الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشرق أوسطية إذْ تعود مجددا: المسارات البديلة للعلاقات الاقتصادية بين العرب وإسرائيل

محمد عبد الشفيع عيسى

2018 / 7 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


بعد طول سبات، وبعد ربع قرن تقريبا أو يزيد، تطل "الشرق أوسطية" برأسها مرة اخرى. وهلّا نتذكر ما جرى أيام "حرب الخليج الثانية" عام 1991، والتي أطلق عليها البعض مسمّى "حرب تحرير الكويت"؟
أيامها عمل الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) على تجييش الجيوش وتجنيد الجند العرب، للالتحاق بالحرب، وشاع مصطلح "الربط"، أي الربط بين الدخول العربي في الحرب تحت مظلة " جامعة الدول العربية" وبين البدء بالتسوية السياسية ل (الصراع العربي الإسرائيلي).
ولم يكن بدٌّ من أن يقوم بوش الأب بجهد سياسي ودعائي كثيف في اتجاهين: أ-الدعوة إلى بناء "نظام دولي جديد" ردّا على انهيار الاتحاد السوفيتي، نظام يحل محل "القطبية الثنائية" التي استمرت زهاء نصف القرن التالي للحرب العالمية الثانية، عبر مرحلة "الحرب الباردة" بين القطبين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. ب- الدعوة إلى محادثات للتسوية بين العرب وإسرائيل، بعد انقشاع غبار معركة "الكويت". و بالفعل تم عقد "مؤتمر مدريد للسلام" عام 1991و الذي انتهى بمسار من خطّيْن: خط العلاقات متعددة الأطراف بين الدول العربية وإسرائيل، وخط العلاقات الثنائية بين إسرائيل و كل من الدول العربية المعنية على حدة وهي فلسطين والأردن ولبنان وسوريا. وسبقت العلاقات المتعددة العلاقات الثنائية، حيث عقدت سلسلة من المؤتمرات حول ما سمّي "التعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" من خلال "مؤتمر القمة الاقتصادي". و انعقد المؤتمر الأول بالدار البيضاء-المغرب- في 30/10-1/11 عام1994، و الثاني في عمّان-الأردن في 29-31/10 1995، ثم الثالث بالقاهرة في أكتوبر 1996.
صاحبت الحركة العملية للتعاون الاقتصادي بين العرب وإسرائيل –التعاون في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كما قيل- حركة فكرية عربية دائبة، كان أصحاب السهم الوافر فيها المثقفون، الذين هبّ فريق كبير منهم للتنبيه إلى أخطار إدماج الكيان الصهيوني في الجسم (الهيلامي) في منطقة "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، لتمييع الهوية و إذابة إسرائيل في الجسم الكبير. و ظلت المعركة الفكرية قائمة لا تريم طوال عقد زمني أو يزيد (1994-2004)، و أشعل أوارها إصرار الغرب بالقيادة الأمريكية على الدعوة إلى بناء "الشرق الأوسط" تارة، ليضم تركيا بصفة خاصة وبعض ما حولها، أو "الشرق الأوسط الكبير" تارة أخرى، عبر قوس ممتد من "إسلام أباد" إلى الدار البيضاء، وتارة ثالثة دعوْهُ "الشرق الأوسط الموسع" ليصل إلى إندونيسيا وجنوب شرق آسيا. وفي جميع الأحوال ظل الهدف الغربي الثابت هو هو: إدماج إسرائيل في كيان أوسع منها، لعله "السوق الشرق أوسطية"، لتلعب فيه دورا محوريا، سعيا في النهاية إلى طيّ صفحة فلسطين عبر الزمن.
ولكن لم تحقق الدعوة إلى الشرق أوسطية شيئا مذكورا، تحت ضربات الانتفاضة الفلسطينية الثانية-انتفاضة الأقصى والاستقلال- في سنوات مطلع الألفية، وتحت تأثير التغير الجذري في بنية السياسة الإسرائيلية، وخاصة بعد "اتفاق أوسلو" عام 1993 واغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، وفق اتجاه ثابت لرفض خيار (حل الدولتين) مقابل فرض خيار "الدولة اليهودية إسرائيل".
خلال الفترة من 2004 حتى 2010 سكتت مدافع الإيديولوجيا الهجين، المروّج لها باسم السوق و باسم الشرق الأوسط، حتى جاءت أحداث "الثورات" في تونس الخضراء و في ميدانيّ التحرير بالقاهرة وصنعاء، و أحداث "الربيع" المصنوع المصبوغ بالدم في ليبيا، وأحداث "الفجر الكاذب المتحول" في "قلب العروبة النابض". وقد جاءت لتطوي صفحة القعقعات المختلطة بغير سلاح، وشقشقات المثقفين، و انطوتْ معها صفحة الجدل حول التعاون الاقتصادي بين العرب وإسرائيل. وظل الأمر كذلك سبعَ سنين. وإذا بصوت جهوري جديد يصك الأسماع حول التعاون الاقتصادي بين بعض العرب وإسرائيل في مجال الطاقة والغاز، ولكن هذه المرة بدون "إيديولوجيا" وبدون أي نوع من "الربط" السياسي بين المطلب الفلسطيني الحق و مبادلة الغاز.
فماذا جرى خلال الفترة منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 حتى التبشير ببناء (مركز لوجيستي إقليمي و دولي للغاز) في إطار "الشرق الأوسط" و "ساحل البحر المتوسط الجنوبي" عام 2018 ؟ وبصفة خاصة، ما هي المسارات التي اتخذها التصور الاستراتيجي للعلاقات الاقتصادية بين العرب وإسرائيل، وكيف جرى الفكر والعمل لذلك ثلاثين عاما تقريبا؟
هذا ما نحاول معالجته فيما يأتي، من خلال إعادة بناء المسارات الأساسية، وصولا إلى وضع راهن تبزغ فيه على البعد أضواء باهتة وظلال لسوق شرق أوسطية (منزوعة الدسم) –إن صح هذا التعبير-سوق في الشرق الأوسط و جنوب البحر المتوسط، في قلبه إسرائيل ولكن بدون "خيار شرق أوسطي" على النحو القديم..! فكيف يجري لمّ الشتات بين النقيضين المفترضيْن، دون إراقة نقطة من الحبر-مداد الكتابة- ولا نقطة من الدم المهراق؟
وفي كلمة: كيف يجري العمل على قدم وساق، من أجل أن تقام "السوق"، دون أن تكون سوقا شرق أوسطية بالذات على نحو ما كان يجري عليه التصورذات يوم قبل عشرين عاما أو ربع قرن تقريبا؟
وإنها لسوق تتصل بأوثق العُرى مع الخيار الشرق الأوسطي للإدماج الصهيوني، ولكنها لا تمتّ بأية صلة للإرث السياسي (الرومانسي) القديم بشأن "العلاقات الاقتصادية بين العرب وإسرائيل".
ولنراجع المسارات المتصورة في الفكر الاستراتيجي-السيناريوات- منذ البداية و إلى ما قبل المحاولة الأخيرة لإزاحة الستار.
1- المسار الأول : احتكار اسرائيل ثمار التعاون الشرق أوسطي:
فحوى هذا المسار أن تتركز ثمار التعاون المفترضة للتعاون الاقتصادي بين العرب وإسرائيل فى جانب واحد، هو اسرائيل ، بينما تحرم الأجزاء العربية المحيطة من الثمار؛ فإذا كانت فقيرة بقيت على حالها أو تطورت بـ "قصورها الذاتى" وفق ما هو متاح لها من موارد داخلية أو خارجية؛ وإذا كانت غنية بالمال فإنها ستخضع لـ "قسمة ضيزى"، تعطى فيها ولا تأخذ، أو لا تأخذ ما هو مناسب لعطائها . وقد استند تصور هذا المسار في بداياته إلى احتكار اسرائيل قوة الردع العسكرى النووى بصورة خاصة ، وانفرادها بوضع المنصة التصديرية المحتملة كوكيل منفرد للغرب الرأسمالى فى مواجهة الإقليم المحيط، وخصوصاً ما يمكن تصنيفه على أنه "منطقة النفوذ"، ثم "المجال الحيوى" المستهدف، أى كل من الأردن والكيان الفلسطينى ، ثم سوريا ولبنان وساحل الخليج من جانبه العربي.
بواسطة الاحتكار العسكرى و الاقتصادي إذن، أى النووى والصناعى، تستطيع اسرائيل-وفق هذا التصور- أن تواصل ممارسة "الاستعمار الصهيونى" (Zionist Colonization) ، سواء كان استعماراً غير مباشر، باستخدام أداتيْ الردع الوقائى والتفوق التكنولوجي، أو استعماراً مباشراً من خلال "قضم" بعض المناطق الحدودية أو بعض منابع الثروة المائية والنفطية و المنجمية و الزراعية، إما بالاحتلال وإما بفرض السيطرة الفعلية دون احتلال(de facto) بحيث تصير الأرض العربية المحيطة بالأرض "العبرية" رهينة فى يد اسرائيل .
لكن على أى أساس تم طرح مثل هذا التصور ؟
إن الأساس الذى انطلق منه هو شواهد الممارسة التاريخية المعاصرة للكيان العبرى حتى فى غمار العملية المسماة "عملية السلام"، وهى الممارسة الدالة على الدور المزدوج للإرهابى والتاجر – المرابى. و كانت إسرائيل قد وجدت أمامها فى فترة (ما بعد مؤتمر مدريد 1991) مثالاً "تاريخياً" للتفاوض الناجح وفق مفهومها، بل ومبهر النجاح؛ ذلك هو النموذج التفاوضي الأمريكى فى عهد ريغان مع الاتحاد السوفياتى السابق فى عهد غورباتشيف .
وهنا ينطرح تساؤل جوهري: ما هو هذا الشرق الأوسط الذى كانوا ولم يزالوا يتحدثون عنه ؟ ألا يشمل الشرق الأوسط وفق التصنيف الاستراتيجى والعسكرى الغربى (الأصلي) كلاً من تركيا وإيران، وأحيانا باكستان ، وجميعها دول إسلامية ؟ ولكن هل نجد لإيران وتركيا، ولا نقول باكستان ، دوراً رئيسياً فى الحديث عن "الصفقة الشرق أوسطية" ...؟
لانجد لإيران دوراً بالتأكيد، سوى أنها "موضوع" للخيار الشرق أوسطي المطروح، وليست "ذاتا فاعلة"، لا لشىء إلا أنها يحكمها نظام سياسى غير موال للولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً، من دون أن ندخل فى جدل حول طبيعة هذا النظام ، ونوعية الجماعة الحاكمة فيه ، وسياساته ، وهويته العقائدية ...! و إننا، في الغالب، لا نسمع عن دور لها إلا بمناسبة الحديث عن الخيار النووي. وفي المقابل، إن علاقة تركيا مع اسرائيل أكثر أهمية. بل قلْ إن علاقة الكل مع اسرائيل هى "كلمة السر" فى "الصفقة الشرق أوسطية" التي هي جزء مما يقال له هذه الأيام "صفقة القرن" المقترح طرحها أمريكيا في مجال التعامل مع "القضية الفلسطينية". وسيان أن نقول، على العكس، إن " صفقة القرن" جزء من "الصفقة الشرق أوسطية". و ليس متصوراً، على كل حال، أن يطرح الغرب مشروعاً للتعاون أو التبادل، دع عنك (التكامل) ،بين أجزاء المنطقة الشاملة لتركيا وإيران والدول العربية، كمنطقة شاملة، حتى لو تم دس اسرائيل فيها جانبيا وجزئيا؛ فهذه هى "المنطقة العربية –الإسلامية المركزية"؛ فلا يعقل أن يقيم الغرب، أو يسمح، بصيغة تكاملية (عربية – إسلامية خالصة أو غالبة) بالمدلول الجيو سياسي. إنما يسعى الغرب إلى تحقيق مشروع إقليمي يضع فى بؤرة التركيز من اهتماماته مصلحة اسرائيل، فهذا هو "مربط الفرس" كما يقولون .
إذن، من الممكن طبقاً للمخطط الشرق أوسطي أن يتم التصور أن تحصل اسرائيل على المياه من تركيا مثلا ولو في المدى المتوسط أو البعيد، وأن تبادل الغاز الطبيعى مع مصر و الأردن و بعض الخليج (ومع غيرها أيضا ... ومن يدرى؟) . ومن بعض الخليج أيضا، من الممكن تصور أن تحصل اسرائيل على شيء من التمويل الميسر، بالوسائل المناسبة لها، من دون إعطاء اهتمام كبير للاستثمارات العربية في إسرائيل، سواء فى الأصول العينية أو المالية (الاستثمار المباشر وغير المباشر) بما قد يفتح باباً أمام ملكية عربية للأصول الاسرائيلية !
و فضلاً عن المياه والغاز الطبيعى والأموال، من الممكن تصوّر أن تحصل اسرائيل على قدر من العمالة الرخيصة، من (الكيان الفلسطينى) المقترح شرق أوسطيا، وربما من مصر أيضا، لم لا ؟ . و ألم يتحدث "شيمون بيريز" –الرئيس الإسرائيلي الأسبق على الأقل- في كتابه الذائع "الشرق الأوسط الجديد" New Middle East عن عالم شرق أوسطي يقوم على مبادلة التكنولوجيا الإسرائيلية بالأيدي العاملة العربية، حيث الشرق الأوسط-العربي، كما قال، "روضة أطفال كبيرة"-في إشارة إلى غلبة العنصر الفتيّ أو الشاب على الهيكل السكاني العربي، على العموم ؟

وماذا تعطى اسرائيل في غمار "السوق الشرق أوسطية"؟
إنهايمكن أن تبادل المياه والغاز والمال والعمال بالسلع والخدمات الاسرائيلية، وخاصة الخدمات، فى مجالات تتمتع فيها بالتفوق النسبى، وضمن تقسيم عام للعمل الدولى المتفق عليه ولو ضمنياً مع شركائها الكبار فى الغرب ، حكومات وشركات عملاقة. ومن يدرى ؟ ربما تلعب دور مورّد السلع العسكرية والأسلحة، يوما ما، لبعض من العرب المتنازعين فيما بينهم، او المتنازع بعضهم مع إيران مثلا ...!
وبعبارة موجزة، من الممكن أن تتحول المنطقة المحيطة بالكيان الصهيونى إلى سوق لمنتجاته المتنوعة، وإلى "منجم" للموارد الاقتصادية النادرة.
الخلاصة إذن أن "السيناريو" محل البحث، بدايةً، هنا ( سيناريو: احتكار إسرائيل ثمار التعاون الشرق أوسطي) لن يقدم نمواًّ يذكر إلى البلدان العربية المحيطة باسرائيل، بل لن يحدث حتى النمو المحدود الذى تكلم عليه البعض، وإنما هو نمو حقيقي فى جانب واحد، هو إسرائيل، يقابله استزاف محتمل لبعض مصادر النمو فى الجانب الآخر –الجانب العربي بطبيعة الحال..!

2- المسار الثانى : "إسرائيل المندمجة شرق أوسطيا"، مقابل "إسرائيل المنتفخة"
لقد واجه الكيان العبرى فى الداخل نزاعاً سياسياً وفكرياً بين اتجاهين رئيسيين، وخاصة بعد عدوان يونيو-حزيران- 1967: الأول هو الاتجاه الداعى إلى القبول بتنازلات فى الأراضى للفلسطينين والعرب الآخرين مع ضمانات تسمح بتحقيق الأمن الكامل لإسرائيل، بما فى ذلك إقامة مناطق منزوعة السلاح، أو مخفضة التسليح، أو محدودة التسليح على الجانب العربى دون الجانب الاسرائيلى ، مع الاحتفاظ بقوة الردع الشاملة - كل ذلك مقابل "الاندراج الهادىء" للكيان الصهيونى فى المنطقة العربية المحيطة ، و كذا "المنطقة العربية-الإسلامية المركزية" الأوسع، مع طمس الهوية التاريخية لكلتيهما، حتى تضمن اسرائيل اجتثاث جذور العداء للصهيونية فيهما.
بتعبير آخر، إن هذا الاتجاه يقبل بمخاطرة خيار "اسرائيل الصغرى"، لكنها اسرائيل العاملة تحت المظلة الغربية و الأمريكية للحصول على أكبر مزايا اقتصادية ممكنة، بتحويل "الشرق الأوسط" وخاصة (الشرق العربى) إلى منجم و سوق. إنه الخيار الشرق أوسطي الخالص باختصار، وكان يمثله في وقت ما، جناح قوي من "حزب العمل" و بعض قادته التاريخيين مثل إيجال ألون وإسحق رابين .
لكن هذ ا الاتجاه، لم يعمل فى بيئة سياسية خالية من المواجهة، بل قوبل بمعارضة قوية من منافسه على الحكم والممثل فى تكتل "الليكود" الذي يعود إلى جناح آخر في القيادة التاريخية للكيان الصهيوني، يمثله مناحيم بيجين ثم أرييل شارون، وورثته (الضعاف) حاليا مثل بنيامين نتنياهو. وقد أخذ ما يسمى باليمين الصهيوني والرافض لأي نوع من "الصفقة التاريخية" لتسوية القضية الفلسطينية ولو من خلال ما بات يعرف بحل الدولتين، بالزحف رويدا ليستولي على المجال العام الإسرائيلي استيلاء شبه كلي ، ليقصي بعيدا جدا ما كان يمثل كلا من التيار الصهيوني المعتدل " كجماعة "المؤرخين الجدد" سابقا، و اليسار الصهيوني، و (أنصار السلام) على مروحة واسعة من النزعات الإيديولوجية، وممثلي المهاجرين الأكثر "شوفينية" القادمين خاصة من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق وأوربا الشرقية. في ضوء ذلك باتت النخبة المتنفذة في إسرائيل، ومعها "الرأي العام" إجمالا، تميل إلى خيار آخر، "خيار غير شرقى أوسطى" ، إذا صح التعبير.
هذا إذن هو الاتجاه الثاني الذي أخذ يتنافس مع الاتجاه الأول المذكور. هذا الخيار(غير الشرق أوسطي ) يفضل تجنب مخاطرة التنازلات فى الأراضي، ويراها مقامرة لا تضمن المحافظة على اسرائيل، أو حتى أمنها، وإنما الأضمن، من وجهة نظره، هو الاحتفاظ بالأراضى، مع عرض الحكم الذاتى الإدارى على الفلسطينيين ولو بهامش واسع نسبيا، والإبقاء على المستعمرات الصهيونية فى الأراضى المحتلة، والاستمرار فى جذب أكبر عدد ممكن من اليهود خارج اسرائيل للهجرة إلى (أرض الميعاد)، مع تهجير أو ترحيل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين أنفسهم (الترانسفير) إلى فلسطين التى يرونها تقع شرق نهر الأردن (أى الأردن الحالية) . وإن اقتضى الأمر، فيمكن السماح بإقامة كيان سياسي فلسطيني منزوع السيادة، مع مبادلة قسم من الأراضي للاحتفاظ المستوطنات في الضفة الغربية، مع الإزاحة المبرمجة لقضايا "الحل النهائي" إلى حيز النسيان، وخاصة حق العودة، والسيادة على القدس. أ
كل ذلك مع الاستمرار فى استخدام "العصا الغليظة" المُشْرعة دائما بالعنف والحروب المسماة بـ "الوقائية" ضد الجيران العرب، وخاصة في إقليم "سوريا-لبنان"، ولو من خلال استخدام "فزّاعة" (إيران-حزب الله). هذا من أجل إبقاء اسرائيل آمنة (عزيزة الجانب و مرهوبة) ، وقبل كل شىء نقية عنصرياً (إسرائيل دولة يهودية)، كبيرة فى سكانها ومساحتها إلى أقصى حدّ ممكن، منتفخة، إذا صح التعبير . إنه خيار الاستمرار فى الاستعمار التقليدى إلى نهايته الطبيعية !.
هذا المسار "غير الشرق أوسطي"، من حيث الجوهر، كان مجرد مسار محتمل ، حينما كنا نكتب عنه و غيرنا، كثيرا جدا، في التسعينات الماضية، وكنا نقول يومئذ إنه خيار غير مستبعد، وخصوصاً فى ضوء مؤشرات اتجاهات "الرأى العام الاسرائيلى". و كنا نقول أيضا إن تحقيق هذا المسار تقف دونه مصاعب جمّة، منها معارضة الغرب والولايات المتحدة (فى ذلك الوقت) لخيار "اسرائيل المنتفخة" وتفضيل خيار "اسرائيل الشرق أوسطية" . ومن هذه المصاعب أيضا –كما قلنا وقتها-أنه يضرب فى المجهول، فليس أمامه من ضمانات لتحقيق أحلامه، مقابل الضمانات التى حصل ويحصل عليها الطرف الآخر-ذو الميل الشرق أوسطي وفق اطروحة شيمون بيريز- سواء من الغرب ، حكومات وشركات ، أومن بعض العرب ، من أجل مكافأة اسرائيل على تقبل الصيغة المطروحة. و قلنا ايضا –في التسعينات المنصرمة دائما-إنه برغم الصعوبات، يجبن على أي حال، أن نأخذ "اسرائيل المنتفخة" مأخذ الجد، كأحد الاحتمالات المتصورة الرئيسية.
واليوم -2018- وجدنا أن "إسرائيل الكبرى" على غرار شعار (من الفرات إلى النيل) لم تعد تمثل خيارا جديا مطروحا على سبيل الحقيقة، برغم آلام المخاض الرهيبة في سوريا والعراق ولبنان، بل و لانرى مستقبلا حقيقيا في الأجل "فوق المتوسط" لخيار "إسرائيل المنتفخة". ولكنّا نرى في الأفق المرئيّ إسرائيل (المضغوطة جبرا) تحت تأثير قوة التيار المقاوم فلسطينيا وعربيا ومن بعض العالم الإسلامي، صمودا وتصديا، وخاصة من حيث إفشال التصور الغربي، ولو نسبيا فقط، لما سمّوه "الربيع العربي" وخاصة بإزاء سوريا.
وإننا لنرى أمامنا في الأفق محاولة لتفعيل إسرائيل "غير كبرى"، ولا بأس: منتفخة إلى حدّ معين، تستقوي بالاتجاه الأشد عنصرية و (تصهْيُنا) في النظام السياسي الأمريكي، كما هو الحال في إدارة "ترامب"، وذلك من أجل التنكر لما يسمى "حل الدولتين" و "قضايا الحل النهائي" في آن معا، و باعتبار الكيان الصهيوني "دولة يهودية". والأكثر من ذلك أنها يمكن أن تحصل على عوائد (مجانية) من بعض البلدان العربية وغير العربية المحيطة –بدء من صفقات الغاز- دون أن تكون مضطرة لدفع أي أثمان لقاء "العربدة".
إنها الشرق أوسطية الجديدة إذن، تلك التي تقوم على المبادلة الاقتصادية "الرسمية" مع بعض الحكومات العربية و شطر من القطاع الخاص العربي الكبير المدعوم رسميا على كل حال، شرق اوسطية لا تترجم سياسيا في شكل تنازلات إسرائيلية حقيقية في مضمار القضية الفلسطينية، كما لاتطمح لبلوغ هدف إقامة سوق شرق أوسطية مندمجة وذات غلاف فج صريح.
هي شرق أوسطية "مكتومة" إذن، ذات طابع واقعي نفعي غير مبال بالسياسة والإيديولوجيا، طرفاها صهيونية مغالية تسعى لإعلان انتصار بغير مهرجان، من جانب أول، وبعض عرب غير مبالين يقدمون الفتات لشعوبهم لقاء ضمان مظلة تسمح بالاستمرار في "لعبة السلطة" إلى أمد يظنونه بعيدا، ويراه البعض قريبا. هو إذن يمكن تسميته بالخيار"غير الشرق أوسطي الجديد".

3- المسار الثالث : التقطع والارتباك فى المستقبل الاقتصادى للشرق الأوسط
يفترض هذا المسار دخول "الخيار غير الشرق أوسطى الجديد" حيز التجربة ، وأنه ستتاح له فرصة زمنية مناسبة للاختبار، غير أنه سوف يكون حافلاً بالمرارات ...! ذلك أن هذا الخيار يشترط طمس معالم الهوية، عربيا على سبيل العموم، و فلسطينيا على سبيل الخصوص- مع محاولة الترويج لثقافة بديلة يسمح فيها بانتعاش الهوية الصهيونية (وربما المعدلة) ولو تحت مسمّى بديل مثل "حق الشعب اليهودي في إقامة دولته" أو "الدولة اليهودية" باختصار.
إذْ ما الذى يضمن ألا تنتفض قوى المعارضة الحية فى الجسد العربى و "الإسلامى-المسيحي" المؤتلف، للدفاع عن حق البقاء، انطلاقاً من الجذور؟ أليس هذا احتمالاً قوياً ؟ بل و أليس هذا هو الاحتمال الأقوى في إطار من تقابل العنف الاستعماري الماثل والعنف الثوري المضاد ؟
ولسوف يكون "التبادل" (trade-off) بين العنف ومواجهة العنف قائما، يترك ظله الثقيل فى المنطقة العربية المحيطة بإسرائيل خاصة، ومن المتصور بدرجة عالية نسبيا من اليقين أن يولّد هذا التبادل ضغوطاً متزايدة على قوى المجتمع العربي لإعادة بناء التصور العربي المستقبلي نحو الأفضل وفرضه في الواقع العملي باضطراد.
وأما الكيان العِبْريّ، فإنه من جانبه، لن يكون لديه الاستعداد المجاني لأن يفرط فى شىء ..! فلن يعطى مما بين يديه من أراض محتلة إلا بحساب شديد، ولن يتخلى عن جزء من مشروعه المعادي للسنن التاريخية المعززة بالإرادة الإنسانية، إلا تحت ضغط القوة القاهرة.
3- المسار الرابع : تحوّل (إسرائيل) عبر تحلل الكيان السياسي
نقصد بهذا المسار البديل الرابع ، سيناريو التخلى الطوعى لإسرائيل عن طابعها الصهيونى ، أى تحولها إلى كيان غير عنصري، بما يتضمنه هذا من اجتناب دعوى "أرض الميعاد" ، وبالتالى من اعتبار اسرائيل وطناً لجميع اليهود فى العالم، وإلغاء "قانون العودة" ، والتسليم بإعادة جميع الأراضى المحتلة بعد عام 1967 ، وقبول حق تقرير المصير القومى السياسى للشعب العربى الفلسطينى ، والتخلى عن أية نزعة عدوانية تجاه البلدان العربية الأخرى مع تصفية ما يتعلق بهذه النزعة من ركائز عسكرية ..إ لخ ، وأخيرا – ولكن ليس آخراً – القيام بما يعدّ "ثورة ثقافية" على مستوى التجمع اليهودى كله يكون جوهرها نقد الايديولوجيا الصهيونية وإدانتها كأيديولوجيا عنصرية قام على أساسها ذلك الكيان ....! وباختصار، تحول الجماعة اليهودية المقيمة داخل إسرائيل الحالية إلى تجمع بشري غير صهيوني، وتحلل كيانها السياسي، ليحيا أفراد هذا التجمع في إطار جامع للعيش وفق قواعد مختلفة جذريا عما سبق. ويمكن ان يتم ذلك عبر مراحل متنوعة، قد يكون من بينها "دولة المواطنين" من منابع مختلفة.
و إن تخلى التجمع اليهودى فى فلسطين عن صهيونيته يعنى نسف اليهودية السياسية ذاتها، وذوبان "اليهود" كأفراد في المجتمع الأشمل، لمن يرغب في ذلك، ومن ثم "اضمحلال" الكيان السياسى اليهودى و "تلاشيه".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت