً لما هو الحقّ المطلق والخير المطلق والجمال الحق)( )
ب- النفوس العالمة ولكن غير الفاضلة وهي التي تنبهت وهي في البدن، لكمالها فعقلت بالعقل انه موجود أصبحت نازعة إليه، لكن انشغالها بالبدن قد أنساها ذاتها كما ينسي المرض الاستلذاذ بالحلو واشتهائه فإذا فارقت هذه النفوس هذا البدن عرض لها عارضان:- أولهما بـاللذة التي تستلزم معرفتها بكمالها، وثانيهما الألم الناتج عن الإحساس بفقدان تلك اللذة بسبب انشغالها بالبدن، وبذلك تتألم ألما عظيماً عند ما تفارق البدن بالموت لان البدن كان لها بمثابة المانع( ).
جـ- ثم الأنفس السليمة التي هي الفطرة أي التي لم تعرف الطريق الأول أي لم تستكمل جوهرها ولم تعرف الطريق الثاني أي لم تسمع وهي لم تدنس بالعقائد المخالفة.
د- وأنفس البَلْه من الناس التي لم تكتسب الشوق ولا عرفت كما لها فإذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة للهيئات البدنية الرديئة وليس لها هيأت غير ذلك ولا معنى ولا عرفت كمالها فأنها تعذّب عذاباً شديداً بمفارقة البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل لها شوق؛ لأن آلة ذلك التي هي البدن قد بطلت( ) ثم مدينة الأنفس المقدسة التي يقدم لها توصيف على أنها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل بكمالها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقة، وتتبرأ عن النظر إلى ما خلفها والى المملكة التي كانت لها كل التبرئ، ولو كان بقي منها أثر من ذلك اعتقادي او خلقي، تأذت وتخلفت لاجله عن درجة عليين إلى ان ينفسخ عنها.( )
ثم يرسم خطاً لتحقيق هذا الخلاص وتحقيق الكمال في الحياة الدنيا عبر مقولة (العشق والشوق) حيث ينتقل الاستعداد من القوة إلى الفعل وتطلع على المثل العليا، ادركت من السعادة مالا يخطر على قلب من ينزع إلى المادة ويتمسك بشواغلها( ) حيث يرسم لها التراتبية الكونية من خلال ثنائية العشق والشوق التي تجد اصولها لدى ارسطو حيث سعى الكون العاقل إلى إدراك كماله عبر اقتدائه بالكامل (الله) وهي الفكرة الغائية للكون وهنا نجد هذه الفكرة مؤثرة ويعمل ابن سينا على اكمالها عبر وصل الله بالعالم.
1- فالشوق: يعد حركة نحو الكمال، أي نحو الابتهاج، ولما كان الله كاملاً لا يغيب عنه شيء، فأنه تعالى منزه عن الشوق.
2- اما العشق: فأنه يعد معبراً عن الكمال.
ويقارن ابن سينا بين الاثنين مبيناً قصور الأول الذي يصدر عن الموجود الجزئي الذي يرغب في إدراك الكمال فيقول ابن سينا:(كل مشتاق فأنه قد نال شيئاً ما وفاته شيء ما) ولكنه يقارنه هذا الجزئي بما هو كامل ومطلق وثابت فيقول(وأما العشق فمعنى آخر والأول عاشق لذاته من ذاته عشق من غيره أو لم يعشق، ولكنه ليس لا يعشق من غيره بل هو معشوق لذاته من ذاته ومن أشياء كثيرة غيره)( ) وهنا يظهر أن الشوق حركة يقوم بها الجزئي الناقص لبلوغ الكمال، اما الثانية فهي صفة الكمال فهي صفة لله يعشق ذاته ولغيره يعشق الله ويلاحظ ان الشوق هو صفة تتمتع بها الأنفس الناطقة في حياتها وتفقدها في حالة موتها، أما الله والأفلاك فلا حاجة لها بالشوق لأنها كاملة وهذا يظهر في المراتب الكونية الاتية:-
المرتبة الأولى:- مرتبة الله تعالى الواجب الأول اشد الاشياء إدراكاً لاشد الاشياء كمالاً.
المرتبة الثانية:- مرتبة العقول وهذه المرتبة لا تخالطها القوة، ولذلك فهي مرتبة عشق والأشواق، وهم المبتهجون به وبذواتهم(…) فليس ينسب إلى الأولون الحق والا إلى التالين من خلص أوليائه القديسين، شوق( ).
المرتبة الثالثة: جزئية النفوس الناطقة الفلكية والكاملة الإنسانية وهذه المرتبة عشق وشوق معاً أي أنها لا تخلص عن علاقة الشوق الذي بعد كما ذكرنا اقل مرتبة من العشق، الا فارقت هذه النفوس الإنسانية الحياة إلى الآخرة.
المرتبة الرابعة: هذه المرتبة هي مرتبة النفوس الناطقة المتوسطة، وهي مرتبة عشق، وشوق( ).
المرتبة الخامسة: وهي مرتبة النفوس الناطقة الناقصة، وهي مرتبة عشق، وشوق( ) وهكذا تظهر لنا حركة العشق، والشوق من نصيب الأنفس الناطقة، وسعيها صوب الكمال فإنها تأخذ شكل تراتبية معرفية تقوم على ثلاثة مقامات للعارفين زاهد، وعابد، وعارف، ويقول ابن سينا في هذا (إن للعارفين مقامات ودرجات يخصّون بها، وهم في حياتهم الدنيا دون غيرهم فكأنهم في جلابيب من أبد أنهم قد نفضوها وتجرّدوا عنها إلى عالم القدس، ولهم امور خفية فيهم وأمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها، ويستكبرها من يعرفها)، ويظهر لنا ابن سينا ان المقامات هي بين حالتين حالة الإعراض وحالة الإقبال ومن ثم تحقق النتيجة هي حالة المعرفة الحقة، ويشخصها فردياً باعتبارها تجربة فردية وان وضع لها مستويات تنظيرية ويمكن أن تظهر في الآتي:-
1- حالة الإعراض: الزاهد حيث يمثل (حالة الاعراض) عن كل ما عدا الحق تعالى، وخاصة الأشياء التي تشغله عن الزهد( ).
2- حالة الإقبال: حيث يجيء بعد ذلك حالة الإقبال وهو موقف العابد الذي يقبل على ما يعتقد أنه يقربه من الله تعالى من خلال المواظبة على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد.
3- حالة معرفة الحق وهي الحالة الختامية في الدرجات هي (العارف) فان وجد العابد الحق فإنَّ أول درجات وجده هي (المعرفة)، وهذا ما يعنيه ابن سينا بالعارف: وهو الذي يريد الحق الأول ولا شيء غيره.. فالعارف لا يقصد غير الحق بالذات إنما يقصد الحق بالذات( ).
ثم بعد تصنيفه لأحوالهم حيث يذكر درجات العارفين ومراحل انتقالهم من الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحية التي يجدون فيها السعادة وهي الآتية:-
1- الإرادة : يقدم لنا ابن سينا حسب ما مر بنا عن تراتبيته التي تبدأ بالزاهد وتمر بالعابد وترتقي إلى درجة العارف بأنه أعلى من غير العارف، وهو في هذا يُعلي من شأن الصورة على حساب المادة ومن شأن المعاد الروحي على المعاد الجسماني وهو بهذا يهتم بالعارف أكثر من اهتمامه بغير العارف ولعل سبب ذلك أن للتصوف جذوراً فلسفية لا جذور سينية( ) فأول درجات العارفين هي الإرادة وهي تصور الكمال الخاص بالله تعالى والتصديق بوجوده تصديقاً جازماً دون اعتراض، سواء كان هذا التصديق عن طريق القياس البرهاني أو كان عن طريق قبول ما يقوله الأئمة الهادين إلى الله تعالى( ) حيث الإرادة ترتب على الإيمان بوجود الله سواء كان عن طريق البرهان أو كان عن طريق الإقناع والخطابة، ودرجات الإدارة: هي درجة المريد التي هي أول درجات العارفين.
1- الرياضة:- فان أول درجات الارادة هو المريد الذي يحتاج إلى الرياضة التي هي تتمثل في منع النفس عن الالتفات إلى ما سوى الحد الأول وإجبارها على التوجه نحوه وهي وظيفة الرياضة وهي تنقسم الى( ):
1- (اغراض) تسعى إلى تحقيقها.
2- يتعين عليها فيما يتعلق بالأغراض:-
1- تنحية ما دون الله تعالى أي ازالة الموانع الخارجية.
2- تطويع النفس حتى تنجذب إلى ما هو قدسي ويعني أيضاً إزالة الموانع الخارجية.
3- تلطيف السر لنيل الكمال أي تهيئة السر حتى ينفعل على الأمور الإلهية المبهجة للشوق والوجد وبسهولة. أما ما يعين:-
1- الفكر اللطيف وهو يعني أن يكون معتدلاً في الكيف والكم وفي أوقات لا تكون فيها الأمور البدنية شاغلة للنفس عن الإدراك العقلي.
2- العشق العفيف.
3- الأوقات: بعد أن عرضنا للإرادة والرياضة هنا نعرض للأوقات وهي مرحلة تكمل المرحلتين السابقتين حيث يحصل أن من كل وقت يكتنفه وجد أن ليس من نوع واحد، أي لا يتساويان إذ إن الوجد الأول يعد حزناً لاستبطاء الوقت، والثاني يعد أسفا على فوات الوقت( ).
أي إن العارف بعد أن مر بتلك المراحل وتكشفت له الحقيقة لم تعد على عينة غشاوة لهذا شعر بالآسف، وهنا في هذه المرحلة تتكشف له الحقيقة (تؤدي الأوقات بما يكتنفها من الوجد إلى هذه الحالة، وما زال العارف يتوغل في هذه الأحوال والمقامات حتى يصير الاتصال بجناب القدسي ملكة له، وبحيث انه قد يحصل في غير حالة الارتياض)( )
4- الوصول التام: وهي آخر درجات السلوك إلى الحق بعد أن تمت الرياضة الروحية للعارف فانه يستغني عنها لأنه وصل إلى مطلوبة، أي أنها وسيلة تحقيق غاية هي الاتصال بالحق حيث يصير سره الخالي عن كل شيء ما عدا الحق، كمرآة مجلوة بالرياضة، حيث تفيض عليه اللذات الحقيقة بعد أن أصبح متوجهاً بكليته إلى الحق( ). بهذه المستويات الثلاثة نرى كيف يتوصل الطريق الثاني إلى الحق وهنا يتنازل المفهومين(الاتحاد والاتصال) فقد جعل هذه الممارسة الصوفية قناة موصلة إلى إدراك فيض العقل الفعال فيرى الاتحاد والاتصال غاية لتحقيق السعادة عبر الإشراق الذي لا يصدر عن الله مباشرة بل بواسطة العقل الفعال اما الاتحاد: الذي يقوم على اندماج الخلق في الخالق فغير مقبول عقلاً لأنه يستلزم أن يكون الشيء واحداً، ومتعدداً في آن واحد. أما الاتصال: إما أن يكون الاتصال متجزئاً قد يتصل دون شيء أو يكون متصلاً. بكليته بحيث يصير النفس واصلة إلى كل معقول، ويرى ابن سينا أن النفس الناطقة:(تصير هي نفس العقل الفعال، لانها تصير العقل المستفاد، والعقل الفعال هو نفسه يتصل بالنفس فتكون العقل المستفاد)( ).
ويعلل ابن سينا قصور النفوس عن إدراك الخير، فذلك لا يرجع إلى مفيض الخيرات بل يرجع إلى قابلها، وهذه الآراء التي مر بنا ذكرها يقول فيها جميل صليبا أفكار شرقية صيغت في قوالب أفلاطونية، او قل اذا شئت لبنات يونانية صيغت بصيغة دينية. انها تذكرنا بافلوطين تارة وبالقديس اوغسطين تارة اخرى، وتجد فيها أثراً من عقائد الفرق الإسلامية كما تجد فيها أثراً من كتاب اخوان الصفا وكتاب الرسالة الجامعة وآثاراً كثيرة غير هذه لا يتسع المجال لذكرها)( ) وقد جعل محمد عابد الجابري المنتج العام لابن سينا والتصوف العقلي خصوصاً وما يتعلق بالسعادة على أنها جزء لا يتجزأ من الموروث الهرمسي( ). لكن ما نرغب في تقديمه في نهاية هذا الفصل أن ابن سينا كان يشكل جزءاً من خطاب فلسفي عقلاني شكل موقفًا معرفيا وجوديًّا من الكون جاء نتيجة تفاعل الظروف الاجتماعية الثقافية الإسلامية من جهة وما شهدته من أحداث سياسية وفكرية وصنعت مرجعية من أجل إيجاد تصور أو حل لتلك المشاكل من جهة ثانية فهكذا جاءت تلك المرجعية الفكرية اليونانية والافلاطونية والمؤثرات الشرقية المتأصلة في المنطقة ضمن الفضاء الثقافي شكلت كلها مجتمعة الخطاب ورسمت طبيعة العلاقات بين عناصره وبذلك شكلت منهجاً ورؤية لابن سينا.

المطلب الرابع :الوحي والنبوة

دأب دارسو نظرية المعرفة - فلسفياً أو علمياً- على حصر مصادرها في (الحس والعقل) كما دأبوا على استعراض الصراع الفكري والجدلي بينهم في أن المصدر هو الحس فقط أو هو العقل فقط أو هما معاً؛ هذا لأنهم استبعدوا الفكر الديني أو المعرفة الدينية من مجال دراساتهم. ولأنّا نؤمن بالدين الإلهي تتربع المصادر لدينا كالآتي: (الوحي، والعقل، والحس، والإلهام أو الحدس). إنّ المعنى الاصطلاحي الذي نقصده ونهدف إليه من الوحي هو ما يلقيه الله إلى أحد أنبيائه ورسله؛ نحو إنزاله القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنزاله الإنجيل على سيدنا عيسى وإنزاله التوراة على سيدنا موسى وإنزاله الزبور على سيدنا داود عليهم السلام.وإذا اقتصرنا على ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فإننا نجد أنّ الوحي ينقسم إلى قسمين هما : •القرآن الذي أنزل عليه بلفظه ومعناه كما سيأتي. • السنة التي أوحيت إليه من الله بمعناها وإن كان اللفظ من قبله
أولا: ضرورة الوحي: وتتجلى ضرورة الوحي مصدرا للمعرفة في ما يأتي:
• أن الوحي ممكن في نظر العقل: لأن العقل ذاته يسلم بأنه محدود بعالم الشهادة وقوانينها، ولا يستطيع إنكار ميدان آخر وطريق آخر للمعرفة، كما أن العقل من خلال قوانينه يحكم بوجود عالم الغيب.
• لا كفاية في العقل: لأن العقول قاصرة عن إدراك مختلف جوانب ومجالات الحياة والكون.
ثانيا: الحاجة للوحي:
• الحاجة إلى الوحي في الاعتقاد.
• الحاجة على الوحي في التشريع.
• النبوة فيها حجة على الخلق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توترات متصاعدة في جامعات أمريكية مرموقة | الأخبار


.. !الرئيس الألماني يزور تركيا حاملا 60 كيلوغرام من الشاورما




.. مئات الإسرائيليين ينتقدون سياسة نتنياهو ويطالبون بتحرير الره


.. ماذا تتضمن حزمة دعم أوكرانيا التي يصوت عليها مجلس الشيوخ الأ




.. اتهام أميركي لحماس بالسعي لحرب إقليمية ونتنياهو يعلن تكثيف ا