الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-النقلة باعتبارها تمرداً في الأدب: سليم بركات في روايته الجديدة-موتى مبتدئون

ابراهيم محمود

2006 / 3 / 27
الادب والفن


في كتابه ( رسائل إلى روائي شاب)، يتحدث الكاتب البيروفي " ماريو بارغاس يوسا"، عن قضايا لافتة تخص الأدب الروائي بصورة خاصة، ومنها مثلاً، مفهومه للنقلة النوعية، وهي تخص كيفية انتقال الكاتب من عالم لآخر، يصعب تفهم مغزاها أو التقاط رهانها الدلالي، مازجاً بين الواقعي والفانتازي، وهي تحقق قفزة نوعية في الكتابة الروائية( قفزة المكاشفة)، وهو في مكان آخر، يشير إلى التمرد من خلال قلب العلاقة بين الواقع والمتخيَّل، ليستطيع الروائي التعبير عن عالم مرفوض، وعالم آخر، يشير إليه، دون تسميته( انظر الترجمة العربية، دار المدى،2005، في الرسالتين: الأولى والثانية.). أغلب أمثلته الروائية من أمريكا اللاتينية.
الرواية الأخيرة لسليم بركات ( موتى مبتدئون)، تنسّب كاتبها، كما هو مقروء، إلى صنف الكتاب الذين يغامرون في المزج بين النقلة النوعية والتمرد، وربما كان التمرد هو ذاته لسان حال النقلة النوعية هذه. في روايته هذه، والتي صدرت عن المؤسسة العربية، بيروت ، 2006، وخصوصاً بعد روايتيه ( كهوف هايدراهوداهوس 2004، وثادريميس2005)، يحاول المضي قدماً في المسرى التمردي الملحوظ في الروايتين هاتين، مسرى القلب على المعاش من بعيد، من خلال تلك المزاوجة بين الكائنات الحية: الحيوانية، البشرية، النباتية، وحتى الجمادات، حيث الكونية كمسرح مرئي، تضم كل الكائنات إليه، لتعزيز فاعلية التمرد روائياً.
أرى أن بركات، ارتبط مصيرياً، بمعنى ما، بما أثاره، في ما ذكرنا، ربما لأن أقصى التمرد قد تحقق فيهما، ولأن مفهوم الأقصى هذا، هو أقصاه في مغتربه، فيما يتفكره ويتخيله، فيما يتناوله مواد مستخدمة في بنائه المعماري أدبياً، فيما يعيشه ( في السويد)،وفيما يرتئيه، حيث لا مكان للعيش مطمئِنه، إلا بفوضى منظمة للكائنات، وليست العلاقات بين شخوصه( وليس من شخص فعلي، ممكن التوقف عنده)، إلا حصيلة نقلات، وإرباكات لواعية القارىء، وثقافته، وحتى طبيعة قراءته( لا يعود الكم والكيف قادرين على التمايز لتسارع المستجدات)، لكأن بركات استحال سادياً بامتياز، فيما يمكنني اعتباره خالق الثالوث الروائي فوضوياً، لا بل تبرز الفوضى الحد الواصل بين بدايتين متداخلتين، إحداهما التمرد، والأخرى النقلة النوعية، أو بالعكس، ولا نتيجة متوقعة،إلا بتيمة لاصقة، تيمة نافذة على غير توقع، كما هو معهود النقلة النوعية، لأن ثمة فوضى مكثَّفة، هو فوضى كاثنات يذررها، بكائنات يصطنعها تخييلياً يثيرها الكاتب( الروائي هنا)،ويتخذ السرد مطيته، للتدخل عند اللزوم، كما تعلمنا الرواية، وهو يعرف بنفسه ككاتب بحدة آلمة، أولم يقل هو ذاته ( الفوضى هو النظام الأصل)، على لسان ثيوني، وكذلك( الفوضى خلاص) في الإثر، في ( كهوف هايدراهوداهوس، ص 80)؟ لكن بركات يعلن بفوضاه حرباً على نظام موجَّه، مريع، يريد تفكيكه أدبياً، وأعني بذلك روائياً، وكأني به، في أعماقه يرسم صورة من صور الداعية، وعلى طريقته، وقد تناثرت في جسوم كائناته الغرائبية إمعاناً في التشفي( ربما) من واقع لاشفاء من استمراره غرائبياً أكثر، الكائنات الغرائبية التي يقودها من مصير إلى آخر، وهي تواجه موت المعاش، الذي لا يستحق اسمه، حيث إن العنوان ذاته، يواجه قارئه بالعقدة البركاتية في فنتزة الحدث والذين ينفثون فيه دلالياً، إذ إن ( موتى مبتدئون) عنوان افتراقي مفارقاتي، بين أن يكون ثمة موتى، ولا عودة من الموت، كون الموت واحداً، لا رجعة منه، وأن هؤلاء الموتى( مبتدئون)، وكأن الموت درجات، أو مقادير ومقامات، حيث التجربة تضفي على الموت بعداً تاريخياً وقيمياً أعمق، ولكن ذلك لا يبقي الموضوع طي الحسمية. تُرى من هم الموتى هنا، ليكونوا مبتدئين، وكيف هم مبتدئون في موتهم؟ هل من صراع مع الموت، لا يموت أحدهم الموت الذي يمنحه مكانة لافتة، الموت الكامل، أو الجدير بالموت نفسه؟ أم أنه موت يحيل اللفظ إلى خانة الرمز مباشرة، كما هو التوضيح للعنوان في الغلاف الداخلي( كل شيء يكون افتراضاً حين الموتى مبتدئين)؟ حيث الموتى هنا لا يدخلون في باب الحقيقة القابلة للتصديق، الموت المشبع، ذاك الذي لا يعود له أي صلة بالحياة، موت الكائن باقتدار، والذي يقابل في الصميم مدى اقتداره في الحياة؟ إن الميت المبتدىء لا يمنح يقبله الموت بصفته الميت الفعلي، هو القابل للتكذيب، لدحض موتيته، كون الافتراض يخلط ما بين الحياة والموت هنا. ولكن ذلك ، ومن داخل الافتراض، يقلب موازين الحياة والموت، لأن بركات، هذا الذي ألف النقلات النوعية،وفي رواياته الأخيرة خصوصاً، يمارس تمرداً على الحقيقة، وتمرساً فيها تخييلياً باضطراد، وانقلاباًعلى المصادقات، طالما أنه لم يعد يتواصل مع المعاش، وكأنه حقيقة، وإنما باعتباره افتراضاً، ليكون افتراضه نقضاً لما هو متداول، وليكون موتاه تحدياً، للذين يسيّرون الأحكام حقائق مطلقة في الوجود، إنما دون أن ننسى أنهم طي مفارقات موتهم وموت الذين يشهدون موتهم دون أن يتوقفوا عنده، حيث التعارضات في العيش كثيرة، إلى درجة القلب على الواقع من الواقع نفسه، بالمعيار الذي يقدَّم فيه، وتكون النهاية سرداً قلباً لسرد مفترق له علامةً.
ما يزيد من تعقيد بنية المفارقات في الرواية : تاريخية الحدث المتخيَّل، حيث يكتب بركات في نهاية الرواية ، وفي الأسفل،اسم المدينة السويدية حيث يقيم فيها، كما في نهاية روايتيه ( كهوف- ثادريميس)، وأعني بها( سكوغوس)، ويلي ذلك( القرن الثاني عشر)، ويبدأ هنا التاريخ لعبته المركَّبة: من ناحية مكاشفة تأويلية لما يمكن أن تتناوله الرواية، ودلالة التاريخ من ناحية ثانية.. واللافت في اللعبة، هو أن القرن الثاني عشر كان مفصلياً في الشرق، كون صلاح الدين تغلَّب على الصليبيين، ودخل القدس سنة 1187، ولكنه توفي سنة 1193، فهل من عبرة هنا؟ وكل ما تتحدث الرواية عنه : معالم روائية تتجسد في عالم مختلف، عالم سويدي بامتياز، حيث النهاية كالروايتين السابقتين، تتشكل استمراراً للعبة الأعصاب الهائلة، تحدي الماضي المستقبل، حالة الخواء، فراغ القيمة المستوجبة، المقصد غير المستور والمثمر في حركة صادمة لمن يمثلها، والمصدومة بالواقع في منحاه الفيزيائي طاقياً، طالما ثمة حدود للقوة ليس بوسع مجسدي الحركة في الوصول إلى المنشود( الوصول إلى خليج مورتفيك)، ورؤية الغريب، حيث لا أحد فيه، كما تقول النهاية غير السعيدة( ص 120)،إلا ما يأتي سرداً مداهماً من جهة الررائي إثرئذ، وهي سعادة العالم المتخيَّل، سعادة الكاتب بمعنى ما، وكما جاء في البداية( هِبة ألزمنا أنفسنا بها، قبل خروجنا من أرض السحلية الزرقاء- زهرة المغيب الناقص. قلنا: سنفاجىء أنفسنا أمام أول غريب نلتقيه بما يمكن أن نستحضر لـه من تسلية لم نعرف، قبلاً أي اقتدارعليها أمام أحد آخر. ص 7)، ليكون السرد الخاص بالروائي، أعني سيطرته على لعبة السرد، وبطريقته اقتحاماً لفوضى الوقائع، وإعلاناً أولياً لنهاية طال أمدها، خارج الشخوص المأخوذة بآلامها. هنا تلعب مفارقات الأسماء والأمكنة البركاتية بأزمانها دورها الكبير في تتبع لعبة الإشارات، وخطورة العبث بها خارج آفاقها النصية، وهذه بدورها ليست ( مسالمة) لتسمح بتحديد تأويلي، باعتباره الجاري البحث عنه، في قراءة غير المقروء، وهي بداهة العمل الأدبي والفني حقيقةً، في استقصاء ما يمكن أن يكون النزيل المعنوي في واعية الكاتب، شيفرة من شيفرات كثيرة، من جهة التقابلات، إذ المكان نفسه افتراضي، والزمان نفسه افتراضي، والاسم ذاته متحوَّل، رغم وجود تاريخ ومكان وأسماء، وكلها لا تشكل محكاً لإطلاق يساير رغبةً بسهولة، لأن اللعبة الروائية هكذا ارتأت أن تكون مسارات في العالم المرسوم ذاك، ويمكن ممارسة( ضرب المندل) الأدبية الطابع هنا، وبالتناظر مع لعبة الكاتب مع قارئه وحتى مع ذاته، في لملمة هذا الجيش اللجب من التوريات أو الصور التي تصعب مَنتجتُها ومنحها معنى باعتباره حقيقة الرواية، لأنه بذلك يكون في مواجهة لعب آخر ليس روائياً، وصلة الحدث به بالذات، بما يتفكره.
في الرواية هذه، ثمة استحضار، أو اعتماد الكثير من مفصليات الكتابة البركاتية روائياً، وخصوصاً في أعماله الأخيرة، من جهة التركيز على اللون: دلالةً ( ألوان الحقائق، دلشاد ، ص 94)،وكان لهذا تكثيف أكثر، على الصعيد الشعري( المعجم، 2005: أزاميل اللون، حجارة اللون، جناجن اللون، كهوف اللون، ظهيرة اللون...الخ، ص 64-65)، وفي ( كهوف: الحلم لون، ص 26، اللون هو المصادقة، ص 40..)، وفي ( ثادريميس: أقدار تنعش اللون، ص 41، ولاء اللون للأشكال، كما يتنفس اللون، ص 44...الخ)،وما يخص مفهوم المعدن، في الروايات السابقة الذكر، والتمثيل كذلك، ومفهوم الغريب( وهذا المفهوم هو المشكّل ما أسميه( اسم الوردة) لامبرتو إيكو الايطالي، ولعل التداخل بين الكائنات، دون استثناء، تصعيد بفاعلية الرواية كلعبة غميضة، إنما دون أن تُشاهد الجهة، أو الحقيقة المراد قولها، كما يمكن الأخذ بها: مراداً متشكلاً معرفياً، لاحقاً، لأن هذا غير ممكن في رواية كهذه، تنبني على غياب الحقيقة الناجزة والممكن تبسيطها، أو ما يمكن أن يقوله أحدهم ببساطة( إن فكرة الرواية هي هكذا)، أو هي هكذا، أو غير ذلك، بمعنى ما ( تريد الرواية أن تقول)، أو ( الروائي يريد، يرغب، يبتغي، يعني ...الخ)، وكلها تخريجات لغة القارىء، وإرباكات للنص الأدبي بالذات. لكن الحدث الأدبي هذا لا يعدم معناه، وهو متنوع هنا،فكل ما تحدث عنه بركات لا يبتعد عن الهاجس المعرفي والأدبي له، ما يعود إليه أو يستعيده، أو يذهب إليه، أو يعايشه، لتكون أعمال كثيرة له: دوائر مائية تتسع وتتعمق معاً.
الرواية سفرية، ارتحال من عالم لآخر، وفي السفر أو الارتحال، بغية ملاقاة غريب لتسليته، لكن كيف؟( تسلية لم نعرف)، وهي لعبة رموز أخرى، والشح القليل من الإشارات عن الشخصيات والأمكنة، يساهم بجلاء في هؤلاء التيهيين بمعنى ما، وهم ساعون إلى غريب، وهم أنفسهم غرباء،وفي وسط هو ذاته ضنين بأسراره عليهم، حتى من جهة مقومات البقاء، وما يبقيهم على قيد الحياة، وكأن مسرح لامعقول يتراءى هنا، أعني رواية لا تخفي مسحة من العبث في نهايتها: نهاية سرد يجري تتبعه، استمراراً لحالات القهر المتتابعة والمضنية في ( كهوف، وثادريميس)، لانعدام القوى الإرادية التي تشفع لهم، أو تخوّلهم للدخول في المساحة المرئية المريحة جغرافياً، وفي حقل التاريخ الجدير بالتقدير، لأننا نصادف، ومن خلال شخصيات الرواية وعوالمها، ما يشكل محور الرواية، أعني ( اسم الوردة هنا)، وهو( الرجل المرهق العينين)، الذي تقدم بنا ذكره في البداية هكذا توصيفاً دقيقاً دلالياً فقط ( شحذ الرجل الجالس على جذع شجرة مهشَّم، قبالة المياه في خليج أودن، مديته العريضة الشفرة على مبرد حجر مضلَّع. نطق المعدن في احتكاكه بالمعدن، فأصغى قلب الرجل إلى حكمة اللسان الصلب. ص 11)، الآخرون هم الذين يشكلون أدواراً داخل دور أكبر، مسنود إليه، لا تنتهي الرواية إلا بنهايته المباغتة، بأسمائهم وألقابهم الغريبة بدورها هنا ( داهناليدا المعصوبة العينين،ماسيليدي شبح الزنبق، جيماتيرك محيّر شجر القيقب، ص7- غيرموهالي نفس الأيل في المغيب، ص 8- نيديداد الغيمة في الشروق - راموسيراسمو ذو الأنف الأقنى، ص 16- قناع الذئب: يوها، ص 46- قناع السنجاب: سِيل العالم- قناع العقعق: لُو- قناع الثور: راكوف الباسل، قناع الأوز:فيناكو، ص 47-قناع الوعل، ص 50....الخ)، ومن الصعب بمكان التفريق بين أسمائهم وألقابهم.
عبر الشخصيات هذه، من خلالها، خارجها، حيث جلاء الاسم والحامل لمحموله يتبدى كثيراً الحجاب الحاجز للرواية، والذي يغري على استبصاره باستطلاعات الأنشطة المنتشرة في المساحة الروائية المرئيةوالمخفية معاً،، يكون الرجل المرهق العينين، مرهق الإرادة، لأنه يدقق فيما هو أمامه، فيما يملكه، كما أشرت، وهو يختصر، لأنه تعب مما هو فيه، وكل شيء لا يخرج عن مألوفه، فيكون السرد المتضمن للغريب محاكاة للسر الذي يُلمح إليه، إنما دون مكاشفته، الرجل المرهق العينين، باسمه اللااسم هنا، اللااسم الذي يقصيه اسم آخر يشد إليه الروائي، وبلقبه اللالقب، إنما أداة تعجب فالقة، يعرّف ببعض لافت من تاريخه، مما يعنى به الآخرون في محيطه : المسافرون، الرحالون ممن ذكرنا، وهو يواجه المياه ( أبنائي يتكاثرون في المياه. آبائي يتكاثرون في المياه، ردد على نفسه: " تماثيل". وضع راحته على جبينه " تماثيل" ...الخ 34). المياه: الهيولى، الرحم الأول، المخاض الكوني،حالة المجاهدة، وضعية البدء الاستهلال لما يجب أن يكون تالياً، في انتظار المنشود، وربما نكون هنا إزاء ( الأب العماء: الفاني في عمائه) هذا الذي يختتم به بركات فقرات ديوانه ( المثاقيل)، والمياه مبتدأ الآتي، ولكنها ليست تجسيداً لـه، فالتالي يتطلب القوة القادرة على التحويل. يتداخل الرجل هذا مع رجل خارج من الماء، من يكون موضحّاً لبعض من سره( ربما لم أتعرف إلى اسمك، لكنك كنت معنا تجر السفينة إلى هيلاكريتوثينيس. ص 67)، وما يثقل الصورة، ويقل الناظر( نحن مهددون بالمياه، موعودون بالمياه كحظوة. أجسادنا مثقلة بالمياه، والبحر تذكير بذلك. البحر تذكير بأننا لا نملك إلا ذاكرات أشباح)، إزاء الحالة المأسوية هذه، يكون الرجل المرهق العينين شبحاً متشكلاً، هيولى غير قادرة على التمييد( التحويل إلى المادة : جسداً فعلياً، وناطقاً، وهو الذي نعلم به ، ومن خلاله ( " أظنني أردم بعقلي ما يحفره لساني. لساني على صواب، وعقلي على خطأ. المسألة ليست البحر، يا ابن أرض دوكون" فتح عينيه : " المسألة ليست التماثيل المعدن، المنتصبة قبالة بحر هيلاكريتوثينيس، بل السفينة. المعضلة كلها هي السفينة، التي لم نكن في حاجة إليها- سفينة التيه في البر. من بلوغ السفن البر تبدأ المعضلة...الخ ، ص 69). يظل الرجل المرهق العينين هذا ممضَّاً من الداخل، مأخوذاً وهو في قلق ملحوظ بين ماض لم يكن يريده، لأنه ضاغط عليه، كما هو الوضع الذي يتبدى به، وحاضر يبقيه طريد تاريخ يحيله إلى حالة تورية، إلى اسم لا يجيز له التحدث بصفته حامل اسم: كائناً رضياً بما هو فيه وعليه، ومستقبل يهابه، بصفته رائياً له، وكأن لعنة نازلة هنا، ويتداخل الشعر مع النثر، استواء لوقائع لم تعد ممكنة الفصل، كحالة انجراف تاريخية، كزمن لم يعد بالامكان التعامل معه ضمن مؤطّرات، أي ضمن لغة مدرَكة بوظيفتها، فيكون النوعين وهما متداخلان، حضوراً للأب العماء، للمياه التي يُرغَب فيها، ويهاب جانبها، كما نقرأ ما لا يمكن قراءته بسهولة ( صدئت المدية من أبخرة الأباريق فوق الموقد الآجرّ- كتم المعدن فكرته الصقيلة- أُهملت العلامة العمياء. ص 92).
لم يعد بالإمكان التواصل مع الحالة هذه، لقد بلغ العبث ذروته في إهاب الرجل المذكور( ذي العينين المرهقتين)، لأنه يواجه عالماً جليدياً،وهو فيه، وهو كاف على أن أحداً ما، غير موجود. ما يقلق الفعل الروائي: تحوره، أو انبثاق الخاتمة غير المتوقعة، ليكون الرجل المعتمد ضعيف الإسناد من جهة الشهادة، وتكون الرواية من خلال ( العينين المرهقتين)، إبرازاً لطارىء حدثي، عندما تأتي الفقرة الأخيرة التي تلي ما يشبه تقرير الرجل السالف الذكر، وعلى نقيض مرئي، من جهة القيمة، وتغيير مجرى الحدث بالذات ( تجرعت غابة البتولا الصخب طاحناً من أباريق ظلالها. سُلخ النور. سلخ المكان معلقاً إلى خطاف الرؤيا الحديد: سفن لا تُحصى شقت ممرات الأرض، متجهة- بأشرعتها المنشورة على الصواري- صوب منعرجات خليج أودن، يجرها بالحبال، زحفاً على بطونها، خلق كثير- في معاطف مهترئة، لهم رؤوس أيائل بقرون متشعبة تسع شعاب ٍ في كل قرن، ليست ذهباً أو فضة، بل ماء جليد، نقي بلور، لا تشبه قرون الأيائل في سكوغوس- أرض العبث المعتدل. ص 121).
في رواية ( ثادريميس)، صعدت مجموعة تماثيل، على مهل، الصخرة المستوية السطح، وهي تواجه ( الشسع الأزرق، الساكن، السحيق: بحر هيلاكريتوثينيس. ص 87)، وها هي السفن بخلقها الموصوفين، وهي تخترق البحر الجليدي، أي تخرج من ماض ( جامد) ، وتدخل في حاضر( دافىء)، أو متوقع في أن يكون دافئاً. فتكون النهاية صادمة لما سبق التوقف عنده، من قبل الشخصيات المذكورة، وتجلي السرد الروائي في أوج احتدامه مع تاريخه، ومع المخفي فيه أيضاً، فلا يعدو شق الجليد سوى أن يكون تغلباً على الطبيعة، ودخولاً حياً في التاريخ، حيث المتكلم هو ذاته الكاتب: الروائي، وهو بذلك يضع حداً للمأثور عن المرهق العينين، صاحب المدية والمبرد، أو الجذع المهشم، جذع الشجرة التي لم تعد قادرة على النماء، إنما تحيل القارىء إلى مواجهة مع الجذع الذي يستوجب تجاوزاً، وها هي السفن مرئية، وكأن التاريخ الذي ينتظر لحظته للتدوين، إزاء المياه: المعضلة، المياه التي تجمدت ، وقد بدىء بشقها، والسفن التي لم تستطع العبور، ها هي تمخر البحر الجليدي( أرض العبث المعتدل)، ليكون العبث ذاك الذي تبدى في الذين تابعنا مسيرتهم المأسوية، وكيف توقفت، لأن الطبيعة وقعت عائقاً، والقوى لم تكن في مستوى التحدي الطبيعي بالذات، فيظهر سرد جديد، بنبرة جديدة، ويبرز عبث لا يعود كما كان، لأن ما هو كائن يخفف من وطأته، كما هو الجليد المخترق، الجليد العبث: والماء المتضمن داخله أو أسفله: المعتدل، والأمل، في أن يستحيل الجليد ماء، ويظهر الأبناء( أم الأحفاد)، جديرين بلقب المائيين، ومستحقين إقامة في التاريخ الذي لا يعود عبثاً.
ما يمكن التوقف عنده، ولو باقتضاب، كيف نجد أنفسنا إزاء الرواية هذه؟ وبعد سلسلة انعطافات في المسقط الروائي، بلغة الهندسي: الكردي، العربي الفلسطيني، اليوناني، وأخيراً السويدي، دون تناسي موقع الضمير المنفصل أو المتصل أو المستتر: الكردي في كل ما تقدم، إذا كان العمل لا يسميه جهاراً، كالحال هنا، وفيما سب( في روايتيه السابقتين تحديداً)،هل بات بركات هنا، في مواجهة التاريخ السويدي مادة لروايته، السويدي الباحث عن مسقط رأس سويدي رمزي محوّلاً لابداعه، ورجوعاً بتاريخ سعى إلى تناوله روائياً، ربما قبل ثمانية قرون، كما كانت السويد تتهيأ لدخول التاريخ، إثر غزوات الفايكينغ : البحارة الشجعان للمنطقة والسويد ضمناً، لتتشكل السويد الدولة، وتحاول بناء ذاتها، وقد تخلصت من الوثنية وقتذاك، حيث كانت محاطة بالجليد لزمن طويل؟ ما الذي يريده بركات بذلك، وثمة تاريخ سويدي متجلٍّ في الرواية، ولو بإشارات عامة؟ هل دخل المعترك السويدي عبر بوابة الأدب، وباسلوبه، فيتلمس ما هو ممتد أمامه لقياه ورؤياه معاً، ليكون ما يخصه في الذاكرة البعيدة في مقاره، حيث زمن شاسع، كما هو الجليد الفاصل بينه وبين المكان الذي انطلق منه، لتكون مادته الروائية حيث يعيش الآن أكثر إغراء له، لمتخيَّله في الممارسة الروائية؟ هل الموت الحاضر بكثافة في أعماله الأخيرة، والعمل الأخير، وما يسبق ذلك من قهر عوالمي، تجسيد لما يستطع بركات مواجهته، من باب: استحالة التجسيد، كمادة، فيعوَّل على المرئي أمامه، أو ما هو في ذاكرته القريبة، أكثر قدرة على تموينه رمزياً، ليكون الانتماء علامة تائهة في حدث لم يعد قادراً على ضبط مساره، أعني التفاؤل بمآله؟ أم أن ثمة ما يتجاوز كل ذلك: في الوقت الذي كانت السويد تصعد من تحت الجليد وقتذاك، كان الشرق، وتحت قيادة صلاح الدين الأيوبي( الكردي هنا، ولا أظن بركات ببعيد عن المواجهة التاريخية ضمنياً)، في أوج انتصاره، ذاك الذي لم يدم؟ صلاح الدين: الأب المائي، الخارج من الماء: من التاريخ، والذي عُرف باسمه، دون نسيان من يكون أصلاً، دخل تحت جليد التاريخ، حيث نسي من يكون، أو لم يكن مهيئاً للمواجهة أكثر من ذلك، لتكون السويد قاهرة الجليد، خارجة من تاريخ عمائي، وراسمة المستقبل أكثر وساعة للأبناء الذين صعدوا إلى السطح: تاريخياً، وهو اسلوب لا يخلو من عدمية نظيرة تاريخها الذاتي، ومساءلة للذين يعيشون الواقع، عن مصيرهم الذي يميل تجلداً، فيكون التمرد في أقصاه أدبياً، وربما نذيراً بكارثة وشيكة، إذ باتت حركة التاريخ دون الحد الأدنى من مفهومها، لأن الجذع المهشم صار عائقاً جلياً في الفصل بين ما كان وهو قائم، وما يمكن أن يكون، وهو مخيف لأنه العبث الثقيل. ألهذا يكون الموتى المبتدئون، التجلي الأعظم لتاريخ صار في أكثر حالاته انسداد أفق، ومن خلال قائمين في هيئة الرجل المرهق العينين؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة