الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الثورة الروسية: الإئتلاف الأول.. ج 3

الرابطة الأممية للعمال

2018 / 6 / 6
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا



كان السوفيت جهاز العمال والجنود، أي جهاز العمال والفلاحين. وكانت الحكومة المؤقتة جهاز البرجوازية. وكانت “لجنة الاتصال” جهاز التوفيق والمصالحة. وسهَّل الائتلاف هذه الآلية بتحويله الحكومة المؤقتة ذاتها إلى لجنة للاتصال. ولكن لم يقض على ازدواجية السلطة بهذا الشكل. فإذا كان تسيريتلي عضوًا في لجنة الاتصال أو وزيرًا للبريد، فإن هذا لا يشكل حلاً لوضع. وكان في البلاد تنظيمان غير متطابقين للدولة: نظام تسلسلي للموظفين القدماء، والموظفين الجدد المعينين من السلطات العليا وعلى رأسهم الحكومة المؤقتة، ونظام من السوفيتات المنتخبة تتشعب فروعها لتصل إلى أبعد سَرِية من سرايا الجبهة.

وكان هذان النظامان الحكوميان يعتمدان على طبقات مختلفة ما تزال تعد تسوية حساباتها التاريخية. وبالتوجه إلى الحل الائتلافي، كان التوفيقيون ودعاة المصالحة قد أسقطوا من حسابهم القضاء السلمي والتدرجي على النظام السوفييتي. وبدا لهم أن قوة السوفييتات، المركزة في أشخاصهم، ستنتقل بعد الآن إلى الحكومة الرسمية. وكان كرنسكي يؤكد لبوكانان بصورة قاطعة أن “السوفييتات تموت بصورة طبيعية”. وسرعان ما أصبح هذا الأمل العقيدة الرسمية للزعماء التوفيقيين. وكان تفكيرهم الأساسي أن مركز ثقل الحياة على كل نقاط البلاد ينبغي أن ينتقل من السوفييتات إلى أجهزة ديمقراطية جديدة من الإدارة الذاتية. وينبغي أن يحتل المجلس التأسيسي مكان اللجنة التنفيذية المركزية. وكانت الحكومة الائتلافية تتأهب بهذا الشكل لتكون جسرًا إلى نظام جمهورية برجوازية نيابية.

ولكن الثورة لا تريد ولا تستطيع السير في هذا السبيل. وكان مصير مجالس دوما البلدية الجديدة في هذا الاتجاه نذير شؤم لا لبس فيه. فقد كانت الدوما منتخبة على أساس أوسع حق انتخابي. وصوت الجنود على قدم المساواة مع المواطنين المدنيين، وصوتت النساء على قدم المساواة مع الرجال. واشتركت أربعة أحزاب في الصراع. هنا تحركت الثوفي فريميا، الصحيفة غير الرسمية الناطقة بلسان الحكومة القيصرية، والتي كانت -من دون تجنٍ أحقر صحف العالم طرًا- وأخذت تحرض رجال اليمين، والقوميين والأكتوبريين على التصويت لصالح الكاديت. ولكن عندما انكشف العجز السياسي للطبقات المالكة، أطلقت معظم الصحف البرجوازية هذا الشعار: “صوتوا لصالح من تريدون، فيما عدا البلاشفة”! وشكل أعضاء الكاديت في كل مجالس الدوما واتحادات الزيمستفو الجناح اليميني، في حين كان البلاشفة يشكلون أقلية يسارية تعمل على تقوية نفسها. وكان الاشتراكيون – الثوريون والمناشفة يملكون الأكثرية الساحقة في كل مكان.

وبدا أنه كان بوسع مجالس الدوما الجديدة، المتميزة عن السوفييتات بتمثيل تام أكثر، أن تتمتع بسلطة أكبر. وبالإضافة إلى ذلك كانت مجالس الدوما تملك الميزة الهائلة الناجمة عن كونها مدعومة من الدولة بصورة رسمية كمؤسسات اجتماعية أقيمت بصورة قانونية. وكانت الميليشيا والتموين، والنقل في المدن، والتعليم العام يتبع مجلس الدوما رسميًّا. أما السوفييتات فلم يكن لها موازنة ولا حقوق؛ نظرًا لكونها مؤسسات “خاصة”. ومع ذلك بقيت السلطة بين يدي السوفييتات. وبدت المنافسة بين النظام السوفييتي والديمقراطية الخالصة مدهشة ومذهلة لأنها تمت تحت إشراف الحزبين؛ المناشفة، والاشتراكيون – الثوريون، المسيطرون في الدوما وفي السوفييتات بآن واحد، وكان هذان الحزبان مقتنعين اقتناعًا تامًا بضرورة تنازل السوفييتات عن مكانها لمجالس الدوما، وكانا يعملان كل ما بوسعهما لتحقيق هذا الغرض.

إن تفسير هذه الظاهرة الغريبة التي لا نفكر فيها وسط زوبعة الأحداث إلا قليلاً، أمر سهل جدًا: إن البلديات ككل المؤسسات الديمقراطية الأخرى لا تستطيع بصورة عامة أن تعمل إلا استنادًا إلى العلاقات الاجتماعية المستقرة تمام الاستقرار، أي استنادًا إلى نظام محدد في الملكية. لكن الثورة تتضمن أساسًا بحث أساس القواعد هذه، وإعادة النظر فيها، وعدم إعطاء الرد عليها إلا بتحقيق ثوري مفتوح للعلاقات بين القوى الطبقية. وكانت السوفييتات، برغم سياسة زعمائها، التنظيم المقاتل للطبقات المضطهدة، التي كانت تتجمع إلى حد ما بصورة نصف شعورية لتعدل أسس البنية الاجتماعية.

أما البلديات فكانت على العكس تمثل كل طبقات الشعب بصورة متساوية، تحت اسم مواطنين. وتسمية المواطن تسمية مجردة. وتشبه البلديات في هذه الظروف الثورية إلى حد كبير مؤتمرًا دبلوماسيًّا يتكلم بلغة تقليدية ومرائية، في اللحظة التي تستعد فيها المعسكرات المعادية التي تمثلها الخوض المعركة بحرارة. وكانت البلديات تعيش وجودًا نصف اسمي. ولكن في المنعطفات الحاسمة، عندما كان يحدد تدخل الجماهير الاتجاه اللاحق للأحداث، كانت البلديات تنفجر، وتجد العناصر المركبة لها نفسها واقفة على الطرفين المتقابلين للحاجز. وتكفي مقارنة الأدوار المتوازية للسوفييتات والبلديات خلال الفترة الواقعة بين شهر مايو (آيار) وأكتوبر (تشرين الأول) لتصور مصير المجلس التأسيسي قبل وقت طويل.

ولم تتعجل الحكومة الائتلافية استدعاء المجلس التأسيسي. فلم يكن الوزراء الليبراليون الأكثر عددًا من وجهة النظر الديمقراطية متعجلين لأن يروا في المجلس التأسيسي نفس عجز الجناح اليميني الذي كان يمثلونه في مجالس الدوما الجديدة. ولم يبدأ المؤتمر الخاص الذي نظم لدعوة المجلس التأسيسي إلا في نهاية مايو (آيار) بعد ثلاثة أشهر من الانتفاضة. وكان القانونيون الليبراليون يقطعون كل شعرة إلى ست عشرة شعرة، ويحركون في أنابيب الاختبار كل الفضلات الديمقراطية، ويماحكون بصورة مستمرة حول الحقوق الانتخابية للجيش، وهم يتساءلون عما إذا كان من الواجب إعطاء حق التصويت أم لا للفارين الذين كانوا يعدون بالملايين، ولأعضاء الأسرة المالكة القديمة التي يعد أفرادها بالعشرات. وكانوا لا يتفوهون قدر الإمكان بكلمة عن تاريخ دعوة المجلس التأسيسي. وكانت إثارة هذه المسألة في المؤتمر خطيئة تتعارض مع الذوق السليم، ولا يرتكبها إلا البلاشفة.

ومرت الأسابيع، ولكن، رغم آمال وتنبؤات دعاة المصالحة والتوفيق، لم تحتضر مجالس السوفييتات. كانت السوفييتات، التي أرقدها وحيَّرها زعماؤها، تسقط من وقت إلى آخر في حالة نِصْف وهن، ولكن الإشارة الأولى للخطر كانت توقفها على أقدامها. ويروي الجميع بأنها سيدة الموقف بلا جدال. وكان الاشتراكيون – الثوريون والمناشفة الذين يحاولون تخريبها يجدون أنفسهم مضطرين في كل الحالات الهامة إلى الاعتراف بأولويتها. ويجد ذلك تعبيره بصورة خاصة في احتشاد وتركيز أفضل قوى الحزبين في السوفييتات. وكان الحزبان يرسلان إلى البلديات والزيمستفو رجالاً من الصف الثاني، وتقنيين، وإداريين. ويلاحظ الشيء ذاته لدى البلاشفة. وكان الكاديت وحدهم، الذين لا يملكون أي منفذ إلى السوفييتات، يحشدون أفضل قواتهم في الأجهزة البلدية. ولكن الأقلية البرجوازية الواهنة كانت أعجز من أن تجعل منهم سندًا لها.

وهكذا لم يكن أحد ليعتقد بأن البلديات أجهزة خاصة به. فالصراعات التي تزداد حدتها بصورة مستمرة بين العمال وأصحاب المصانع، وبين الجنود والضباط، وبين الفلاحين والملاكين النبلاء، لا يمكن بحثها ومناقشتها بصورة صريحة في بلدية أو زيمستفو، بالشكل الذي تتم بها مناقشتها في السوفييت من جهة، وفي الاجتماعات “الخاصة” لدوما الدولة وبصورة عامة في كل مؤتمرات السياسيين الموسرين من جهة أخرى. ومن الممكن التفاهم مع الخصم على أمور تافهة، ولكن لا يمكن التفاهم معه على مسائل تمس الحياة أو الموت.

وإذا طبقنا صيغة ماركس القائلة بأن الحكومة هي لجنة الطبقة المسيطرة، توجَّب علينا القول بأن “اللجان” الحقيقية للطبقات المتصارعة من أجل السلطة كانت موجودة خارج الحكومة الائتلافية. وكان هذا مؤكدًا بالنسبة للسوفييت الممثل في الحكومة كأقلية، كما كان صحيحًا بالنسبة للأكثرية البرجوازية أيضًا. ولم يكن الليبراليون يملكون أية إمكانية للتفاهم بصورة جدية وفعَّالة، بحضور الاشتراكيين، حول المسائل التي تمس البرجوازية أكثر من غيرها. وكان لطرد ميليوكوف، الزعيم المعروف للبرجوازية والذي لا يختلف عن زعامته أحد والذي يتجمع حوله أركان الملاكين، طابع رمزي كشف تمامًا كل معاني الموقف الغريب للحكومة. وكانت الحياة تتطور حول بؤرتين؛ تتجه الأولى نحو يسار قصر ماري، على حين تتجه الثانية نحو يمينه.

وكان الوزراء يعيشون في جو من التواطؤ خلقوه بأنفسهم دون أن يجرءوا على القول بما كانوا يفكرون به في داخل الحكومة. وأصبحت ازدواجية السلطات، التي أخفاها الائتلاف، مدرسة الأشياء المبهمة، والحيلة، والمراءاة بصورة عامة. ومرت حكومة الائتلاف في الأشهر الستة التي تلت، بسلسلة من الأزمات، والتجديدات والإصلاحات، ولكنها احتفظت بملامحها الأساسية في العجز والتزوير حتى يوم وفاتها ذاته.

الهوامش
البومة طائر يمثل الحكمة والتعقل عند الإغريقيين والرومان. (المعربان).
يشير الكاتب هنا إلى شيلوك -المرابي اليهودي الجشع- في رواية شكسبير “تاجر البندقية”.للإطلاع على المادّة السابقة من كتاب “تاريخ الثورة الروسية”،








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الهجوم على إسرائيل: كيف ستتعامل ألمانيا مع إيران؟


.. زيلينسكي مستاء من الدعم الغربي المحدود لأوكرانيا بعد صدّ اله




.. العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية: توتر وانفراج ثم توتر؟


.. خالد جرادة: ماالذي تعنيه حرية الحركة عندما تكون من غزة؟ • فر




.. موقف الدول العربية بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم