الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجيل الباسل في الشعر العراقي الحديث

حكمت الحاج

2018 / 7 / 21
الادب والفن


يستطيع الناقد المواكب لأنشطة شعراء التسعينات في العراق أن يواجه باعترافين مهمين يصدران عن معظمهم، تصريحا وتلميحا، الأول: هو أنّ هذا الجيل ومنذ البداية قد فقد إيمانه بالشكل. والثاني: أنّه قد بدأ يكتشف أنّ معركته التي خاضها مع فلول وبقايا أجيال سابقة منذ أوّل قصيدة نشرها واحد منهم هي معركة غير متكافئة، هذا إن لم تكن خاسرة.
ومشكلة هذا الجيل مع اللغة تستحقّ وقفة تأمّل. فوسط الحماسات متعدّدة الأشكال لجيل الثمانينات، التي تخلفت اللغة تحت وطأتها في أعمال كثيرة، حتى باتت زخرفا لا أكثر في معظم الأحيان، يبدو اهتمام الشاعر التسعيني باللغة أمرا صحيحا، وسط مرض شامل ابتلي به الأدب العراقي عموما، وإنّ ذلك عندهم، عند شباب التسعينات، مصدر قوّة وضعف في الوقت نفسه. فهو مصدر قوّة من حيث أنّ تحرّرهم من ربقة القيود والضوابط والأعراف التي تميّز قصيدة الجيل الأقدم يزود المخيلة (وأداتها الكلمات) بقدر من الحرّية مفروض أنّه لا يُحد إلاّ بحدود القوانين الذاتية الداخلية. والشعراء التسعينيون يمارسون تلك الحرّية بالفعل ولكنّهم ما يلبثون أن يتغيّروا عند نقطة ما، ولسبب ما (قد يكون ناجما عن تأثيرات السوريالية، وإن كنت غير متأكّد من أنّ أحدهم قد قرأ تراث السوريالية جيّدا) ولا يعودون من ذلك إلاّ بما يفسد اكتشافاتهم التي تكون قد أوشكت أن تقودهم إليها تلك الحرّية الكاملة. وهكذا تماما يتذبذب العمل الشعري للشعراء الأجد ولا يستقرّ أبدا، وتلك هي ملامح الضعف.
وليس من المشقّة في شيء أن يلاحظ الناقد كذلك أنّ القصيدة الجديدة عند شعراء التسعينات تفسد دائما بالسرد الذي يعمي الشاعر عنه نتيجة لتأرجحه بين الإستسلام النشوان لانبثاقه اللاوعي و الإنطلاق الحرّ الذي لا يعوقه عائق المخيلة، وبين الجهد الواعي المتصبّب عرقا إن صحّ التشبيه بإصرار مستميت إلى تحويل وتغيير مسار الإنكشاف بالغ الجدّة الذي آلت إليه مخيلة الشاعر.
فمن إطلالات سوريالية على باب جحيم أرضي إلى أغنيات وجدانية مستأنسة. وبكلام آخر: من البحث عن المطلق والمجهول وغير المتحدّث عنه، إلى غنائيات فجّة عن الجنس والجوع والسياسة.
أليس هذا تقلّبا على نار التجربة؟
ولما كان الشعر، أي شعر، يقوم على دعامتين أساسيتين هما: أولا أنّ القصيدة وبغير تعمّد تقتنص العالم وتضعه في حقيبة الكلمات (كما يقول أندريه بريتون) وأنّها، وهذا ثانيا، لا تنطوي إلاّ على أقلّ قدر ممكن من القصدية والتفكير السبقي. لذا فإنّه من الخطأ الإدّعاء أنّ المخيّلة في أشعار هذا الجيل تكون قد ألمّت بالعلاقات بين واقعين قائمين، فالخيال عندهم لا يكون قد أمسك بأي شيء بطريقة واعية، وكل ما في الأمر أنّ نوعا من التقارب العفوي يتحقق بشكل ما بين قطبين، فينبثق منه ضوء الصورة الشعرية (أو الإستعارة) ويتوقّف جمال تلك الصورة كما تتوقّف قيمتها الفنية على هذه الشرارة التي يحدثها ذلك التقارب العفوي.
ذلك هو الإشكال الحقيقي لقصيدة شعراء التسعينات: التناقض بين الإستسلام للغة أحيانا والصراع مع اللغة نفسها في أحيان أخرى. وهو لاشك تناقض يصل بالشاعر إلى كشوفات شعرية نستطيع بحق أن نقول أنّها تقتنص العالم فتضعه في حقيبة الكلمات.
إلاّ أنّ قصديّة الشاعر وتفكيره المسبّق في أن يضع تلك الكشوفات في نظام خطاب محدّد وموجّه بالمعنى التقليدي للإخبار عن شيء ما أو فكرة ما، واضحتان أيضا في صميم عمله، وتلك مشكلة جيل يمارس التجديد تحت وطأة الصراع. ولنتابع في هذا الصدد ما يقوله أيضا "أندريه بريتون" في بيانات السوريالية: "يجب أن تكون للشاعر حقوق الصراحة المطلقة. لا تنازلات ولا مصالحات مع العالم أو مع الكائن. لارحمة ولا تسامح. وأن كلّ من أراد أن يصل إلى الغاية الأسمى فسار على الطريق التي توصله إلى مكاشفات النبوة عليه أن يحرّر ذهنه تماما من كل ما هو مبتذل ودارج وأن يطهّر روحه من كلّ مرض أو ضعف أو هزال أو مكر، كما يجب عليه أن يطلق ذهنه من أسر كل حالة من حالات الذهن تتعارض مع الغاية التي يسعى وينطلق إليها".
لقد كان هذا الإقتباس طويلا من "بريتون" ولكنّه يلقي ضوءا ساطعا على قضية شعر شباب التسعينات في العراق. إنّ كل عمل شعري يجب أن يحتوي في داخله على كل ما هو مطلوب منه لفهمه، وقصائد هذا الجيل تقترب من هذا التصوّر، إذ أنّها تقدّم عناصر تأويلها من داخلها. فالكتابة تستمدّ معناها لا من علاقاتها بمجمل التفصيلات التي هي في داخل الكتابة نفسها فحسب، بل أيضا من الإحالات التي تعملها تلك العلاقات إلى الخارج الواقعي، وبذا تكون قصائدهم وثائق يومية لسيرة فرد أو جماعة في ظل استثناء عجيب من التاريخ.
ورغم أنّ هذا الجيل قد ظلّ في قصائده يدور داخل نمط بدأ به ولم يخرج منه لحد الآن، وأقصد به نمط التذبذب الشديد بين اللحظة الشعرية المكثفة وبين لحظة السرد الدارجة، في محاولة مستميتة للمزاوجة بينهما من خلال التحايل على اللغة، فإنّه – أي الجيل الجديد- يكون قد حقّق أفضل إنجازاته الفنية عبر ما نقرأ للأسماء التي تتصدّر واجهة هذا الجيل الطالع بقوّة من ركام حربين ورماد حصار قاتم. إنّه جيل باسل بحق لأنّه يكون قد قاتل على أكثر من جبهة، فتحيّة مني إليه.
بغداد في 2 حزيران 1996 جريدة العراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله