الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا يموت الصبار عطشا (من حكايا انتفاضة آذار 1991 )الفصل الثالث

ذياب فهد الطائي

2018 / 5 / 20
الادب والفن


لا يموت الصبار عطشا
(من حكايات انتفاضة اذار 1991 )
ذياب فهد الطائي

الفصل الثالث


بضعة موظفين كانوا في مكتب المدير العام ،كان المدير العام عضوا في أحد الاحزاب اليسارية....التحق بفصائل المقاتلين في الأهوار ، حين سقطت قيادة التنظيم بيد السلطة قرر ان ينسحب كليا من العمل السياسي ، أفاد من العفو العام ومن مؤهله العالي من انكلترا وتخصصه النادر وكفائته ، فتقدم بسرعة ، لم يوافق على الانضمام لحزب السلطة ولكنه لم يحاول أ ن يتخذ أي موقف يمكن أ ن يعرضه للشبهة ، كان على قناعة بأنهم يحظون بغطاء سياسي من الغرب وكان على قناعة ايضا ا ن الخلل في عمل جماعته سابقا يكمن في استمرار الوقوع بذات الاخطاء والتي يكمن تكرارها في تجاهل الواقع السياسي والاجتماعي والاعتماد على محددات نظرية مسبقة .
كان رغم جديته وحبه الشديد للعمل يميل للنكتة وكثيرا ما يعد مقا لب لاصدقائه، يحفظ عشرات النكات عن سوق "مريدي "حيث تجد فيه الدواء المفقود في الصيدليات وكذلك السلع المهمة , كان يتداول النكات التي تتناول احد المطربين الشعبيين , ضحكته قصيره ناعمة متقطعة.
لم يك يعاني الا من مشكلة ابنه الوحيد ،كان في كلية الطب ، حاد الذكاء ومتفوق في دراسته ولكنه مصر على التوقف عن الدراسة والذهاب الى الخدمة العسكرية! نعم اعتقد ان هذا افضل انتظار! قل لي ياعم ماهو المستقبل؟ الموت على الجبهة الايرانية او على جبهة الكويت !!ثم ما هو الفرق بين أن اموت غدا طبيبا في الخدمة الالزامية ام جنديا متطوعا؟؟
كان المدير العام على العموم محبوبا ، ليس من السهل ا ن يجد اعدائه ما يمكن أن يوظفوه للنيل منه ، فهو صريح وواضح في احاديثه ، يملك القدرة على
أن يبدأ حديثا ثم ينهيه دون ان يشعرك بانه قد تجاوز اسلوب الحوار الودي ، في عينيه يلوح استفهام خلف العوينات ا لطبية ولكنه لم يك استفهام مقلق.
كان خالد يطمئن له ولايتحرج في خوض مختلف المواضيع معه ، يقول انه يقرأ كثيرا ولكنه لا يكتب الا عندما يجد فكرة ما لتطوير العمل وليس " مثلهم" عندما يكتبون .
كان معه في المكتب، حينما دخل خالد موظفان ،الاول حريص على ان ينهي دوامه ليذهب الى مزرعته ، يعتني بالخضروات وعدة مئات من الدجاج البياض،اما الثاني فكان لايجد حديثا افضل من الشعر فهو يحفظ مئات القصائد لشعراء من مختلف العصور ولكنه كان يكن كراهية حادة لشعر قصيدة النثر.....لقد استوعبت الشعر الحديث وقبلته على مضض، ولكن قصيدة النثر!"على جثتي ". كان يقارن بين نزار قباني واحمد شوقي ،يميل الى شوقي.
: يا أخي, كيف يمكن المقارنة...الكلام العذب الصادق لشوقي يلامس القلب...
لم أدري ما طيب العناق على الهوى حتى ترفق ساعدي فطواك
اما شعرنزار
سمراء صبي نهدك الاسمر في دنيا فمي نهداك ما خلقا للثم الثوب لكن للفم
هذا الكلام، لا ادري يلامس ماذا ؟
كنا نستفزه احينا فينطلق من طرفة بن العبد حتى الجواهري يعقد مقارنات لانهاية لها .
قال المدير العام :ـ ربما سيبدأ الهجوم البري خلال ايام ....لقد استكملت امريكا استعدادها لذلك .
قال خالد وستبدأ المأساة ايضا
ـ نعم ولكن ليس من السهل عليهم اختراق خطوط الدفاع الممتدة من جنوب الكويت وحتى جنوب بغداد ،بالتاكيد لن نكون لقمة سهلة
قال مربي الدجاج ـ استاذ الامريكان بحاجة الى تنشيط ذاكرتهم ...لقد نسوا فيتنام
شعر خالد بان ما يدور هو من باب التمنيات لان الجميع يكره ان تدخل امريكا، الثقافة العامة تضع شرطا واحدا للوطنية ...الوقوف بالضد من امريكا واسرائيل، ولكن الموضوع اليوم مختلف جدا ، الحديث عن واقع وليس عن اوهام ولا تمنيات! !
ـ اسمحوا أ ن اخالفكم الرأى ،سنكون لقمة سهلة فعلا ... لقد دمر القصف الجوي كل ما يمكن أن يساعد على رد العدو ، كما اننا بدون غطاء سياسي .
: ـ ربما فيما تقوله بعض الحقيقة من الناحية النظرية ، ولكن حرب الشعوب لايمكن حسابها على هذا النحو !
ـ وهل تعتقد أ ن الشعب سيحارب ؟ وهل هي حربه فعلا!
ـ حسنا لماذا ندور في نقاش لن ينتهي , كم تعطي للحرب البرية.؟
ـ سنقيس ، رغم ان بعض الاخوان يعتقدون إ ن أول من قاس هو ابليس!! خمسة ايام كحد أعلى .
ـ حسنا وأنا أقول انها ستكون حربا طويلة ومضنية ، ان التقليل من......
رن جرس الهاتف فتناوله المدير العام : نعم استاذ ...حاضر استاذ سيأتيك حالا ثم التفت نحو خالد ، الرفيق يدعوك الى مكتبه
قال الرفيق بلهجة آمرة ـ خالد جهز نفسك للسفر غدا الى عمان ستجد الاضبارة لدى الدائرة التجارية وسيرافقك مسؤول التصدير، لدينا مشاكل مع المجهزين وعليكما أ ن تعملا على وضع الترتيبات اللازمة ، الموضوع ليس سهلا وعليكما الرجوع للدا ئرة عند كل قضية في حالة وجدتما ذلك ضروريا ،لاتوجد تعليمات محددة لان الظروف بالغة التعقيد ، نحن نثق بكما ولديكما الصلاحيات الضرورية.
كان زميله في السفر مسؤول التصدير عبد الله ،قصير القامة يلوي رأسه يسارا كلما ابدى اعتراضا ،كثير الشك ،دائم الخوف ، ولهذا فهو متردد وكأنه في حالة
من الاستكشاف لايستقر...ممتلىء ولكنه رغم ذلك لا يترك طبق الكنافة في وجبتى الغداء والعشاء ويجد لذة في مص أصابعه التي يتساقط منها السائل السكري .
ـ ولكن ياأخ عبدالله هذا الاتفاق نتيجة بحث يومين متواصلين فلماذا لم تطرح هذه الاعتراضات؟ من الجهة الثانية لقد وقعنا العقد فكيف سنطلب إدخال تعديلات جديدة
ـ أرجو الا تتضايق المسألة لاعلاقة لها بالأيام أو الساعات ...المهم هو انجاز المهمة كما تريد الدائرة من دون أن ياتينا لاحقا من يشكك بموقفنا
ـ ولكن هذا لايعني عدم الألتزام بالاتفاقات ، كان يجب التريث بالتوقيع.
ـ لابأس لايوجد نص يلزمنا بعدم التعديل
ـ ماذا سنقول لهم !!
في اليوم التالي يذهب عبدالله الى الشركة محتجا بان السفارة لم توافق على تصديق العقد ، وان الملحق التجاري يطلب اجراء بعض التعديلات
ـ ولكن ياسيد عبد الله لم يك في العقد ما يشير الى ذلك.
ـ صحيح وهذا تقصير , ولكن ، لايمكن اعتبار العقد نافذا
ـ انت تعلم انكم كنتم تطالبون بسرعة التنفيذ نظرا للاوضاع المحيطة وإنا لهذا السبب واحتراما لرغبتكم باشرنا فورا باجراء الترتيبات مع المجهزين .
ـ نحن نقدر ذلك ،التعديلات لاعلاقة لها بأية ترتيبات لشراء البضاعة أو شحنها ,المسألة تتعلق ببعض الضمانات والشروط الجزائية وشروط الدفع الثا نوية ...هذه لاتعيق المضي بالترتيبا ت .
ـ هذا في الحقيقة كثير .....كثير جدا فالضمانات لها ثمن والتي تسميها شروطا ثانوية هي في الحقيقة قضايا أساسية لانها تتعلق بمواعيد الدفع .
ـ هذه نسخة العقد الجديدة ، تحتاج الى توقيعكم الكريم فقط !!
بعد أ ن يعود بالنسخة المعدلة فانه يظل يراجعها طوال المساء عله يجد نقطة ما يمكن الرجوع بها اليهم .
كانا في عمان حين بدأ الهجوم البري ...في اليوم الاول كان" الاردنيون " شديدوا الحماس لاينفكوا يرحبوا بهما ....كانت ردة فعل طبيعية ...وفي غمرة هستريا التأييد اقسم ابو روحي موظف الحسابات في احدى الشركات انه رأى " صورته"في السماء, كان على السطح حينما شاهدها ...نادى على ام روحي ...الله اكبر ...لقد جاء الفرج , سنعود الى يافا...ظل طوال الليل يصلي ويحلم ببيتهم، البالكون الكبير يطل على الشارع الرئيسي ...المساحة الكبيره، الأرض وحدها تساوي الملايين الان .
ام روحي ، لن أظل في عمان ولن اشتغل عند ابي رامي سأرية من هو( أبو روحي).
ـ ولكن يا أباروحي هل كان با لبيرية العسكرية ام" بالبرنيطة الكاوبوي" تذكر لأن هذا مهم جدا في معرفة دلالة الرؤيا !!
شعر ابو روحي انه محاصر.
ـ لم انتبه لذلك ولكني اقسم اني رأيته وا ن ام روحي شاهدته معي
في اليوم التالي لم يصدق أحد ا ن الأوامر قد صدرت بالانسحاب ...في المساء كان التلفزيون يعرض مشاهد مؤلمة عن هذا الانسحاب فعلى الطريق الصحراوي الى الكويت كانت المعدات العسكرية متناثرة ، بكى النادل الصغير في الفندق وهو يقدم القهوة ...كان ينشج بصوت عال فيما ران على الصالة وجوم حزين .... كان الغيظ والمرارة يضغطان على السحنات والمشاعر.
شعر خالد بأن الجالسين لايتعاطفون معه، أراد أ ن يصرخ بانه لم يفعلها فهو موظف لاسياسي ولاعسكري ، ظلت العيون تراقبه فلم يعد يحتمل، أحس انقباضا حادا يضغط على قلبة، كان يدرك ان الهزيمة واقعة لامحالة فلماذا لا يستطيع تحمل الموقف؟.
كانت القوات المهاجمة قد التفّت على الجبهة من شمال مدينة الناصرية حيث يتقارب نهري دجلة والفرات في منطقة صحراوية مكشوفة تجعل من التفوق الجوي العنصر الحاسم في القتال ....عزلت كل القوات في البصرة والكويت وتمركزت قوات الحلفاء على مسافة ساعتين بالسيارة من بغداد ....كانت آمالهم ميتة حتى قبل ا ن تولد وعمقت المأساة لديهم شعور الإحباط ....بكى عبد الله واحمر وجهه المكتنز ...أحس انهم أهينوا وشعر إ ن مشاعر الذل والقهر تطحنه ....خرجا من الفندق الى شوارع عمــــان ....سارا من دون ان ينبسا بكلمة ...كان ما يجري أبعد من أي تصور .
قال عبد الله أخيرا ـ انه ا لطوفان فأين سنرسوا ؟
ـ لاأدري ..هل تعتقد ان أحدا ما يدري!!
عند باب الفندق كان موظف الاستقبال واجما وقال
:ـ هل سمعتم الاخبار ؟ لقد سقطت مدينة البصرة ! ...وكالات الانباء تتحدث عن حالة من الهياج العام في جنوب العراق ...لقد شاهدت على التلفزيون استيلاء الجماهير على الدبابات والاسلحة وكذلك المباني الحكومية !!
لا أفهم ذلك !!هل الشعب العراقي يكره الحكومة ام أ ن بوش هو الذي دفعهم اليه؟
لم يردّا ....ربما يكون الشرح طويلا ،وبالتاكيد لن يقنع موظف الاستقبال الذي كان هو الاخر يحلم بالعودة.
في الليل لم يناما ، كانا يتابعان الاخبار...ماذا سيبقى بعد ا ن ينحسر الماء .... بوش اصبح المذيع الاول , سنساعدكم ....لم يكونوا حتى بحاجة الى المساعدة ...الحماس للتدمير كان بأعلى حالاته.....لم يك أحد يدرك ان عليه أ ن يلتقط هذا ا لعرض كقناة لتصريف مياة الطوفان ، كان مخاضا ولكن كيف ستتم الولادة !!!اصبحت المدن الجنوبية خارج سلطة الدولة ،الامور تتلاحق بسرعة ، الكراهية المخزونة قهرا تتفجر مدمرة قاسية ، قلق ملح يقبض على قلبيهما .
قال عبدالله ـ ليس من السهل التصديق ....كان يطالعنا عند كل منعطف ...على صفحات الصحف المعروضة على الارصفة على شاشة التلفزيون كل يوم ، تصور انه كان حتى في الخبز الذي ناكله ثلاث مرات في النهار .
قال خالد ساخرا ـ كان ايضا في الكنافة الاردنية !!
نا ما على الأرائك في الصالة كان خالد يدافع كابوسا يسد عليه الطرقات ....النيران تشتعل في كل مكان وهو محاصر خلف اللهب المتراقص كألسنة الشياطين ، ناديه تبكي بحرقة شعرها منكوش وملابسها ممزقة ....فاتن ...عيناها متورمتان يأسرهما صمت مخيف ، تمد يدها وكأنها تستجدي كانت متعبة تقف بالكاد متوازنة تستند الى النخلة التي اصبحت جذعا أسودا متفحما ، أحمد يصرخ وكأن النار والدخان والعجز في ان يقدم العون لامه او اخته ، يسبب له اختناقا فيمد يده الى رقبته وفي عينيه نظرة توسل ، أحس انه يسمع اصواتا صاخبة متداخلة تصك مسمعيه .
ـ خالد ...خالد
كان يسمع فاتن تصرخ يائسة ...نهض لكنه انكفأعلى وجهه فوق البسا ط ....خالد هل اجلب لك ماء؟
كان عبدالله يمسكه من كتفيه .
ـ كلا ...شكرا ...كنت اختنق ...الحمد لله
ـ لقد كنت تصرخ هل كنت تعاني من كابوس ؟
ـ نعم ، لقد انتهى .
ـ لقد بدأت، يجب أ ن نعوّد انفسنا عليها ...لانها ستتوطن عندنا!!
صباحا دفعا الحساب وودعا أصدقائها ثم غادرا الى بغداد .
الطريق الصحراوي موحش يذكره بالجد ب واليأس والموت الارض ا ليباب حيث تشم رائحة الموت في بقايا السيارات وا لشاحنات المحترقة والمتروكة على جانبي الطريق ....أسرع في القيادة ....سقطت المحافظات الشمالية بأيدي المهاجمين ...ظل عبد الله صامتا حزينا وهو يتابع الاخبار ...عيناه منتفختان من السهر وخداه المكتنزتان مهدلتان على صفحتي وجهه ...لو كان قد ظل عند عائلته لما تعرض لكل هذا ا لقلق والشك ...." اللمة "تخفف وطأة المعاناة ...هل لازال بأمكانهم الان ايضا أ ن يشاهدوا الضحى ، في الحديقة الغافية عند ضفاف دجلة على كورنيش الاعظمية وهو يلون أغصان شجيرات البرتقا ل .
في المركز الحدودي لم يك هناك تغيير ما ....الوجوه الخطيرة ، المتفحصة والمدققة ، ا لباحثة بكل زا وية عن خطأ ما لتحويله الى مصدر رزق اضافي ، لاعلاقة لها با لاحداث ، فما يهمهم هو ألا يؤثر شيىء على حركة السفر ! كان عدد المسافرين قليلا ولهذا قاموا بنبش الحقائب وفحص السيارة بعناية فائقة.
ـ هل انتما موظفان ؟
ـ نعم
تجنب استمرار الحديث معه
ـ ولماذا كنتما في الاردن؟
ـ لماذا ؟
ـ لاشيىء مجرد سؤال
ـ لدينا ايفاد رسمي ...هل تود الاطلاع على الامر الاداري !
ـ كلا ....ماهذه الاكياس ؟
كانت لهجته مستفزة
ـ هل ترغب بتناول الكولا؟ انها في الاكياس
ـ كلا ...يمكنكم المغادرة
كان عبد الله ممتعظا ولكنه لم يتدخل....حينما تحركت السيارة قا ل
: لماذا كنت طويل ا لبا ل معه !
بدت بناية المر كز الحدودي التي تركاها واحة قياسا بالطريق الصحراوي الذي عادا يقطعانه ، لا يوجد في الصحراء المترامية غير نبات العوسج الطري وبضع مجمعات متناثرة من العليق ...لم يشاهدا طيرا يهوم في الفضاء الوا سع المفتوح ....لم يك غير غيوم منخفضة تسرع هي الاخرى نحو بغداد ...كانت تختزن امطارها ...المدينة الحزينة تنتظر ان تغسل همومها ...هل تستطيع؟
في الرمادي كانت الحياة عادية ...جلسا يشربان الشاى ...الحركة في الشوارع مستمرة لكن شيئا ما ينقصها
قال خالد : الحيوية ...هناك امر لايطمئنهم.
بغداد كانت كأنها تحتضر تتنفس ببطىء موحشة ، ريح تجري بامتداد الشوارع فتثير الغبار وتدفع بقصاصات الورق والاكياس من جانب الى آخر ...كانت الشوارع فارغة من المارة وحركة السيارات معدومة، عند نقطة التفتيش في أبي غريب تم قطع الطريق بعارضة خشبية وقف عندها عدد من رجال الانضباط العسكري وبضعة افراد من اجهزة امنية مختلفة .....دققا الجوازين وكتاب الموافقة بالسفر ثم سمحوا لهما بالمرور ....لم يتبادلوا معهم الحديث كانت وجوههم صارمة رغم ملامح القلق التي كانت مختبئة في نظراتهم السريعة وغير المستقرة .
ـ الحمد لله نحن في بغداد الان !
ـ ولكنها بغداد أخرى ....كم يلزمنا لنتعود عليها !!
ـ ستعود...ستنفض عنها الغبار ...سيعود الوجه الصبي حلوا ،نظرا متألقا ....قطعا سينتهي الكابوس.
أعلنت محطة اذاعية بعد ان قطعت اناشيد حماسية كانت تبثها ، ان الحلة وكربلاء قد تم تحريرهما ...اذا فقد عزلت بغداد....كانا يقطعان جسر الأعظمية من جهة الكرخ ...نزلا يمينا على الكورنيش ...دجلة صامت يثقله الطمى العالق بمياهه فيكسبه لونا غرينيا أحمرا.... بضعة مقاهي على الشارع الرئيسي كانت مفتوحة ... على الكراسي تناثر عدد من الاشخاص ....كانت عيونهم أخاديد لاصطياد القدر وفي عمق النظرات مصائد همجية لم يترك لها الفزع إلا الإنتظار في الظلمة التي تعشعش فيها كوابيس لانهاية لها توقظها طرقات الباب الغامضة لأشباح بلا وجوه.
قال خالد ـ لقد بدأت الثورة الانفجارية في الصناعة أواسط السبعينيات ...واليوم في أوائل التسعينيات من الواضح ا ن صناعة واحدة هي التي نجحوا فيها.....انها صناعة الخــــــوف ... انهم كأي منتج مغامر يسوق سلعته ، يملكون التصميم الكامل لتحمل اية خسارة محتملة ...فعلا قد نجحوا وأصبح كل شخص على ثقة مطلقة ا ن تحت كل حجر في زاوية مهملة أحد رجالهم !!! ليس من السهل الاطمئنان الى الجار ، في المقاهي أو في المحال العامة عليك أن تتظاهر با لبلاهة لانك مراقب....كل الوجوه الى الحائط .
انعطفا الى الشاع المفضي لىبيت عبدالله ...ضغط عبد الله على زر جرس الباب بقوة وبلهفة ...كانت الستائر مسدلة .. اعلنت زوجته انهم في البيت .
ـ مـــــن ؟
أنا عبدالله . ـ
ـ ماما جاء بابا .....افتحي بسرعة
كان صوت ابنته مستعجلا ينبض بالشوق وبالفرحة .
طقطقت عدة اقفال ....انفتح الباب وتقدمت زوجته بيدها فانوس نفطي .....ساعده ولداه بانزال الحاجيات .
كان الشارع صامتا بعيدا عن هدير الضجة الصاخبة في الجنوب والشما ل ، الليل القادم مبكرا يرسم ملامح غامضة للبيوت والاشجار والاسيجة المعشوشبة ... اهتزت الزيتونة عند الباب وهو يوقف السيارة ....ضغط على الجرس ...يبدو أ ن لاأحد في البيت ...عاود الضغط ....لاجواب ...بحث عن المفاتيح ... أدخل السيارة الى الممر وعاد يقفل الباب الخارجي ....سمع ام شهله
ـ من ...من هناك ؟
ـ أنا خالد ، ام شهله يبدو ان الجماعة في زيارة !!
ـ خالد ...اهلا ابو احمد ... لا ... العائله سافروا عند اقاربكم ...جاءتهم خديجة وذهبوا معها... قالت ام احمد انهم سيعودون بعد ثلاثة ايام ولكن يبدو ا ن هذا متعذر بسبب الاحداث.
ـ شكرا
فتح الباب وأدخل الحاجيات ثم أشعل شمعة على طاولة المطبخ ....بحث في الصالة عما اذا كانت فاتن قد تركت له رسالة ...أشعل المدفأة الغازية ودخل غرفة النوم ليغير ملابسه وليفكر ماذا سيفعل .
السرير المرتب ... الملابس المعلقة بعناية ...الرائحة النسائية التي تشيع بجو الغرفة ....اشعره كل ذلك بالحزن والوحدة .... اين هم الان ؟ النجف محاصرة فهل لديهم مايكفي ! هل ستستطيع فاتن ضبط احمد وتجنيبه المشاكل ! ماذا لو ضربت الدار بقذيفة من احد الطرفين !!حاول ان ينام ... كان مجهدا ... ليترك كل شيىء الى الصباح ... وجد ان ذلك غاية في الصعوبة ... تصفح مجلة قديمة ،
استمع الى المذياع ...أدار اسطوانة لهاند ل عله ينشغل .... اخرج اسطوانة لشوبان ، ربما يحلم مع اللحن الهادىء .... ... قام الى غرف الاولاد ...فتح غرفة ناديه .... كانت حريصة على ان تعطي الانطباع ان كل شيىء في مكانه الصحيح ...لمس الوسادة فشع عطر خفيف ...أحس انها ترقبه ...على الطاولة كتاب علّمت المكان الذي وصلته ... كانت قصة " جاءت لتبقى" لسيمون دي بوفوار ...كانت هناك ايضا مجلة نسائية مؤشر على بعض مواضيعها بالقلم الرصاص وعلى ورقة منفصلة ملاحظات حول الموضوع والاسلوب ... كانت تدون ملاحظاتها على متن الكتاب الذي تقرأه وكثير ا ماكان يعنفها لهذا ... كانت تضحك ... حسنا اقسم اني سافعل ذلك فقط عندما اصبح كاتبة ... هل تعتقدأن الفكرة تظل بانتظاري الى ان أحضر الورقة والقلم ....فتح خزانة ملابسها .... كانت دائما انيقة ببساطة ... تصر ان تختار ملابسها , قمصانها مكوية وموضوعة بعناية على رفوف الخزانة ،حتى ادوات مكياجها البسيطة على طاولة التواليت كأنها معرض ينم عن ذوق ودراية،صعد الى غرفة احمد .... تطلع في الظلام عله يرى ابتسامته المرحة دائما والعابثة احيانا ...عله يسمع صوته وهو يشاكس ناديه او امه .
يسمع المذياع وباقصى درجات الصوت ليشوش على اخته استغراقها بالقراءة .
الذكريات تحاصره ...ا لبكاء المخنوق يضغط على مشاعره ... ينفجر في اعماقه شلال من الحنق والغيظ ...ضرب الحائط بقبضته وعاد الى الصا لة ينتظر الصباح، هل سياتي كاي صباح ؟!
كانت شمس آذار قد بدأت مبكرة .... انسكبت الخيوط الذهبية عبر سعف النخلة الى الشباك واهنة كسولة ، واعطت قطرات الندى ، على اوراق اشجار البرتقا ل الداكنة الخضرة ، لألاء كرستا ليا باهرا.
لازال العالم كما هو يتفتح للحياة !! ...اعطاه هذا الشعور ا حساسا بالتفاؤل .. غسل وجهه وارتدى ملابسه ....اللهم لانسألك رد القضاء وانما اللطف فيه .

ـ من.... خالد اهلا وسهلا تفضل
نادى على زوجته ليخطرها ومبالغة بالترحيب امسك بيده وسحبه الى الداخل
ـ ام هاشم ..الاخ خالد سيفطر معنا
التفت اليه مستغربا ـ ماهذا كأنك لم تنم ... متى جئت من الاردن ؟
ـ امس ولكني فعلا لم انم طوال الليل ...لدي مشكلة ارجو ا ن تساعدني في مواجهتها
ـ بالتاكيد ... ولكن لنفطر اولا
ـ ليس لدي رغبة بالطعام
ـ هل المشكلة كبيرة الى هذا الحد , مع ا لحزب ام مع الحكومة !! ربما مع الداخلية!
ضحك عند الجملة الاخيرة غامزا بعينه
تناول كأ س الشاى ...تذكر فاتن وهي تعلق على طريقة ارتشافه الشاى ...مزاجك في شرب الشاى صباحا ممتع ومشجع كأنك تجد فيه لذة مفقودة وانت تتذوقه بشهية.
ـ ماهي المشكلة ؟
ـ الجماعة سافروا الى النجف ... وكما ترى الطرق مقطوعة والمدينة محاصرة وقد يتعرضون لمخاطر ليست بالحسبان من كلا الطرفين ... في مثل هذه الاوضاع ليس من السهل الاعتماد على حسن النية او الادعاء( باللّا إنتماء) ... كل طرف يمكن أن ينسبك الى الاخر!
ـ اهدأ ولنفكر .... طريق الحلة ـ كربلاء خطر فالقتال مستمر والمقاومة شديدة ...ليس امامنا الا طريق قلعة سكر ـ الجزيرة ... يبدو انك تعاني صداعا ... قرصين من" البرستمول " ... ولكن قبل ذلك يجب ان تاكل شيئا ...فبرستمول سوق مريدي شديد على المعدة الفارغة !
ـ اشكرك ...ولكن كيف سأتدبرالامر بالقلعة ؟
ـ لدي قريب هناك وسأعطيك رسا لة له وسيتكفل هو بأمر إيصالك الى النجف ، هذا اذا كان الطريق لازال مفتوحا ولو كان ذلك بصعوبة .... ارجو أ ن تعذرني لاني لا استطيع مرافقتك فالامور لازالت حرجة في بغداد وقد يقع ما ليس بالحسبان باية لحظة!!
قلعة سكر مدينة ريفية صغيرة تقع على امتداد الطريق الى الناصرية من جهة الشرق وتنفتح غربا على جزيرة "عفك " الممتدة حتى الكوفه ... الشوارع طينية حولتها أمطار آذار الى مجار مكشوفة ... ... السوق الرئيسي تصطف على جانبيه دكاكين بائسة لاتمت بصلة الى العصر الجاري... كانت كأنها لاترغب بالتحول من ظلال القرن المنصرم ...تتصدر دكاكينها طاولات خشبية رصفت عليها بضائع متنوعة وميزان حديد ...البائع يقف خلف الطاولة ... يوجد لدى البعض مدفأة نفطية تساعد في استجلاب الدفىء ...كانت السوق عادة ما تنهي اعمالها عند مغيب الشمس حيث ينقطع تردد الناس عليها .....حين وصلها خالد كان بعضهم قد بدأ بادخال البضائع تمهيدا للاغلاق.
في العاشرة صباحا اوصله جمال الى مجمع النقليات بعد ا ن زوده برسالة الى قريبه ، في المجمع يتكدس الناس على الارصفة أمام أماكن وقوف السيارات ... لم تك هناك اية سيارة , وصل " لوري "... تراكض الناس ليتسلقوا الى السطح ...استطاع ان يجد له مكانا... ظلوا وقوفا اكثر من اربع ساعا ت يتعكز احدهم على الاخر ... كان كل منهم منطويا على همومه لم يتبادلوا الحديث حتى من باب الفضول.
ـ السلام عليكم
ـ وعليكم
ـ هل من الممكن أن تساعدني في الوصول الى بيت أبو عادل؟
نظر اليه الرجل متفحصا اذ من النادر أ ن ياتي زوار الى القلعة فكيف بغريب في مثل هذه الظروف!
ـ ابو عادل ...ابو عادل ...من ابو عادل هذا ؟ هل هو مطلوب ؟
ـ لا ياحاج ،ابو عادل عبد السلام المحسن الموظف فى الاعاشة
ـ عبد السلام ... نعم .. أول فرع الى اليمين ..ثاني باب على اليمين ايضا ...جعلنا الله من اصحاب اليمين ،
ـ شكرا
حاذر ان ينزلق الى وسط الشارع ...مشى متمهلا يستند الى الحائط ... استدار يمينا
ـ لحظة:
كان صوت حاد برم كانه فض منازعة للتو
ـ نعم
ـ السلام عليكم
ـ وعليكم ..هل من خدمة
كان الرجل غامق السمرة عيناه واسعتان حادتان طويل القامة تبدو عليه معالم القوة، يبدوذلك في بناء جسمه المشدود والمنتصب.... كما لاحظ على ضوء الفانوس النفطي إ ن الرجل عصبي حاد الطباع .
ـ انا من طرف جمال ،أبو ها شم ... لقد ارسل هذه التوصية .
ـ تفضل
قالها بلهجة باردة شك خالد معها أنه سيكون العون الملائم !!
قرأ الرسلة بتمهل ثم وضعها في جيب الدشداشة ،
ـ لابأس مادامت هذه رغبتك ... لاشك ان السفر خطر فالقتال في كل مكان ...ليس من السهل تفريق العدو من الصديق ! .... أعتقد أ ن الوسيلة الملائمة هي الاستعانة باحد السواق العاملين على الخط ممن ينقلون الجنائز ...انهم يعرفون كافة المسالك ولكن هذا سيكون صباح الغد ...ستبيت عندنا والصباح رباح .
ـ أشكرك كثيرا ....ولكن لماذا لانحاول الليلة ....خير البر عاجله ...اذا تعذر السفر الان فلا بأس ، نكون قد رتبنا الموضوع وأغادر مبكرا ...تعرف ان الاوضاع لاتحتمل التأخير ،
جاء طفل في الثالثة ..كان يشبه والده ، ...نظر اليه بأرتياب كمن يتسائل عن سبب زيارته .
ـ عادل سلم على عمك
هز كتفيه رافضا ....الح ابوه ...أنت رجل ...مثل هذا عيب
مد الطفل يده ولكنه لم يتفوه بكلمة وان ظلت نظرة الارتياب ترين على ملامحه ، حاول ا ن يجامله .
ـ عادل أسم جميل
نظر الطفل الى ابيه متسائلا وجلس بينهما ...الأرضية مفروشة بالسجاد المحلي والى الحائط وسائد صلبة محشوة بالصوف ...وسط الغرفة مدفأة نفطية كبيرة،
يسمع أصوات العائلة ...شم رائحة الطبيخ ...الرزالعنبر...تذكرأ يام كانت والدته تصر على أن عنبر" الدغارة " لا يطبخ الا بالزيت " الحـر " أو بالزبد عندها ستشم الرائحة اللذيذة من سابع بيت ،رحمها الله ،تناهى اليه مشاجرة ، ضحكت صبية فنهرتها امها
ـ قلت أن العائلة في النجف منذ أربعة ايام ؟
ـ تقريبا
ـ كيف ذهبوا ؟
تجاهل مايرمي اليه ..
ـ بسيارتنا الخاصة
ـ بعد العشاء ... ساستدعي أحد السواق الذي "أمون " عليه والله المسهل ...ولكن هل لديك فكرة عن الأجره ....تعرف انه عادة مايستغل السواق مثل هذه الظروف فيرفعوا السعر ....ربما ضعفين أو ثلاثة .
ـ لن يكون الأجر مهما ...لن نختلف ....المهم الوصول
ـ انشاء الله
أصر على ان يتناولا العشاء أولا والا فأنه لن يذهب للسائق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى