الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سورية التي تشبه الغد..

فاضل الخطيب

2018 / 5 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


لا يكفي أن يوّحدنا العداء للأسد وللجماعات التكفيرية الجهادية، بل يجب أن يجمعنا قاسم مشترك لما بعد الأسدية والجهادية.
تواجهنا أحياناً أسئلة صعبة جداً، تتخطى الشجاعة والأخلاق والحكمة، أسئلة قد لا نستطيع الإجابة عليها، لكننا مجبرون على التعاطي والتعامل معها، ولا يجب أو لا نستطيع الهروب منها. وقد تكون تلك الأسئلة التي لا توجد أية عناصر معروفة لمحاولة الإجابة عليها من أصعبها وأهمها،أي "معادلة رياضية من عدة مجاهيل"، ومنها كيفية رؤية سورية الغد، بل قبل ذلك، رؤية تلك المرحلة الانتقالية، ذلك الجسر الذي على سورية أن تقطعه بين الحقبة الأسدية وبين الدولة السورية العلمانية الديمقراطية التعددية، أسئلة العقد الاجتماعي الذي يحمل سورية وشعبها إلى العالم العصري، أسئلة قطع الطريق أبدياً على محاولة تكرار الأسدية والاستئثار بالسلطة بأي شكل كان، أسئلة تنتهي صلاحيتها وحاجة الإجابة عليها قبل ولادة جيل جديد من السوريين.
مهمة المثقفين هي تقصير المسافة بين اكتشاف جوانب(معرفة) الحقائق وبين التعبير عنها. قد يكون السؤال الهام، أو المهمة الهامة أمام تلك الشريحة السورية التي عليها فتح صفحة سورية جديدة خارج الأسدية والإسلام السياسي، قد تكون مهمتها الخارجية الكبرى، هي العلاقة مع أوربا، وكيف يمكن الاستفادة من التناقض الموجود بين أوربا وأميركا في مصلحة سورية الغد.
في البداية لابد من تأكيد بعض الأفكار الهامة، وهو أن الحل السوري أصبح بيد غير السوريين، ودور السوريين في تقرير مصير بلدهم أصبح ثانوي، ومخطئ، بل غبي، من لم يفهم حتى الآن أن العالم لن يسمح ببقاء أو وجود أيّ جماعة جهادية مهما كانت معتدلة في سورية، وأن الحل لن يكون إلا بعد الخلاص من آخر جماعة جهادية على الأرض السورية، وظهور بديل يستطيع توفير الاستقرار والأمن في المنطقة. والسؤال الرئيس الآخر، هو كيف يمكن لنا كسوريين ممارسة ذلك الدور الثانوي/الشكلي المتعلق بمصير بلدنا ومستقبل شعبنا.
كما أنه هناك "مُفسدات" للصلاة، تلغي الصلاة، كذلك هناك مُفسدات للعلمانية، أي "دحشها" يلغي النظام أن يكون علمانياً. لا أعرف لماذا يصر بعض الأصدقاء الاستعانة برؤية أعداء العلمانية لتفسير أو تقييم النظام العلماني؟. إن كان هذا اللغط أو الضبابية سببه فعلاً عدم معرفة، فهو قابل للحوار لنتعرف معاً على جوهر العلمانية، لكن إن كان الدافع غير ذلك، فنحن أمام اختراع "علمانية" جديدة أو "علمانجية" حسب اختراع فيصل القاسم الجديد، وبهدف الإساءة للعلمانية، بل بهدف تقليل حجم دور الأنظمة غير العلمانية السيء على المجتمع، وهو غالباً موقف الإسلام السياسي من العلمانية، وهنا غالباً نجد من يعتبر نظام بشار الأسد وصدام حسين وستالين أنظمة علمانية ويتجاهل بقصد أو بجهل أن أهم ركيزة للعلمانية هي حرية الكلمة والتعددية السياسية، وهي البسملة أو ألف باء العلمانية، ويتجاهل الاستشهاد بالأنظمة العلمانية الحقيقية مثل دول الاتحاد الأوربي وكندا وأستراليا واليابان وغيرها. إذا لم نستطع تحديد موقف واضح من مفهوم العلمانية، يمكن تلمس الرؤية من خلال معرفة من يقف ضد العلمانية، هل الاستشهاد مثلاً بألبانيا الشيوعية ومحاربتها الدين حينها هو مرجعية؟ طالما الدولة تدعو لمحاربة الدين والتبشير بإيديولوجية أخرى، هل هذا يحدث في دولة علمانية؟ هل نظام ألبانيا أنور خوجا مرجعية أوربية ونظام تشرشل وديغول وميركل ليس مرجعية؟ ثم كيف يكون حل مشكلة الهوية الوطنية؟. إذا العلمانية بنظر البعض في منطقتنا هي العداء للإسلام السني، لابد إذاً أن تكون العلمانية في أوربا هي العداء للمسيحية الكاثوليكية؟ أم العلمانية فقط معادية للسنة؟. قناعتي أن العلمانية هي الضمانة لحماية الأقليات والأكثريات الدينية والقومية، العلمانية تؤمن بالأقليات والأكثرية السياسية. أسوأ نظام علماني في أوربا، يلبي تطلعات بلدنا من أجل نهضتها وسعادة شعبنا أكثر من أي شكل آخر للحكم. ما نريده لبلدنا أو يجب العمل عليه، هو قيام نظام علماني يحترم الأديان وحرية التدين، نظام حيادي عن التحالفات الدولية والإقليمية، ويؤكد على علاقات سلمية مع جميع الدول المحيطة ومساواة تامة حقيقية بين جميع مواطنيه. ربما العلمانية ليست جيدة برأي البعض لإدارة شؤون الدولة، أو لا تلبي كل طموحات الكثيرين، لكنهم لم يخترعوا حتى الآن أفضل منها لإدارة شؤون الدولة والمجتمع وترسيخ المواطنة وحرية الرأي، العلمانية هي الفرصة أو الضمانة للخلاص من آثار الأسدية والجهادية وهي ضمانة نهضة بلدنا والتحاقها بالعالم العصري.
خلال عقود طويلة، كان يخشى المسلم السني أن ينتقد أي إنسان أو مسألة فيها خلفية علوية، كي لا يُقال عنه طائفي، وهي شتيمة الشتائم في ظل النظام البعثي الأسدي، أي أنه إذا أراد أحد انتقاد حالة وطنية أو اجتماعية أو اقتصادية، كان يبحث عن تعابير ومرادفات ولف ودوران كي لا يظهر أنها ربما تحمل نوايا طائفية، وبالتالي تتحول الفكرة إلى نصف فكرة، ويضيع الانتقاد وجوهره بين سنابك الخوف والحذر كي لا يقال عن قائله "طائفي"، يشبه ذلك موقف الكثير من المنحدرين من الأقليات عند تناول أحدهم أية مسألة وطنية تلامس أو تتقاطع مع فتوى غبية لشيخ دين مسلم أو شعار غبي لجماعة جهادية أو موقف سياسي لرمز سني أو غيره، وبالتالي يبقى على السطح ناصعاً شيئاً من اللحمة الوطنية "البلاستيكية" الرخيصة المنافقة، يبقى الحذر سيد الموقف، يبقى كل واحد يبحث عن المفردات وليس عن الفكرة التي يريد إيصالها. كانت كل سورية تحكي بلهجة القرداحة تباركاً بالأسدية، وكانت كل سورية طبعاً لا طائفية الشكل، لكنه لا يمكن الاستمرار مع هذا التشويه المفتعل الذاتي للموقف الوطني. يبدو غالباً أن غالبيتنا يتعامل مع غالبيتنا كما المرشحين للانتخابات، دلوسة وتأدب فظيع ومحاولة إرضاء كل الناس. المسألة ليست بهذا التعقيد، من عنده "جوز كلام"، ليقله بدون حذر وخوف، طالما الدافع الوطني محركه، أما من يخاف قول ما يعتقده، فإن خوفه وحذره أقوى من وطنيته. أنا مع طرح الفكرة حتى لو نصفها غلط أو كلها غلط.
وأريد الآن "دحش" وتأكيد فكرة كتبتها قبل سنتين أو ثلاثة وكررتها عدة مرات، وجوهرها، هو أنني سعيد جداً أن الجبل، أو الدروز بشكل عام لم يلتحقوا بالثورة كما كنت وكنا نأمل ونتمنى نحن أنصار الثورة أعداء النظام من الدروز، أنا سعيد الآن أن تحريضنا وتأثيرنا على الشارع في الجبل كان ضعيفاً، سعيدٌ أنا أن يُقال عن السويداء وعن الدروز بشكل عام "تخاذلوا" من أن يُقال أنهم تاجروا بدماء أهلهم ورهنوا وطنيتهم وأخلاقهم للسعودية وقطر وللعثمانيين، أن يُقال "جبناء" أفضل من أن يُقال خونة وطنهم وحرية شعبهم، نعم الجبانة أهون بكثير من الخيانة، وقد يسجل التاريخ هذا عن هذه الملحمة المقتلة الكارثة، وهذا لا يغيّر موقفي العدائي الأبدي للأسد والأسدية، ولا يمكن موقفي العدائي للأسدية أن يُخفف موقفي العدائي من الهمجية الجهادية لجماعات التكفير والإرهاب والتخلف.
قدم بعض نشطاء الثورة النزيهين قبل سنتين وثيقة تحتوي خمسين ألف صورة وفيديو عن حالات تعذيب حتى الموت لأكثر من عشرة آلاف مواطن سوري، واطلع عليها رجال دولة وزعماء سياسة في دول الغرب، ولم يكن لها أيّ أثر نهائياً في تغيير مواقف تلك الحكومات والشعوب تجاه التضامن الفعلي مع حرية شعبنا. هذا هو العالم الذي يقطن الكرة الأرضية، بما فيه مليار ونصف مليار مسلم. لا نستطيع إقناع أحداً حول ضرورة التحرك ضد جرائم الأسد، قبل أن نقنع العالم أننا لسنا من جماعة النصرة، أننا لا ننتمي لثقافة الأقفاص الحديدية التي استعملها علوش ضد أسيراته العلويات، أننا لسنا من حلف "سأدوس على الديمقراطية بقدمي"، أننا لسنا من جماعة خطاب "أبناء القردة والخنازير والصليبيين والكفار" وغيرها من الشتائم الإلهية، علينا إقناع العالم أننا لسنا من دعاة أو الصامتين على ثقافة الأحزمة الناسفة، أننا لا نبحث عن مبررات لأبي صقار، أنه لا تربطنا علاقة مع هذا الجانب من ثقافة الإمام الغزالي الذي قال "الاشتغال بالعلوم الطبيعية حرام"، أننا نتمسك بتلك الشعرة أو الخيط الذي يربطنا بثقافة إبن رشد الذي قال "لا يمكن لله أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة للعقل"، نريد إقناع العالم أولاً أننا جزء منه ومن مستقبله وليس هو جزء من ماضينا الذي نعمل أن يكون مستقبل البشرية، لن نستطيع تغيير موقف الغرب نحونا قبل أن نغيّر موقفنا من الغرب.
المواطن الأمريكي شبعان، والشبعان لا يعرف أو يفهم معنى الجوع. المواطن الأمريكي حر، والحر لا يعرف أو يفهم معنى غياب الحرية، لأنه يمارسها بدون أن يشعر بها كالهواء الذي نستنشقه، علينا فهم أميركا، حتى نفهم طريقة التعامل معها، رغم أنها هي التي تحدد كيفية تعامل الآخرين معها، لكن ذلك لا يعفينا من "التحضير قبل الامتحان"، والعلاقة مع أميركا امتحان صعب يلاحقنا في كل خطوة وكل مكان.
بقدر ما تحتاج شعوب أوربا إلى وقت لتأمن جانبنا وتعيد النظر في تعاملها مع بعض مواطنيها المنحدرين منا، نحتاج وقتاً لتعلم علمانيتها وطريقة تدينها وعلاقتها مع ربها بل مع "أربابها". ربما نتحمل نحن جزء من مسؤولية ظهور "ماري لوبان" وظاهرتها الأوربية أكثر مما يتحمله الأوربيين في مسؤوليتهم عن ظهور النسخ القاعدية الجهادية عندنا وعندهم بسبب عدتها الفكرية الثقافية تبعنا.
أنا أعتقد أن الأوربيين المهتمين بالشأن السوري يعرفون جيداً، أنه لا يمكن التعويل على أي جماعة من الجماعات الموجود على الساحة السياسية حالياً من إئتلاف وملحقاته للعمل من أجل مرحلة جديدة، وقد يكون موقفه اللاحق هو التعاون مع شريحة من السوريين المستقلين عن النظام وعن المعارضة، مرحلة جديدة بخطابها ورؤيتها ووجوه ممثليها، للخروج من هذا الاستعصاء على أسس الدولة الديمقراطية الحديثة التي تؤسس لعلاقة وطنية لا تستثني أي جماعة إثنية أو طائفية، ويرى الكثيرون منهم ومنا أيضاً، أنه لا يمكن ممارسة الحكم في سورية كما كان سابقاً من خلال مركزية قوية، وربما يكون البديل بشيء من اللامركزية أو الفيدرالية، وصار من غير الممكن لذلك الشكل التوتاليتاري من الحكم الاستمرار بعد ما جرى من حروب حتى الآن، وأعتقد أن الأوربيين والأمريكان لا يؤمنون بالمفهوم التقليدي للدولة المركزية، وأعتقد أن أفضل حلّ للكارثة السورية متعددة الجوانب، هو الوصاية الدولية على سورية، لأنها تعتبر أفضل "لحمة وطنية"، وضمانة بقاء كيان سورية موحدة، وجسر يعبر عليه كل السوريين باتجاه "الضفة الأخرى للمتوسط"، تبقى الوصاية الدولية فرصة وضمانة للخلاص من الاستبداد والقروسطية وثقافتهما، ورغم سلبياتها، لكنها تحمل فرصة لتأمين العدالة الانتقالية وقيام محكمة دولية للتحقيق في جرائم الحرب ومحاسبة المسؤولين عنها، وهي الأفضل بين الخيارات غير الموجودة أمام السوريين. تبقى الوصاية الدولية ضمانة لصياغة وتنفيذ عقد اجتماعي يستند على مبادئ حقوق الإنسان. وهذا يتطلب البحث عن "طريق ثالث" مستقل عن الحراك السياسي للجماعات المسلحة والإئتلاف "الأخواني"، وعلينا توقع أو انتظار أسئلة جدية من أوربا حول مصير العلاقة مع الطائفة العلوية، ولمن يتم تركها؟ أي كيف المتابعة؟ وقد يكون مثل هكذا سؤال ليس فقط حول مصير العلويين. طبعاً مسألة إعادة المهجرين والكشف عن المفقودين وإطلاق سراح جميع المعتقلين قضايا غير قابلة للمساومة.
لم تكن القضية الفلسطينية يوماً مركزية للشعوب العربية والإسلامية، بل كانت قضية مركزية للحكام العرب والمسلمين والزعماء الفلسطينيين وتجار البزنس الديني، وعلينا إعادتها لمكانها وحجمها الطبيعي، بل علينا العودة إلى الحدود التي تتطلبها منا أولويات العمل الوطني. وأعتقد أنه لن يكون هناك تضامن جدي من أي شعب في العالم مع الشعب الفلسطيني وهناك حماس أو ما يُشبهها من منظمات معادية للديمقراطية وحرية الكلمة وحقوق الإنسان، لن يكون هناك تضامن جدي مع الشعب الفلسطيني إن لم يتبنى ويمارس المبادئ الأساسية لحقوق ويكون منافساً أخلاقياً لـ"علمانية" إسرائيل ونظامها التعددي وحرية الكلمة/رغم رفضنا لجوانب التمييز العنصري. ومن الضروري إعادة النظر بنظرتنا وموقفنا من حربنا الافتراضية على إسرائيل، والتفاوض على كل المسائل المطروحة بدون حذر، علينا تجاوز تلك الثقافة والخطاب الذي كان جزء من منظومة وماكينة الأسد الإعلامية والأمنية الداخلية. نحن نتضامن مع الشعب الفسطيني، لكن قضيتنا المركزية هي نهضة سورية وسعادة شعبنا.
قدم لبنان خلال القرن الماضي مجموعة من المفكرين ورجال الدولة أكبر من حجمه وعدد سكانه، وكان الأقرب لأوربا ثقافة وأسلوب حياة وتفكير. وأول جماعة أو حزب يساري شيوعي يتزحزح عن كابوس بريجنيف، ويقترب من الشيوعية الأوربية كان في لبنان أيام نقولا شاوي وجورج حاوي، واليوم صار في حضن الخمينية والأسدية. لبنان كميل شمعون وكمال جنبلاط ومهدي عامل، حوّلته الأسدية والخمينية إلى دولة فاشلة وغابة من مافيات العمائم القروسطية الفاسدة وتحول رجال غالبية دولتها إلى "صبية" ومرتزقة.
رغم أنه يجب علينا العمل على خلق علاقات جيدة مع كل دول المنطقة بلا استثناء، لكنه لابد من الإشارة بشكل عابر إلى علاقات الجماعات الجهادية الإرهابية مع بعض الدول الإقليمية، حيث أن تركيا أردوغان ساعدت في دخول أخطر جماعة إرهابية عرفها العالم في هذا العصر وقدمت الخدمات لها/داعش، وساهمت قطر والسعودية وشقيقاتهما بتقديم التمويل، وشيوخ السُنة قدموا "الموعظة" والتجييش الديني، وقدم الأسد التسهيلات لداعش في حربها ضد القوات الأمريكية في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، واستغلها نظام الخمينية في إيران لتنفيذ اجنداته في المنطقة. حاول الأسد رسم البعبع الجهادي على الحائط، وجاء الأخوان المسلمين وأولياء أمرهم ونعمتهم بتحويل تلك الرسمة البعبع إلى واقع، وظهر ذلك جلياً من خلال الخطاب الديني الذي سيطر على الثورة منذ بداية عام 2012، والسُنة كانوا ضحايا تلك الجماعات يوم دخولها والترحيب بها، ويوم صاروا حجة للأسد لتدمير بيوتهم ببراميله، ويوم جاءت روسيا لتضع نقطة على آخر برميل وعلى أول دولاب باص أخضر. هؤلاء الجماعات، هم الوجه الآخر للمعارضة الرسمية بفنادقها وفسادها ونقصان مناعتها الأخلاقية والثورية والوطنية.
إحدى أهم عوائق انطلاقتنا، هي أنه لم يحدث حتى الآن تقييم موضوعي للسنوات السبع الماضية، بل للسنوات السبعين الماضية، خاصة الحقبة الأسدية. قبل البدء برؤية الغد، لابد من معرفة أين نحن وأين نقف ومن أين انطلقنا؟ قبل معرفة تقييم عناصر قوتنا وضعفنا وعناصر قوة النظام وضعفه، قبل تفكيك آلية خطابنا غير الثوري غير العصري، لا يمكن للعالم أن يفهمنا/حتى لو كان خطابنا نتيجة جهل وقلة تجربة سياسية وليس نتيجة موقف سياسي ديني عدائي للغرب والعالم، علينا أن نكون شبيهين بالعالم كي يفهمنا العالم، بل علينا نحن فهم العالم على حقيقته. علينا محاولة التأقلم مع العالم و"ثقافته"، وليس العكس، وعندها فقط نستطيع التأثير بالعالم وبثقافته التي تلامس مستقبل وحياة شعوبنا.
قامت الثورة ضد الأسد بسبب القمع والفساد والاستئثار بالسلطة، بسبب غياب الحرية والتعددية السياسية، ولا يستطيع أحداً القول أنه يوجد أو وُجد عند أي جماعة جهادية معتدلة/بما فيهم جماعة علوش الزعيم في لجنة المفاوضات، أيّ عنصر من عناصر أسباب انطلاق الثورة أفضل مما هو عند الأسد؟ هل قدم أكثر المجاهدين اعتدالاً ممن ينتمون للثورة نموذجاً في مناطق سيطرتهم بدرجة حكم الأسد؟ أم همجية وقمع وفساد وتكميم الأفواه واستعباداً كالأسد؟. لماذا يتردد بعض أعداء الأسد من فضح تلك الجماعات كما يفضحون الأسد؟ هل يحتاجون لأدلة تؤكد أن تلك الجماعات هي الوجه الآخر للأسدية؟ أم القرابة الدينية هنا هي "بيضة القبان الثوري الأخلاقي الوطني"؟ كيف يستطيع بعض السوريين هضم كل أو بعض سياسات أردوغان ضد سورية وشعبها، وبالضبط السني الذي يستطيع هضم ما فعله أردوغان بأهله السنة من خذلان وتواطؤ وسمسرة على حياتهم ووجودهم وتهجيرهم والتغيير الديموغرافي لمناطقهم، السني الذي يستطيع هضم دور أردوغان في تحالفه مع الذين دافعوا عن الأسد الذي قتل ويقتل ويقتلون معه أهله السنة، هكذا سوري، وبالضبط هكذا سني مما يشكي عنده بشار الأسد؟.
كما أعطت جرائم الأسدين بحق شعبنا وحق الشعب اللبناني والفلسطيني سابقاً شهادة حسن سلوك لإسرائيل في مسألة قمعها للشعب الفلسطيني، أعطت همجية الجماعات الجهادية بلا استثناء شرعية وحسن سلوك بنظر الغرب للأسد وجرائمه. الهمجية أقوى من الكيماوي، التخلف أقوى من البراميل، والبهيمية أقوى من تدمير المدن/هكذا رؤية العالم وعيونه.
يقول مشيل فوكو: "قد لا نستطيع أن نفعل الكثير لكن هناك دائما شيء ما نستطيع أن نفعله". المطلوب من السوريين الأمينين لروح ثورة 2011 المغدورة، أن يكون عندهم، عندنا خطابٌ واحد للداخل السوري لمناقشة تفاصيل المرحلة الانتقالية، وللعربي وللإسلامي وللغرب الديمقراطي أيضاً حول ماذا نريد لسورية وللمنطقة! أن نقطع مع ذلك الخطاب البائس، حيث كان مع الغرب "ديمقراطيين منفتحين" على العالم، ومع الداخل بعضهم يختبئ في جلابيب بن لادن ومخففاته ويستخدم مصطلحات الماجوسية والنصيرية والصليبية والرافضة والكفار وما شابه ضمن وسائل سلاحه الدعائي! الثورة ليست بوابة للجنة، بل هي فرصة لبناء سوريا الغد بشكل أفضل، من خلال وضع رؤية واضحة للمستقبل، من خلال البحث عن دول تتقاطع مصالحها مع مصلحة شعبنا، وهنا أريد تأكيد دور أوربا، حيث قربها والعلاقات التاريخية، وحيث أنها نموذجاً أفضل يمكن الاستفادة منه.
قبل القضاء أو الخلاص من آخر مجموعة جهادية على أرض سورية، وقبل تشكيل أو ظهور جماعة أو شريحة أو كتلة من السوريين تقدم للعالم رؤية سورية لسورية الغد، رؤية تشبه العالم الديمقراطي الغربي، رؤية خارج ثقافة البعث الأسدية وخارج ثقافة الإسلام السياسي الجهادي، قبل هذين الشرطين لا أعتقد أنه سيكون هناك جدية في البدء بحل الكارثة السورية. وما يدعو للتفاؤل أيضاً، أن هناك مزاج عام بدأ يتشكل ضد الإسلام السياسي والجهادي وفكره وخطابه وثقافته، ويميل مزاج الشارع إلى الاقتراب أكثر من المفاهيم الليبرالية، والتي يجب علينا ملاقاته والعمل لتحويله إلى نهج لا رجعة عنه.
مازال بعض السوريين بحاجة لصدمة أكبر. كل هذه الدماء، كل هذا البزنس الثوري، كل هذا الاستخفاف بالدم السوري، كل هذه الجحشنة الثورية السياسية في الموقف من جبهة النصرة، كل ما حملته أسلمة الثورة من كوارث، ومازال البعض واقفاً عند نظرية المؤامرة. وأنا أؤكد لهؤلاء، أنه إن لم نقطع بشكل كامل مع ذلك الهروب "التبريري"، أن المؤامرة القادمة أفظع، أن المؤامرة القادمة أشرس، لأن نصف المؤامرة نخترعه ثم نصدقه، ثم نهرب إليه ومنه.
الحل أو بعضه غير القابل للتأجيل يكون بوجود برنامج وطني، ولن يكون إلا بعد الانتهاء من مرحلة انتقالية تعقب الأسدية والجهادية، برنامج وطني، بل بعضه إقليمي أيضاً يتخلل كل مؤسسات الدولة والثقافة ومنظمات المجتمع المدني والمدارس والقضاء والثقافة بمختلف جوانبها، وطبعاً إعادة الدين والخطاب الديني إلى مكانه الوعظي الذي يدعو للتعايش، وهذا يتطلب بعضاً من القسرية في التنفيذ ومراقبة التنفيذ، مع وضع البديل "الروحي الثقافي". القهر والفقر ليست عوامل أساسية باعتقادي، إلا إذا رافقتها عوامل أخرى، لاحظ القمع الذي ساد في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي الستاليني البريجنيفي، لاحظ الفقر الذي تعيشه مجتمعات عديدة في أفريقيا، لاحظ القمع الذي عاشته الأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية. أعتقد أن الحامل التاريخي المضلل والمضلل وفهمه وتعاطيه إضافة للدين وخطابه وأثره والعقلية السلوكية/mentality، هو الذي يتحكم ويغذي العوامل الأخرى للقمع والجهل والفقر والإرهاب. لست مع تقليص العلاقات مع روسيا، لكنه يجب الانتباه أنه لن نستطيع الاستفادة من التجربة الروسية في بناء أو إعادة بناء الدولة والمجتمع من جديد، بينما نستطيع ويجب الاستفادة كثيراً جداً من أوربا.
أريد تأكيد موقفي الشخصي حول قضية طرحتها أنا قبل فترة في برنامج تلفزيوني، وكررتها عدة مرات، وهي أنني مع الحوار السوري السوري، بشرط استثناء من تورط بالدم والفساد الكبير، وقناعتي أنه لا يمكن فتح صفحة مصالحة وطنية بوجود بشار الأسد ودائرته الضيقة على رأس السلطة، لكن لا يمكننا تجاهل ملايين من السوريين في الخندق أو الطرف الآخر، كما لا يمكننا نكران وجود الملايين الذين دافعوا "ببراءة" أو بجهل عن الإسلام السياسي الجهادي، كلا الفريقين سوريين ولا يمكن إغفال ذلك عند الحديث عن فتح صفحة جديدة.
ملاحظة أخيرة أريد تأكيدها ثانية، بل أكاد أجزم أن أفضل حلّ للمرحلة الانتقالية، هو الوصاية الدولية على سورية، هي ضمانة بقاء سورية، وجسر يعبر عليه كل السوريين باتجاه "الضفة الأخرى للمتوسط"، تبقى الوصاية الدولية ضمانة للخلاص من الاستبداد والقروسطية، تبقى الوصاية الدولية، رغم سلبياتها، تحمل فرصة لتحقيق العدالة الانتقالية بإنشاء محكمة دولية تشبه "محكة الشعوب" بحق قادة النازية بعد الحرب العالمية الثانية، تبقى الوصاية الأفضل بين الخيارات غير الموجودة، وهي ضمانة لعقد اجتماعي يستند على مبادئ حقوق الإنسان..
فاضل الخطيب، شيكاغو، 20 مايو، 2018.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية