الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استلهام قصص ألف ليلة وليلة فى مسرح رأفت الدويرى

ابراهيم حجاج

2018 / 7 / 3
الادب والفن


تشكل الحكاية الشعبية المحفوظة لنا، - بفضل التدوين خلال كتب التراث، أو من خلال التواتر الشفاهى عبر الأجيال- جزءًا مهمًا من تراث الشعب، ومصدرًا ثريًا استقى منه "الدويرى" مادة نصوصه الثلاثة "حالة غثيان" "متعلق من عرقوبه"، "سندباد فضائى"، التى استوحاها من قصص السندباد البحرى فى تراث ألف ليلة وليلة. تجرى أحداث مسرحية "حالة غثيان" أمام بحر ممتد إلى اللامتناهى، أمواجه تتلاطم فى وحشية، تدور المسرحية فى خمس لوحات تبدأ بكابوس ينتاب السندباد مما يجعله يطلق صرخات هيسيترية (اختنق... أفكارى.....تاريخى....أمجادى)، مما يوحى بأن اللوحات المسرحية التى ستتلو تلك الافتتاحية، ليست سوى عرض بانورامى لتاريخ السندباد، وأمجاده وكبواته؛ وفجأة نجد السندباد منكمشًا فى وضع جنينى، وما يلبث أن يعتدل من رقدته بحماس، ليركع خلف منظاره، ويحركه فى الظلام المحيط به إلى أن يستقر على اللوحة الأولى، حيث يرى عجوزًا متصابية تتربع على كرسى عرش هزاز متوحش تدندن بأغنية سوقية، وقد حرص الكاتب على رسم صورة سيريالية لتلك العجوز فوصفها بأنها "مترهلة الأرداف والأثداء، مكياجها صارخ مبتذل، فوق رأسها تاج من الأشواك، وحول عنقها ومعصميها أساور شوكية"،( ) ولم يبعد كرسى العرش عن هذه الصورة فهو "مصنوع من أشواك متوحشة ملطخة بدماء جافة وقوائمه الأربعة على شكل خناجر، أما ظهره فعبارة عن مجموعة من المقصات الضخمة المنفرجة والمتداخلة."
لقد استقرت شخصية "السندباد البحرى"، فى وجداننا العربى الجمعى منذ طفولتنا، بالفتى المغامر المحظوظ، الذى يخوض المغامرات المدهشة بما فيها من خيال ومشاق وصعاب، منطلقًا من بغداد الحلم؛ ليعود إليها، وهو يواجه فى رحلته المردة والجنيات وحوريات البحر فى الجزر النائية، ثم يعود ظافرًا محملًا بالذهب الذى يحيى اقتصاد دول كاملة، تلك هى النهاية السعيدة التى اعتدناها فى قصصنا العربية، لكن سندباد "الدويرى" اتخذ أبعادًا مغايرة، ودلالات معاصرة، فهو رمز لكينونة الذات المبعثرة للمواطن العربى، وهنا تصبح العجوز المتصابية رمزًا للحياة بكل قسوتها ووحشيتها، التى تصدم السندباد فى كل لوحة وتصيبه بحالة من الغثيان بينما تغرق هى فى ضحكات هيستيرية.
فى اللوحة الثانية يبدأ الكاتب فى عرض أول مرحلة فى تاريخ الإنسان العربى، وهى حياة البدائية، فنرى العجوز المتصابية، وقد أمسكت بحبل معلق فى رقبة الشاب القرد، وهو شاب فى الثلاثينيات من عمره، يشبه السندباد فى شبابه، ويعرض الكاتب فى هذه اللوحة الأصول البدائية للإنسان، أما الحبل الذى تتمسك به العجوز فهو رمز للحبل السرى الذى يربط الإنسان بأسباب الحياة، يصدم السندباد ثانية وتصيبه حالة من الغثيان، وما يلبث أن يفيق ليتخذ الوضع الجنينى، ويعاود النظر فى منظاره لتبدأ اللوحة الثالثة، وفيها نرى العجوز بملابس الزفاف البيضاء، وقد تدلت قدماها الحافيتان ليحتضنها الشاب نفسه مرتديا حلته السوداء فى دلالة على مرحلة تطور الإنسان العربى، وبلوغه ذروة أمجاده بانتقاله من مرحلة البدائية إلى مرحلة التزاوج والتصالح والتفاهم والتكيف مع الحياة، ويتكرر غثيان السندباد مع تعالى ضحكات العجوز، ثم يتخذ وضعًا جنينيًا من جديد، وينظر فى منظاره ليرى اللوحة الرابعة وفيها تقبض العجوز بأسنانها على سيجار أمريكى ضخم، بينما يرقص الشاب تحت قدميها رقصة وثنية، وقد تحولت أصابعه إلى عشر شموع مشتعلة، فى دلالة على حالة تردى الوضع العربى أمام الهيمنة الأمريكية، وللمرة الرابعة تصدم اللوحة السندباد وتصيبه بحالة من الغثيان، لتبدأ اللوحة الأخيرة وفيها تقف العجوز المتصابية على حطام كرسى عرشها، وهى ترقص رقصة التعرى (الاستربتيز) فتخلع ملابسها قطعة بعد قطعة، حتى تصبح عارية تمامًا، فتبدأ فى خلع أجزاء أسفنجية من جسدها، بينما يرقص الشاب القرد والشاب العريس والراقص الوثنى على إيقاع أغنية شعبية تتغنى بجمال العجوز التى تسرع فى اتنزاع شعرها المستعار لتكتشف أنها تشبه السندباد فى مرحلة الكهولة، وهنا يقفز السندباد ككرة مشتعلة، مواصلا صرخاته المجنونة (افكارى ... احترق... خيالى .. احترق.... ذاكرتى ... احترق.. أمجادى ... أحترق)" ( )، مع ارتفاع الضحكات الساخرة للعجوز المتصابية.
لقد أراد السندباد استعادة ذاكرته، واستحضار تاريخه الذى هو فى حقيقة الأمر، تاريخ الإنسان العربى، فإذا به تاريخ دموى صاخب.
أما مسرحية "متعلق من عرقوبه" فيصفها الكاتب "رأفت الدويرى" بأنها "مسرحية تجريبية طويلة، تمثل رحلة داخل الإنسان المعاصر، رحلة روحية، رحلة الجهاد الأكبر للإنسان للنهوض والخروج من هوة سقوطه للصعود إلى ذروة قمة جبل النار، جبل الجهاد الأكبر"
المسرحية عبارة عن متتالية رؤى مسرحية فى شكل سلسلة أحلام وكوابيس تتوالد ذاتيًا يعيشها السندباد المعاصر.
تبدأ المسرحية بمدخل واقعى فى حمام شقة "وحيد" الذى نجده قابعًا داخل بانيو يفيض برغاوى غزيرة، بينما زوجته "وحيدة" تطالبه بالإسراع فى إنهاء حمامه ليستعد لاستقبال ضيوف عيد زواجهما، ويغوص وحيد داخل البانيو، للولوج إلى عالم أحلامه، والانتقال من عالم الواقع إلى عالم الخيال. تبدأ الرؤية الأولى، وفيها يجد "وحيد" نفسه بملابس سندبادية على شط صخرى على حطام سفينة بحرية، ينظر فى منظاره السندباوى، ليرى العجوز المتصابية بضحكاتها الساخرة، تلق ساقيها حول عنقه، وتراقصه يمينًا ويسارًا.
وتتوالى الرؤى لتستعرض حياة السندباد عبر تاريخ مشحون بالقهر والإحباطات التى يتصدى لها بكل ما أوتى من قوة ففى أحدى الرؤى نراه راكعًا أمام العجوز المتصابية فى خشوع وجلال طقسى، بينما نراه فى رؤية أخرى استعاد وعيه وخالف رغبتها والتهم ثمرة المعرفة التى سقطت عليه من السماء وفى رؤية ثالثة يقف أمام محيط مائى وقد جف وتجمد وتصخر حتى التمعدن، بحيث أصبحت المياه عبارة عن سلسلة من نتوءات صخرية، تتجمع تدريجيًا على شكل جبل معدن ملتهب، هرمى الشكل إنه جبل النار، وفى بؤرة سرته تمامًا تصطدم مقدمة قارب هش فى مهب الريح به ملاحون سبعة، فى محاولة انتحارية عبثية لاختراق بطن الجبل، يحاول السندباد تسلق الجبل، تتجاذبه صعودًا وهبوطًا قوتان متضادتان، وحيدة من أعلى والعجوز المتصابية من أسفل، فى دلالة رمزية على صراع الإنسان بين تقاليد الماضى الرجعية وبين رغبته فى التحرر من تلك القيود.

"وحيد: (فى ذروة الحيرة) طالع ولا نازل؟ نازل ولا طالع؟
وحيدة: لفوق
العجوز المتصابية: لتحت
وحيد: لفوق ولا لتحت؟
العجوز المتصابية: لتحت
وحيدة: لفوق
وحيد: ماعدتش عارف فوقى من تحتى."

وينتهى به التجاذب بين القوتين المتضادتين بالانزلاق حتى قاع السفح؛ حيث العجوز المتصابية وقد انحشرت رأسه فى صدرها المترهل وهنا يندفع الملاحون السبعة إلى كرسى عرش العجوز وفى ثورة عارمة ينتهكونه بتجريده من كل أدوات القهر المعلقة به والتى تشكل ظهره وجانبيه من سهام وسيوف وحراب ومقصات وغير ذلك.
ويعود بنا الكاتب فى الرؤية الأخيرة إلى المدخل الواقعى، داخل حمام شقة "وحيد" ومن أسفل سطح البانيو تندفع رأس "وحيد" وقد اختنقت أنفاسه حتى اللهاث، وجحظت عيناه ذعرًا كهارب من الحجيم، ثم يغمغم بصوت مرتعش: " يا ساتر يا رب ... خير اللهم أجعله خير .. كابوس .. فظيع .. رحلة من جحيم لجحيم .. وبالعكس."
تدريجيًا تهدأ ألنفاسه، فيعاود الارتكان بمؤخرة رأسه على حافة مقدمة البانيو، يغمض عينه وتدريجيا يروح فى نوم عميق، يرتفع شخيره، نسمع دقات مرتفعة على باب الحمام، وإذ بزوجته "وحيدة" تستعجله لإنهاء حمامه لاستقبال ضيوف عيد زواجهما، وفجأة يفتح باب الحمام وتندفع الزوجة تحمل تورتة عيد الزواج ومن خلفها الضيوف، هنا يصرخ "وحيد" متحديًا "الأبيض أبيض والأسود أسود، الخير خير والشر شر ....."
يدفع الضيوف والزوجة "وحيد" بأجسادهم ليسقط داخل البانيو لإسكات صوت المعرفة بإغراقه، مع ارتفاع أغنيتهم الجماعية احتفالًا بعيد الزواج. وهنا تنتهى المسرحية بنظرة تشاؤمية يستبعد فيها الكاتب الحلم بالثورة والتغيير فى ظل هيمنة قوى الرجعية والاستبداد.
لقد عاد "الدويرى" فى مسرحية "متعلق من عرقوبه" إلى التراث العربى؛ ليستخرج من طيات كتاب ألف ليلة وليلة السندباد البحرى ويطرحه أمامنا فى ثياب عصرية، يرتدى الجينز والقميص الأفرنجى؛ ليتجسد من خلاله صورة الإنسان الباحث عن خلاصه، عن طريق الإبحار داخل النفس، ومجاهدة قوى الشر الكامنة فيها التى تمثلها العجوز المتصابية بكل ما تمثله من قهر وسلب للإرادة.
أما مسرحية "سندباد فضائى" فتدور أحداثها داخل قاعدة فضائية، حيث تجرى -فى همة ونشاط- الإعدادات الدقيقة النهائية لإطلاق صاروخ يحمل مركبة فضاء، تزدحم القاعدة بأجهزة الإعلام المحلية والعاملية، الصحافة بفلاشاتها المتلاحقة، والإذاعات المسموعة والمرئية بميكروفوناتها وكاميراتها. المسرحية عن تعليق من مذيع بالراديو ومذيعة بالتليفزيون، تصاحب هذا التعليق ترجمة إنجليزية لمذيعة من القمر الصناعى حول انطلاق السندباد المعاصر داخل المركبة والفضائية ليعتق نفسه من عبودية الأرض.
"الراجل الراديو": المركبة الفضائية انعتاق ستعتق سندبادنا المعاصر من عبودية الأرض لينطلق."

ويعود الكاتب ليشبه تلك الحياة التى تستعبد السندباد بالعجوز المتصابية.

"المرأة التليفزيون: للانطلاق انطلاقًا منطلقًا من لزوجة ومادية دنياه ... دنيانا العجوز المتصابية."

ويحدد "الدويرى" الهدف من تلك الرحلة، وهو الانطلاق لعالم عصرى حضارى متقدم بدلًا من الاكتفاء بالتغنى على أمجاد الماضى الغابر.
ويصف الكاتب الكوكب الذى سينطلق إليه سندباد بأنه كوكب التكامل والتحرر والتوحد والتفرد والتوازن وكأنه يعبر عن طموحاته وآماله، لما يجب أن يتطلع إليه المواطن العربى الجديد.

"الرجل الراديو والمرأة التليفزيون": (معا فى نفس الوقت) انطلق المنطلق انطلاقا منطلقا ليحقق
(الواحد بعد الآخر على التوالى)، الانطلاق المنطلق، التحرر
المتحرر، التكامل المتكامل، التوازن المتوازن، التوحد المتوحد،
التفرد المتفرد."

وهنا تظهر رأس السندباد هابطة ببطء شديد من سماء السوفيتا، ثم كتفاه، فجذعه العلوى، ثم جذعه السفلى، وأخيرا ساقاه، وقدماه، حتى يبدو وكأنه (معلق من عرقوبه)، يضع السندباد – فى غرور وشموخ – ساقه الطليقة على ساقه الحبيسة المقيدة، وقد عقد ذراعيه خلف ظهره متخذًا الوضع النابليونى الشهير، وعلى وجهه شبح ابتسامه بلهاء، ووجهه كقناع جامد. يستمر السندباد فى الهبوط إلى أن ترتطم رأسه بالأرض، يتكوم جسده فى وضع جنينى، تنقض عليه فلاشات الصحافة وكاميرات التليفزيون مع انطلاق صرخات جنين حديث الولادة مع محاولة السندباد للتقيؤ بلا قئ فعلى إلى أن يفقد وعيه، فى دلالة رمزية من الكاتب على فشل محاولة المواطن العربى للوصول إلى طموحاته فى العتق من عبودية الحياة وقيود أفكارها الرجعية، فالمسرحية رحلة فضائية للنهوض بالعرب للخروج من هوة السقوط والصعود إلى ذروة التقدم والرقى، وارتطام رأس السندباد بالأرض، ما هو إلا معادل تشكيلي لارتطام الأفكار التقدمية التى اكتسبها فى رحلته الفضائية بأرض الواقع الرجعى، مما يؤدى إلى إصابته بحالة من الغثيان، أما صرخات الجنين حديث الولادة فهى شعاع أمل يطلقه الكاتب للحلم بمستقبل أفضل، وهو ما يؤكده تعليق المذيعين على هذا الحدث فى نهاية المسرحية.

"الراجل الراديو والمرأة التليفزيون: (معًا فى حماس وتهليل) بداية صحوة مرصودة."

يرى الباحث أن النصوص الثلاثة (حالة غثيان – متعلق من عرقوبه – سندباد فضائى) تشكل ثلاثية متكاملة – وإن لم يصرح الكاتب بذلك – خاصة وقد تم نشرها فى مجلد واحد، وتتمثل البينة الفكرية للمسرحيات الثلاث فى الدعوة إلى تحرير التراث الإنسانى، من تركة دلالاته الرجعية الثقيلة بتقاليدها وأفكارها البالية التى تعوق تقدم المواطن العربى ممثلًا فى السندباد – وتجعله لقمة سائغة فى فم الغرب الذى من مصلحته أن يظل قابعًا تحت مظلة الفكر العقيم. وتحويل هذا التراث من حجر عثرة فى سبيل التقدم إلى سلاح من أسلحته.
إن تحرير الإنسان وتحويله إلى طاقة ثورية هو الهدف السامى الذى يضئ مسار "رأفت الدويرى" فى كتاباته لهذه النصوص لتحقيق الرغبة فى التحرير من قوالب الفكر الجامد والتفتح على آفاق المعرفة الحديثة، التى تمثلها الثمرة الغامضة فى نص "متعلق من عرقوبه."

"العريس الشاب: نار المعرفة ولا جنة الجوع والجهل.
العجوز المتصابية: استنطقوه ... خلوه يستنطق كل اللى فى جوفه."

من اللافت للنظر أن المادة الأكثر تواترًا فى نصوص "الدويرى" هى التراث الشعبى بكل ما يحويه من شخصيات وحكايات وأغان شعبية وأقوال مأثورة ... ألخ، وأهم ما يبدو فى هذه المادة هو تعبيرها عن كل ما له علاقة بالتغيير فى مواجهة القوى الظلامية، وقد استمد "الدويرى" مادة هذه النصوص الثلاثة من حكايات السندباد البحرى، تلك الشخصية التراثية العربية، التى أخرجها الكاتب من قصص "ألف ليلة وليلة" ليلبسها ثوب جديد معاصر. كما نجد أن الأمثال والأقوال الشعبية المأثورة من أكثر الجمل جريانًا على ألسن شخصياته بوصفها أقوالًا موجزة تلخص التجارب الفردية للإنسان. وقد استطاعت أن تتخذ لنفسها محورًا أساسيًا يعكس ثقافة المواطن العربى، وحياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومدى تطورها، لذلك كان من الطبيعى أن تترك بصماتها على نتاجه الأدبى، فهى لا تقل خصبًا وثراء ودلالة عن أى محور تراثى شعبى آخر، وفى مقدمة تلك الأقوال المأثورة تأتى جملة (متعلق من عرقوبه) – فى النص الذى يحمل العنوان ذاته – وهى قول شعبى شائع أفرزه لا شعورنا الجمعى، ليعبر فلسفيًا عن المصير الإنسانى منذ ميلاده حتى مماته، "فضلًا عن أنه رمز ميثولوجى شائع من الرموز المرسومة على أوراق كوتشينة التنبؤ بالمستقبل (التاروت (Tarrot والتى تمتد جذورها إلى رسوم ورموز فرعونية أيضًا، وكانت تستخدم للتنبؤ بمستقبل الإنسان، وقد أصبح هذا القول على مر التاريخ، رمزًا ميثولوجيًا يعبر عن حقيقة الوضع الإنسانى، عن مأساة مصيره خلال رحلة وجوده منذ ميلاده حتى مماته".
ولم يكن انتقاء "الدويرى" لبعض الأمثال والأقوال الشعبية التى وظفها فى نصوصه اعتباطيًا، بل بشكل واع يخدم الرؤية الفكرية، مثل (سبع صنايع والبخت ضايع) التى جاءت على لسان القرد البشرى فى النص ذاته تعبيرًا عن يأسه من وضعه الراهن، كما جاء المثل الشعبى (شرف البنت زى عود الكبريت) على لسان العجوز المتصابية فى محاولة منها لاستمالة السندباد، وتشكيكه فى تورطه فى علاقة آثمة معها، لإجباره على الزواج منها. كما تواترت فى هذا النص بعض الأمثلة التى تم توظيفها لتحفيز إرادة السندباد، وشحذ قدرته على مواجهة العجوز المتصابية مثل (اللى ترشك بالمية رشها بالدم)، و(قبل ما تتعشى بيك اتغدى بيها)، (خلاصك فى رأسك).
كما لجأ "الدويرى" فى بعض الأحيان إلى توليد صيغة لغوية لها الهيكل البنائى للمثل الشعبى، منها ما ورد على لسان العجوز المتصابية (هى حصلت ترفع عينيك عن حواجبك" على أنا يا سندبادى)، بكل ما تحمله الجملة من صيغ التهديد والوعيد.
كما وظف الكاتب "رأفت الدويرى" شخصية "نافخ القرية" – فى نص "متعلق من عرقوبه" – وهى شخصية تراثية فلكلورية من مظاهر العرس الريفى، حيث يمر بقريته المزينة ليسقى المدعوين، وقد جاءت على لسانه بعض الأمثال والأقوال المأثورة، منها ما يحمل طابع التحذير (اللى متغطى بيها عريان) ويقصد هنا العجوز المتصابية، ومنها ما يحمل طابع السخرية (كنتى فين يا لأ ... لما أنا قلت الآه) وهى الجملة التى كان يختم بها كل رؤيا ساخرًا حزينًا على استسلام السندباد لقوى الرجعية والاستبداد. كما استلهم الكاتب فى اللوحة الثانية من نص "متعلق من عروقوبه" شكل المولد ومظاهره الاحتفالية من ذكر وآكلة نار وحواة وقرداتية، ليقدم من خلاله معادلًا تشكيليًا لمرحلة البداوة. والخضوع البشرى للطبيعة المتوحشة.

"العجوز: عال عال يا ميمونى ودلوقتى فوت على البهوات الباشوات ولم الغلة
(القرد البشرى وقد سلمته العجوز دفها يلف على الجمهور الملتحف حولها)
(جموع المولد معدومون ومن ثم يدفعون للقرد مجرد حركات ساخرة تعبر عن الفقر والعوز وضيق
ذات اليد".

كما حاول "الدويرى" التقرب إلى المتلقى عن طريق توظيف التراث الدينى الذى يجد صدى وقبولًا حسنًا لديه، بوصفه مكونًا أساسيًا من مكونات تفكيره يرتقى إلى مستوى القداسة إلى حد بعيد، وقد استلهم الكاتب فى نص "متعلق من عرقوبه"، قصة بداية الخلق، وأكل سيدنا آدم (عليه السلام) للثمرة المحرمة، وعقابه من الله (سبحانه وتعالى) على ذلك بخروجه وزوجه من الجنة.

"وحيد: (تهبط الثمرة الغامضة لتلتصق بفمه يهم بقضمها لكنه يتراجع) لا ... حرا ... مشى... حرام ... حرامشى ... حرا... أكيد حرام ... وبعدين معاكى يا مصارينى ... بلاش تطرف فى النباح بتاعك لتحصل جدو آدم وتيته حوا ... أهل السماح يطردونا (يصرخ) من جنة الهنا اللى إحنا فيها ... أى ... أيه... نار التفاح ولا جنة الجنة؟ كفر ... إلحاد حرام".

وقد أفسح التوظيف السابق لقضية تفاحة آدم الطريق لتجلى العلاقات الخفية بين (نار التفاح ولا جنة الجنة) وبين (نار المعرفة ولا جنة الجهل) فى تشبيه تصويرى لثمرة التفاح بثمرة المعرفة، التى يتطلع بها البشرية إلى مستقبل أفضل وأرقى. وعلى هذا كانت هناك مجموعة من القواسم المشتركة تجمع بين المواد التراثية الشعبية التى استخدمها "الدويرى"، وهى:
1- تعبيرها عن عدم الرضا عن الوضع السائد.
2- محاولتها تغيير هذا الوضع والعمل على تعديله فى أقل الاحتمالات.
أما بالنسبة لعناصر التجريب، فقد تبنى "الدويرى" فى بناء نصوصه أسلوب التمسرح الصريح الذى ينتمى إلى تيار الحداثة، فوظف المكان لا كمجرد خلفية أو إطار محايد يمكن تغييره وتبديله دون أن يتأثر المعنى، بل هو تشكيل بصرى فاعل، ومحيط رمزى ينظم دلالات العرض، ويبرز الصراع الأساسى، ويعكس بنية العلاقات الدرامية بين الشخصيات.
وقد اعتمد الكاتب فى نص "حالة غثيان" على مسرح الصورة؛ فهو يرى أن "لغة الصورة هى أكسير الحياة للمسرح، ومصل الإنعاش والإنقاذ من موات مقدر، بفعل منافسة عصرية غير متكافئة مع فنون الصورة المتحركة من سينما وتليفزيون وفيديو، لذا يعتبر الصورة المسرحية بوصلة استكشافاتنا فى العالم الداخلى للإنسان والمسرح"
إن أول ما يستوقفنا على هذا المحور، هو كثرة الإرشادات المسرحية فى هذا النص، وفعاليتها الواضحة فى بناء معناه، "فالإرشادات المسرحية عند الدويرى ليست عاملًا مساعدًا، يمكننا الاستغناء عنه أو ببديله، دون أن تتأثر المسرحية، بل هى عنصر أساسى فى عملية إنتاج الدلالة"( )، وتعد مسرحية "حالة غثيان" نص بلا حوار ماعدا كلمات قليلة متكررة تتلفظ بها السندباد بين الحين والأخر مثل (أخ ... تنق ... أخ ... تنق ... أفكارى ... أخنتق ... تاريخى ... اختنق .... أمجادى بـ ... اختنق)، أما العجوز المتصابية، فلا يصدر منها سوى ضحكات ساخرة وأغنية سوقية تدندن بها.
وامتدادا لاتجاهات الكاتب فى رفض الواقعية والتمرد عليها، استند "الدويرى" على أفكار "أنتونان أرتو" Antonin Artaudالذى انطلق من مفهوم تحريض طاقة العنف أو غريزة العدوان داخل نفس الإنسان نحو صياغة نظريته التى عرفت باسم (مسرح القسوة)، تلك النظرية التى يستعيد بها المسرح طقوسيته من خلال الصورة التى تمتزج فيها الشاعرية بالوحشية والمتيافيزيقا بالخلاص، رغبة منه فى تطهير المتفرج من الأقنعة الحضارية الزائفة، ومن أسر المدنية وطغيانها وقسوتها على روح الإنسان".
حيث يرى "أرتو" أن إنسانية الإنسان لن تتحقق إلا بإطلاق العنان لرغباته الفطرية، وعواطفه البدائية الخشنة، مثل الخوف والحب والحنين والشهوات، ومن هنا رأى "أرتو" ضرورة تقليص نفوذ الكلمة من التجربة المسرحية، وإفساح مجال أكبر لفنون العرض المسرحى، ومن خلال تلك النظرية خلق "أرتو" لغة مسرحية جديدة تقوم على جماليات حركة الجسد الإنسانى، وعلاقته بالفضاء المسرحى، والضوء والموسيقى والغناء، حيث يمكن من خلال امتزاج هذه العناصر توليد دلالة جديدة لا تتوسل بالكلمة المنطوقة، ولكنها تقدم المعنى الكامن وراء اللغة اعتمادًا على المعنى الحركى للجسد الإنسانى باستخدام الإيماءة والحركة الجسدية وكانت هذه الأفكار هى المصدر الذى استقى منه "الدويرى" فكرته حول دلالة الصورة المسرحية والتأكيد على العناصر المرئية فى العرض المسرحى، إلى جانب إبراز عناصر العنف والتوحش ممثلة فى شخصية العجوز المتصابية، بكل ما تحمله من دلالات قوى القهر والرجعية وذلك فى نص "حالة غثيان"، و "متعلق من عرقوبه"، كما سيتضح فيما بعد.
كما تستلهم النصوص الثلاثة فى مجموعها روح المسرح الرمزى، حيث أفرط "الدويرى" فى استخدام الرمز، حتى بدت الأرضية التى تتحرك عليها النصوص أشبه بغابة كثيفة من الرموز، وضرب من الرياضة الذهنية؛ فالشخصيات رموز وظفها الكاتب للاستدلال على مراحل تطور المواطن العربى، كما جسدت بعض مفردات الديكور، الإكسسوار دلالات سيكولوجية مختلفة: كالسيجار الذى رمز إلى أمريكا، وكرسى العرش المتوحش وما تزين به من مقصات وحراب وخناجر، والتى شكلت فى مجملها معادلًا تشكيليًا لأدوات القهر والاستعباد، كما دلت الثمرة الغامضة على ثمرة المعرفة، وكذلك جبل النار الذى أوحى بدلالة الطريق الوعر لبلوغ قمة تلك المعرفة، كما حمل نص "متعلق من عرقوبه"، أصداء المدرسة التعبيرية، "بوجود شخصية رئيسية واحدة، تستأثر بالاهتمامات كلها، لأنها غالبًا ما تكون بوق المؤلف، بينما الشخصيات الأخرى تسبح فى جو ضبابى"( ). وتمارس أفعالا مهوشة غير مترابطة أشبه بأفعال الحلم، "حيث تبدأ المسرحية وتنتهى بمشهد واقعى، بينما تمثل بقية المشاهد مجموعة من الأحلام (الكوابيس) ، التى تعيشها شخصية السندباد معبرة عن مراحل تطوره ورحلته الشاقة نحو هدف روحى سام، من خلال سلسلة متتابعة من اللحظات المتصاعدة، والقمم الدرامية تتداخل فيها الواقعية والرمز والحلم، مما يخلق مستويين فى الطرح، هما المستوى الواقعى والمستوى الخيالى، يتوغل الكاتب من خلالهما داخل النفس البشرية ليخرج مشاعرها الحقيقية تجاه حال المواطن العربى فى ظل واقعه المرير.
كما استلهم الكاتب تقنيات المسرح الملحمى، واهتدى بفكرته عن طبيعة المسرح، ودوره السياسى، وقد تمثلت ملامح الملحمية فى استخدام اللوحات المستقلة المنفصلة. وإذا كانت بنية النصوص الثلاثة الفكرية، تتشكل وفق مبدأ الازدواج والتناقض، أى انقسام كل فكرة وعنصر من العناصر إلى سالب وموجب (خير وشر – استبداد وخضوع) فليس من الغريب أن نجد الآلية الفاعلة فى إنتاج الحدث المسرحى فى هذه النصوص هى التنكر وتوالى الأقنعة، فنحن أمام سلسلة من التحولات التنكرية فى الأدوار، حيث يتحول السندباد إلى (قرد بشرى – عريس شاب – راقص وثنى)
وتصل آلية التنكر إلى ذروة نشاطها عندما تتحول العجوز المتصابية بعد أن تنزع أجزاء جسدها المترهلة إلى سندباد فى مرحلة الكهولة فى إشارة رمزية إلى أن الإنسان هو نفسه صانع قهره وتتوالى التحولات وتتولد من خلالها أحداث المسرحية ودلالتها وفق حركة تحول دائمة عن المستوى الواقعى إلى مستوى الوهم، فيتحول النص برمته إلى وحدة رمزية طقسية تعبر عن رحلة الإنسان وصراعه مع قوى الفكر الجامد وحلمه بالمعرفة والتغيير. ومن ثم يوظف الكاتب التقنية البيرانديلية (التمثيل داخل تمثيل) التى ظهرت بشكل جلى فى نص "حالة غثيان"، "متعلق من عرقوبه". حيث تقوم الشخصية بأكثر من دور فى ظل الحركة الإرتدادية للأحداث بين الواقع والوهم.
كما جاء نص "سندباد فضائى"، فى قالب بنائى أقرب للسرد، فالمسرحية كانت فى شكل تعليق إخبارى (تقرير إخبارى) على حدث (الرحلة الفضائية للسندباد)، وهو أقرب ما يكون إلى صوت الراوى الشعبى حين يسرد علينا الأحداث ويصفها فى روايته الشعبية.

"المرأة التليفزيون: سيداتى ... سادتى ... قد بدأت مرحلة الإشعال لينطلق الصاروخ عاملا مركبة الفضاء وبداخلها سندباد الفضائى الأول.
الرجل الراديو: سيداتى سادتى ... الليلة ... الليلة الكبيرة من قاعدتنا الفضائية الكائنة فى ... فى ... (بارتباك وحيرة)
المرأة التليفزيون: (للخروج من الحيرة) الكائنة فى مكانها الكائن
الرجل الراديو: فى ... فى ... فى مكانها السرى جدا جدا جدا ... معذرة سيداتى سادتى ألف معذرة ومعذرة لعدم الإفصاح غير المباح حتى قبل صياح ديك شهر زاد: الفلاح ... الفلاح ... يا ملاح"
يقترب السرد الوصفى فى هذا النص من شكل الرواية الشعبية التراثية القديمة، أو المسرواية الحديثة.
وقد لجأ "الدويرى" فى بعض الأحيان إلى التناص معتمدًا على إقتباس بعض الصيغ اللغوية من نصوص مسرحية أوروبية، ودمجها فى النص بشكل يتلاءم مع سياقه الفكرى؛ لإثارة وعى المتلقى الذى تتفتح ذاكرته لاستحضار هذا التركيب فى سياقه الأصلى، ومقارنته مع السياق الجديد، ونرى مثل هذا فى مسرحية "متعلق من عرقوبه"، حيث يقول وحيد (السندباد):

وحيد: اختيار حر لمستقبلى ... بمزاجى أنا لا بمزاج عمرو أقرر مصيرى ... أكون أو لا أكون ... تلك هى المشكلة".

ولم تخل النصوص الثلاثة من ملامح وجودية وعبثية على مستوى الفكرة ؛ حيث إن فكرة الغثيان فكرة وجودية نابعة من مواجهة الإنسان الحقيقى الوجه القبيح للوجود وقوته، وعدم القدرة على الخمود أمام مرارته، فيصاب بالغثيان مثل جميع أبطال "سارتر" Sartre.
كما يطرح "الدويرى" فى نص "متعلق من عرقوبه"، أحد الأفكار الفلسفية التى تأسست عليها الوجودية، لا ليناصرها، بل ليسخر منها، وهى فكرة حرية الاختيار المطلقة دون قيد أو شرط.

"وحيد: دلوقتى أنا مجعوص ... رجل على رجل ... وهات يا اختيار ... جوز بابى ومامى على الفرازة ... عايشين فى عصر ... فى زمن ... فى قارة ... فى عمارة ... لا فى فيلا اختارهم أنا ... أختيار حر ... بعد دراسة وتفكير... ويكده أبدأ رحلة وجود جديد فى جديد".
لقد خدم هذا الطرح السياق الفكرى للنص من خلال رد "وحيدة" التى تؤكد له أن موضوع إثبات الذات لا يتحقق باللجوء إلى فكر ملحد، بل بالثورة على الماضى، حيث التخلف والرجعية والسعى تجاه التغيير والتطوير.

"وحيدة: كفر ... إلحاد ... زندقة .... ليتك لم تكن ... المشكلة إنك للأسف بالفعل كائن موجود والرجوع لورا مبيحصلش إلا فى الأحلام والكوابيس، فى الشعر والمسرحيات مفيش قدامك غير قدامك ... اطلع قدام".

أما ملامح العبثية فتتضح فى لامنطقية الأحداث التى جاء معظمها خارج إطار الواقعية، بالإضافة إلى نظرة الكاتب التشاؤمية، حيث يرى الماضى مريرًا والحاضر أكثر مرارة ولا يجد أى أمل فى المستقبل كما تطل علينا" أسطورة سيزيف" بطاقتها التأثيرية من خلال شخصية السندباد الذى يبدأ كل لوحة فى النصين "حالة غثيان"، "متعلق من عرقوبه" بوضع جنينى، وينهيها بحالة من الغثيان، وهكذا دواليك، للتأكيد على معنى اللاجدوى، أحد شعارات المدرسة العبثية، والذى يأتى فى سياق النص ليؤكد على النظرة التشاؤمية للكاتب.
وبالرغم من أن هذه النصوص الثلاثة قد استلهمت فى مجموعها أكثر من اتجاه ومدرسة مسرحية معاصرة، بالإضافة إلى توظيفها لأكثر من محور من محاور التراث العربى الشعبى فإنها فى نهاية الأمر انفردت بأسلوب فنى خاص، لا يحاكى كاتبًا أو تيارًا بعينه، ويتوجه مباشرة إلى الأحاسيس الدفينة والوجدان الجماعى للبحث فى جرأة وشجاعة عن علاقة الماضى بالحاضر والوهم بالواقع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع