الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جماليات الفظيع: قراءة في قصيدة أبي تمام

كمال التاغوتي

2018 / 6 / 11
الادب والفن


ثمة ما يشبه الإجماع حول حضور الملحمي في القصائد الدائرة في فلك الحروب، سواء الفخرية منها أو المدحية. ويعود ذلك أساسا إلى الشحنة الانفعالية الطاغية على هذا الضرب من النصوص، فالشاعر – لحظة القول – ينخرط في المعارك عبر استعادة حال التوحش وتضخم النزعة التدميرية في ذاته، إن كان فخرا، أو في الآخر، إن كان مدحا. حينئذ تكون الشعرية في ضروب من التحويل يمارسها الشاعر على الكلمات والأشياء، فما كان محمودا يمسي قبيحا وما كان مطلوبا يمسي مشينا (وهذا أمر يطّرد وينعكس)؛ لذلك يبلغ التصور الاستعاري للكون ذروته لا لأن الشاعر مطالبا بالتأثير في المتلقي واستفزازه بل مدار الأمر وغايته أنه يلتقط لحظة يقف فيها الكائن البشري في حضرة الموت، وهي لحظة تكثف المشاعر وتستدعي الحلم برؤاه وأضغاثه فتذوب الحدود الفاصلة بين العادي والخارق والفريد والنمطي والمحايث والمفارق. إن الشعر الدائر في فلك الحرب – شأنه شأن ذاك الدائر في فلك الحب- أشد ضروب الأدب تكثيفا، فالقصيدة الناجحة ليست المغرقة في التمجيد، إنما تلك الحافلة بالمشاهد الدموية العنيفة فتستل من القبح المنفّر عناصر الحُسْن، إنها قصائد تجبر الجميل على التجلي في الرعب والجراح والجثث بل والشر. لا جرم أن حقق كبار الشعراء في هذا المجال نجاحا لا نظير له، إذ أنهم تمكنوا من توجيه القصيدة توجيها دراميا قائما على الفعل والحركة والصراع في مقام يبلغ الانفعال ذروته ويتهدد النص بالسقوط في الغنائية؛ فعلى الرغم من كونهم يعملون على صياغة صورة البطل الفذ صوغا يلبي حاجة الجمهور المتلقي إلى رؤية نموذج يختزل عالم الخطاب برمته، أعني القيم والأخلاق والعقائد وهلم جرا، إلا أنهم يجدون في ذلك سانحة ليخوضوا التجربة افتراضيا ويخاتلون الموت شعريا؛ وما ازدحام قصائدهم بفنون البيان وفنون البديع إلا دليل على كونهم وهبوا اللغة أنفسهم وجعلوها سكنا لهم. إن من يعمل على إرجاع تفننهم في القول إلى مجرد براعة في صناعة يجرد تجربتهم من وظيفتها الأساسية، أقصد القبض شعريا على العالم. وهذا الغوص في عمق الحرب ليس له من غرض سوى إخراج وجه الكائن البشري المتوحش وعرضه قدّامنا عاريا دون مساحيق، فيكون رهان الشاعر معقودا بتحويل الشنيع والفظيع إلى مصدر للتلذذ. وقد سبق لحازم القرطاجني أن أشار إلى هذا الأمر حين يقول: ولما كانت المنافع كأنها تنقسم إلى ما يكون بالنسبة والملاءمة مثل ما يوجد من مناسبة بعض الصور لبعض النفوس فيحصل لها بمشاهدة تلك الصورة المناسبة لها نعيم وابتهاج - وذلك الابتهاج نوع من المنافع لتلك النفس- وإلى ما يكون بالفعل والاعتماد مثل ما يعتمده الإنسان من إسعاف آخر بطلبته فيكون في إسعافه بها منفعة له، وإلى ما يكون منفعة بالقوة والمال أو بتشفي النفس فقط مثل ما تحل مضرة بعدو إنسان فتنفع ذلك الإنسان بان تضعه له وتقويته على مقاومته والانتصاف منه، وربما لم ينتفع من ذلك إلا بسرور التشفي فقط، وكانت المضار أيضاً تنقسم إلى أضداد ما ذكرته اقتضى ذلك انقسام الذكر الجميل إلى ما يتعلق بالأشياء المناسبة لهوى النفس وسمي ذلك نسيبا، وإلى ما يتعلق بالأشياء المستدعية رضى النفس وسمي ذلك كما تقدم مديحا، وكان ما يتعلق من الذكر القبيح بالأشياء المنافرة لهوى النفس والأشياء المباعدة عن رضاها كلاهما داخل تحت قسمة واحدة وهي الهجاء. (منهاج البلغاء) فهو يدرج التشفي ضمن المديح لأنه يجلب منفعة للنفس تترجم إلى سرور بمضرة تحل بالعدو. وعلى هذا الأساس يتجاوز المدح التغني بالمروءة بما هي جماع القيم النبيلة والأخلاق المحمودة من قبيل الحِلم والعفو والكرم والرأي والشجاعة، ويتجاوز الجميل – حسب تعبير القرطاجني – السلوك الخير والمناظر المبهجة، ليشمل الفظيع والمدمّر؛ فالمعيار هو المتلقي وأهواءه وذائقته الجمالية. والقصيدة الدائرة في فلك الحرب تلبي هذا المطلب وترفع هذا التحدي، أعني استلال الجميل من القبيح المنفّر، على الرغم من تصدي بعض الشعراء قديما للحرب وسعيهم إلى استبعادها معتبرين إياها شرا لا بد منه؛ لكنهم لم يمتحدوها ولم يرغبوا فيها.* في حين بذل آخرون قصارى جهدهم ليخرجوها مخرجا مختلفا عما هي عليه ولم يتوانوا عن الاحتفاء بها وبنتائجها المدمرة ليبلغوا درجة من النشوة والابتهاج. ولنا في قصيدة الطائي أبي تمام خير مثال؛ فقد أمعن في تمجيد العنف جامعا بين الغنائية والدرامية بالغا باللغة ذروتها من أجل تسريب العدوى، عدوى التلذذ بالفظيع المرعب؛ فاشتغل على مناطق النفس المظلمة. ذاك ما طفحت به القصيدة، فإلى جانب المقابلة الكبرى بين السيف والقلم وتقديم الأول على الثاني يكتظ النص بضروب الفظاعات والصور المغرقة في السادية؛ ويمكن تقسيمها ثلاثة أصناف: أول هذه الأصناف الدموي، وهذا بدوره يلوح في القصيدة بوجهين، أحدهما القتل وقد جند له الشاعر ترسانة من المعاجم بعضها جمع فيها أدواته (السيف في المفرد والجمع – الخطي – صفائح-أرماح- بيض وسمر – قضب-أسنة-ظبى السيوف-أطراف القنا) وبعضها جمع فيها مستعمليها (خميس – جيش – جحفل) وبعضها جمع فيها استعمالها (قطع – اجتثّ - انتقم)؛ وثانيهما الاغتصاب، إذ لمّح إلى وطء الجنود سباياهم من النساء الروميات فاستعمل ألفاظا فقهية ليؤكد حلية ما أتاه جيش المعتصم (في البيت الثلاثين يشير إلى الجنب وفي البيت الواحد والثلاثين يشير إلى التزاوج فلم يبق فتى شارك في هذه الحرب عزبا) كما استعمل معجما غزليا يتغنى فيه بجمال السبايا (المخدرة العذراء-البيض-قضب على كثب-سنا قمر) وكلها كما هو بين استعارات وكنايات مستهلكة يسهل على المتلقي فهمها. ثاني الأصناف تدميري وقد تجلى في الانتشاء برؤية الخراب يعم مدينة عمورية الحصينة، فزاوج بين النار والتراب والدخان ليبسط أمام القارئ مشهدا كارثيا أشبه ما يكون بيوم القيامة، يقول:
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت ** والشمس واجبة من ذا ولم تَجب
مشيرا إلى الليل والنهار تباعا، عاكسا حركة الشمس فغابت بالنهار نتيجة الدخان والغبار وظهرت ليلا نتيجة انتشار اللهب والنار. وقد بلغت حماسة الشاعر ذروتها حين يصرح بابتهاجه، فعمورية – المدينة المدمرة – "أبهى ربى" من طلل ميّة وحطامها "أشهى" من خدود "أُدْمِينَ من خجل"؛ بل إنه يعلن مفارقة تنمّ عن تشفيه حين يقول:
سماجة غنيت منا العيون بها ** عن كل حسن بدا أو منظر عجب
فهو مقر بأن المشهد سمج فظيع لكنه في هذا المقام يملأ العيون بهجة والنفس بهجة. ثالث الأصناف استعبادي، ولم يدخر أبو تمام جهدا في التقاط علامات المذلة سواء بتصوير هروب العدو ذعرا أو بتصوير هتك الأعراض من خلال سبي النساء والاستمتاع بهن كما أسلفت. هكذا حول الشاعر فظاعة الحرب وتبعاتها التخريبية إلى مشاهد تمتع المتلقي في عصره، مثلما حوّل الانتقام – وهو من الرغبات المنبوذة – إلى فعل نبيل يستجيب لنداء علوي وأمر سماوي؛ مستبعدا بذلك السياسي الدنيوي ليمحِّضه للديني. وليس الدافع نصرة امرأة مسلمة استغاثت في ديار الحرب ولا حماسة للجيش الذاب عن حياض الإسلام فحسب، إنما الغاية التي إليها تجري القصيدة صناعة أيقونة من شخص الخليفة العباسي وصناعة وجدان مشترك يكون سكنا لها. فأبو تمام – شأنه شأن الكثير من الشعراء – وجد في الخليفة ومعركته هذه مناسبة ينشئ منها شبكة تكثّف القيم المشتركة فتصير صوت المجموعة، وما حرصه على تجميل الفظيع والإقناع بالشنيع إلا دليل على أنه منهمك في إرساء قواعد هذه الشبكة وليس من أجل التكسب فهو عنه منشغل بثبيت أيقونة جديدة على مسطح الخطاب العربي في القرن الثالث للهجرة تضاهي النماذج العليا المشتركة. لذك سيكون مدار اهتمامي في المرحلة الأولى طرق الشاعر في الإقناع (أي البعد الحجاجي في القصيدة) ثم وسائل تجميل القبيح (أي الأسلبة في القصيدة) في المرحلة الثانية.
لعله من المفيد التنويه بما نهضت به القصيدة العربية التقليدية من مهام، فاندراج الحجاجي في الشعري يجعل مهمة الشاعر عسيرة إذ عليه عبء تحقيق هدفين متضافرين: الجميل والناجع في الآن ذاته. ذلك أن المحاج ليس همّه الحقيقة بل المشاكلة، أعني ما يقوي الظن بكون المعطى حقيقي وصادق. وهذا ما يعيه أبو تمام جيدا في بائيته الشهيرة؛ وعي بمقام لا حاجة فيه إلى استهلال بالنسيب لأنه مقام تهنئة بالنصر، فالمتلقي – إن اختزلناه في الممدوح- مهيأ نفسيا ولا داعي إلى استثارته، ووعي بانفعال يخول له ولوج الأذهان والوجدان دون عوائق إذ أن المتلقي ليس له استعداد للمجادلة، ووعي باعتقاد يفتح قدّامه بوابة الإقناع بمشروعية التغني بالفظيع. لقد سبقت الإشارة إلى اتكاء الشاعر على الفقهي حين صوّر انتشاءه باغتصاب السبايا من الروم، فاستخدمه للتلميح والتعريض بالعدوّ؛ بيد أن وظيفة الفقهي تتجاوز الحفاظ على وقار القول كي لا يخدش جلالة الفعل (الانتصار على أعداء المسلمين) فتنهض بوظيفة الضمان في استراتيجية أبي التمام الحجاجية؛ تفصيل ذلك أنه، أقصد الشاعر- قد عمد إلى تفعيل عبارات إسلامية ذات طاقة جذب عالية نتيجة سماتها المتراكمة عبر قرون من جهة والتحامها بالعقيدة من جهة ثانية؛ ولعل "الفتح" أعتى هذه العبارات، فإلى جانب كونها توجه الهجوم على عمورية وجهة دينية فتمسي الحرب جهادا في سبيل الله فإنها تصل ما انفصل، بما أنها تنشط مرحلة الدعوة الإسلامية الأولى المتجذرة في وجدان المسلمين، فهذه المرحلة تظل في تصورهم مستقبلا منظورا ينتظر "القائد/الإمام" لا ماضيا قد ولى. من ثمة تمسي كل فِعال الخليفة المعتصم بالله وجنوده شرعية مقبولة حتى وإن جاوزت الحد. هذا الضمان يتيح للشاعر تمرير دعواه المعلنة في الاستهلال، بل إنه – نظرا لكون الانتصار أمرا واقعا – لا يحتاج إلى عناء البرهان فيكتفي بالتفسير والبيان. فالمعطى (أو الأطروحة المدعومة) يشاكل في صيغته المقدمات البرهانية ويقدم على أنه حكمة تتضمن حقيقة يقينية مطلقة لا بد من التسليم بها، لذلك عوّل الشاعر على الصيغة الخبرية التقريرية والجمل الإسمية الخالية من الأفعال المسبوكة بالأسماء والمصادر للتأكيد على الثبات في الزمن المتغير، يقول:
السيف أصدق أنباء من الكتب ** في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في*متونهن جلاء الشك والرّيب
والعلم في شهب الأرماح لامعة ** بين الخميسين لا في السبعة الشهب
إن الموازنة بين السيف والقلم (وقد كنى عنه بالكتب) آلت نتيجتها إلى تفضيل السيف بما هو شعار العنف، والتفضيل ها هنا ليس نسبيا عندما تعلق الأمر بالإخبار بل مطلق، لذك يتفنن الشاعر في ترسيخ هذا المعنى باستعمال النفي للإثبات والمقابلة الحادة بين العنصرين مما يزيد الدعوى قوة وإشعاعا بمنأى عن التشكيك في سلامتها من الخطأ. إنه على هذا السمت يحصّن دعواه حتى لا يترك للمتلقي فرصة الفحص والتمحيص. بيد أنه بداية من البيت الثالث يشرع في التلطيف من غلوائه حين يوضح الغامض وينسّب المطلق عبر الإحالة على المقام؛ فهو يذكر بما كان من الروم وإرسالهم تهديدا إلى الخليفة المعتصم استنادا إلى التنجيم. يقول الشارح في رده على من عاب على أبي تمام استعمال لفظي "التين والعنب": "...وقد عابه عليه من لم يدر قصده. وكانوا يقولون [يقصد الروم]: إنما يفتح مدينتنا أولاد الزنا، فإن أقام هؤلاء إلى زمان التين والعنب لم يفلت منهم أحد؛ فبلغ المعتصمَ قولُهم فقال: أرجو أن يكفيني الله أمرهم قبل نضج التين والعنب... ويقال إن بعض من كان بعمورية من الرهبان قال:"إنا نجد في كتبنا أنه لا يفتح هذه البلدة إلا ملك يغرس في ظاهرها شجر التين والكرْم ويقيم حتى يثمرا، فأمر المعتصم بأن يغترس التينُ والكرْمُ فكان الفتح قبل ذلك ..." (ص.47) وهكذا يأخذ الشاعر في تفنيد الدعوى المضادة وهدمها من أسسها، فيستخدم الاستفهام الإنكاري الدال التعجيز والتهكم (أين الرواية بل أين النجوم وما **صاغوه من زخرف فيها ومن كذب) حتى يورط الخصم في مراجعة سلم قيمه ومخزون تصوراته، ولما كان الواقع يشهد بزيف ما توقعوه أمكن للشاعر إلحاق "معارفهم" هذه بالخرافة والأقاويل الخادعة (كذب وتخرص وتلفيق وعجائب)؛ ويجعلها نسجا بشريا الغاية منه تأبيد الهيمنة على الناس لكنه أوهى من بيت العنكبوت. ويوغل في تبكيتهم بهذا الشرط الممتنع:
لو بينت قطّ أمرا قبل موقعه**لم تخفِ ما حلّ بالأوثان والصلب
يفتح المحال بالمطلق باب دعم الدعوى بوابل من الحجج منها المثال الواقعي العيني وقد تجلى في مشاهد الخراب المشار إليها آنفا، والتكثير (بتكرار "كمْ" الخبرية) ومنها ضرب المثل (إن الحِمامين من بيض ومن سمر*دلوا الحياة من ماء ومن عشب) في رده على أملهم في جلاء جيش المعتصم بسبب قلة الماء والمرعى، ومنها الاقتباس من النص القرآني (رمى بك الله برجيها فهدمها) إحالة على الآية: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال آية 17) ومنها استدعاء المثال الرفيع فيقول: فبين أيامك اللاتي نصرت بها ** وبين أيام بدر أقرب النسب
فمعركة بدر تعد أولية من أوليات الجهاد ليس لأنها أولى انتصارات المسلمين الأوائل فحسب، إنما لما وقر في وجدان المسلمين إذ هم موقنون أن ذاك الانتصار كان بتأييد إلهي مباشر بوجود جنود من الملائكة تقاتل إلى جانب القلة المؤمنة. وهذه الحجة هي القوى في رأيي بما أنها قربت بين متباعدين في الزمان والمكان والهيئة كما أنها دعمت الغرض السامي في نظر المتلقي المسلم من الحرب على عمورية وتخريبها، لتصل في نهاية المطاف الأرضي بالسماوي والبشري بالإلهي. إن الفتح الجديد إعادة إنتاج لإرهاصات الفتح القديم، وبناء على ذلك يلزم الشاعر خليفته بالوعد، الوعد بفتوح أخرى فيكون لهذا اليوم، يوم عمورية، ما بعده. إن قوة المعتصم لا يستمدها من كثرة الجيش بل يستمدها، بتقواه وورعه، من العالم العلوي فيصبح نصره على يد الشاعر حيزا تجلى فيه المطلق بقهره وجبروته. لا يخفى ما في هذه الحجة – إذا ضمت إلى أخواتها في سلم حجاجي – من تسامٍ وتعالٍ يحقق ما يرنو إليه أبو تمام من إبهار تزيده الاستعارات وألوان البديع طاقة لا يمكن ردها. فالإقناع تضمنه البلاغة بما فيها من أفنان وإيقاع تخلب اللب وتعطف القلب على الممدوح وسلوكه الحربي العنيف؛ والملفت حقا أن شاعرنا استغل استعارات مستهلكة سواء في وصف الحرب أو التغزل بالسبايا، لا عجزا عن الابتكار بل إمعانا في جعل المتلقي يذعن ويسلم بصحة ما ادعاه في استهلاله، تفصيل ذلك أن الاستعارة المألوفة لا تستدعي بذل جهد لفهمها فينصرف المتلقي عن الحجاج ويتشتت ذهنه لكنها تفعّل ما ادخره في ذهنه من صور لينخرط في الابتهاج والنشوة المرجو نشرها.
لست في حاجة إلى رصد كل ما وظفه أبو تمام لتجميل الفظيع، لك أن تلمس عناصر التصوير المختلفة في قصيدته. غير أني أقف عند ظاهرتين بلاغيتين ساهمتا في استلال الجميل من السمج الشنيع. أول هاتين الظاهرتين التقابل، فقد اكتظت القصيدة بها إذ يقارب عددها ستا وخمسين على واحد وسبعين بيتا أي بنسبة تقارب تسعة وسبعين بالمائة (78.87%) وتشتمل على الطباق والمقابلة والجملة نفيا وإثباتا. كثافة هذه الظاهرة ملائمة للمناسبة والمعاني الحربية، إذ تقوم القصيدة على استقطاب بين قوتين متنافرتين إحداهما الخليفة بوصفه ممثلا للإسلام والروم بوصفهم ممثلين للشِّرك، ومن هذا الاستقطاب تتولد تلك الحركة الدرامية المجسدة للصراع العاصف، فضرب بسهم في الإيقاع الحماسي إلى جانب الوزن (بحر البسيط التام) والقافية المطلقة (رويها حرف الباء الانفجاري المجهور وصلتها الكسرة للترنم لكنها خالية من الردف والتأسيس) والجناس والجمع مع التقسيم في قوله متغنيا بالممدوح فكأنه نشيد:
تدبير معتصم بالله منتقم // لله مرتقب في الله مرتغب
جامعا بين الترصيع (تقفية داخلية) والترديد
ثاني تينك الظاهرتين الافتتان، وهو في اصطلاح البلغاء "أن يفتن الشاعر فيأتي بفنين متضادين من فنون الشعر، في بيت واحد فأكثر، مثل النسيب والحماسة، والمديح والهجاء، والهناء والعزاء" (خزانة الأدب) وقد تواترت هذه الظاهرة في قصيدة أبي تمام حتى أن القارئ يشعر بانزلاق النص بين المعاني الشعرية دون نتوءات تعطله؛ فقد جمع الشاعر بين الهجاء والمدح، إذ أنه في تعظيمه من شأن المعتصم تحقير من شأن العدو؛ كما جمع بين التهنئة والتشفي وبين الجدّ والهزل الظاهر في سخريته من المنجمين وتسفيههم؛ لكن افتتانه يتجلى أوضح في مزجه بين معان غزلية وأخرى حربية حماسية في قوله:
كم نيل تحت سناها من سنا قمر * وتحت عارضها من عارض شنب
كم كان في قطع أسباب الرقاب بها * إلى المخدرة العذراء من سبب
بل إنه شخص مدينة عمورية فنعتها بالبكر العذراء المستعصية على الجبابرة من الملوك حتى أتى المعتصم ليفترعها ويفض بكارتها فاجتمعت فيه – أقصد المعتصم- الفروسية والفحولة. وما هذه القصيدة سوى تتميم للفحولة البيولوجية بفحولة شعرية. إن هذه الظواهر – إلى جانب التورية والمقابلات – تجعل القصيدة مخترقة بمفارقات تحول الكارثة إلى مشهد كرنفالي احتفالي يقصي كل ما من شأنه إثارة التعاطف مع المدينة المنكوبة فيجعل التدمير تطهيرا للنفس (الذات الجماعية) بالانتقام وشفاء الغليل والإشباع الجنسي وتطهيرا للعالم من الآخر الدنس ذي الأوثان والصلبان. يبتني على ذلك أن الشاعر قد فعّل أنساقا مختلفة ليكون نصه ناجعا وجميلا في آن واحد فالقصيدة قائمة على العقلي logs والأخلاقي ethosوالعاطفي pathosوالجنسي éros و لعل هذا ما يؤيد تصور بلنجير (1996) حين يعتبر الحجاج ممارسة نفسية- منطقية" تؤطرها ثقافة معينة وتوجهها الرغبة في التفاعل مع "الممارسة-النفسية-المنطقية" للشركاء المعنيين. وأبو تمام في قصيدته جاوز التمجيد ليضع المسلم في عصره أمام أشد المشاهد فظاعة والمشاعر فظاظة في نشوة بلغت شواطئ الصوفية.

المصدر:
*الخطيب التبريزي: شرح ديوان أبي تمام ، الجزء الأول، دار الكتاب العربي الطبعة2 1994
المراجع:
* ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي بن عبد الله الحموي الأزراري (المتوفى: 837هـ): خزانة الأدب وغاية الأرب، دار ومكتبة الهلال-بيروت، دار البحار-بيروت، الطبعة الأخيرة 2004م
* حازم بن محمد بن حسن، ابن حازم القرطاجني، أبو الحسن (المتوفى: 684هـ): منهاج البلغاء وسراج الأدباء، الدار العربية للكتاب تونس 2008
* ربيعة العربي، بلاغة الحجاج وتقنيات التأثير، عن موقع http://www.ssrcaw.org








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن