الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-- عندما قررتُ ولادتي --

سليمان الهواري

2018 / 6 / 11
الادب والفن


هدية لروح أجمل رجل مر على هذه الأرض ..
ذاك أبي رضوان الله تعالى ورحماته عليه
قصة قصيرة
"" عندما قررتُ ولادتي ""
*************
أعترف أني متسرع جدا وخاصة في الأشياء التي تحدث أكبر قدر من الخراب .. حتى لو دمرت نفسي معها .. أنا لا اتذكر بالطبع كيف جئت لهذا العالم الذي عرفت فيما بعد أنه لا يستحق صرختنا الأولى .. لكن أمي المسكينة تحكي للمرة الألف كيف أني لم أمهلها حتى يكتمل الحمل في بطنها كباقي البشر وترجع جدتي "حنة رحمة" من "هوارة" ، تلك القرية الغارقة بين جبال الريف كما عادتها عند ولادة إخوتي الآخرين .. لقد كانت "حنة" هي "القابلة" وهي الطبيبة والعشابة والمشرفة الاجتماعية وربما أشياء أخرى .. لكن كل ما كان يهمنا نحن الأحفاد عند مجيئها هو شحنة الحب التي تزرعها في كل جنبات البيت ولا لغة يمكن أن تصف حجم الحنان الذي كانت تمنحه للجميع بكل كرم وبلا انتهاء ..
ربما كانت أكياس "الشريحة" و"الكرموص" اليابس أهم منها في بعض اللحظات وأركان البيت نحولها إلى ملاذات آمنة نخبئ فيها التين والزيتون الأسود الجاف وهما أهم غذاء في البيت حينها مع "براريد" الشاي التي لا تنتهي على طول دورة اليوم ..
لازلت لحد الساعة لا أعرف كيف كنا ندبر جميعا عملية النوم في غرفة واحدة هي أساس كل البيت بينما المطبخ الصغير لا يكاد يكفي للدولاب الخشبي المتلاشي الذي تجتهد أمي وأختي الكبرى في إعادة ترتيبه كل يوم رغم أنه لا يحوي إلا ملابس متناثرة من هنا وهناك وكأنهما تضمان فيه كل ثروات الدنيا .. إضافة للركنة التي خصصت ل"خابية" الماء الطينية التي تعبأ كل فجر من ماء "السقاية" الوحيدة بالحومة .. وفي الجهة الأخرى بعض كؤوس وصحون وإبريق قهوة أزرق أصابه سواد النار قرب "العنبوب" وبعض ملاعق هي كل أواني المطبخ الذي لا تتجاوز مساحته خمسة امتار مربعة .. لكن أخطر ما فيه هو "الريشو" اي "ماكينة" الطهي الغازية التي تضطر كل مرة لاستعمال الغاز والكحول لتعبئتها كفاية وتسوية "طاوة" "الدواز" الذي يكرر نفسه كل يوم دون كلل ولا تعب لسنوات دون احتساب الأيام الناذرة لاختراق اللحم وجبات الغداء حيث تتكلف الأم بطبيعتها بتوزيع قطع اللحم علينا بعد الانتهاء من التهام الخضر كليا .. وبطبيعة الحال ولأنه اللحم فالكل ينتبه لحجم نصيبه الذي تمنحه إياه عدالة الوالدة التي تقتضي أن يكون "حق الواليد " هو الأكبر مع أخي البكر ثم يقسم الباقي حسب عدالة السن من الأكبر نحو الأصغر لتحتفظ هي في الأخير بلقمة واحدة قد لا تستمتع بها أو بقطعة لحم هي الأصغر غالبا ما تعطيها لأحدنا ..
لقد كان "المْراحْ " صغيرا لا يكفي ليضم كل الأسرة وضيوفها من "العروبية" التي لا يخلو البيت منهم .. كان بهوا نظيفا اجتهد الوالد في ترصيف أرضيته بالاسمنت حتى صرنا نمارس فيه نحن الصغار التزحلق على بطوننا أيام القر الصيفية والسقف القزديري يكاد يحول البيت إلى قِدر يغلي من الحرارة .. هو نفس السقف الذي كنا نبيت معه الليالي نلعب الغميضة أيام الشتاء وقطرات المطر تتسلل عبر شقوقه ونحن نحاول تخصيص كل ما في البيت من "سطولا " لاحتضان موسيقى المطر حتى نتفرغ لبعض النوم الممكن على إيقاع هذه المعزوفات التي لم يكن التدمر منها كبيرا بقدر ما قد يحسه أي أحد آخر الآن .. لقد كانت هذه هي الحياة والسلام ..
المطر لا يفتر أيام الشتاء ونحن نتجمع ممددين على الأرض تتداخل أرجلنا وأجسامنا .. كانت الغرفة لا تحتوي سوى على لحافين محشوية ب"الحلفة" في طرفيها وبينهما حصير من "السمر" .. لقد كنت دائما أصاب بالدهشة أمام هذا الحصير المزركش بالأحمر والأخضر في جنباته و بعض ورود مرسومة في وسطه .. كنت يوميا أنثر خيوطه وأعيد ترتيبها داخل شريط "الدوم" المفتول الذي يجمع أطرافه .. وكل ليلة تعيد أختي الكبرى نفس الحكاية وبشكل طقوسي محفوظ بتفاصيله الدقيقة ، كانت تضع "الحنبل" الصوفي فوق الحصير ثم توزع عليه كل "الهيادر " وجلود صوف الخرفان المتجمعة عبر اضحيات سنوات العيد "الكبير" المتوالية ..
لم يكن مهما جنب من ستنام وأنتم خمسة أو ستة وقد تصبحون سبعة ، مايهم هو أن أحدكم المعروف بكونه يتبول على نفسه كل ليلة سينام في الجانب الآخر قرب أخته الكبرى وهي من تتكفل كل صباح لحمل الفراش المبلل إلى السطح حتى تجففه الشمس ويكون جاهزا لليلة الموالية ..
لا يستغرق الوقت طويلا حتى يطفئ أحدهم "لامبة" .. يسود الظلام والكل صامت في خشوع تحت بطانيات الصوف التي نسجتها "حنة رحمة" بأيديها وهي تنشر الدفئ في عظامنا المتعبة من لعب النهار ..
مرت الطفولة كاملة هنا تتشابه لياليها ونحن نتزاحم يدفي بعضنا بعضا بعد أن يكون الجميع قد غسل رجليه بأوامر الوالدة : (( واش طرفتي رجليك )) .. كانت لازمة كل مساء ، ثم نتسلل تحت الغطاء ..
كل ليلة كان لابد من لحظة نترجى الوالد ونستعطفه ، لزوم التشويق ، كي يحكي لنا "محاجية" من حكاياته التي لا تنتهي والتي غالبا ما كنا ننام دون أن نسمع نهايتها وهو كل مرة ينادي (( سليمان نعستي )) (( لا مزال أبّا غي كمل عافاك )) (( نعستي فاطمة )) .. كان شخير فاطمة وحده يرد بينما هو يتابع حكايته حتى يطمئن أن الكل نام أو على الأقل يتظاهر بعضهم بالنوم قبل أن يفاجأك أحدهم بضرطة حاول عبثا خنقها بين فخذيه من هنا أو هناك لينقطع حس الأنفاس في الغرفة وتزيد حرارتها فقط بينما يستمر أبوك في سرد حكاية "سيدنا علي والسرحاني" وكألا شيء حصل ، وحده منسوب الحب يرتفع ويملأ المكان فعلا ..
غريب ألا ترى أباك يقبل أمك أو يضمها إليه ستين سنة ولا تعرف معنى الحب بينهما إلا لحظة وفاته بعد عشرة زواج دامت سبعين سنة .. سبعين سنة عمر زواج فقط .. حينها وقبل ساعة واحدة من مغادرته هذه الأرض كان لا يترك أحدا يقترب منه لتغيير حفاظاته وقد فقد التحكم في بعض وظائفه سواها .. لا أحد يمكن أن ينسى أباه الأمي الذي لم يعرف مدرسة طيلة قرن ولم يقرأ عن الحب أبدا .. وهو في سكرات موته ينادي أمك .. (( تعالي أيتها الحبيبة )) .. هكذا تلفظها فصيحة واضحة (( أيتها الحبيبة )) .. قالها بلهجته الجبلية "المقفحة" وكأنه لم يغادر منطقة "صنهاجة الموهريين" منذ ثمانين سنة إلى المدينة .. كان على الحبيبة أن تأتي لتساعده على شرب آخر قطرات ماء قبل أن يعانق السماء ، كما كانت دائما تأتي عندما يناديها بأي طلب ..
لم نكن نحفظ الحكايات وقد تعاد على مسامعنا كل ليلة ونحن نتابعها بنفس الشغف وبنفس الحب حتى تكتمل مراسيم النوم ويهدأ البيت قليلا قبل أن يعود قبل الفجر إلى حركيته والوالد يستعد للخروج نحو سوق الخضر بالجملة ..
والصباح يعيدنا إلى دوامة القهوة وصندالة "حلومة " و"عباسية" الشفناج "سي امحمد " في الطريق إلى المدرسة ..
هي يوميات السنين الطويلة التي ابتدأت ذات لحظة استعجال حين قررت أن آتي إلى هذه الحياة .. لم يبلغ الحمل حينها التسعة أشهر لما أحست السيدة " الوالدة " بوجع مفاجئ يغزو بطنها .. لم تعلم أنها لحظة ولادتي قد أزفت حتى أصبحت تقلصات "الزحمة" شديدة عليها لا تطاق .. لم أصبر في رحمها بما يكفي الوقت الذي ذهب فيه أحد الجيران لمستشفى محمد الخامس كي يأتي بسيارة الإسعاف والقيام بالاجراءات الضرورية ..
ممرضان وصلا للبيت قصد حملها للمستشفى لكني أنا كنت قد قررت أمرا آخر .. أوقفتهم جميعا عند باب البيت وقررت أن أشهق شهقتي الأولى في هذه الحياة .. وقد تكفلت نساء الجيران ببقية طقوس الولادة في البيت بلا طبيب مختص ..
لقد كان أجمل قرار متسرع أتخذه فوق هذه الأرض ..
أن أخوض تجربة الحياة .. وأن أحيا ..
**سليمان الهواري / حكايا من همس الذاكرة **








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل