الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لايموت الصبار عطشا /رواية (من حكايات انتفاضة آذار 1991 )الفصل السادس

ذياب فهد الطائي

2018 / 5 / 26
الادب والفن





لا يموت الصبار عطشا
(حكايات من انتفاضة آذار 1991 )
رواية

ذياب فهد الطائي






الفصل السادس











بدأ برد المساء يبعث في جسده رجفة خفيفة تزيدها هبات هواء قارص ،
الكراج مفتوح تتدافع به موجات الريح من كل جانب ، وعلى امتداد الحائط الوحيد الذي ظل واقفا كان عشرات الافراد يحاولون التخفيف من قساوة البرد ، لم يكن هناك من اضاءة وقد بدأ الظلام ينشر ظلالا كثيفة فيما راحت سكائر بعض المدخنين تومض كنجوم كابية .... بدأ رذاذ من المطر يتساقط مثيرا رائحة التراب الندي فألتصق الناس الى الحائط واحتضنت الامهات اولادهن مخبآتهم تحت العبآئات السوداء .
قطع ساحة الكراج يبحث عن فندق يقضي فيه ليلته ... شاهد( باصا) يتقدم من الجانب الاخر فعاد راكضا يدافع ليصعد.. الموقف لا يسمح بأية اعتبارات مجاملة فالجميع يعاني من التعب والانتظار الطويل والخوف ، لم يتدخل السائق لتنظيم الصعود بل اكتفى بإ ستيفاء الاجرة من المحظوظين الذين صعدوا ... أغلق الباب وقال بلكنة ملولة وممطوطة ـ الكل في مكانه ؟
لم يرد أحد ..فقال ـ توكلنا على الله
كان الباص يسير ببطئ مهتزا يؤرجح الركاب ... صمت الليل يخيم على الطريق ورتم سير الباص يدخل خدرا الى كل جسده المرهق ... مدد رجليه والقى برأسه الى الحاجز الحديد فوق الكرسي .. النسوة بدأن الحديث ... بنت شمسه عمرها ثلاث سنوات ضاعت ...عبد الزهره فقد زوجته وولديه فقد كان كل منهم يركض بأتجاه مغاير ... كان القصف لايترك فرصة للتفكير باختيار المكان ..... عبد المنعم ماتت زوجته .. ظل يومين لايعرف كيف ينقلها للمقبرة ... الطرق مقطوعة والرصاص أعمى .. ظل الرجل يردد وحده اكرام الميت دفنه ... حقا ياسيد( ميجر) ... انها دورة كاملة والتدريب سيأتي بالنتيجة المرجوة .
وضع السائق شريطا لداخل حسن ... لو رايد عشرتي تطول ....حجي الجذب لاتطراه .
صرخت امرأة ـ أهذا وقته؟! ... المقتل أفضل .... أريد البكاء ... منذ يومين والدموع ترفض أن تجري أكاد أختنق ... ياناس أريد أن ابكي .
أوقف السائق الشريط الغنائى وقال ـ كما تشاؤن !
عاود المطر سقوطه ، الماسحات لاتعمل ... السائق يحدق الى الطريق الذي يلفه ظلام ثقيل ويطبق عليه صمت موحش ، لم أستطع تبديل الماسحات لان السوق مقفل ... أحس بأن هذا عذر غير مبرر ،أحمدوا الله أني قبلت نقلكم ، لم يعلق أحد فما في داخل أي منهم أكبر من اية مأساة محتملة على الطريق .
ازداد تساقط المطر ولم تعد الرؤية ممكنة ، توقف السا ئق وقال
ـ لابأس سنضطر للتوقف قليلا ... يمكنكم أن تناموا !
بدأت بعض النسوة نواحا خفيفا ...أخذ الرجال يدخنون ... كانت رائحة الدخان عطنة ثقيلة فأحس بحرقة في عينيه ... الاطفال ناموا على المقاعد أو في أحضان أمهاتهم ... التيار يستبيح الباص من كل جانب ... أحس أن قدميه تتجمدان ... فكره وحده الذي كان بعيدا ... عند فاتن ... حينما تفرح تتراقص غمازة على خدها الأيمن وحينما تضحك تغمز بعينها اليسرى بنزق عفوي بالغ الحلاوة .. قال لها ضعي قشة على الجفن لتكف عن هذه الحركة ... كان متضايقا ... أقسمت أنها لم تكن منتبهة لهذه الحركة ... قال ..نعم .. ولكن الاخرون ... قالت ناديه أنها تقرأ قصة " الجحيم هم الاخرون " .. بدأ النعاس يأسره رغم البرد ... سقط رأسه على صدره ... أيقظته امرأة ... يا أخي توقف عن الشخير ... أنت لاتدع أحدا ينام ... رفع رأسه وصمم أن يبقى مستيقظا .
الساعة الرابعة صباحا ، أصبح البرد لايطاق ... تكور على نفسه ... رفع قدميه ليضعهما تحته ويجلس متربعا علّه يكسب بعض الدفء ... المطر الذي يسح منهمرا كشلال توقف فجأة وبدأت الغيوم بالانحسار ... كانت تتقطع مسرعة وكأنها أنهت مهمتها بنجاح ... بدت النجوم شائخة متعبة .
أدار السائق محرك الباص ... رفعت امرأة صوتها " اللهم صلي على محمد وآل بيت محمد " .. رددت البقية .. عليه وسلم
بدأ الفجر يكشف الشارع الاسفلتي الممتد بأستقامة فيما كانت أسراب من طيور مهاجرة تقطع السماء وهي تحرك أجنحتها بآلية وتتخذ اشكالا هندسية متنوعة في طيرانها.
مع هبات الهواء الباردة بدأت رائحة الصباح المنبعثة من الحقول على جانبي الطريق تشيع شيئا من الحيوية ، أستيقظ الاطفال فامتلئ الباص بصخب أفتقده ، شعر بأن الحياة تستمر .
توقف الباص عند مدخل بغداد حيث كانت نقطة تفتيش عسكرية .. على العارضة التي تقطع الشارع مربع خشبي كبير مصبوغ باللون الاحمر كتب عليه " قف للتفتيش " بدا الامر تاكيد رسمي لوجود السلطة التي تقاتل في مناطق أخرى لاثبات وجودها.
على الرصيف جندي يلوح للتنبيه بالتوقف ، تمتم السائق
ـ الله الستّار .
التفت الى الركاب وقال
-اخواني هوياتكم لتفادي التأخير
صعد جندي طويل القامة ذو وجه مستطيل يميل لون بشرته الى الصفرة ، عيناه صغيرتان تأخذان شكل عيني سحلية صحراوية تدوران بأستمرار ولا تخفيان كمية ا للؤم التي توزعانها على الجميع ... ربما سيكون مكتئبا ان لم يجد مذنبا في هذا الباص القادم من وادي الصبار .
أجال نظره في الركاب وسأل السائق
ـ من أين ؟
ـ من الديوانية
ـ اولاد ألـــ .....
كانت شتائم بذيئة جعلت النسوة يخفين رؤوسهن أما الرجال فقد كان صمتهم قهرا مكتوما !
ـ هوياتكم , سترون لن يفلت منكم أحد ...كلاب
توقف عند خالد ـ انت أيضا من الديوانية
ـ أنا من بغداد .. كنت بعمل خاص ولا علاقة لي بالاحداث
ـ أحداث .... ابن الكلب ..... كلكم خونة ... جبناء ... هويتك
قدم خالد هوية الدائرة التي يعمل بها وأمرا اداريا باجازة لمدة خمسة عشر يوما ،
ـ لماذا هذه الشتائم ؟ أنت تمثل الدولة وعليك أن تحترم المواطنين أثناء عملك الرسمي
ـ نعم .... عملي الرسمي أن أسحق امثالكم ... ثم ماهذا ؟
رمى الهوية والكتاب باستهانة
ـ هوية الاحوال المدنية ؟!
ـ لماذا ؟ هذه هوية الدولة ... وهذا كتاب رسمي
ـ قلت هوية الاحوال المدنية ... هذا ليس عملك... لاتؤخرني
ـ ولكني لاأحمل هوية الاحوال المدنية .... منذ اكثر من عشرين سنة وهوية الدائرة هي المعتمدة .
تنبهت في خالد روح المشاكسة رغم ادراكه بعدم جدوى مايقوم به ... كان يعرف لماذا يصر على هوية الاحوال المدنية ولكنه تجاهل ذلك .
ـ هل تم الغاء الهويات الرسمية؟ صدقني لاعلم لي بذلك !!
ـ أتسخر ... حسنا أنزل واذهب الى الباص الاسود المجاور لغرفة الادارة .
كان الباص الاسود مما يستعمل لنقل المتهمين , أدرك انه في مثل هذه الظروف فأن ركوب الباص يعني مشاكل لاحصر لها قد تكلفه أشهرا في المعتقلات ... قد ينسوه !
نزل واتجه الى غرفة الادارة ... كان ضابط يقف عند الشباك معطيا ظهره الى الباب
ـ صباح الخير سيادة الملازم
استدار بهدوء وتطلع الى خالد متفحصا
ـ أهلا ... نعم
كان في الخامسة والعشرين على أبعد تقدير ، أبيض البشرة ذو شعر كستنائي وعينين حادتين ولكنه على العموم يعطي انطباعا بالطيبة .
ـ سيادة الملازم .. أنا موظف حكومي ولدي هوية رسمية بالاضافة الى كتاب بإجازة اعتيادية صادر قبل اربعة ايام .... الاخ المكلف بتدقيق الهويات يصر على أن اقدم له هوية الاحوال المدنية التي ليست بحوزتي الان لاني لم أكن أعرف أن هويات الدوائر ملغية ،

ـ ملغية !!
قالها باستغراب
ـ لا ولكن هوية الاحوال المدنية مطلوبة كتاكيد اضافي
مد يده وتناول من خالد الهوية وكتاب الاجازة ... قرأهما
- تعال معي
توقف عند باب الباص
ـ فؤاد ... اسمح للعم بالصعود... وضعه سليم
ـ ولكن سيدي ... انه لايحمل هوية الاحوال المدنية
ـ لابأس ما لديه يكفي
ـ لا ... سيدي لايكفي
أحرج الضابط ... زم شفتيه كاتما غضبا بدأ يتصاعد
ـ فؤاد
ـ نعم سيدي
ـ أترك الباص وتعال
قفل الضابط عائدا ... رمى الجندي الهويات وشتم الضابط
ـ سيرى ما سأفعله
رشق خالد بنظرة حاقدة وهو يغادر الباص مداريا غضبه بقضم شواربه والعبث بحزامه الجلدي اللامع فيما توقفت عيناه عن الدوران اللئيم .
صعد خالد ثانية الى الباص الذي تحرك بسرعة .
قال السائق ـ لقد نجوت ياعم.
قالت امرأة ـ والله ياحاج لقد قرأت لك سورة " قل هو الله أحد "
شعر بالامتنان .. يقال أن المصائب توحد الناس ، تجعلهم أكثر قربا وربما أكثر موضوعية ... هل يدعو الله لتأتي كل المصائب مجتمعة عسى أن توحد كل العراقيين !!
كان منهكا الى أبعد حد ، لقد تحمل ضغطا هائلا كي يبقى محافظا على توازنه ... كلمة واحدة في غير المكان الملائم في سياق حديثه ولن يستطيع أن يتصور ماذا يمكن أن يحصل له !!
ارتمى على الكرسي وأغمض عينيه ، لم يعد يسمع ضجيج الاطفال ولا ثرثرة النسوة وحتى أنه لم يعد يشم رائحة الدخان العطنة .... حسنا ... لقد أصبح الموقف واضحا ... فريق امتلك الحرية في الوقت الضائع وفريق يمتلك القوة التي أعطيت له في الوقت الصـحيح !!
******
كانت أم شهلة عند الباب تساوم بائع خضروات متجول على حزمة من البقدونس ... لجوجة تواصل الحديث مع البائع تعويضا عن توقف زياراتها للاخرين وعن عدم زيارة نساء الشارع رقم 10 لها ... الكل منكفئ على همومه بأنتظار الغد ... أما هي فأن اليوم أو الغد سيان أو لافرق كبير بينهما ، ما يشغلها أن هذه الاحداث ستؤخر امكانية الحصول على عرسان ملائمين ، كانت تسعى دائما الى خلق صداقات واسعة مع العوائل التي لديها شباب بعمر الزواج ... عسى... أما الان فلا يعرف أحد ماذا سيكون مصير الشباب ! أية حرب جديدة سيساقون لها وأية مصائب سوف يواجهونها !!
قطعا هم الان بعيدون تماما عن التفكير بالزواج ... بالطبع الحق معهم فمن يستطيع التفكير بذلك !!
ـ ها.... أبو أحمد انشاء الله وصلت للعائلة ؟
كانت تعطي صوتها أكبر شحنة من المواساة والتعبير عن المشاركة فيما راحت تعابير وجهها تكتسي طابع الاسف وخيبة الامل .
لم يكن مستعدا للحديث ... كان متعبا .. مقهورا .... ومحبطا
قالت ام شهلة لزوجها
ـ الرجل يحتضر ... وجهه أصفر ذابل وعيناه غائرتان ويبدو عليه الهزال كأنه لم ينم ولم يأكل ..... أعانه الله ، كيف كان يقضي أيامه؟ ... هل تعرف أني أعجب أحيانا من سلوك النساء ... كيف استطاعت زوجته المغادرة لتستمتع بحفل عيد ميلاد ابنة قريبتهم والامور كلها لم تكن تبشر بالخير ... عجائب !!
لم يرد أبو شهله ..كان يعرف أن زوجته لن تتوقف .. يمكنها أن تقص الموضوع الواحد بألف طريقة وأن تظل تتسائل عن احتمالات لاحصر لها، كان يعلم أن الحديث معها لايفضي عادة الى اية نتيجة !
ـ لو كانت هنا لوفرت على زوجها كل هذا التعب !
ـ أعاننا الله على المشاكل !
ـ ماذاتقصد ؟
بدت لهجتها خشنة ، مهددة
ـ لاشئ نحن دائما محتاجون الى معونة الله تعالى ... أليس كذلك ؟
ـ كلا أنت تقصد شيئا آخر ولكن هذا ليس وقته .... يجب أن نزور الرجل، سأعد له بعض الطعام .. هل ستأتي معي؟
ـ لااعتقد أن الوقت ملائم ... قلت أنه متعب ولهذا سيكون بحاجة للنوم .
ـ ولكني سأعد له شايا على الاقل
كان من الواضح إن الفضول يتآكلها وأنها لن تصبر حتى الغد ، و يعرف ان ثنيها عن ذلك لن ينجح وقد تعوّد أن يتناسى أنها تحدثت معه حول الموضوع ولهذا يتركها تعود بغنيمتها من الاخبار التافهة التى تظل ترددها على مسامعه عشرات المرات باشكال متنوعة ولا تتركها الا حينما تحصل على " تعويض " آخر لتبدأ المشوار ثانية .
فتح الباب وهو يشعر بقلق غامض يحس كأ نه نسي شيئا كان يفكر به للتو... فمه كان جافا دون أن يشعر بحاجة للماء.
في يده رجفة خفيفة ربما جراء الإرهاق ، ارتمى على الأريكة في الصالة .. لم يستطع الذهاب الى غرفة النوم ، لن يتحمل رؤية حاجيات زوجته على طاولة الزينة أو يشم الرائحة الانسانية العذبة ، سبع وعشرون سنة كانا دائما معا ، يختلفان وسرعان ما يعاودان الحديث كأن لم يكن هناك من خلاف ، زارا معا كل مدن العراق ... شماله وجنوبه .. رافقته في سفراته الى معظم دول العالم , من جنوب آسيا حتى أوروبا ......كانت تردد دائما ... ليالينا الحلوة بكل مكان ... دائما هادئة تتحرك بطفولة محببة وتشاكسه بعذوبة شقية ، سنوات طوال مليئة بذكريات هي كل تاريخه .
غسل وجهه ورمق غرفة أحمد من أسفل السلم ... كان الباب الموارب عليه " بوستر "كبير للمغني ديمس روسس ... ود لو يلمس الصورة كي يحس بنظرات أحمد عليها ، لم يكن يتدخل بهوايات ولديه ولكنه كان يعرض وجهة نظره ... عاملهما منذ الصغر على انهما صديقان .....لقد ألغت هذه العلاقةالمتفهمة والحميمة الحواجز بينهم , كانا قريبين منه يعرضان مشاكلهما عليه بصراحة وأحيانا بحياء .
ـ آسفة ابو أحمد ولكني أعتقد انك بحاجة للشاي ... لايقتل التعب غير الشاي.
ابتسمت بتودد وأضافت ـ على وجه الخصوص اذا " خدرته " أختك أم شهله .
ـ شكرا أم شهله لقد جاء بوقته .... أنا فعلا بحاجة الى الشاي .


تقدمت أم شهله الى الصالة وهي تحمل صينية عليها ابريق زجاجي يتصاعد منه البخار فينشر رائحة خفيفة منعشة .. كان هناك ايضا " إستكان " شفاف يشع نظافة و كاسة من الكرستال مليئة بالسكر .
ـ أليس هناك من أخبار !
ـ كلا لقد مشيت عشرات الكيلومترات في البساتين والمواقع المهجورة والخالية والتي امتلأت بالمهاجرين من الكوفة والنجف والمناطق المحيطة ... أتصفح وجوه الناس ... كما زرت قرى ومدن لم يخطر على بالي في يوم ما أني سأزورها ... ركبت " لوريات" الجص والحصى ... حشرت مع عشرات الاشخاص على السطح ساعات عدة .. كنا وقوفا وحينما يتأرجح" اللوري " كنا نتحرك بذات الاتجاه كتلة واحدة !! ... كان هناك أيضا باصات أخرجت للعمل بحكم الحاجة.
ـ هل هناك الكثير ممن غادروا مساكنهم ؟
ـ نعم ... عشرات الالاف , هل تصدقين .. كان بعضهم يمارس طقوس الفرح قي البساتين ، يستمع الى أغنية أو يلهو مع أطفاله ... كانوا كمن يخشى أن ينسى ذكرياته !! ... رغم زخات الرصاص التي لاتنقطع وزخات المطر التي تفاجئهم فيحتمي بعضهم ببعض فقد كانـوا محظوظين !!!
كنت أود أن أرى فاتن وأحمد وناديه ... كنت أتشهى أن أجدهم أن اسمع ضحكات أحمد المرحة الرنانة... أن استمع الى مناقشات ناديه ومشاكساتها مع أخيها ، أن اشرب المرح المشع بالبهجة في عيون فاتن ... ولكني كنت أعود دائما باليأس يأ كل في جوانب روحي فأحس بالخواء .
ـ أبو أحمد انتبه لنفسك ... سيعودون ويجب أن يجدوك قويا كما يعرفونك أبو شهله يقول انك لا تلين بسرعة ... قوي ايمانك بالله ... ولكن ماذا ستفعل؟
لاول مرة يرى ام شهله ايجابية ، سكبت الشاي وقدمته
ـ تفضل .. يمكن أن تضيف السكر حسب رغبتك .
ـ شكرا أم شهله ... ٍسأرتاح الليله ... غدا سأعود الى الكوفة
ـ الوضع في بغداد غير مطمئن ! أمس تم اجتياح مدينة الثوره ... طوقها الحرس الجمهوري وضربتها الهيليكوبترات ثم جرى اقتحامها من قبل قوات خاصه ... حدثت اعتقالات واسعة... يقول عبد الرزاق ، يسكن خلف بيتكم ، والذي يعمل بجهاز المخابرات أن الاجراء كان وقائيا لان المعلومات كانت تشير الى توقع تحرك واسع في الثورة والشعلة والحرية ... على اية حال ، هل شاهدت القتال في النجف ؟
ـ الى حد ما ولكني شهدته في الكوفة ... معارك رهيبة بين الدبابات والمقاتلين ... كانت الجثث منتشرة على الارصفة وفي الشوارع ... كانت صواريخ طائرات الهيليكوبتر لا توفر شيئا أو أحدا .
ـ ولكن كيف يستطيعون استعمالها في ضرب المدن ؟ قالوا انها ستستخدم لنقل المسؤلين فقط !!
ـ نعم ولكني أعتقد أن الامريكان يرغبون بتأديبنا !! ما يجري مشاهد عبث صنعتها الدعاية الامريكية
ـ العياذ بالله ... وما ذ نب الشباب !!
ـ لاادري !
استأذنت أم شهلة .... عاد وحيدا ليس معه غير الظلام وذكريات متداخلة وشعور محبط يشل حواسه في خضم مشاهد القتل ومنظر الجثث تحملها عربة ... بكى الشباب الذين دفنوا احلامهم في الطرقات والذين سقطوا في شوارع لايعرفونها ولكنها ستظل تتذكرهم ... بكى عائلته التي لايعرف أين هم الان ...
كان بحاجة الى أن ينام ... أن يغفو ممدا ، فاردا جسده المتعب ، عيناه يحرق جفنيهما ملح ، فترمشان ثم تنغلقان على دمع يوخزهما ، رأسه مثقلة بطنين حاد يضج في أذنيه ... تقلب على جنبيه .. يهرب النوم كأنه قبّرة لا تقف ولا تطير .. دائما على مقربة ... كيف يغفو ! فتح المذياع باحثا عن شيئ ما . شيء ضائع... ربماخبرا أو أغنية ... شيء قد يعيد اليه توازنه , في المدن التي استولى عليها المقاتلون كان الناس يتصرفون بألفة ومودة ... بشفافية ... استغرب كيف يستطيع هؤلاء الناس التصرف على هذا النحو رغم كل ما يعيشونه ..... أحلام لا يسمح لها حتى أن تحكى ...كوابيس عليهم أن يناموا معها في النهار ... يتحدثون بهدوء رغم ما يترسب في عيونهم من مشاهد البؤس والدمار .
أدار مؤشر المذياع ... كانت محطات الاذاعة العربية تقدم ما يطلبه المستمعون !!...من يتذكر ... عام 1956 كان صوت عبد الناصر يصل الى كل قرية في هذا الوادي ... وبعكس التيار في دجلة والفرات الذي يندفع جنوبا،كان أبناء هذا الوادي يندفعون شمالا ... يتدفقون في الشوارع بأتجاه دوائر الدولة ... حين رفع صورة عبد الناصر في ساحة المدرسة كا ن يرفع مذكرة احتجاج .. وحين دخل السجن كان يشعر انه قد انتصر ... اليوم لم يدخل السجن ولكنه يشعر أنه منكسر ومحبط .... لقد مزقت مذكرة الاحتجاج .... المسؤل يتحدث عن الانتصار ... صوته الرخو ينز كذبا ،أغلق الجهاز .... حرقة الملح في عينيه تزداد , قالت فاتن .. خالد أفضل ما تفعله للقضاء على الحرقة في العينين ، شاي دافئ دونما سكر ثم دائرتين من اصبع خيار، أعد الشاي ولكن لم يك في ا لثلاجة خيار ... صعد الى غرفة أحمد ... عصر قلبه رؤية سريره الفارغ ... حقيبة كتبه الجامعية ... فتح كتابا فسقطت منه قصاصة صغيرة ... التقطها .. كانت رسلة آما ل ... دمعت عيناه ... الصغار يعشقون والقلوب الغضة تتفتح للحياة ... هل ستجد الفرصة لذلك .. أعاد الورقة وتلمس الوسادة برقة مغمضا عينيه يستذكر وجه أحمد الودود .... آه ياولدي ... قالت فاتن سأطلب من أحمد أن يملا البيت أطفالا ... أقسم .
إني سأتولى تربيتهم ، لن أدعهم يضايقون أمهم ... خالد يجب أن يكون لديك عشرة أحفاد....في الشيخوخة ليس هناك أجمل من الاحفاد فهم ليسوا امتدادا للحياة انهم الحياة ذاتها..........
خالد كم أقلق على أحمد انه طيب ، سلس ، في زمن صعب ... انه لايتمتع بالحذر الكافي ، يقف من أصدقائه أوبالاحرى معارفه وزملائه على مسافة واحدة ..... أعتقد أن هذا غير مقبول ... المسافات مهمة ، وفرز الأصدقاء على هذه المسافات غاية في الاهمية لان ذلك يعني اننا سنتصرف مع كل مجموعة على نحو مختلف .... اعرف كم تهوى الشعر ... اسمع:ـ
أحباب وسط " الكلب "
وأحـباب مـنّه ودون
وأحباب بــس" للوكت"
وأحباب ضحك اسنون

أحباب في قلوبنا.... وأحباب بين بين ... وآخرون لقضاء الوقت ... نلتقي بهم وقت الفراغ ... حينما لايوجد شيئ يشغلنا ... والقسم الاخير ليس لدينا شيئا لهم غير ابتسامة عابرة ، ألست معي أن هذا هو الفهم الواعي للعلاقات الاجتماعية وأنه يمكن أن يمنحنا الحصانة في عدم الخلط ... قال لها ... يعني ...
:-حسنا بدأت بنصف اقتناع ... وضحكت .
يوافقها الان بالرأي باقتناع كامل .... أحمد طيب القلب ... ضحكته مجلجة رنانة ... دائما لديه طاقة للمرح والحب والحياة ... ولكن لو يراه !! ليكن كيفما يشاء ... ليعش الحياة التي يريد ... فقط أن يراه ... شعر بيده ترتجف وبالدمع المعجون بالملح يحرق عينيه ... لم يقو على الاستمرار بالوقوف ... جلس على سريره ... أحس بأن جدران الغرفة تعصره وأنه يختنق ... كانت الذكريات تضج كلها مرة واحدة... تتسابق يأخذ بعضها بخناق البعض .
شمس آذار تسلل الى الغرفة على استحياء ،كسولة ،باهتة ،تنسكب على وجهه فكأنها اصابع طفل تلامس خديه برقة وحنو ... كانت غيوم متقطعة تأسرها تارة وتطلقها أخرى ... لم يستطع أن يفتح عينيه .. كان النعاس لايزال يثقلهما ولم يك ذهنه صافيا ... كان يشعر أنه في حلم ثقيل وأن اصواتا مختلطة تطرق جوانب رأسه ... ازداد الطرق ضجيجا .
ـ أعتقد أنه لايزال نائما ... لم أشاهده يخرج
كان هذا صوت أم شهله ... نهض متثاقلا ... كان عند الباب جمال على دراجة هوائية وكانت أم شهله تطلب منه الاستمرار بمناداته
ـ منذ نصف ساعة وأنا أطرق الباب ، لقد قررت أن أعود لولا جارتكم .... أين أنت يارجل ... لقد افتقدناك ؟
ـ أهلا جمال تفضل
دخلا الصالة بعد ا ن ترك جمال دراجته في مدخل البيت
ـ لم أفطر بعد ... هل تساعدني في المطبخ
ـ ساساعدك ... ولكني أفطرت
ـ كيف حال العائلة ؟
ـ بخير والجميع يفتقدوك ... نحن قلقون عليك .... يبدو أنك لم تستطع الوصول الى الجماعة ؟
- كلا ... كانت أياما مرهقة و الالم يمزق رأسي
ـ هل لديك اسبرين ؟
ـ نعم لدي علبة في الخزانة ... شكرا ذكرتني به
تناول قرصين من الاسبرين وجلسا في الصالة ... كان خالد تواقا لسماع أخبار الأصدقاء ... حين يتوصل المرء الى قناعة ما بشأن ما يفكر به فأنه يتركه الى مواضيع أخرى وربما يكون أكثر تركيزا وبالتالي أكثر قدرة على التوصل الى نتائج إيجابية ، كان مدهوشا من التعارض الذي يتمثل في
الموقف برمته والذي كانت تغطيه مشاعره الخاصة ولهفته على عائلته والقلق الذي شل تفكيره والذي لايزال يسيطر على حواسه ... الى أين ؟... ولكن ما جدوى التساؤل وهل بإمكان أي جواب مهما كان ، أن يكون مفيدا !!حسنا ولكن أيضا ألا يمثل التساؤل بحد ذاته اهتماما مشروعا !! أليس الوطن للجميع ؟ الى أين سيقودهم كل هذا، ثم أخيرا كيف سيتم حل المشاكل التي ستتخلف عنه ... أحمد وناديه وكل الشباب الذين من عمرهما ماذا سيعني المستقبل لهم !!أية موازنات سياسية ستظل في وجدانهم عند التعامل مع الاخرين !!
ـ لقد عاد ابن أختي أمس ... تعلم أنه ملازم في وحدة مشاة وأنه كان في الكويت ... يقول ان الحلفاء قد دمروا معظم الوحدات واتلفوا الاليات العسكرية ... كنا بدون أية حماية من الطيران وكان الحلفاء من العرب يتسابقون عندما يتعلق الامر بضرب الجنود ... كانوا يتصيدونهم من الجو .. لقد كانت بالنسبة لهم حفلة سمر في الصحراء العربية !! سمح الامريكان لهم بالمرور الى البصرة دون اية قطعة سلاح .... اضطر الضباط الى نزع رتبهم قبل الدخول للبصرة ...كانوا في ا لبصرة يعتقلون الضباط ويسمحون للأفراد بالمرور... تصور انهم طوال أكثر من عشرة أيام قضوها مشيا ويقتاتون على ما يجدونه في البساتين أو الحقول ! كانوا يختبئون نهارا ... ظل هو والعقيد الذي معه ثلاث ليال في البصرة وضواحيها هل تصدق انهما طرقا أبواب بعض الاهالي لطلب رغيف من الخبز !!! من اطرف ما يرويه انهما سألا امرأة بعض الخبز ... نظرت اليهما ثم قالت
ـ لابأس سأجلب لكما الخبز ولكن قبل ذلك أود أن أقول لكما بأنكما بالتأكيد ضباطا ولستم جنودا !!
وحين دخلت المرأة تقدمت طفلة في الخامسة بيدها قطعة خبز كانت تقضمها وقالت
ـ عمي ما عندي غير هذه ... أبي جندي راح للجبهة
بكى العقيدوقبل الطفلة وغادرا قبل أن تعود المرأة ... يقول انهما عصرتهما تداعيات ما وصلوا اليه ... أعني الجيش !
ـ هل شاهد سقوط البصرة بيد المقاتلين ؟
ـ نعم ... بعد العودة كانت جموع من العسكريين تجوب الشوارع ، لم تكن هناك من واسطة نقل كما لم تكن هناك اية امكانية لاي نوع من الانضباط ... كانت عودتهم على هذا الشكل المهين أكبر من أية حملة دعاية لتحريض الناس الذين كانوا أصلا مشحونين للاخر ... كان التذمر يجوس في الشوارع وفي البيوت وهكذا انفلت الزمام واندفعت حشود غاضبة الى مديرية المخابرات ومقر المحافظة ومراكز الشرطة وموقع البصرة .. استولى المهاجمون على كافة المواقع بسهولة فقد ترك المسؤولون المواقع وهرب المكلفون بالحراسة... بسرعة تشكلت مجموعات مسلحة ومنظمة من المهاجمين لحفظ النظام ولمتابعة الجهات الاخرى .
صمت قليلا كأنه يحاول أن يتذكر التفاصيل ثم تابع وهو يضحك
ـ لقد استغرق الاستيلاء على مقرات الحكومة بضع ساعات أما هدم أو ازالة الجداريات والنصب التذكارية فقد استغرق أياما ... كانت في منعطفات الشوارع وفي الساحات العامة وعلى واجهات المدارس والمباني ... جدارية ساحة سعد في مدخل البصرة احتاجت الى أن تسحب بواسطة دبابة ...ولكنه غير متفائل بأمكانية أن تنجح الحركة
ـ لماذا ؟
ـ يقول ان الحركة تفتقر الى العديد من مستلزمات النجاح ... كما أن من الواضح أن الامريكان لايريدون لها ذلك رغم كل ما قاله بوش ... سمعت أمس اشاعة أن شوازكوف استدعى احد قادة الحركة ليستمع منه الى مطالبهم وبعد اقل من نصف ساعة توصل الى قناعة بأنه ليس هؤلاء من تبحث عنهم أمريكا!! وهكذا صدرت الاوامر بعدم التدخل !!!
سمعا طرقا على الباب ...كان أبو شهله يتدثر بروب صوفي سميك ويضع على رأسه طاقية تغطي حتى ما تحت الاذنين ...تتدلى شواربه الكثة البيضاء على زاويتي فمه ... كان شاحب الوجه يعاني من رشح حاد
ـ آسف لآني لم استطع زيارتك امس ، كانت نوبة الرشح بأعلى حالاتها
ـ تفضل ... لابأس .. الحمد لله على سلامتك
حيا جمالا وجلس ... كان من الواضح أن لديه ما يود قوله
ـ لقد ستر الله بالامس فقد كان من الممكن أن تقع مجازر لاحد لبشاعتها .... كانت مدينة" الثورة " تحضّر لاجتياح بغداد ... تصوروا أن يقع قتال داخل الاحياء السكنية ... بالتاكيد سيتحول الى حرب أهلية .
لم يعلق أي منهما وحاول جمال أن يذهب بالحديث باتجاه آخر
ـ لقد دخل الجيش مدينة كربلاء بعد قتال ضار وقد أنتشر المقاتلون في البساتين المحيطة.. كان القتال رهيبا والذي حسم المعارك طائرات الهيليكوبتر ... ظلت الجثث في شوارع المدينة فقد منع الاهالي من رفعها وذلك بهدف بث الرعب في نفوس المقاتلين .... في النجف دخل الحرس الجمهوري والقوات الخاصة أطراف المدينة ويقال أن قتالا عنيفا جرى في المقبرة ،
قال أبو شهله ـ يا أخي هذه المقبرة عجيبة فعلا .. مدينة !! بيوت وشوارع، تصوروا أن مدينة العاب الاطفال تشرف عليها مباشرة ...... في الاعياد تصبح المقبرة أزهى من مدينة النجف !!
كان أبو شهله موظفا كبيرا في احدى الوزارات وبعد سبع وعشرين سنة قضاها في خدمة متصله كان خلالها مثالا للموظف المنضبط الذي لم يتأخر عن مواعيد عمله ولم يكن في يوم ما أول المنصرفين أحيل على التقاعد لانه لم يستطع تخفيض وزنه عن الحد القانوني المحدد لمرتين ... كان هذا السبب الذي ذكر في الامر الوزاري ولكن الحقيقة كانت غير ذلك .... قال له موظف الحسابات يوم استلام الراتب ... أبو شهله مائة وخمسون فلسا ... كان يمد يده بكراس " الشجرة " ... قال أبو شهله لقد قرأته أمس في سامراء ,, كنت في زيا رة " للحسن العسكري " وكان الكراس مطبوعا على صفحة واحدة ومعلقا على الباب ...أشر الموظف أمام اسمه رفض الشراء !!! قالت أم شهله .. هذا الرجل يثير دهشتي بأمرين ... حبه " للباجه " واهتمامه بشاربة ... أنظروا اليه انه باستمرار غاية في الاناقة ... لا تهديدات بوش ولا أخبار القتال يمكن أن تلهيه ...
قال لها خالد ... أم شهله أنت فعلا مظلومة مع أبي شهله لأ نه بالكاد يخصص لك نصف وقته لآن النصف الثاني للشوارب .... ردت ضاحكة ... صحيح ... شفت شواربه" وتغزرت " ولولا شواربه " ما جنت ألفّيه "
قال جمال ـ هل ما زلت مصرا على الذهاب اليوم ؟
ـ نعم.... وهل لي غير ذلك !
ـ دعني اذا أحصل لك على اذن رسمي ... لي صديق قريب لأحد قادة الحرس الجمهوري في قاطع الحلة .
قال أبو شهله ـ في الحلة وكربلاء ظلت الجثث في الشوارع وعلى الارصفة لايجرؤ على رفعها ، مسموح فقط للكلاب السائبة الاقتراب منها لآنها بحراسة الدبابات !!
لم يعلق جمال تشاغل بالنظر عبر الشباك الى شجيرات البرتقال في الحديقة ... كانت الثمار الصفراء والتي يشوبها شيئ من الخضرة تنشر رائحة عبقة وتتمايل مع حفيف الاغصان ... تذكر بساتين البرتقال في كربلاء الممتدة على ضفتي النهر ... شعر بشيء ما يستفزه ... هواء ساخن يهب على دماغه فيتعبه ... سترتوي أشجار البرتقال في كربلاء من دماء أبنائها ... كانوا يحلمون بتناولها ولكنها اليوم تتشرب جذورها بدمائهم !!
استأذن جمال ليرتب موضوع الموافقة ... كان أبو شهله ساهما
ـ القاتل والقتيل من هذا الوطن .... أية مأساة !!
غرق ابوشهله بنوبة سعال حادة وبدأ يقرفص جسده ... رفع درجة حرارة المدفأة وقرّبها منه ثم ناوله كأسا من الماء الدافئ .
ـ آسف لعدم وجود ا لليمون .. .. لماذا كلفت نفسك بالخروج ... واضح أنك ماتزال مريضا
ـ صحيح ولكني اشتقت للحديث معك ... لا يزورنا أحد .. الكل مشغول والمواصلات شبه مقطوعة ... بعض النسوة في الشارع يزرن ام شهله ... ثرثارات وما يهمهن هو تداول الاشاعات ..... هل شاهدت القتال ؟
ـ نعم الى حد ما ... القتال غير متكافئ ... لولا بسالة المقاتلين وتصميمهم لانتهى كل شيء خلال بضع ساعات ... الدبابات وطائرات الهليكوبتر مقابل الرشاشات الخفيفة وبضع صواريخ من قاذفات آر بي جي 7 ... كان هناك عمليات قتل واسعة !
ـ حقا ... الاوامر صريحة ... لاشيئ غير الابادة ... تعرف سلمان ...؟
غمز بعينه بأتجاه المسكن المقابل وتابع ،
ـ عاد صباح أمس من كربلاء مع " لوري " محملا بالسجاد والاواني المنزليه وصناديق مختلفه ... تقول أم شهله أنها تحتوي على تحف ومصوغات ذهبية .. تعرف أم شهله حين تنوي جرجرة أحدى النسوة بالكلام !! لم يكفهم الكويت جاء الان دور المدن العراقية .... الغزو يبيح الغنائم !!
ـ وماذا تتوقع ؟
ـ طبعا لاأتوقع شيئا آخر ... هل سيحضر صديقك الموافقة اليوم ؟
ـ أرجو ذلك
ـ سانادي على أم شهله لتعد لنا القهوة ... لدينا قهوة عربيه بالهال الجيد ، حباته مكتنزة ، داكنة ورائحتها لذيذة .
خرج الى الممر لينادي على زوجته من خلف السياج المشترك .
عاد ليقول
ـ أبو أحمد ، فتاة عند الباب .... ربما لزيارتكم
خرج خالد ... كانت فتاة في العشرين تلف جسدها بعباءة وتظهر وجها نضرا .
ـ عمو أنا صديقة ناديه ... هل أستطيع رؤيتها
ـ آسف ... لا أحد غيري في البيت ... انهم محاصرون في النجف ولا أعرف متى يعودوا
ـ شكرا
ـ ولكن اذا عادت .... ما اسمك ؟
ـ رويدا .... جيران بيت آما ل
شعر خالد بأن دفقة نور مفاجئة تتسلل الى قلبه ... كانت تريد أن تقول أنها جاءت من طرف آ مال التي تريد أن تطمئن على أحمد الذي انقطعت أخباره ... ياالهي .... المشاعر الرقيقه ... الاهتمامات الصغيرة لازال لها مكان في هذا العالم ... لن تحجب الدماء ولا شهوة القتل المتزايدة مسيرة الحياة ويظل الانسان يتشبث باسباب وجوده !

قالت أم شهله ـ أمانه .... أبو أحمد أمانه تسلم على فاتن وتقبل لي أحمد وناديه
ـ إن شاء الله
لم يستطع جمال أن ياتيه بتصريح المرور ... كان صديقه مسافرا ... قررخالد أن يذهب عن طريق الكوت فالمد ينة لم تشهد بعد أية احداث .. كان المقاتلون في النجف قد اتخذوا قرارا تحريضيا ضد سكان الكوت اذ منعوا دفن الجنائز القادمة من المدينة .
أصرت ام شهله ان تعطيه علبة بسكويت ... تساعده في الطريق ... كانت تقف خلف السياج المشترك وكأنها تنتظره ...موفق وبالسلامه ... أرجو أن ترجع هذه المرة وهم معك ... ماشاء الله " البرحية"هذه السنة حملها مضاعف اللهم زد وبارك ... لو كانت فاتن تسمعها لخافت على النخلة من الحسد ولقرأت " قل أعوذ برب الفلق" ... انه يدرك ان أم شهله تقصد لاتنسونا !!
منذ الان تريد أن تحجز حصة ما من التمر .
مجموعة من الاطفال يلعبون في الشارع لاحظ انهم لايصدرون الضجيج المعهود ، كانوا يتقافزون وراء الكرة الصغيرة بشيئ من الانسيابية والهدوء وكأنهم يستمتعون بدفء شمس آذار الحانية أو كانهم يخشون أن يسمعهم أحد فيشي بهم الى الست المديرة التي قد تقطع اجازتهم وتامرهم بالعودة الى المدارس !!
كان يقفل الباب الحديد حينما سمع رجلا يحييه
ـ الاستاذ خالد على ما أعتقد
كان الرجل يرتدي دشداشة رمادية داكنة وسترة بنية ، شعره الاسود يخالطه شيب توزع على نحو متباين ، ففي المقدمة كانت خصلة بيضاء تتوسط جبهته ، كان لديه حاجبان كثّان شديدا السواد وفي عينيه الشهلاوين شيئ من التسامح .. بدا مترددا ومحرجا .
ـ أهلا وسهلا ... هل هناك ما يمكن أن أفعله لك ؟
ـ أ رجو أن تساعدني ... اني أطمع بموافقتكم !
ـ ولكن على ماذا الموافقة ؟
ـ عفوا أستاذ آلاء مريضة منذ ثلاثة أيام ولم تستطع الذهاب للدائرة ... نرجو أن تحتسب غيابها إجازة
ـ لاداع لذلك .... الدوام هذه الأيام مقصور على رؤساء الدوائر فقط ... لماذا أتعبت نفسك بالحضور ..المواصلات صعبة !!
ـ شكرا ولكني جاركم ... نحن نسكن على الركن ... اول الشارع !
ـ نفس الشارع ! صدقني لا اعرف ذلك رغم أن آلاء معنا منذ أكثر من سنة !
ـ أكرر أسفي للإزعاج
ـ لا إزعاج ويؤسفني اني مغادر ولا أستطيع دعوتك .
ودعه الرجل وذهب ... جارهم وهو لايعرف ذلك ! ماذا حل بالناس ليتباعدوا على هذا النحو ... كانوا يتعرفون على الساكن الجديد ويقدمون انفسهم ، ولثلاثة أيام يحرصون على تقديم الطعام لان العائلة كلها مشغولة بترتيب البيت وتهيأته ... أما اليوم فأن الحياة أخذتهم ... ماذا يعرف هو عن أقرب جار له "أبوشهله " غير الأمور العامة ... هل يعرف شيئا عن سلمان الذي يسكن وامه في الدار المقابلة ...بضعة أمتار عنه ... يعرف أنه جندي ..هذا من ملابسه ... وسمع انه الان على أبواب القفز الى الطبقة الجديدة التي فرّخها الدخول للكويت ... لم يره الا مرات قليلة... قالت ناديه أنها لقنته درسا لن ينساه ... كان يترصد خروجها ليحاول أن يكلمها ... قال خالد لفاتن أن تكلم أمه ... قالت كلا ... أعرف المرأة ... ليست ممن ينفع معها الكلام .. كما أني لا أريد أن يكون في الحديث معها بداية للتعارف ... لم يلح أكثر... قال أحمد حسنا أكلمه أنا.... وكور قبضته ... قال خالد لا .. سأتصرف وربما يأتي دورك لاحقا !
كان سلمان يقف على السطح يلوح لمجموعة من الطيور تحوم مصفقه بأجنحتها ... طيور ملونة .. قالت أم شهله .. بطران ... أمن خالد على كلامها وغادر الشارع .
بضع أفراد على الرصيف يتلذذون بدفء الشمس ويتبادلوا آخر الاشاعات وأحينا يتطلعون نحو "بوستر " كبير لصبي بالغ السمنة على الباب الحديد لمحل حلويات مغلق ... يعلن الصبي عن الحلويات باعتبارها مفيدة وصحية .... النتيجة...هذه السنة المفرطة .. الإعلان صناعة ... وكل المظاهر في الحياة اليوم صناعة أيضا ... كومونة باريس ... 1 آيار ... انتفاضة براغ ... ثورة بودابست ... أليست صناعة !! مستوى لم ينضج بعد من الصناعة ... هذا الإعلان وما يجري اليوم ألا يربط بينهما نفس المستوى البدائي !! شارع 14 رمضان شبه فارغ تلفه كآبة ووحشة ، بين الفينة والفينة تمرق سيارة مسرعة وكأنها تخشى التوقف .... قبل حي دراغ كانت بناية شاهقة تنتصب مطلة على الساحة بتحد مقيت ... امام البوابة الكبيرة المغلقة مجموعة من الحراس .. كانت وجوههم واجمة لاتعبر عن اية مشاعر يرين عليها صمت متحفز يغطي على الخوف الذي تكتمه عيونهم الذابلة ... كانوا يتبادلون المراكز بآلية منتظمة ... في الزقاق المجاور سيارة عسكرية عليها رشاش ثقيل وبضعة جنود يقضمون أ رغفة خبز خالية ... ليس بالامكان هذه المرة استئجار طائرات الميراج من الصديقة فرنسا ... لقد اختلفت اللعبة ... كانت برقية (باول )واضحة .. دعوا دبابات الحرس الجمهوري تمر ... لا يدري لماذا تزدحم الأفكار براسه على نحو مشوش ... ولكن ما هو المنتظم في هذا اللامعقو
لايموت الصبار عطشا
(حكايات من انتفاضة آذار 1991 )
رواية

ذياب فهد الطائي






الفصل السادس











بدأ برد المساء يبعث في جسده رجفة خفيفة تزيدها هبات هواء قارص ،
الكراج مفتوح تتدافع به موجات الريح من كل جانب ، وعلى امتداد الحائط الوحيد الذي ظل واقفا كان عشرات الافراد يحاولون التخفيف من قساوة البرد ، لم يكن هناك من اضاءة وقد بدأ الظلام ينشر ظلالا كثيفة فيما راحت سكائر بعض المدخنين تومض كنجوم كابية .... بدأ رذاذ من المطر يتساقط مثيرا رائحة التراب الندي فألتصق الناس الى الحائط واحتضنت الامهات اولادهن مخبآتهم تحت العبآئات السوداء .
قطع ساحة الكراج يبحث عن فندق يقضي فيه ليلته ... شاهد( باصا) يتقدم من الجانب الاخر فعاد راكضا يدافع ليصعد.. الموقف لا يسمح بأية اعتبارات مجاملة فالجميع يعاني من التعب والانتظار الطويل والخوف ، لم يتدخل السائق لتنظيم الصعود بل اكتفى بإ ستيفاء الاجرة من المحظوظين الذين صعدوا ... أغلق الباب وقال بلكنة ملولة وممطوطة ـ الكل في مكانه ؟
لم يرد أحد ..فقال ـ توكلنا على الله
كان الباص يسير ببطئ مهتزا يؤرجح الركاب ... صمت الليل يخيم على الطريق ورتم سير الباص يدخل خدرا الى كل جسده المرهق ... مدد رجليه والقى برأسه الى الحاجز الحديد فوق الكرسي .. النسوة بدأن الحديث ... بنت شمسه عمرها ثلاث سنوات ضاعت ...عبد الزهره فقد زوجته وولديه فقد كان كل منهم يركض بأتجاه مغاير ... كان القصف لايترك فرصة للتفكير باختيار المكان ..... عبد المنعم ماتت زوجته .. ظل يومين لايعرف كيف ينقلها للمقبرة ... الطرق مقطوعة والرصاص أعمى .. ظل الرجل يردد وحده اكرام الميت دفنه ... حقا ياسيد( ميجر) ... انها دورة كاملة والتدريب سيأتي بالنتيجة المرجوة .
وضع السائق شريطا لداخل حسن ... لو رايد عشرتي تطول ....حجي الجذب لاتطراه .
صرخت امرأة ـ أهذا وقته؟! ... المقتل أفضل .... أريد البكاء ... منذ يومين والدموع ترفض أن تجري أكاد أختنق ... ياناس أريد أن ابكي .
أوقف السائق الشريط الغنائى وقال ـ كما تشاؤن !
عاود المطر سقوطه ، الماسحات لاتعمل ... السائق يحدق الى الطريق الذي يلفه ظلام ثقيل ويطبق عليه صمت موحش ، لم أستطع تبديل الماسحات لان السوق مقفل ... أحس بأن هذا عذر غير مبرر ،أحمدوا الله أني قبلت نقلكم ، لم يعلق أحد فما في داخل أي منهم أكبر من اية مأساة محتملة على الطريق .
ازداد تساقط المطر ولم تعد الرؤية ممكنة ، توقف السا ئق وقال
ـ لابأس سنضطر للتوقف قليلا ... يمكنكم أن تناموا !
بدأت بعض النسوة نواحا خفيفا ...أخذ الرجال يدخنون ... كانت رائحة الدخان عطنة ثقيلة فأحس بحرقة في عينيه ... الاطفال ناموا على المقاعد أو في أحضان أمهاتهم ... التيار يستبيح الباص من كل جانب ... أحس أن قدميه تتجمدان ... فكره وحده الذي كان بعيدا ... عند فاتن ... حينما تفرح تتراقص غمازة على خدها الأيمن وحينما تضحك تغمز بعينها اليسرى بنزق عفوي بالغ الحلاوة .. قال لها ضعي قشة على الجفن لتكف عن هذه الحركة ... كان متضايقا ... أقسمت أنها لم تكن منتبهة لهذه الحركة ... قال ..نعم .. ولكن الاخرون ... قالت ناديه أنها تقرأ قصة " الجحيم هم الاخرون " .. بدأ النعاس يأسره رغم البرد ... سقط رأسه على صدره ... أيقظته امرأة ... يا أخي توقف عن الشخير ... أنت لاتدع أحدا ينام ... رفع رأسه وصمم أن يبقى مستيقظا .
الساعة الرابعة صباحا ، أصبح البرد لايطاق ... تكور على نفسه ... رفع قدميه ليضعهما تحته ويجلس متربعا علّه يكسب بعض الدفء ... المطر الذي يسح منهمرا كشلال توقف فجأة وبدأت الغيوم بالانحسار ... كانت تتقطع مسرعة وكأنها أنهت مهمتها بنجاح ... بدت النجوم شائخة متعبة .
أدار السائق محرك الباص ... رفعت امرأة صوتها " اللهم صلي على محمد وآل بيت محمد " .. رددت البقية .. عليه وسلم
بدأ الفجر يكشف الشارع الاسفلتي الممتد بأستقامة فيما كانت أسراب من طيور مهاجرة تقطع السماء وهي تحرك أجنحتها بآلية وتتخذ اشكالا هندسية متنوعة في طيرانها.
مع هبات الهواء الباردة بدأت رائحة الصباح المنبعثة من الحقول على جانبي الطريق تشيع شيئا من الحيوية ، أستيقظ الاطفال فامتلئ الباص بصخب أفتقده ، شعر بأن الحياة تستمر .
توقف الباص عند مدخل بغداد حيث كانت نقطة تفتيش عسكرية .. على العارضة التي تقطع الشارع مربع خشبي كبير مصبوغ باللون الاحمر كتب عليه " قف للتفتيش " بدا الامر تاكيد رسمي لوجود السلطة التي تقاتل في مناطق أخرى لاثبات وجودها.
على الرصيف جندي يلوح للتنبيه بالتوقف ، تمتم السائق
ـ الله الستّار .
التفت الى الركاب وقال
-اخواني هوياتكم لتفادي التأخير
صعد جندي طويل القامة ذو وجه مستطيل يميل لون بشرته الى الصفرة ، عيناه صغيرتان تأخذان شكل عيني سحلية صحراوية تدوران بأستمرار ولا تخفيان كمية ا للؤم التي توزعانها على الجميع ... ربما سيكون مكتئبا ان لم يجد مذنبا في هذا الباص القادم من وادي الصبار .
أجال نظره في الركاب وسأل السائق
ـ من أين ؟
ـ من الديوانية
ـ اولاد ألـــ .....
كانت شتائم بذيئة جعلت النسوة يخفين رؤوسهن أما الرجال فقد كان صمتهم قهرا مكتوما !
ـ هوياتكم , سترون لن يفلت منكم أحد ...كلاب
توقف عند خالد ـ انت أيضا من الديوانية
ـ أنا من بغداد .. كنت بعمل خاص ولا علاقة لي بالاحداث
ـ أحداث .... ابن الكلب ..... كلكم خونة ... جبناء ... هويتك
قدم خالد هوية الدائرة التي يعمل بها وأمرا اداريا باجازة لمدة خمسة عشر يوما ،
ـ لماذا هذه الشتائم ؟ أنت تمثل الدولة وعليك أن تحترم المواطنين أثناء عملك الرسمي
ـ نعم .... عملي الرسمي أن أسحق امثالكم ... ثم ماهذا ؟
رمى الهوية والكتاب باستهانة
ـ هوية الأحوال المدنية ؟!
ـ لماذا ؟ هذه هوية الدولة ... وهذا كتاب رسمي
ـ قلت هوية الأحوال المدنية ... هذا ليس عملك... لا تؤخرني
ـ ولكني لا أحمل هوية الأحوال المدنية .... منذ اكثر من عشرين سنة وهوية الدائرة هي المعتمدة .
تنبهت في خالد روح المشاكسة رغم ادراكه بعدم جدوى ما يقوم به ... كان يعرف لماذا يصر على هوية الأحوال المدنية ولكنه تجاهل ذلك .
ـ هل تم الغاء الهويات الرسمية؟ صدقني لا علم لي بذلك !!
ـ أتسخر ... حسنا أنزل واذهب الى الباص الأسود المجاور لغرفة الإدارة .
كان الباص الأسود مما يستعمل لنقل المتهمين , أدرك انه في مثل هذه الظروف فأن ركوب الباص يعني مشاكل لا حصر لها قد تكلفه أشهرا في المعتقلات ... قد ينسوه !
نزل واتجه الى غرفة الادارة ... كان ضابط يقف عند الشباك معطيا ظهره الى الباب
ـ صباح الخير سيادة الملازم
استدار بهدوء وتطلع الى خالد متفحصا
ـ أهلا ... نعم
كان في الخامسة والعشرين على أبعد تقدير ، أبيض البشرة ذو شعر كستنائي وعينين حادتين ولكنه على العموم يعطي انطباعا بالطيبة .
ـ سيادة الملازم .. أنا موظف حكومي ولدي هوية رسمية بالاضافة الى كتاب بإجازة اعتيادية صادر قبل اربعة ايام .... الاخ المكلف بتدقيق الهويات يصر على أن اقدم له هوية الاحوال المدنية التي ليست بحوزتي الان لاني لم أكن أعرف أن هويات الدوائر ملغية ،

ـ ملغية !!
قالها باستغراب
ـ لا ولكن هوية الاحوال المدنية مطلوبة كتاكيد اضافي
مد يده وتناول من خالد الهوية وكتاب الاجازة ... قرأهما
- تعال معي
توقف عند باب الباص
ـ فؤاد ... اسمح للعم بالصعود... وضعه سليم
ـ ولكن سيدي ... انه لايحمل هوية الاحوال المدنية
ـ لابأس ما لديه يكفي
ـ لا ... سيدي لايكفي
أحرج الضابط ... زم شفتيه كاتما غضبا بدأ يتصاعد
ـ فؤاد
ـ نعم سيدي
ـ أترك الباص وتعال
قفل الضابط عائدا ... رمى الجندي الهويات وشتم الضابط
ـ سيرى ما سأفعله
رشق خالد بنظرة حاقدة وهو يغادر الباص مداريا غضبه بقضم شواربه والعبث بحزامه الجلدي اللامع فيما توقفت عيناه عن الدوران اللئيم .
صعد خالد ثانية الى الباص الذي تحرك بسرعة .
قال السائق ـ لقد نجوت ياعم.
قالت امرأة ـ والله ياحاج لقد قرأت لك سورة " قل هو الله أحد "
شعر بالامتنان .. يقال أن المصائب توحد الناس ، تجعلهم أكثر قربا وربما أكثر موضوعية ... هل يدعو الله لتأتي كل المصائب مجتمعة عسى أن توحد كل العراقيين !!
كان منهكا الى أبعد حد ، لقد تحمل ضغطا هائلا كي يبقى محافظا على توازنه ... كلمة واحدة في غير المكان الملائم في سياق حديثه ولن يستطيع أن يتصور ماذا يمكن أن يحصل له !!
ارتمى على الكرسي وأغمض عينيه ، لم يعد يسمع ضجيج الاطفال ولا ثرثرة النسوة وحتى أنه لم يعد يشم رائحة الدخان العطنة .... حسنا ... لقد أصبح الموقف واضحا ... فريق امتلك الحرية في الوقت الضائع وفريق يمتلك القوة التي أعطيت له في الوقت الصـحيح !!
******
كانت أم شهلة عند الباب تساوم بائع خضروات متجول على حزمة من البقدونس ... لجوجة تواصل الحديث مع البائع تعويضا عن توقف زياراتها للآخرين وعن عدم زيارة نساء الشارع رقم 10 لها ... الكل منكفئ على همومه بانتظار الغد ... أما هي فأن اليوم أو الغد سيان أو لا فرق كبير بينهما ، ما يشغلها أن هذه الاحداث ستؤخر إمكانية الحصول على عرسان ملائمين ، كانت تسعى دائما الى خلق صداقات واسعة مع العوائل التي لديها شباب بعمر الزواج ... عسى... أما الان فلا يعرف أحد ماذا سيكون مصير الشباب ! أية حرب جديدة سيساقون لها وأية مصائب سوف يواجهوها !!
قطعا هم الان بعيدون تماما عن التفكير بالزواج ... بالطبع الحق معهم فمن يستطيع التفكير بذلك !!
ـ ها.... أبو أحمد انشاء الله وصلت للعائلة ؟
كانت تعطي صوتها أكبر شحنة من المواساة والتعبير عن المشاركة فيما راحت تعابير وجهها تكتسي طابع الأسف وخيبة الامل .
لم يكن مستعدا للحديث ... كان متعبا .. مقهورا .... ومحبطا
قالت ام شهلة لزوجها
ـ الرجل يحتضر ... وجهه أصفر ذابل وعيناه غائرتان ويبدو عليه الهزال كأنه لم ينم ولم يأكل ..... أعانه الله ، كيف كان يقضي أيامه؟ ... هل تعرف أني أعجب أحيانا من سلوك النساء ... كيف استطاعت زوجته المغادرة لتستمتع بحفل عيد ميلاد ابنة قريبتهم والامور كلها لم تكن تبشر بالخير ... عجائب !!
لم يرد أبو شهله ..كان يعرف أن زوجته لن تتوقف .. يمكنها أن تقص الموضوع الواحد بألف طريقة وأن تظل تتسائل عن احتمالات لا حصر لها، كان يعلم أن الحديث معها لا يفضي عادة الى اية نتيجة !
ـ لو كانت هنا لوفرت على زوجها كل هذا التعب !
ـ أعاننا الله على المشاكل !
ـ ماذاتقصد ؟
بدت لهجتها خشنة ، مهددة
ـ لاشئ نحن دائما محتاجون الى معونة الله تعالى ... أليس كذلك ؟
ـ كلا أنت تقصد شيئا آخر ولكن هذا ليس وقته .... يجب أن نزور الرجل، سأعد له بعض الطعام .. هل ستأتي معي؟
ـ لااعتقد أن الوقت ملائم ... قلت أنه متعب ولهذا سيكون بحاجة للنوم .
ـ ولكني سأعد له شايا على الاقل
كان من الواضح إن الفضول يتآكلها وأنها لن تصبر حتى الغد ، و يعرف ان ثنيها عن ذلك لن ينجح وقد تعوّد أن يتناسى أنها تحدثت معه حول الموضوع ولهذا يتركها تعود بغنيمتها من الاخبار التافهة التى تظل ترددها على مسامعه عشرات المرات باشكال متنوعة ولا تتركها الا حينما تحصل على " تعويض " آخر لتبدأ المشوار ثانية .
فتح الباب وهو يشعر بقلق غامض يحس كأ نه نسي شيئا كان يفكر به للتو... فمه كان جافا دون أن يشعر بحاجة للماء.
في يده رجفة خفيفة ربما جراء الإرهاق ، ارتمى على الأريكة في الصالة .. لم يستطع الذهاب الى غرفة النوم ، لن يتحمل رؤية حاجيات زوجته على طاولة الزينة أو يشم الرائحة الانسانية العذبة ، سبع وعشرون سنة كانا دائما معا ، يختلفان وسرعان ما يعاودان الحديث كأن لم يكن هناك من خلاف ، زارا معا كل مدن العراق ... شماله وجنوبه .. رافقته في سفراته الى معظم دول العالم , من جنوب آسيا حتى أوروبا ......كانت تردد دائما ... ليالينا الحلوة بكل مكان ... دائما هادئة تتحرك بطفولة محببة وتشاكسه بعذوبة شقية ، سنوات طوال مليئة بذكريات هي كل تاريخه .
غسل وجهه ورمق غرفة أحمد من أسفل السلم ... كان الباب الموارب عليه " بوستر "كبير للمغني ديمس روسس ... ود لو يلمس الصورة كي يحس بنظرات أحمد عليها ، لم يكن يتدخل بهوايات ولديه ولكنه كان يعرض وجهة نظره ... عاملهما منذ الصغر على انهما صديقان .....لقد ألغت هذه العلاقةالمتفهمة والحميمة الحواجز بينهم , كانا قريبين منه يعرضان مشاكلهما عليه بصراحة وأحيانا بحياء .
ـ آسفة ابو أحمد ولكني أعتقد انك بحاجة للشاي ... لايقتل التعب غير الشاي.
ابتسمت بتودد وأضافت ـ على وجه الخصوص اذا " خدرته " أختك أم شهله .
ـ شكرا أم شهله لقد جاء بوقته .... أنا فعلا بحاجة الى الشاي .


تقدمت أم شهله الى الصالة وهي تحمل صينية عليها ابريق زجاجي يتصاعد منه البخار فينشر رائحة خفيفة منعشة .. كان هناك أيضا " استكان " شفاف يشع نظافة و كاسه من الكريستال مليئة بالسكر .
ـ أليس هناك من أخبار !
ـ كلا لقد مشيت عشرات الكيلومترات في البساتين والمواقع المهجورة والخالية والتي امتلأت بالمهاجرين من الكوفة والنجف والمناطق المحيطة ... أتصفح وجوه الناس ... كما زرت قرى ومدن لم يخطر على بالي في يوم ما أني سأزورها ... ركبت " لوريات" الجص والحصى ... حشرت مع عشرات الأشخاص على السطح ساعات عدة .. كنا وقوفا وحينما يتأرجح" اللوري " كنا نتحرك بذات الاتجاه كتلة واحدة !! ... كان هناك أيضا باصات أخرجت للعمل بحكم الحاجة.
ـ هل هناك الكثير ممن غادروا مساكنهم ؟
ـ نعم ... عشرات الالاف , هل تصدقين .. كان بعضهم يمارس طقوس الفرح قي البساتين ، يستمع الى أغنية أو يلهو مع أطفاله ... كانوا كمن يخشى أن ينسى ذكرياته !! ... رغم زخات الرصاص التي لا تنقطع وزخات المطر التي تفاجئهم فيحتمي بعضهم ببعض فقد كانـوا محظوظين !!!
كنت أود أن أرى فاتن وأحمد وناديه ... كنت أتشهى أن أجدهم أن اسمع ضحكات أحمد المرحة الرنانة... أن استمع الى مناقشات ناديه ومشاكساتها مع أخيها ، أن اشرب المرح المشع بالبهجة في عيون فاتن ... ولكني كنت أعود دائما باليأس يأ كل في جوانب روحي فأحس بالخواء .
ـ أبو أحمد انتبه لنفسك ... سيعودون ويجب أن يجدوك قويا كما يعرفونك أبو شهله يقول انك لا تلين بسرعة ... قوي ايمانك بالله ... ولكن ماذا ستفعل؟
لاول مرة يرى ام شهله ايجابية ، سكبت الشاي وقدمته
ـ تفضل .. يمكن أن تضيف السكر حسب رغبتك .
ـ شكرا أم شهله ... ٍسأرتاح الليله ... غدا سأعود الى الكوفة
ـ الوضع في بغداد غير مطمئن ! أمس تم اجتياح مدينة الثوره ... طوقها الحرس الجمهوري وضربتها الهيليكوبترات ثم جرى اقتحامها من قبل قوات خاصه ... حدثت اعتقالات واسعة... يقول عبد الرزاق ، يسكن خلف بيتكم ، والذي يعمل بجهاز المخابرات أن الاجراء كان وقائيا لان المعلومات كانت تشير الى توقع تحرك واسع في الثورة والشعلة والحرية ... على اية حال ، هل شاهدت القتال في النجف ؟
ـ الى حد ما ولكني شهدته في الكوفة ... معارك رهيبة بين الدبابات والمقاتلين ... كانت الجثث منتشرة على الارصفة وفي الشوارع ... كانت صواريخ طائرات الهيليكوبتر لا توفر شيئا أو أحدا .
ـ ولكن كيف يستطيعون استعمالها في ضرب المدن ؟ قالوا انها ستستخدم لنقل المسؤلين فقط !!
ـ نعم ولكني أعتقد أن الامريكان يرغبون بتأديبنا !! ما يجري مشاهد عبث صنعتها الدعاية الامريكية
ـ العياذ بالله ... وما ذ نب الشباب !!
ـ لاادري !
استأذنت أم شهلة .... عاد وحيدا ليس معه غير الظلام وذكريات متداخلة وشعور محبط يشل حواسه في خضم مشاهد القتل ومنظر الجثث تحملها عربة ... بكى الشباب الذين دفنوا احلامهم في الطرقات والذين سقطوا في شوارع لايعرفونها ولكنها ستظل تتذكرهم ... بكى عائلته التي لايعرف أين هم الان ...
كان بحاجة الى أن ينام ... أن يغفو ممدا ، فاردا جسده المتعب ، عيناه يحرق جفنيهما ملح ، فترمشان ثم تنغلقان على دمع يوخزهما ، رأسه مثقلة بطنين حاد يضج في أذنيه ... تقلب على جنبيه .. يهرب النوم كأنه قبّرة لا تقف ولا تطير .. دائما على مقربة ... كيف يغفو ! فتح المذياع باحثا عن شيئ ما . شيء ضائع... ربماخبرا أو أغنية ... شيء قد يعيد اليه توازنه , في المدن التي استولى عليها المقاتلون كان الناس يتصرفون بألفة ومودة ... بشفافية ... استغرب كيف يستطيع هؤلاء الناس التصرف على هذا النحو رغم كل مايعيشونه ..... أحلام لايسمح لها حتى أن تحكى ...كوابيس عليهم أن يناموا معها في النهار ... يتحدثون بهدوء رغم ما يترسب في عيونهم من مشاهد البؤس والدمار .
أدار مؤشر المذياع ... كانت محطات الإذاعة العربية تقدم ما يطلبه المستمعون !!...من يتذكر ... عام 1956 كان صوت عبد الناصر يصل الى كل قرية في هذا الوادي ... وبعكس التيار في دجلة والفرات الذي يندفع جنوبا، كان أبناء هذا الوادي يندفعون شمالا ... يتدفقون في الشوارع باتجاه دوائر الدولة ... حين رفع صورة عبد الناصر في ساحة المدرسة كا ن يرفع مذكرة احتجاج .. وحين دخل السجن كان يشعر انه قد انتصر ... اليوم لم يدخل السجن ولكنه يشعر أنه منكسر ومحبط .... لقد مزقت مذكرة الاحتجاج .... المسؤول يتحدث عن الانتصار ... صوته الرخو ينز كذبا ،أغلق الجهاز .... حرقة الملح في عينيه تزداد , قالت فاتن .. خالد أفضل ما تفعله للقضاء على الحرقة في العينين ، شاي دافئ دونما سكر ثم دائرتين من اصبع خيار، أعد الشاي ولكن لم يك في ا لثلاجة خيار ... صعد الى غرفة أحمد ... عصر قلبه رؤية سريره الفارغ ... حقيبة كتبه الجامعية ... فتح كتابا فسقطت منه قصاصة صغيرة ... التقطها .. كانت رسلة آما ل ... دمعت عيناه ... الصغار يعشقون والقلوب الغضة تتفتح للحياة ... هل ستجد الفرصة لذلك .. أعاد الورقة وتلمس الوسادة برقة مغمضا عينيه يستذكر وجه أحمد الودود .... آه ياولدي ... قالت فاتن سأطلب من أحمد أن يملا البيت أطفالا ... أقسم .
إني سأتولى تربيتهم ، لن أدعهم يضايقون أمهم ... خالد يجب أن يكون لديك عشرة أحفاد....في الشيخوخة ليس هناك أجمل من الاحفاد فهم ليسوا امتدادا للحياة انهم الحياة ذاتها..........
خالد كم أقلق على أحمد انه طيب ، سلس ، في زمن صعب ... انه لا يتمتع بالحذر الكافي ، يقف من أصدقائه وبالأحرى معارفه وزملائه على مسافة واحدة ..... أعتقد أن هذا غير مقبول ... المسافات مهمة ، وفرز الأصدقاء على هذه المسافات غاية في الأهمية لان ذلك يعني اننا سنتصرف مع كل مجموعة على نحو مختلف .... اعرف كم تهوى الشعر ... اسمع:ـ
أحباب وسط " الكلب "
وأحـباب مـنّه ودون
وأحباب بــس" للوكت"
وأحباب ضحك اسنون

أحباب في قلوبنا.... وأحباب بين بين ... وآخرون لقضاء الوقت ... نلتقي بهم وقت الفراغ ... حينما لايوجد شيئ يشغلنا ... والقسم الاخير ليس لدينا شيئا لهم غير ابتسامة عابرة ، ألست معي أن هذا هو الفهم الواعي للعلاقات الاجتماعية وأنه يمكن أن يمنحنا الحصانة في عدم الخلط ... قال لها ... يعني ...
:-حسنا بدأت بنصف اقتناع ... وضحكت .
يوافقها الان بالرأي باقتناع كامل .... أحمد طيب القلب ... ضحكته مجلجة رنانة ... دائما لديه طاقة للمرح والحب والحياة ... ولكن لو يراه !! ليكن كيفما يشاء ... ليعش الحياة التي يريد ... فقط أن يراه ... شعر بيده ترتجف وبالدمع المعجون بالملح يحرق عينيه ... لم يقو على الاستمرار بالوقوف ... جلس على سريره ... أحس بأن جدران الغرفة تعصره وأنه يختنق ... كانت الذكريات تضج كلها مرة واحدة... تتسابق يأخذ بعضها بخناق البعض .
شمس آذار تسلل الى الغرفة على استحياء ،كسولة ،باهتة ،تنسكب على وجهه فكأنها اصابع طفل تلامس خديه برقة وحنو ... كانت غيوم متقطعة تأسرها تارة وتطلقها أخرى ... لم يستطع أن يفتح عينيه .. كان النعاس لايزال يثقلهما ولم يك ذهنه صافيا ... كان يشعر أنه في حلم ثقيل وأن اصواتا مختلطة تطرق جوانب رأسه ... ازداد الطرق ضجيجا .
ـ أعتقد أنه لايزال نائما ... لم أشاهده يخرج
كان هذا صوت أم شهله ... نهض متثاقلا ... كان عند الباب جمال على دراجة هوائية وكانت أم شهله تطلب منه الاستمرار بمناداته
ـ منذ نصف ساعة وأنا أطرق الباب ، لقد قررت أن أعود لولا جارتكم .... أين أنت يارجل ... لقد افتقدناك ؟
ـ أهلا جمال تفضل
دخلا الصالة بعد ا ن ترك جمال دراجته في مدخل البيت
ـ لم أفطر بعد ... هل تساعدني في المطبخ
ـ ساساعدك ... ولكني أفطرت
ـ كيف حال العائلة ؟
ـ بخير والجميع يفتقدوك ... نحن قلقون عليك .... يبدو أنك لم تستطع الوصول الى الجماعة ؟
- كلا ... كانت أياما مرهقة و الالم يمزق رأسي
ـ هل لديك اسبرين ؟
ـ نعم لدي علبة في الخزانة ... شكرا ذكرتني به
تناول قرصين من الاسبرين وجلسا في الصالة ... كان خالد تواقا لسماع أخبار الاصدقاء ... حين يتوصل المرء الى قناعة ما بشأن ما يفكر به فأنه يتركه الى مواضيع أخرى وربما يكون أكثر تركيزا وبالتالي أكثر قدرة على التوصل الى نتائج ايجابية ، كان مدهوشا من التعارض الذي يتمثل في
الموقف برمته والذي كانت تغطيه مشاعره الخاصة ولهفته على عائلته والقلق الذي شل تفكيره والذي لايزال يسيطر على حواسه ... الى أين ؟... ولكن ماجدوى التساؤل وهل بامكان اي جواب مهما كان ، أن يكون مفيدا !!حسنا ولكن أيضا ألا يمثل التساؤل بحد ذاته اهتماما مشروعا !! أليس الوطن للجميع ؟ الى أين سيقودهم كل هذا، ثم أخيرا كيف سيتم حل المشاكل التي ستتخلف عنه ... أحمد وناديه وكل الشباب الذين من عمرهما ماذا سيعني المستقبل لهم !!أية موازنات سياسية ستظل في وجدانهم عند التعامل مع الاخرين !!
ـ لقد عاد ابن أختي أمس ... تعلم أنه ملازم في وحدة مشاة وأنه كان في الكويت ... يقول ان الحلفاء قد دمروا معظم الوحدات واتلفوا الاليات العسكرية ... كنا بدون أية حماية من الطيران وكان الحلفاء من العرب يتسابقون عندما يتعلق الامر بضرب الجنود ... كانوا يتصيدونهم من الجو .. لقد كانت بالنسبة لهم حفلة سمر في الصحراء العربية !! سمح الامريكان لهم بالمرور الى البصرة دون اية قطعة سلاح .... اضطر الضباط الى نزع رتبهم قبل الدخول للبصرة ...كانوا في ا لبصرة يعتقلون الضباط ويسمحون للافراد بالمرور... تصور انهم طوال أكثر من عشرة أيام قضوها مشيا ويقتاتون على مايجدونه في البساتين أو الحقول ! كانوا يختبئون نهارا ... ظل هو والعقيد الذي معه ثلاث ليال في البصرة وضواحيها هل تصدق انهما طرقا أبواب بعض الاهالي لطلب رغيف من الخبز !!! من اطرف مايرويه انهما سألا امرأة بعض الخبز ... نظرت اليهما ثم قالت
ـ لابأس سأجلب لكما الخبز ولكن قبل ذلك أود أن أقول لكما بأنكما بالتاكيد ضباطا ولستم جنودا !!
وحين دخلت المرأة تقدمت طفلة في الخامسة بيدها قطعة خبز كانت تقضمها وقالت
ـ عمي ماعندي غير هذه ... أبي جندي راح للجبهة
بكى العقيد وقبل الطفلة وغادرا قبل أن تعود المرأة ... يقول انهما عصرتهما تداعيات ما وصلوا اليه ... أعني الجيش !
ـ هل شاهد سقوط البصرة بيد المقاتلين ؟
ـ نعم ... بعد العودة كانت جموع من العسكريين تجوب الشوارع ، لم تكن هناك من واسطة نقل كما لم تكن هناك اية امكانية لاي نوع من الانضباط ... كانت عودتهم على هذا الشكل المهين أكبر من أية حملة دعاية لتحريض الناس الذين كانوا أصلا مشحونين للاخر ... كان التذمر يجوس في الشوارع وفي البيوت وهكذا انفلت الزمام واندفعت حشود غاضبة الى مديرية المخابرات ومقر المحافظة ومراكز الشرطة وموقع البصرة .. استولى المهاجمون على كافة المواقع بسهولة فقد ترك المسؤولون المواقع وهرب المكلفون بالحراسة... بسرعة تشكلت مجموعات مسلحة ومنظمة من المهاجمين لحفظ النظام ولمتابعة الجهات الأخرى .
صمت قليلا كأنه يحاول أن يتذكر التفاصيل ثم تابع وهو يضحك
ـ لقد استغرق الاستيلاء على مقرات الحكومة بضع ساعات أما هدم أو إزالة الجداريات والنصب التذكارية فقد استغرق أياما ... كانت في منعطفات الشوارع وفي الساحات العامة وعلى واجهات المدارس والمباني ... جدارية ساحة سعد في مدخل البصرة احتاجت الى أن تسحب بواسطة دبابة ...ولكنه غير متفائل بإمكانية أن تنجح الحركة
ـ لماذا ؟
ـ يقول ان الحركة تفتقر الى العديد من مستلزمات النجاح ... كما أن من الواضح أن الامريكان لا يريدون لها ذلك رغم كل ما قاله بوش ... سمعت أمس إشاعة أن شوازكوف استدعى احد قادة الحركة ليستمع منه الى مطالبهم وبعد اقل من نصف ساعة توصل الى قناعة بأنه ليس هؤلاء من تبحث عنهم أمريكا!! وهكذا صدرت الأوامر بعدم التدخل !!!
سمعا طرقا على الباب ...كان أبو شهله يتدثر بروب صوفي سميك ويضع على رأسه طاقية تغطي حتى ما تحت الاذنين ...تتدلى شواربه الكثة البيضاء على زاويتي فمه ... كان شاحب الوجه يعاني من رشح حاد
ـ آسف لآني لم استطع زيارتك امس ، كانت نوبة الرشح بأعلى حالاتها
ـ تفضل ... لابأس .. الحمد لله على سلامتك
حيا جمالا وجلس ... كان من الواضح أن لديه ما يود قوله
ـ لقد ستر الله بالأمس فقد كان من الممكن أن تقع مجازر لاحد لبشاعتها .... كانت مدينة" الثورة " تحضّر لاجتياح بغداد ... تصوروا أن يقع قتال داخل الاحياء السكنية ... بالتأكيد سيتحول الى حرب أهلية .
لم يعلق أي منهما وحاول جمال أن يذهب بالحديث باتجاه آخر
ـ لقد دخل الجيش مدينة كربلاء بعد قتال ضار وقد أنتشر المقاتلون في البساتين المحيطة.. كان القتال رهيبا والذي حسم المعارك طائرات الهليكوبتر ... ظلت الجثث في شوارع المدينة فقد منع الأهالي من رفعها وذلك بهدف بث الرعب في نفوس المقاتلين .... في النجف دخل الحرس الجمهوري والقوات الخاصة أطراف المدينة ويقال أن قتالا عنيفا جرى في المقبرة ،
قال أبو شهله ـ يا أخي هذه المقبرة عجيبة فعلا .. مدينة !! بيوت وشوارع، تصوروا أن مدينة العاب الاطفال تشرف عليها مباشرة ...... في الاعياد تصبح المقبرة أزهى من مدينة النجف !!
كان أبو شهله موظفا كبيرا في احدى الوزارات وبعد سبع وعشرين سنة قضاها في خدمة متصله كان خلالها مثالا للموظف المنضبط الذي لم يتأخر عن مواعيد عمله ولم يكن في يوم ما أول المنصرفين أحيل على التقاعد لانه لم يستطع تخفيض وزنه عن الحد القانوني المحدد لمرتين ... كان هذا السبب الذي ذكر في الامر الوزاري ولكن الحقيقة كانت غير ذلك .... قال له موظف الحسابات يوم استلام الراتب ... أبو شهله مائة وخمسون فلسا ... كان يمد يده بكراس " الشجرة " ... قال أبو شهله لقد قرأته أمس في سامراء ,, كنت في زيا رة " للحسن العسكري " وكان الكراس مطبوعا على صفحة واحدة ومعلقا على الباب ...أشر الموظف أمام اسمه رفض الشراء !!! قالت أم شهله .. هذا الرجل يثير دهشتي بأمرين ... حبه " للباجه " واهتمامه بشاربة ... أنظروا اليه انه باستمرار غاية في الاناقة ... لا تهديدات بوش ولا أخبار القتال يمكن أن تلهيه ...
قال لها خالد ... أم شهله أنت فعلا مظلومة مع أبي شهله لأ نه بالكاد يخصص لك نصف وقته لآن النصف الثاني للشوارب .... ردت ضاحكة ... صحيح ... شفت شواربه" وتغزرت " ولولا شواربه " ما جنت ألفّيه "
قال جمال ـ هل ما زلت مصرا على الذهاب اليوم ؟
ـ نعم.... وهل لي غير ذلك !
ـ دعني اذا أحصل لك على اذن رسمي ... لي صديق قريب لأحد قادة الحرس الجمهوري في قاطع الحلة .
قال أبو شهله ـ في الحلة وكربلاء ظلت الجثث في الشوارع وعلى الأرصفة لا يجرؤ على رفعها ، مسموح فقط للكلاب السائبة الاقتراب منها لآنها بحراسة الدبابات !!
لم يعلق جمال تشاغل بالنظر عبر الشباك الى شجيرات البرتقال في الحديقة ... كانت الثمار الصفراء والتي يشوبها شيء من الخضرة تنشر رائحة عبقة وتتمايل مع حفيف الاغصان ... تذكر بساتين البرتقال في كربلاء الممتدة على ضفتي النهر ... شعر بشيء ما يستفزه ... هواء ساخن يهب على دماغه فيتعبه ... سترتوي أشجار البرتقال في كربلاء من دماء أبنائها ... كانوا يحلمون بتناولها ولكنها اليوم تتشرب جذورها بدمائهم !!
استأذن جمال ليرتب موضوع الموافقة ... كان أبو شهله ساهما
ـ القاتل والقتيل من هذا الوطن .... أية مأساة !!
غرق ابوشهله بنوبة سعال حادة وبدأ يقرفص جسده ... رفع درجة حرارة المدفأة وقرّبها منه ثم ناوله كأسا من الماء الدافئ .
ـ آسف لعدم وجود ا لليمون .. .. لماذا كلفت نفسك بالخروج ... واضح أنك ماتزال مريضا
ـ صحيح ولكني اشتقت للحديث معك ... لا يزورنا أحد .. الكل مشغول والمواصلات شبه مقطوعة ... بعض النسوة في الشارع يزرن ام شهله ... ثرثارات وما يهمهن هو تداول الاشاعات ..... هل شاهدت القتال ؟
ـ نعم الى حد ما ... القتال غير متكافئ ... لولا بسالة المقاتلين وتصميمهم لانتهى كل شيئ خلال بضع ساعات ... الدبابات وطائرات الهيليكوبتر مقابل الرشاشات الخفيفة وبضع صواريخ من قاذفات آر بي جي 7 ... كان هناك عمليات قتل واسعة !
ـ حقا ... الاوامر صريحة ... لاشيء غير الإبادة ... تعرف سلمان ...؟
غمز بعينه بأتجاه المسكن المقابل وتابع ،
ـ عاد صباح أمس من كربلاء مع " لوري " محملا بالسجاد والاواني المنزليه وصناديق مختلفه ... تقول أم شهله أنها تحتوي على تحف ومصوغات ذهبية .. تعرف أم شهله حين تنوي جرجرة أحدى النسوة بالكلام !! لم يكفهم الكويت جاء الان دور المدن العراقية .... الغزو يبيح الغنائم !!
ـ وماذا تتوقع ؟
ـ طبعا لاأتوقع شيئا آخر ... هل سيحضر صديقك الموافقة اليوم ؟
ـ أرجو ذلك
ـ سانادي على أم شهله لتعد لنا القهوة ... لدينا قهوة عربيه بالهال الجيد ، حباته مكتنزة ، داكنة ورائحتها لذيذة .
خرج الى الممر لينادي على زوجته من خلف السياج المشترك .
عاد ليقول
ـ أبو أحمد ، فتاة عند الباب .... ربما لزيارتكم
خرج خالد ... كانت فتاة في العشرين تلف جسدها بعباءة وتظهر وجها نضرا .
ـ عمو أنا صديقة ناديه ... هل أستطيع رؤيتها
ـ آسف ... لا أحد غيري في البيت ... انهم محاصرون في النجف ولا أعرف متى يعودوا
ـ شكرا
ـ ولكن اذا عادت .... ما اسمك ؟
ـ رويدا .... جيران بيت آما ل
شعر خالد بأن دفقة نور مفاجئة تتسلل الى قلبه ... كانت تريد أن تقول أنها جاءت من طرف آ مال التي تريد أن تطمئن على أحمد الذي انقطعت أخباره ... ياالهي .... المشاعر الرقيقه ... الاهتمامات الصغيرة لازال لها مكان في هذا العالم ... لن تحجب الدماء ولا شهوة القتل المتزايدة مسيرة الحياة ويظل الانسان يتشبث باسباب وجوده !

قالت أم شهله ـ أمانه .... أبو أحمد أمانه تسلم على فاتن وتقبل لي أحمد وناديه
ـ إن شاء الله
لم يستطع جمال أن ياتيه بتصريح المرور ... كان صديقه مسافرا ... قررخالد أن يذهب عن طريق الكوت فالمد ينة لم تشهد بعد أية احداث .. كان المقاتلون في النجف قد اتخذوا قرارا تحريضيا ضد سكان الكوت اذ منعوا دفن الجنائز القادمة من المدينة .
أصرت ام شهله ان تعطيه علبة بسكويت ... تساعده في الطريق ... كانت تقف خلف السياج المشترك وكأنها تنتظره ...موفق وبالسلامه ... أرجو أن ترجع هذه المرة وهم معك ... ماشاء الله " البرحية"هذه السنة حملها مضاعف اللهم زد وبارك ... لو كانت فاتن تسمعها لخافت على النخلة من الحسد ولقرأت " قل أعوذ برب الفلق" ... انه يدرك ان أم شهله تقصد لاتنسونا !!
منذ الان تريد أن تحجز حصة ما من التمر .
مجموعة من الاطفال يلعبون في الشارع لاحظ انهم لايصدرون الضجيج المعهود ، كانوا يتقافزون وراء الكرة الصغيرة بشيئ من الانسيابية والهدوء وكأنهم يستمتعون بدفء شمس آذار الحانية أو كانهم يخشون أن يسمعهم أحد فيشي بهم الى الست المديرة التي قد تقطع اجازتهم وتامرهم بالعودة الى المدارس !!
كان يقفل الباب الحديد حينما سمع رجلا يحييه
ـ الاستاذ خالد على ما أعتقد
كان الرجل يرتدي دشداشة رمادية داكنة وسترة بنية ، شعره الاسود يخالطه شيب توزع على نحو متباين ، ففي المقدمة كانت خصلة بيضاء تتوسط جبهته ، كان لديه حاجبان كثّان شديدا السواد وفي عينيه الشهلاوين شيئ من التسامح .. بدا مترددا ومحرجا .
ـ أهلا وسهلا ... هل هناك ما يمكن أن أفعله لك ؟
ـ أ رجو أن تساعدني ... اني أطمع بموافقتكم !
ـ ولكن على ماذا الموافقة ؟
ـ عفوا أستاذ آلاء مريضة منذ ثلاثة أيام ولم تستطع الذهاب للدائرة ... نرجو أن تحتسب غيابها اجازة
ـ لاداع لذلك .... الدوام هذه الايام مقصور على رؤساء الدوائر فقط ... لماذا أتعبت نفسك بالحضور ..المواصلات صعبة !!
ـ شكرا ولكني جاركم ... نحن نسكن على الركن ... اول الشارع !
ـ نفس الشارع ! صدقني لااعرف ذلك رغم أن آلاء معنا منذ أكثر من سنة !
ـ أكرر أسفي للازعاج
ـ لاإزعاج ويؤسفني اني مغادر ولا أستطيع دعوتك .
ودعه الرجل وذهب ... جارهم وهو لايعرف ذلك ! ماذا حل بالناس ليتباعدوا على هذا النحو ... كانوا يتعرفون على الساكن الجديد ويقدمون انفسهم ، ولثلاثة أيام يحرصون على تقديم الطعام لان العائلة كلها مشغولة بترتيب البيت وتهيأته ... أما اليوم فأن الحياة أخذتهم ... ماذا يعرف هو عن أقرب جار له "أبوشهله " غير الامور العامة ... هل يعرف شيئا عن سلمان الذي يسكن وامه في الدار المقابلة ...بضعة أمتار عنه ... يعرف أنه جندي ..هذا من ملابسه ... وسمع انه الان على أبواب القفز الى الطبقة الجديدة التي فرّخها الدخول للكويت ... لم يره الا مرات قليلة... قالت ناديه أنها لقنته درسا لن ينساه ... كان يترصد خروجها ليحاول أن يكلمها ... قال خالد لفاتن أن تكلم أمه ... قالت كلا ... أعرف المراة ... ليست ممن ينفع معها الكلام .. كما أني لاأريد أن يكون في الحديث معها بداية للتعارف ... لم يلح أكثر... قال أحمد حسنا أكلمه أنا.... وكور قبضته ... قال خالد لا .. سأتصرف وربما يأتي دورك لاحقا !
كان سلمان يقف على السطح يلوح لمجموعة من الطيور تحوم مصفقة بأجنحتها ... طيور ملونة .. قالت أم شهله .. بطران ... أمن خالد على كلامها وغادر الشارع .
بضع أفراد على الرصيف يتلذذون بدفئ الشمس ويتبادلوا آخر الاشاعات وأحينا يتطلعون نحو "بوستر " كبير لصبي بالغ السمنة على الباب الحديد لمحل حلويات مغلق ... يعلن الصبي عن الحلويات بأعتبارها مفيدة وصحية .... النتيجة...هذه السنة المفرطة .. الإعلان صناعة ... وكل المظاهر في الحياة اليوم صناعة أيضا ... كومونة باريس ... 1 آيار ... انتفاضة براغ ... ثورة بودابست ... أليست صناعة !! مستوى لم ينضج بعد من الصناعة ... هذا الاعلان وما يجري اليوم ألا يربط بينهما نفس المستوى البدائي !! شارع 14 رمضان شبه فارغ تلفه كآبة ووحشة ، بين الفينة والفينة تمرق سيارة مسرعة وكأنها تخشى التوقف .... قبل حي دراغ كانت بناية شاهقة تنتصب مطلة على الساحة بتحد مقيت ... امام البوابة الكبيرة المغلقة مجموعة من الحراس .. كانت وجوههم واجمة لاتعبر عن اية مشاعر يرين عليها صمت متحفز يغطي على الخوف الذي تكتمه عيونهم الذابلة ... كانوا يتبادلون المراكز بآلية منتظمة ... في الزقاق المجاور سيارة عسكرية عليها رشاش ثقيل وبضعة جنود يقضمون أ رغفة خبز خالية ... ليس بالامكان هذه المرة استئجار طائرات الميراج من الصديقة فرنسا ... لقد اختلفت اللعبة ... كانت برقية باول واضحة .. دعوا دبابات الحرس الجمهوري تمر ... لايدري لماذا تزدحم الافكار براسه على نحو مشوش ... ولكن ماهو المنتظم في هذا اللامعقول !!
بجانب معرض بغداد الدولي المهجور افترش الجنود الارض ... أيديهم على اسلحتهم لاأحد يدري ما سيحصل !! .. اعترضه شرطي ربما لم يجد أحدا يمارس سلطته عليه .
ـ هويتك .
ـ نعم !
ـ هويتك
لم يجبه ... واصل المسير ... صرخ الشرطي
ـ قف والا أطلقت عليك النار !
لم يك الشرطي يحمل سلاحا ... عبر الرصيف الى الجانب الآخر ودخل الكراج .

ل !!
بجانب معرض بغداد الدولي المهجور افترش الجنود الارض ... أيديهم على أسلحتهم لا أحد يدري ما سيحصل !! .. اعترضه شرطي ربما لم يجد أحدا يمارس سلطته عليه .
ـ هويتك .
ـ نعم !
ـ هويتك
لم يجبه ... واصل المسير ... صرخ الشرطي
ـ قف والا أطلقت عليك النار !
لم يك الشرطي يحمل سلاحا ... عبر الرصيف الى الجانب الآخر ودخل الكراج .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با