الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أناييس والخبز وسارق النصوص

حكمت الحاج

2018 / 7 / 7
الادب والفن


1.
ما هي المدينة؟
يروي البعض أنّ المدينة هي المدرسة والمصرف ودار العبادة يربط بينهما شارع من الإسفلت. ويروي آخرون أنّها ليست كذلك، بل هي المكان الذي يربط بين شيئين، المستشفى والمقبرة. فعندما لا يعود جسدك ينصلح في المكان الأول، فإنّهم بعد انتظار مقيت، يأخذونك إلى المكان الثاني. وقد تكون هذه صورة غير مريحة للنفس عن المدينة، عند ذاك، نسمع عن آخرين يقولون عنها أنّها المكان الذي نكتب فيه الروايات، وهنا نتنفس الصعداء، فما زال للخير متسع في الحياة.
ولكن، اسمحوا لي في هذا الصدد، أن أقدّم تعريفا آخر للمدينة، لا شك أنّني، وفي حالة نجاحه، سأكون مدينا به للشاعر عبد الزهرة زكي، الشاعر الذي كتب قصيدة في الصفحة التي نعالجها بمقالنا هذا، كانت، بالإضافة إلى ما فيها من إبداع، عوناً لي كبيرا، لا ريب، في صوغ التعريف الذي يمكن لي أن أورده كالتالي: "المدينة هي المكان الذي يستطيع الإنسان فيه أن يشتري الخبز ".
ستقولون هذا كلام أي مهاجر إليها، فأقول لكم، ولكن، ماذا عن التاريخ؟ عندما كنّا صغارا نذهب إلى المدرسة تعلّمنا أن نرفع عن الأرض أية كسرة خبز نلقاها، ثم نضعها على أقرب حائط، أو أي مكان مرتفع. قالوا لنا يبرّرون لنا العملية أنّه الحرام، وعندما أخذتنا السنون وتعلمنا أكثر، قالوا إنّها طقوس دينية موغلة في القدم تعود إلى أيّام أجدادنا السومريين في وادي الرافدين. ومثلما تملّكني العجب في تلك الأيّام، يتملكني العجب. اليوم أيضا، ليس من هذه المعلومة بالطبع، بل من أن أرى الخبز بعد كل هذه الآلاف من السنين يعود ليصبح طقسا تحريميا مرّة أخرى. وهنا، بالضبط، عبر أمرين لهما ثالث، إن أراد آخر، وهما: حالة الحصار التي نعيشها، والمفروضة قسرا، ثمّ، الكلمة، وبشكل أكثر تحديدا، الشعر خاصة. "هذا خبز " قصيدة قاسية، إن لم نقل خشنة. إنّها لا تشبه الصمون الفرنسي، بل هي إلى رغيف الشعير أقرب. ولقد مرّت علينا الأيام التي صرنا في ظلّها نستسيغ التهام الخبز الأسمر، دونما حجج مقنعة من قبيل الصحة وإطالة العمر. وقد قال قائلنا من قديم: مُجبرٌ أخاكَ لا بطل.

2.
يعلّمنا الدرس البنيوي، أنّ حادثا ما أو حدثا في التاريخ لا يكون له معنى، وبالتالي، لا يمكن تفسيره، بالاستناد إلى ما سبقه وإلى ما يعقبه، وإنّما كل شيء يكون بالاستناد إلى ما يجاوره. فمثلا، يقول "أدولفو باسكيز"، الثورة الفرنسية لا ندرسها بأسبابها ونتائجها، وإنّما المهم في الدرس هو: ما الذي حصل في نفس الوقت الذي حصلت فيه الثورة. وبكلام آخر، فإنّ المجاورة خير من التعاقب، وعلاقات الجيرة خير من علاقات الشجرة النسبية، فربّ أخ لم تلده لك أمّك، وذلك هو مفهوم العيش في المدينة منظورا إليه من هذه الزاوية.
ومن نفس هذه الزاوية كانت لنا نظرة إلى صفحة ثقافة من جريدة الجمهورية عدد يوم 20/05/1995، وعبر مفهوم المجاورة كأساس لفهم الظواهر، قرأنا قصيدة "هذا خبز" استنارة بيوميات "أناييس نن" والعكس بالعكس كذلك صحيح. وقد كانت القراءة ذات نتائج مذهلة، ذلك أنّك في وقت ما قد تقرأ كتابا يهديك إياه شخص ما فإذا هو "مثلّث الزهرة" ولكن عينك لتقع على قصيدة تتحدّث عن الخبز فإذا هي للشاعر عبد الزهرة، ولما كانت الرواية الهدية هي لأناييس نن، كان لمرأى يومياتها مترجمة لأوّل مرّة بقلم الكاتبة لطفية الدليمى سحرها وتأثيرها. وكيف لا وهي تتحدّث عن كاتب طالما عرفناه، وهو د. هـ. لورنس، خير معرفة، وعن محام لا يعرفه أحد حتّى لحظة قراءة اليوميات وهو "ريتشارد أوزبورن"، وكيل أعمال السيدة المصون "أناييس نن".
ولهذا الرجل، أوزبورن، قصّة. وقصّته لا تختلف أبدا عن قصة رجل آخر يعرفه أو ربّما لا يعرفه الشاعر عبد الزهرة زكي، ولكن كيف؟ ومن هو؟
ولدت الكاتبة الشهيـرة "أناييس نن" في "باريس" مدينة الشعر في عام 1903. بدأت الكتابة مبكّرة في الثلاثينيات وكتبت في كل شيء تقريبا. روايات، نقد، محاولات، مقالات.. لكن سمعتها الأدبية توطّدت بنشر ستّة مجلّدات من يومياتها التي بدأت بكتابتها وهي في سنّ الحادية عشرة وذلك على شكل رسائل إلى والدها. والمجلّد الأول المسمى بمفكّرة "أناييس نن" الصادر عام 1966 هو الذي قامت بترجمته الكاتبة لطفية الدليمي، جزاها الله خيرا، عنّا وعن القرّاء المحرومين من أعمال كهذه مهمّة، قلّما ترى النور لغلبة الشعر والقصة على صفحات صحفنا الثقافية. صحيح أنّ هذه اليوميات بمجلّداتها الستّة قد اشتهرت بسبب من أنّها كانت صورة لامرأة ناضلت من أجل تحقيق ذاتها، ولكن، صحيح أيضا أنّ هذه اليوميات قد أصبحت مهمّة جدا بسبب من أنّها تحمل في ثناياها صورة مدينة ولا نبالغ إذا ما قلنا أنّ المدينة بالتحديد هي الشخصية الرئيسة لهذه اليوميات. من "باريس" حيث الحياة البوهيمية والصعلوكية لمثقّفيها في الثلاثينيات، إلى "نيويورك" ما بعد الحرب العالمية الثانية.

3.
في يوميات " أناييس نن"، تتجلّى صورة المدينة بوصفها بائعة للخبز، ولكن للذين يستطيعون الحصول عليه. وتروي لنا السيدة "نن" كيف أنّها كانت في كثير من الأحيان تنظر إلى نفسها وكأنّها "جورج صاند " الكاتبة المعروفة، تكتب في الليل، لأنّها في النهار تهتمّ بأطفالها وبزملائها وأصدقائها من الكتّاب الذين كانوا بالكاد يجدون خبزا ليأكلوا. فكان منزلها في باريس، أشبه بمطبخ عمومي منه بفرن للجياع. هذه الصورة القلميّة للمدينة وحياتها هي التي أعطت كل تلك الأهمية ليومياتها ومذكّراتها، برغم أنه لا أحد يستطيع أن يقلّل من شأن رواياتها من مثل "منزل سفاح القربى" عام 1939، و"شتاء الخداع" و"دلتا فينوس" أو ما ترجمناه بــــــ "مثلّث الزهرة"، خدمة لأغراضنا في هذا المجال.
في المدينة فقط يكون الجوع. إذن في المدينة سيتمّ تقديس الرغيف، وتصبح الحنطة من ذهب، أمّا الكلام، فإنّه يتراجع ليصير فضّة. في قصيدته "هذا خبز"، يفرض علينا الشاعر نظاماً رياضيا وقيميا خاصا، متلاعبا بما ورثناه من الأمثال، معطياً إيّاها صيغة جديدة. هل الشاعر يريد أن يقول أنّ السكوت هو الحنطة؟ يقول في القصيدة: "فلأستبدل لك الذهب بالفضّة". لقد رجعنا القهقرى إلى عصر لم تكن فيه نقود مسكوكة وكان البيع والشراء يتمّان بالمقايضة، وها هو الشاعر من أوّل القصيدة يغلب كلام المدينة الذي هو كلام التجارة يقول: "خذي.. وارمي بدرهمك.. خذي وهاتي".. ويكرّر على مدى القصيدة مبدأ الأخذ والعطاء وذكر الدراهم والاستبدال والمقايضة. وليس من العجب في شيء أن تسمع هذا، فالشاعر ابن المدينة وهو أدرى بدروبها وخفاياها، وهو الأقدر على تمثّل صوتها ونقل صورتها، وقد سبقه جدّه "سوفوكل" إلى شيء يشبه هذا عندما يتحدث عن " أثينا"، ولكن الأمر العجيب هو أن نكتشف أنّ خطأ ما قد يحصل في عملية المقايضة، داخل القصيدة طبعا، إذ يقول الشاعر "خذي الكلام واكسبي الحنطة". وإذا ما علمنا – من القصيدة أيضا- أنّ الكلام من فضّة وأنّ الحنطة من ذهب، وإذا ما علمنا -من القصيدة أيضا- أنّ هناك عملية استبدال ستتم، فلأستبدل لك الذهب بالفضّة، فإنّ النتيجة المنطقية هي أنّ الذي يأخذ الكلام سيخسر الحنطة لا أن يكسبها كما تقول القصيدة، ولكن متى كان الشعر حقّا يولي للمنطق اعتبارا؟

4.
كان "جون راسكين" يروي هذه الأمثولة: كانت المدينة تتكوّن من قاض وكاهن وطبيب وجندي وتاجر. مات الكاهن لأنّه لم يستطع المضي بعكس إيمانه، ومات القاضي لأنّه لم يستطع التلاعب بضميره، ومات الطبيب لأنّه لم يتوان عن مساعدة مريض مصاب بمرض معدٍ، ومات الجندي لأنّه أصرّ على القيام بواجبه في حماية وطنه، أمّا التاجر، يقول "جون راسكين"، فتصوّروا في أيّة حال كان على التاجر أن يواجه الموت؟
وقبل أن نتصوّر حال التاجر، دعونا نرجع إلى يوميات السيدة "نن" لنرى ماذا ستخبرنا عن "ريتشارد اوزبورن" وكيل أعمالها، وصاحب القصّة المعروفة عن هوسه المرضي، ذلك أنّ السيد " أوزبورن" كان لا يتوقّف عن الكلام عن موضوع الانتحال والسرقات الأدبية، إذ يقول أنّ عددا من الناس قد سرقوا رواياته ومسرحياته وأفكاره، وهو يهيئ نفسه لتقديم مذكّرة طويلة إلى القضاء لإقامة الدعوى على المنتحلين ويقول أنّ إحدى رواياته المسروقة قد نشرت تحت اسم آخر كما مثّلت إحدى مسرحياته في مسارح "برودواي" ولا تخبرنا اليوميات المنشورة على الصفحة المعنية بحديثنا ماذا حصل بعد ذلك والى أين انتهى المطاف بهذا السيد المصاب بهوس الانتحال. هل هو قد قدّم حقا مذكّرة إلى السيد رئيس تحرير جريدة الجمهورية يقول فيها أنّ قصيدة "هذا خبز" قد انتحلها شخص اسمه عبد الزهرة زكي ونسبها إلى نفسه بينما هي في الحقيقة قصيدته الحقّة؟ و لنا أيها الأعزّاء، أن نتخيّل الآن كيف أنّ شخصا ما في مدينة ما، لا يستطيع أن يفرّق بين الخبز وبين قصيدة عنه حتى اختلط الأمر عليه فراح يشتكي، ولنا أن نتخيّل كيف يكتب الشاعر الحقيقي قصيدته عن الخبز في مدينة صار فيها هذا الشيء مشغلا يوميا، وكيف أقول يوميا وهو مشغلة كل وقت؟ لنا أن نتخيل ذلك عند ذاك، ستحيلنا الإشارات والتلميحات إلى قدسية الخبز وندرته وسحره، لا إلى مدونات حضارات وادي الرافدين، كما سيقول البعض، بل مباشرة إلى واقعنا المعاش، بحذافيره. ولنا بعد ذلك أن نقبل قساوة الشعر وذلّ السؤال، سؤال الحاجة وسؤال الكلمة، ولنا أيضا أن نتخيّل كيف سيواجه الموت في المدينة، ذلك التاجر الذي حكى لنا "جون راسكين" أمثولته. والآن في هذه اللحظات بالذات هنالك شخص ما في هذه المدينة يكتب قصيدة أخرى عن الخبز، في الوقت الذي تكون فيه " أناييس نن" جديدة تكتب سيرتها في الظلام، بينما يقوم " أوزبورن" آخر بلصق تهمة الإنتحال بشاعر آخر من جديد وهكذا دواليك..
تاجر يفكّر قبل أن يموت باستيراد نوع مختلف من الخبز، شاعر إسمه عقيل علي ينتقل للعمل في مخبز آخر..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع