الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الريح والبوصلة - رواية - الفصل الثالث

ذياب فهد الطائي

2018 / 6 / 14
الادب والفن


بإصرار تابعت اللعبة، بل يمكنني القول اني أدمنتها، وكمن يبحث عن مجازات يعبر بها عن نفسه كنت أجد في دور المغامر في الليل الشتوي البارد والموحل امتدادا لما كنا نفعله ونحن صغار حين (نلعب حرامية وجرخجيه) ، ننتخب اولا رئيسين للفريقين ويبدأ كل رئيس باختيار مجموعته ، يبدأ الرئيس ( الجرخجي ) فيطلب أحدنا ولكنه يرفض والكل يفضل دور الحرامي وأحيانا تفشل اللعبة لأن أحدا لا يريد دورا مع ألحكومة والكل يقف في الجبهة المقابلة، جبهة العداء للسلطة , معارضتها والبحث عن المتاعب لها فهل كان هذا كما يقول اشرف سلطة اللاوعي في ضمائرنا, اللاوعي ألأجتماعي , وحين سألته ولكن ماهو اللاوعي , قا ل ضاحكا آه لقد نسيت اننا لم نبدأ بعد بالعم نيتشة ! وحسب الترتيب التراكمي لن نتحدث عن العم فرويد !

كنا نعتقد ان السلطة تمثل الشر كله وان الحرامية هم الانتقام الالهي منها ، وحبنا لدور الحرامي هو انجذاب عفوي للمقاومة ، من روبن هود الى أرسين لوبين ، كنت ألتهم القصص التي يعطيني إياها أشرف وعرفت لاحقا الطريق الى مكتبة القطان في( السرجخانه) حيث كنت أستعير القصص لقاء 250 دينارا للقصة ، لم يبدي أبي أية ملاحظة وهو يرى بعض الكتب في غرفتي أو وهو يراني أجلس تحت أشعة شمس تشرين الثاني المخاتلة ، متداريا بالحائط الشرقي لأقرأ مسترخيا للخدر اللذيذ الذي يبعثه الدفء المخادع .

في الليل اخطط لتوزيع منشورات ( التجمع الديمقراطي ) ، عندما تحين ألإجازة ، في ألأزقة الضيقة والمظلمة واستغرب أحيانا من أين جائتني كل هذه الجرأة دون أن اشعر برعشة ألارتباك وأفكر ربما من عمق متاهات السخرية من كل هؤلاء المنتشرين في الشوارع يحمون (الحكومة) و الذين أرى في عيونهم ومضات الخوف وهم يتدارون وراء ضحكات بلهاء يطلقونها بصوت مرتفع حين أمر أمامهم ملقيا السلام بلهجة لا رنين لها انمحت منها معالم التعاطف و التواصل حتى إني أحس انها شتيمة بذيئة، قال فوزي يجب ان تبتعد عن مثل هذه المشاعر ، اننا نتوجه الى كل هؤلاء في المنشورات التي نوزعها ، انها لهم أصلا ، ومثل هذه الروح الشريرة التي بدأت تتملكك تتعارض وما نريده.
كان البيان الرابع يتحدث عن الحكومة التي نريد ، حين أتحدث بلغة الجمع أشعر اني متوازن أكثر لأني مع الجماعة أشعر بالاستقرار والدوران في حركة متناغمة مع حركة منتظمة مخطط لها يعطيني شعورا بالحماية ، تداول السلطة والتعددية والحل الديمقراطي للأقليات كانت مفاهيم عامة أتعبت فوزي بشرحها على نحو مبسط وكنت أود ان اتحدث مع بعض من ألتقيهم عن ألاليات الديمقراطية أو ان اشرح لعامل مطعم (باجة الحدباء ) الكردي ماهو الحل للقضية الكردية ليتركوا السلاح ونعيش سوية ولكني كنت أخاف ذلك جراء تحذيرات أشرف ، وعلى نحو اكثر دقة أجد اني غير مؤهل بعد لدور الداعية وان مايناسبني هو دور موزع المنشورات السرية عبر ألشوارع المظلمة للمدينة.
كنت أستطيع ان أسمع حفيف الكلمات السرية في أسرة دافئة وان أشم رائحة رجل الجيش الشعبي المتواري وراء مخلفات القمامة يشله الخوف والبرد والمجهول فأخفي لفة المنشورات واصيح بصوت عال ((السلام عليكم )) ، يفاجئ الرفيق المتخفي فيرد بصوت مبحوح مرتجف يقطعه شعور بالتوحد، أتجاوزه يداخلني إحساس مرح بالتفوق ، وفي الزاوية القريبه أرمي نسخا من البيان الرابع ، ابتسم في وجه الليل الموحش ، من أجل الديمقراطية والعم نتشه!!

قال فوزي : مساء اليوم سننتقل الى مرحلة جديدة من بناء ألتجمع الديمقراطي، على كل منكما ان يأتي بهدية بسيطة على أساس انكما تشاركان في عيد ميلادي وان يكون الحضور في الساعة السادسة ،بالطبع هذه عملية تمويه لتلافي اية اشكالات غير محسوبة ..

سألته بسذاجة : ولكن ما هو عيد الميلاد ؟

قال : لدى بعض الناس عادة الأحتفال مرة في السنة بيوم ميلاد هم ، ولهذا يدعون الأصدقاء الذين يجلبون هدايا ويقدم صاحب العيد (الكيك ) والحلويات , وبهذه المناسبة ستأكلون البقلاوة السورية والفستق الأيراني و أحلى كيك من صنع الوالدة ،

قال أشرف : هل سنكون وحدنا ؟!

: لا .... نحتفل اليوم فعلا بعيد ميلاد( الحركة) بحضور الاصدقاء الجدد وسيتم تحديد المسؤوليات عبر ألانتخاب العلني والمباشر

: هل يعني هذا ان العائلة على علم بالموضوع ؟

: نعم وبمباركة الوالد !

كان جو الصالة في بيت فوزي احتفاليا فقد علقت بضعة بالونات ملونة وعلى الطاولة الكبيرة المركونة الى الحائط بعض أصناف الطعام وقالب كيك كبير مزدان بشمعة حمراء
في الصالة كان قد سبقنا الى الحضور أربعة اشخاص عرّفنا فوزي عليهم .

: السيدة تماضر مدرسة رياضيات ، السيد رياض مهندس في كهرباء الموصل، الآنسة وداد طالبة جامعية ،واخيرا السيد حمدي صف منتهي في كلية الهندسة .
تابع...
قبل ان نبدأ أود التأكيد على ان تكون إجابتنا موحدة فيما اذا وقع ما لم يكن في الحسبان ، أنتم هنا للاحتفال بعيد ميلادي ،الجميع يعرف على وجه الدقة ماذا يجمعنا ، نحن نمثل الهيئة المؤسسة للتجمع الديمقراطي بهدف ان نشغل بعضا من الفراغ الذي سيحصل بعد سقوط السلطة ، ومن أجل إعطاء الحركة زخما في العمل ، علينا ان نحدد المسؤوليات على نحو علني ومباشر

أولا ، امين عام الحركة !

تطلع نحونا مستفهما

قالت ألانسة وداد : فوزي
ابتسم فوزي : ما رأيكم ؟

قلت : فوزي ، سيكون القائد المثالي للحركة ، لننهي هذه النقطة

أيد الجميع المقترح

: المسؤول المالي ؟

قال حمدي : السيدة تماضر

أيده فوزي

: مسؤول ألإعلام ؟

قلت بسرعة : اشرف

لم يعترض أحد

اقترح المهندس رياض أن يكون حمدي مسؤلأ للتنظيم الطلابي ،

قدم لنا فوزي عصير البرتقال وقال : والآن جاء دور المسؤول الأمني في التنظيم ، واعتقد من خبرتي بالجميع ان المرشح لهذه المسؤولية الأخ سمير

صدر البيان رقم خمسة وهو يحمل بشرى للشعب العراقي بتشكيل اللجنة العليا لحركة التجمع الديمقراطي وفي أسفل البيان كان الاسم الحركي لفوزي , ابو نزار ( وقد عرفت معلومة الأسم الحركي من أشرف)

لم يخرج الجميع سوية ، استأذن أشرف وسمير.
قال حمدي : ولكن ألأخ سمير، يبدو انه غير متعلم .
قال فوزي : نحن نعلمه والمسألة المهمة هي العقل المتحرر والمستعد للاستيعاب ! ثم اننا بحاجة الى عنصر من وسط الجماهير بعلاقاته الواسعة وبقدرته على التمويه اذ لآ أحد يلتفت اليه عادة ، الحزب والسلطة تركز على المثقفين لاعتقادها انهم شريحة تشكل خطرا عليها من جهة ، ولكون الرئيس القائد يكنّ كرها غريزيا لهم من الجهة الثانية ، تتذكرون انه في الاجتماع الخاص بإصلاح النظام الجامعي والذي عرض في التلفزيون كان ابن مدينتنا الدكتور الهاشمي يتحدث عن الضوابط ألأكاديمية لمنح شهادة الماجستير والدكتوراه وقاطعه الرئيس ليتحدث عن ضرورة العناية بالمرافق العامة في عموم كليات الجامعات العراقية وحينها نظر المجتمعون بعضهم الى بعض باستغراب ولكن ذلك دام لحظة خاطفة !فالقائد الضرورة يفهم عن وعي الاشتراطات الضرورية للإنسان المعاصر !!ا
: لماذا لا يمكنهم شرح الموضوع له ؟
: خوفا من نظراته الصارمة والمتوعدة !

في الطريق الى المعسكر فكّر بعيني وداد ، انهما تبعثان على الشعور بالراحة، نظراتهما تجمع تناقضا شغله ، وادعتان ولكن ذلك لم يمنع الإحساس بأنهما تلتمعان بقوة غريبة وتعكسان ثقة تعبر عن إرادة تكمن في عمق التيارات الداخلية وهي تتفحصه تماما كتيارات ت دجلة وهي تتراخى في مسيرتها بإصرار عبر وحشة ليالي الخريف الى مدن قصية عند البحر ، كم تمنيت ان اسبح في البحر ، ان أغوص في مدياته المتناهية ، أتعرف الى عوالمه الخفية ، ان أستلقي محدقا في الشمس التي تمتد الى نهاياته الخفية وشطآنه حيث يتراكم رمل ناعم احمر ، اعبث بالمحّار المنسي على جوانبه حيث يتصالح مع ألأرض ويبتعد عن السماء ، كانت عينا وداد تختلف عن كل العيون التي شاهدتها ، كانتا بين الرفض والقبول ، محايدتان تماما ، لايمكن ان تجد فيهما ما يلزمك بالتبرير ، كانت أمي تقول ان عيون الجن تقدح شررا أما عيون الملائكة فكلها طيبة ، وحينما كنت أحدث النائب ضابط عضو مكتب التوجيه السياسي كانت عيناه كعيون الجن في حكايات أمي ولكني لم ألمح الطيبة الا في عيون الأطفال.

ضربت طائرتان مكانا ما في المواقع المتقدمة ربما في( كلك ) وردت بضعة مدافع مضادة للطائرات بطلقات متفرقة ثم عاود الصمت الموحش نشر ظلاله وعاودت التفكير بعيون وداد،لم افكر فيها كفتاة أعني في الحقيقة كأنثى ، كنت أشعر وانا قريب منها بهدوء غريب يتسلل الى روحي وبسكينة تبعث في استرخاء مسكرا ورغبة في أن أظل أستمع الى صوتها المشحون بالحنان ينسكب في مسامعي كأيقاع حالم ،قال أبي ، لابد من القول انك قد تغيرت ، الجيش يعلم الانضباط والاعتماد على النفس ! كنت أود أن أقول له ، نعم لقد طرأ علي تغيير ، اني ألاحظ ذلك ولكن ليس بسبب الجيش ولا علاقه له بألانضباط ، لقد بدأ عقلي يتفتح وتغيرت لغتي ايضا،ما أقوله ألآن أكثر وضوحا وثباتا ، وما افكر به أبعد من المزرعة والخضار وفتيات السوق، أحلم ألآن وانا مستيقظ في دورية الحراسة أو في عنبر النوم بالجيش كله وبالمجتمع، السياسة تشغل فكري وأشعر احيانا اني طائر اسرع من الريح وأعمق من الصمت الكلي الذي يلامس سطح دجلة في ليلة صيفية سماؤها صافية وقمرها يشع بخيلاء وهو يعبر السماوات ، أسبح في الشعاع الذائب وأحس ملمس الماء على جسدي العاري ينقلني من خدر الى آخر فتموت المسافات وأشعر اني اولد من جديد ، بدأت مداخيل الكلمات تتفتح وأنا أستمع الى فوزي .... مانريده هو الديمقراطية وبناء مجتمع متوازن جديد يتماشى ومقتضيات الحداثة واشتراطات العولمة ، العولمة هي التي ظلت مشوشة في فكري أياما طويلة ممضة ، قال حمدي.... المذياع من اليابان والقميص من الصين وأشرطة الفيديو من تايوان والسيارة من فرنسا والتراكتور من البرازيل اما الغازات السامة فمن ايطاليا وهولندة والبنادق من روسيا هذه باختصار هي العولمة ، العالم قرية صغيرة متشابكة ولايمكن ان يكون بلد في جزيرة ، ، انتقلت في قراآتي الى قضايا أكثر انشغالا بالسياسة وحين نصحني حمدي ان استمع الى ألإذاعات (الجادة ) بادرت بشراء راديو صغير أريحه الى أذني لأستمع في سكون الليل إلى المتابعات السياسية في مونت كارلو والبي بي سي البريطانية ، بدأت أجد متعة في المشاركة بنقاشات التجمع الديمقراطي .
عند اعداد البيان السابع قلت

: ان البيانات السابقة كلها كانت تتحدث في أمور نظرية ولم نتوجه الى المواطن العادي في السوق ، في المدرسة ، وفي دوائر الدولة !

قالت تماضر : فكرة جيدة

التمعت عينا وداد ببريق خاطف لشمس تهبط في دجلة متسارعة عند الغروب وعاودتا حياديتهما ، ولكني شعرت بان تباشير مطر ربيعي ستهل ثانية واني سأشم رائحة الطين وسأسمع صدى تغريد البلابل في الضفة ألاخرى لدجلة حيث تمتد حقول غضة الخضرة .

000000

لم يعد هناك مجالا للشك بان الحرب قادمة فقد اكتملت الأستعدادات الأمريكية لها في الخليج ، ولكن ما خفف عنا بعض الشيء ان البرلمان التركي لم يوافق على قيام الحلفاء بالدخول من شمال العراق وكان هذا يعني ان ويلات الحرب هنا ستكون اخف عما هي في الجنوب ! كما أشار رياض ونحن نعد البيان الثامن ..... سيجعل مهمتنا السياسية في الموصل أسهل لأننا سنحتفظ بكامل قوانا ولن يكون الفراغ السياسي مدعاة لفوضى شاملة كما هو الحال في بغداد حيث ستواجه القوى السياسية وضعا بالغ التعقيد لاحتمال نشوء بؤر فاعلة متنوعة ومتعارضة .

كنا بانتظار الزلزال نشخص نحو السماء لعّد الطائرات المغيرة على أهداف غير مرئية يتآكلنا حزن صامت متوحش ونحن نلمس بوضوح عجز دفاعاتنا الجوية عن منع الطائرات المعادية من تسيّد أجواء العراق فيما يستمر الضجيج الأعلامي ، وراية ام المعارك تخفق كغول أسطوري ولكن من ورق ، يصدر عنها حفيف القصب والبردي في متاهات ألأهوار الموحشة وتنفجر قذيفة عند الفجر في موقع على محيط الموصل فيختلط اللحم الآدمي بحديد المدفع المضاد للجو ويندفع صمت أخرس لاهثا يبني قبرا لبضعة جنود لايعرف أحدا من اين جاؤوا.

ولكن الزلزال تأخر وهو يقطع الأيام باتجاه العراق الحزين ونحن نحلم بأن نرث ألأرض وأن نكون في المساحة الملائمة قبل الآخرين فيما الطائرات المعادية تقطع في فضاءات التواصل بين الضفة والضفة ، الشتاء يمر بيننا يمسح وجه دجلة ويعصر الحزن مشاعره ولكنه يتماسك فدجلة لن تشيخ والموت عصي والشمس تظل تأتي باهرة تجدد الكون وتمنح الحياة للزهور البرية على امتداد سهول نينوى.

قال أبي : ألأرض تباع الآن بالمتر والتعامل بالدولار، ما رأيك ؟

: لاتبع فقد تحول الكتف الى منطقة سكنية وكل يوم سيرتفع السعر، لسنا بحاجة للنقود !

: أعتقد ذلك ولكن على العموم أرجو ان تضع في حسابك إننا سنكون موسرين بعد تسريحك من الجيش وسنبدأ حياة جديدة !

الرجل الذي جاءنا ليلا يفاوض على البيع كان يستخدم حاسبة صغيرة قال اننا سنتحول فورا الى أغنياء ، يمكن ان نستلم ثلاثة ارباع المليون دولار ، كانت عيناه دائريتين تتحركان بسرعة مريبة فيما كان يستعين بكلتا يديه ليوضح حجم الثراء الذي سنتحول اليه، قلت لوالدي لن نبيع ،نظر الي الرجل بغيض ولكنه غادرنا بهدوء.
قال اشرف: المدينة تتمدد الى الخارج كوحش كافكا والتحولات تغير في التركيبة الاجتماعية ، ستتحول الى برجوازي جديد في زمن العولمة والتحولات الأمريكية الكبرى ، هل سنظل أصدقاء؟
كنت افكر بوداد وبعينيها المحايدتين !

كان البيان التاسع مختلفا فقد توجه الى المرأة العراقية ، يوم عيد المرأة العالمي على الأبواب وقد شرحت تماضر بإسهاب أهمية هذا اليوم لتوعية النساء بدورهن السياسي والاجتماعي ، كانت تتحدث وكأن المرأة كائن ضعيف مستهدف في حين كنت في السوق أعاني من النساء فقد كن ثرثارات ولجوجات ، يتسكعن في السوق ويسألن عن كل شيء ولكنهن لا يشترين الا المواد التي تركن البيت من أجلها ، قال أمام الجامع انهن مخلوقات حمقاوات وناقصات عقل ودين وان الرجال قوّامون ، كان ذلك ليلة عيد الفطر وأنا بجانب أبي نؤدي الصلاة ، يردد عشرات الأمثال وبعضا من آيات القران، لحظت ان مجموعات من الشباب كانوا قد بدأو بإطلاق اللحى ومعظمهم يرتدي دشاشة قصيرة ، قال فوزي المجموعات السلفية تتكاثر بسبب البيئة ، المناخ يخلق أحيانا كائنات غريبة !! حاولت ان اناقش ولكن الجميع كان يرى في البيان فرصة لمخاطبة شريحة اجتماعية واسعة ، قالت وداد ، المسألة أبعد قليلا من الحالة التي عرضتها ،الحقوق ألاجتماعية والسياسية للمرأة مغيبة ولكنها مسؤولة عن صنع الفرح للرجال ،انه مجتمع الذكور والمرأة كائن محاصر كحيوان نادر، قلت اني مقتنع وسأوزع المنشور في مدارس البنات كافة! قال فوزي , هذا لا يكفي ، يجب توزيعه في مدارس البنين أيضا ، وافقت بسرعة .

المعسكر تسوده الفوضي وقد توقفت التدريبات الصباحية بعد ان ارتفعت نسبة التغيب الى أكثر من خمسين بالمئة وشملت ضباطا من مختلف الرتب وبدا على مجموعة التوجيه المعنوي ارتباكا في حركاتهم وهم يعقدون اجتماعاتهم اليومية ، كانوا بالغي العصبية حتى وهم يدارون بالصمت مشاعرهم المحبطة، كما بفعل الطلاب الذين لا يملكون الثقة الكافية وهم يجلسون الى كرسي الأمتحان ، قال أشرف ، سيتخلون عن الوطن .... كان بالنسبة لهم مشروعا وهو يغرق الآن، نوح ترك ابنه فأ بتلعه الطوفان ، قال رياض ربما ستبدأ الحرب خلال اسبوع ! لم تنجح المظاهرات والاحتجاجات عبر العالم بالتأثير على التصميم الأمريكي بشن الحرب ، قالت تماضر ، المهم ماذا بعد الحرب والحديث عن المعارضة مناقشة بيزنطية، لم افهم ماتعنيه واصبح من عاداتي ربما السيئة السؤال ، لم أكن لجوجا ولكن وللحقيقة كان الجميع صبورا معي ، كنت قد أدمنت النظر في العينين المحايدتين وهذا لم يمنع ان أكون سريع الاستيعاب، ولكني توقفت طويلا عند خبر قيادة الممثلة رغدة لمظاهرة احتجاج، كانت جميلة ولكني لم افهم ان تحتج من أجلنا وتنسى السوريين !

قال أبي : هل ستحاربون ؟

قلت : هل جربت السباحة في الطين ؟ !

قال أبي : وما العلاقة ؟ !

قلت : في الطين ستكون مقيد اليدين !

قال أبي : سمعت من الجندي في الموقع على الكتف ان الهجوم سيقع الليلة , كان محبطا ومستاء لأنه يعتقد ان القيادة تخوض باستمرار معارك خاسرة !

لم أعلق فقد قال أشرف ذلك ايضا ونحن نستمع الى اذاعة يأتي صوتها متقطعا، كان الليل حالك السواد وأضواء المعسكر مطفأة والنائب ضابط و ضابط الخفر يشربان من قنينة عرق جاء بها جندي من (هبهب ), كان الضوء في الغرفة خافتا والشباك الوحيد تم لصق اوراق الجرائد على زجاجه من الداخل والأثنان صامتان ، الزمن في المعسكر مشوش وكأنه لآ يعني أحدا، يعبر الليل الى فضاءات اخرى في كواكب لا ترى بالعين المجردة والترقب في الجانب ألآخر اكثر إيحاء بألأمل ولهذا فقد كانت الحركة على الهضاب البعيدة نشطة وفي الصمت الصدئ فوق المعسكر من جراء تعرضه للانتظار في رطوبة ندى آذار الثقيل يسمع أزيز رصاصة تحذير وهي تعبر الأفق بشريط خجول من الضوء الكابي .

كانت الساعة الثامنة مساء حين تركت أبي لوحدته وفي العاشرة والنصف كنت في المعسكر ، لم يدقق الجندي الخفر كثيرا ، فتح البوابة وكأنه يلومني على الحضور ، اشرف وصل قبلي ، كان يستمع للإذاعة المصرية وهي تقدم برنامجا عن عيد شم النسيم كان خليطا من ألأغاني الخفيفة والشروحات البسيطة لمعنى العيد , قلت ونحن ، ألن نحتفل بعيد نوروز ؟ قال اشرف... لا الحزب يوافق ولا السيد بوش يرضى ، كلاهما يرغب في ان نقطع التماس مع العالم وان نعيش في عش الخوف بانتظار الفرج !

كانت التلال المحيطة بالمعسكر تتموج بخضرة يانعة وحينما تشرق الشمس تلتمع قطرات الندى بوميض ساحر ، وعلى السفوح الشرقية المواجهة للأشعة الكسولة لشمس الربيع الخجلة بدأ بعض الشباب ألكرد بتجربة ملابس العيد ولاحت على البعد الوان زاهية ، هل سيأتي الفرح للعراق؟! قال رياض وأنا اصف لوحة ألألوان على التلال المقابلة .... لن نبدأ بإطلاق النار... ساد جو من الترقب الحذر كما كان يردد مذيع محطة المونت كارلو.

الليل بطيئ ، وحين تجاوزت الساعة المنتصف قررنا ان ننام فربما غيّر السيد بوش رأيه ، شعرت بوحدة موحشة وانا اتمدد على السرير الحديد على الرغم من أن عيني وداد الماثلتان ملئ خيالي في ظلمة كاملة فيما سكون مطلق يسد الكون و يسد أذني ،ايضا ، بهمس غامض ممض كأنه وشوشة عابثة تمتحن صبري على النوم ، في المعسكر اشعر اني معزول تماما عن العالم واني مجرد جندي .... مسمار في ماكنة عملاقة أصابها الصدأ وهي مركونة دونما حاجة لها، أقاوم النظرات الفاحصة والمرتابة لأفراد التوجيه السياسي الذين توقفوا عن دعوتي للأنظمام للتنظيم ،ولكن شعوري يتبدل في ساعات اللقاء في بيت فوزي ونحن نناقش صيغة البيان الجديد ، اشعر اني أصعد مع الموج الذي يتعالى وسط دجلة ، الماء مملكتي حيث أستطيع السباحة دون أن أحرك عضلة واحدة وأعرف اتجاهي وأنا مغمض العينين ، هنا .... أتحدث عن الحركة وأساهم في بلورة التغيير ، أشعر اني موجود بكليتي ، لست طيرا مهاجرا، هنا .... أتنفس وأتمدد في كل المكان وأستمع الى لغة مفهومة تعطيني القدرة على التعرف الى خريطة وجودي ، كان اشرف يمزح ، ستتحول الى ثري، برجوازي على أطراف المدينة وستستطيع ان تتزوج من امرأة كالقشدة ولن يسألك احد عن المدرسة ! كنت افكر بوداد، حديثها ناعم لين ولكنه كشعاع الشمس يخترق الظلمة التي بقيت أوشالها في أعماقي منطقة مشوشة ، شعاع لاينتشر بل يستقر ، يدغدغ مشاعري بعبث طفولي , هل أحب ؟!

تطلع الى ساعته الفوسفورية ، كان عقربا الساعة يدوران حول الواحدة غير مكترثين ما اذا كان قرار السيد بوش سيقع أم لا أو أن استنفار القوات ألأمريكية في خليج العرب في حده ألأعلى ام مازال عند اللون البرتقالي فالحرب خارج حدود الزمن الذي تعدّه والوقت لاغيا في حساب المجانين .

حين يناقش خطة توزيع المنشورات يشعر انه قد تحرر من عقدة ألاحراج التي تجعله يداري نظراته حين يكون الحديث عابرا ، تتعلق عيناها به تنتظر منه ان يتكلم ،ربما لتمتحنه ، لكنه يفقد القدرة على المواصله ،يداخله شيء من الارتباك وتهرب الكلمات في صحراء يسكنها صمت على مد البصر ، في الغد قد تتغير مسارات على خرائط متداخلة وربما لن يكون موجودا ، عاد ثانية الى مساحة الحلم الذي يرف في مخيلته حيث تقف بوجهها الوردي تشع منه براءة عذبة فيغض عينية ، كانت امه تناديه (( قمر المدينه )) جعله ذلك يشعر بإحساس دافئ بالرضا ولكن النظرات الوقحة والساخرة في عيون زملائه في المدرسة دفعته الى الانكماش ، احتج ولكن أمه اخذته في حضنها وقبلته , داخله إحساس دافئ فاستكان، ظل يشعر بخجل وهو يتعامل مع الفتيات في السوق ، سحب الغطاء على وجهه فقد تسللت الى عنبر النوم دفقات من هواء بارد ،
قال اشرف ، هل ستنام ؟ الليلة لن تتكرر ، انه التاريخ بكل عنفوانه ومآسيه وامجاده الأسطورية الكاذبة والحقيقية سيمر من هنا ولابد ان نكون مستيقظين لنراه فقد نكون شهودا على من يذهب وعلى من يأتي !
لم يرد فقد شعر بخوف يداخله ورجفة البرد تفزع طائر الحلم الذي ضاع في الظلام ، ماذا يفعل أبوه ألآن ؟ اعتاد منذ سنوات ان ينام بعد صلاة العشاء ليصحو مبكرا يشغل( مضخة) الماء ويطعم الدجاج ويجني المحصول ويوضّبه، تذكر وجه أمه بعينيها المتفحصتين ولكن نظراتها كانت تفيض حبا، كانت تقول له وهو يستعد للذهاب الى السوق (محروس بسور سليمان من عين كل النسوان ) مما دفعه الى التأكد اولامن ان عيون المرأة التي تتعامل معه لا تحسد ، لم يشك يوما بعيون الذكور ففي اعماقه شك حذر من الأنثى لأنها تحمل في طبيعتها الحسد ، كل ثرثرات النسوة وهن عند عربته عن زميلاتهن وتشوب أحاديثهن اما روح الحسد أو التشفي !!

في البيت وفي المزرعة كانت أمه تدور بأيقاع يومي متكرر يحمل ذات النهج، صباحا تجمع أواني ألأفطار، ثم تذهب الى حيث أبيه قد جمع الخضروات تغسلها وتوضبها ثم تذهب الى قاعة الدواجن الصغيرة ، لم يهتموا بالقديد او بالجبن لأنهم بلا سرداب ، في منتصف الصيف كان الوضع مختلف اذ يشتري أبوه كمية من القمح من الفلاحين على طريق الشرقاط لتنشغل به مصنعة الجريش والحبية، حيث لايخلو بيت في الموصل منهما وفي الليالي الباردة كانت تشوي عروق التنور ، ولكن ذهابها المبكر ترك غمامة من الحزن الدائم وانقطعت الحبية والجريش وعروق التنور ولم يذهب في الربيع الى بير البنات ولم يحضر الاحتفالات عند مرقد الإمام قضيب البان ،

عبرت قطرات المطر، الذي بدأ رذاذا ، الثقوب من الشباك الكبير عند سريره، قال اشرف ، لقد انضم الى الحركة زملاء جدد وربما سيكون اجتماعنا والحرب تنشر الخراب ، سنتوسع ، الحركة نتاج طبيعي لوضعنا ، انها تعبير عن أزمة حقيقية ، لقد اعجبني تعبير فوزي وهو يشبه الحركة بصعود المد في أانهار البصرة كلما تعالى القمر ، حركتنا ستتصاعد كلما تكشفت المأساة أكثر وكلما ارتفع سخط الناس على هذا الواقع ،لم يقل له ان هذا التنظير هذه الليلة ليس إلا أحلام نوم متقطع فهي لاتكتمل ولا تكشف النهاية ، هل يسأله ماذا سيفعلون اذا ما وقع الهجوم الجوي الأمريكي ،بالتأكيد ليس أمامهم مهمات قتالية ! فالصواريخ لاتقاوم بالكلاشنكوف ولا حتى بالرباعيات التي تحيط بالمعسكر، قال مسؤول التوجيه السياسي ، القيادة اعدت خطة متكاملة لمواجهة ألأعداء ، ولكن ماهي ؟ وكيف ؟ ، ربما سيتركون المعسكر فالمدينه المهملة على خط التماس مع ألكرد بدت منذ أكثر من اسبوع فارغة والشاحنات التركية التي كانت تنتقل الوقود قد اختفت واصحاب الأكشاك والمهربون وباعة المشروبات الغازية لم يعد لهم وجود، بدت المدينة التي كانت تضج بالحركة مهجورة تسود اجوائها وحشة مترقبة والصمت يتمدد في الليل ، حتى الجنادب لم تتكلم مع بعضها الليلة ،ولم تعبر السماء طائرات مغيرة، ربما سينطلق الجميع بحفل الموت القادم وسيمزق الفراغ المخيم تراكم الخوف الأنساني عبر شلالات الجنون والعبث ولن يكون الفراغ الذي شرحه فوزي أكثر من مساحات فارغة و سيكون ضاجا وفوضويا الى الحد الذي قد تمتنع فيه الرؤية وتتبادل المواقع ولايعود الحديث بهذا الصفاء الحالم برغم لهجة الصدق التي يتمتع بها فوزي عادة .


صرّ باب العنبر بأنين موجع وكأنه يستبق الزمن بنواح جنائزي وخطت ثلاثة اشباح لم اتبينها في العتمة بعد ان أعدت الغطاء الصوفي الذي كنت قد جلبته من البيت والذي كان مركونا على صندوق خشبي في غرفة أبي ، منذ ان بدأت أاستوعب ما في البيت،كان هذا الغطاء بالوانه الزاهية ودفئه اللذيذ مفرودا على سرير والدي , قال ابي لقد حاكته امك في فترة الخطوبة ، حين سألته ولكن هل امتدت طويلا ، قال نعم، لقد أخذوني من الشارع مساء يوم صيفي قائظ الى معسكر الجيش الشعبي في فايدة، قال مسؤول القاطع انكم تدافعون عن اعراضكم التي ستتعرض للانتهاك اذا مادخل الجيش ألإيراني .

توقف الثلاثة وسط العنبر وصاح القصير فيهم ليستيقظ الجميع ، كيف تغمض عيونكم وجيش بوش اللعين سيهاجم الليلة ؟ اين غيرتكم العربية ؟ كان النائب ضابط في التوجيه السياسي وعلى الرغم من اللهجة ألاحتفالية كان صوته اجوفا كأنه صدى ينزلق على الجدار الطيني الذي يمتص منه مخارج الحروف،

قال اشرف : الراحة تولد العزيمة ونحن منتصرون بهمة القائد !!
: بارك الله فيك !
قال صوت أجش خافت يحمل ايحاء بانه لشخص مهم وإنه لولا الضرورة لكان الآن في أحضان دافئة مسترخيا ،
: يجب الانتباه فالليلة يصنع التاريخ العربي طريقا جديدا للأمة

توقف عن الاسترسال فقد دوى عصف وحشي هائج اجتاح سكون الليل والصمت المريب المتمدد في الكون حولنا ،
: الى الملاجئ
صرخ ضابط صغير كان قد دخل مرتاعا الى العنبر
قال أرشد : وهل ستحمينا الخنادق؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا