الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحكومة والتظاهرات وأشياء أخرى

أسعد محمد تقي

2018 / 7 / 27
مواضيع وابحاث سياسية



لماذا تطالبون الحكومة بالكف عن مواجهة التظاهرات السلمية بالقوة المفرطة وصولا الى استخدام الرصاص الحي؟
من المنطقي جدا ,عندما يلتفت اي مسؤول حكومي الى مسار الخمسة عشر عاما الأخيرة , أن يشعر بالرعب من أي صوت يشتكي من نتائج تلك السنوات الرغيدة بالنسبة له والعجاف لباقي الناس العراقيين .
بدأ بناء الدولة العراقية في بداية العشرينات من القرن الماضي وبالرغم من شحة الموارد آنذاك والتي بدأت تتصاعد تدريجيا بفعل العمل الدؤوب للناس والمسؤولين وبفعل العقلانية للأستعمار البريطاني والذي يتسم بالذكاء , ذلك الذكاء الذي يجعله شديد الحرص على بقاء فريسته ويمتنع عن قتلها لأن في قتلها نهاية حصاد الفوائد منها , وبالرغم من ان مسار الثمانين سنة التي تلت بناء الدولة العراقية كان ممتلئا بالأنتفاضات والثورات والأنقلابات العسكرية والحروب العبثية الداخلية منها والخارجية وبرغم الصراعات السياسية والتصفيات التي رافقتها بسبب المفهوم الخاطيء للسياسة والذي تربع في أذهان بعض القادة السياسيين والحكام ومفاده ان الآخر المعترض والمناقض يجب تصفيته بالقوة ولا سبيل آخر للأنتصار عليه ... برغم كل هذه الخدوش والتشوهات في تلك الثمانين سنة من بناء دولة العراق الا انها لم تكن كما صارت عليه الدولة بعد العام 2003 وحتى الآن . لقد ضاعت حدود الدولة بسبب الفهم الخاطيء للديمقراطية , ذلك الفهم القائم على التسيّب وتوزُّع مسؤوليات الدولة بين مراكز قوى تتسم بالغباء أحيانا وبالبؤس السياسي النابع من الخلط بين الدين والسياسة وبالتالي الخلط الفج بين قدسية الرب التي يقتضيها الدين وآدمية رجل الدين القابلة للخطأ والصواب . هذا الخلط الذي كان رادعا لأية محاولة لتصحيح المواقف ومانعا لأي انتقاد لسلوك السياسي المتبرقع بقدسية الدين والأيحاء للبسطاء بأن انتقاده انما هو انتقاد للأله .
وتحت هذا الضياع لحدود الدولة ارتكبت الكثير من الموبقات , والتي يتنصل من مسؤوليتها كل من أمسك بصولجان الحكم أو من دخل الدائرة الضيقة للقرار الحكومي , ارتُكِبَت تلك الموبقات تحت ذريعة معالجة مخلفات الفاشية مرة وتحت ذريعة مكافحة الأرهاب مرة اخرى وبين هذه وتلك ذرائع اخرى كثيرة مثل الكفاح ضد التهميش والأقصاء بالرغم من ان هؤلاء المكافحين يطلقون حناجرهم في كفاحهم هذا من مناصب عليا يتبوّأونها ويتلاعبون بالمال العام كما يتلاعب غيرهم وربما أكثر.
لقد اتسمت هذه السنوات الخمس عشرة بعدد من الميزات الغريبة , ربما أبرزها هو ذلك النفوذ الحاسم للسفارة الأمريكية في بغداد والذي اصبح محاكيا للغرائب فمثلا تقوم دولة هذه السفارة بإنشاء مراكز هي اقرب الى القواعد العسكرية في شمال العراق , إقليم كردستان , دون ان تكلف نفسها أخذ موافقة الحكومة المركزية , وربما اخذت موافقتها ولكن هذه الموافقة لم تُعلن .. ربما .
حكومتنا المتسامحة جدا تنظر بلا أبالية لآلاف المشاريع التي كانت تمتلكها تحت مسمّى "القطاع العام" والتي يتآكلها الأهمال ويعلوها الغبار وتتعرض يوميا الى التلف والسرقة وبين آنٍ وآخر نسمع عن ان هذا او ذاك من المشاريع تم عرضه للأستثمار ووراء هذا الأستثمار طابور من الفاسدين الذين يستلمون الرشى مقابل تسهيل عملية ابتلاعه من قِبَل "المستثمر العراقي" ..
يتحدث البعض عن القطاع الخاص وعن اقتصاد السوق , وهذا شيء جميل اذا ترافق مع مفهوم دقيق وسليم للديمقراطية . فقبل ثورة 14 تموز 58 كان هناك قطاعان يعملان جنبا الى جنب , قطاع خاص وآخر قطاع عام بَنَته الدولة بالمال العام وصار ملكا للشعب .. وبعد الثورة لم يتم التضييق على القطاع الخاص بل ان الثورة سارت على نهج آخر , شجّعت القطاع الخاص في مجالات كثيرة ولكنها وسّعت القطاع العام الى درجة كبيرة تتناسب مع واردات الدولة وقدرتها على التمويل ولكن الأكيد لم تكن هناك موانع أمام القطاع الخاص في العمل والتوسع وبقي الحال على هذا المنوال , وإن بدرجة أضيَق , حتى في زمن الحروب العبثية التي خاضها نظام صدام وما تقتضيه أجواء الحرب من مركزية عالية وإخضاع كل شيء لمقتضيات تلك الحرب .
والغريب ان النظام "الديمقراطي" الذي أعقب الأحتلال في 2003 قد أجهز على القطاع العام استجابة للرغبة الأمريكية الثابتة في تجريد الدولة من كل وظائفها في الشأن الأقتصادي والأنتاجي وحصر وظيفتها في مراقبة تطبيق القانون وقضايا الأمن والدفاع وحتى هذه من الممكن ان تناط بالقطاع الخاص في فترات لاحقة حين تتوفر الظروف الملائمة .
ومن الغريب ايضا اننا بين فترة وأخرى نسمع من كبار المسؤولين أحاديث عن القطاع الخاص وتلميحات الى اننا من الممكن ان نأخذ مسار أوربا في هذا المجال والتي تطورت على أساس المبادرة الفردية والملكية الخاصة لوسائل الأنتاج وتم تطويرها على أساس من قواعد وقوانين الأقتصاد الرأسمالي . ولكننا لم نسمع أحدا من المسؤولين يشير الى ان أوربا لم تكن تحت نير النفوذ الأستعماري كما هو الحال مع العراق والذي وقعت عليه الفؤوس من كل حدب وصوب عندما أراد بناء دولته على اساس حر وبالأعتماد على قدراته الذاتية بعد ثورة 14 تموز 58 وبالأعتماد على نشاط القطاعين العام والخاص . لقد واجهت تلك الثورة 38 مؤامرة خلال حياتها التي امتدت أربعة أعوام ونصف وأخيرا نجحت السفارة الأمريكية في تنفيذ وتوجيه الأنقلاب الدموي في الثامن من شباط 63 . أوربّا استكملت بناء اقتصادها وفق قوانين الرأسمالية قبل مرحلة الأستعمار .
ولم يحدثنا احدٌ من مسؤولينا عن ان رأسمالية أوربا قد بدأت من المشروع البسيط "المانيفاكتورة" وصولا الى المشاريع الكبيرة .. نعم انها استثمرت جهود العمال من مواطنيها ولكنها بنت رأسمالها في الغالب من الأنتاج وتصاعده الى مستويات افضل كلما قدمت العلوم ابتكارات واكتشافات جديدة تسهل عملية الأنتاج وتزيد من وتائرها (ولو انها من الناحية الأخرى تزيد من استثمار العمال وسرقة مجهوداتهم) ولكن رأسمالية أوربا عندما تطوّرت ووصل انتاجها الى مديات واسعة وأوسع بكثير من قدرة أسواقها على استيعابه , مدت بصرها باتجاه مناطق النفوذ فكانت المستعمرات وكان الأستعمار . كل هذا يشير الى مصادر تراكم رأس المال لدى الأنظمة الرأسمالية و يجعل من الواجب على مسؤولينا ان يوضحوا لنا من اين حصل مستثمرونا على الأموال التي سيؤسسون بها قطاعهم الخاص ويبنون بها رأسماليتهم العتيدة , خاصة وإن آخر نظام سبق العام 2003 كان نظاما مركزيا الى حد بعيد ولم يكن حديقة يرتع بها النشاط الخاص وقطاعه الأقتصادي وضيّق كثيرا على الرأسمال الخاص (يعزو البعض هذا التضييق الى اجراءات الحصار الأقتصادي الذي فُرِض على العراق بعد حرب الكويت).. الان حكومتنا ومسؤولينا يرتعبون من إثارة مثل هذه الأسئلة ويصيبهم بالهلع هتاف المتظاهرين الذي يتهمهم باللصوصية والسرقة . وإن آلافا منهم سيكون مصيرهم السجن لو تم التدقيق في مصير أكثر من ترليون دولار شكلته عائدات العراق من تصدير النفط بالأضافة الى عائدات أخرى ربما تأتي من الضرائب والرسوم الجمركية والأنتاج المحلي إن وُجِد . وأغلب الظن إنهم يأملون بالخلاص , أذا ما ساءت الأمور , بالأعتماد على الجنسيات الثانية التي منحتها لهم الدول الأخرى .
حكامنا لم يحدثونا عن انتاجنا الزراعي وانتاجنا الصناعي حتى الصغير منه ولذلك يشعرون بالرعب من تساؤل المتظاهرين عن السبب في تردّي هذا الأنتاج ووصوله حد الصفر , إذ إنهم يدركون ان الأجابة الوحيدة لهذا التساؤل ستكشف تفضيل عشرات المسؤولين الكبار الكسب من خلال استيراد المواد الغذائية والأستهلاكية الأخرى على انتاج هذه المواد الأستهلاكية والغذائية في العراق الأمر الذي سيحرمهم من مكاسب استيرادها ولذلك يجب تدمير هذا الأنتاج وتدمير فرص استعادته لعافيته .. وطبعا مكاسب الأستيراد لا تقتصر على عوائد تجارية بل هناك ايضا التهرب من الجمارك والضريبة وأيضا الحصول على الدولار من مزاد اللصوصية مزاد الدولار في البنك المركزي وكلما زاد استيرادهم زادت كمية الدولار التي يحصلون عليها من ذلك المزاد (يتحدّث البعض عن إن جزءا كبيرا من الأستيراد هو على الورق فقط من أجل الحصول على كميات اكبر من الدولار من ذلك المزاد المشبوه) , ولذلك صار وادي الرافدين يستورد الطماطة والخيار ويعجز عن صناعة قطعة القماش أو اي شيء آخر . فيما تعلو الأتربة مشاريع صناعية كلفت المليارات من أموال الشعب لأن هذه المشاريع تمثل القطاع العام الذي تمقته أمريكا أشدّ المقت .
حكّامنا يبالغون في ولعهم بالمبادرة الفردية واقتصاد السوق والأستثمار الخاص الى الدرجة التي جعلتهم يهملون التعليم والخدمات الصحية لكي يوفروا ظروفا صالحة لنجاح القطاع الخاص في هذين المجالين . ولكن في ظل غياب القانون وضياع حدود سيطرة المؤسسات الحكومية والقانونية وافتقار القطاع الخاص الى الخبرة في هذين المجالين المهمّين بالأضافة الى تدنّي مستوى النزاهة لدى المستثمرين فيهما ( وجُلّهم من أثرياء الفساد) صار العراق في ذيل القائمة بين الدول في التعليم والصحة .
ولكن الأشد إيلاما هو هذا العذاب اليومي الذي يواجهه العراقيون وأعني به , مشكلة الكهرباء , أنهم يحاولون قسرا إدخال فكرة القبول بالأستثمار الخاص في هذا القطاع الحيوي والذي لم يجرؤ الأحتلال الأنكليزي على جعله قطاعا خاصا وعاشت الدولة العراقية حياتها كلها على فكرة كونه قطاعا عاما من مسؤولية الدولة وحكومتها .. ولكن الأستثمار في قطاع الكهرباء يعني أرباحا هائلة بمليارات الدولارات لذلك تأمل الولايات المتحدة ان تتبوّأ إحدى شركاتها العملاقة عرش انتاج الطاقة الكهربائية في العراق ولا بأس في ان تكون تحت اسم شركة عراقية يشارك فيها عراقيون من حملة الجنسية الأمريكية من أمثال الدكتور أيهم السامرائي وغيره وبأموال سرقوها من المال العام العراقي (كان السامرائي وزيرا للكهرباء في حكومة الدكتور أياد علاوي واعتقل لأنه متهم بالفساد والسرقة واختفاء ملياري دولار من أموال إصلاح البنية التحتية للكهرباء , وحررته القوات الأمريكية لأنه مواطن أمريكي)
هناك مشكلة كبيرة يعاني منها العراق وشعبه ... هذه المشكلة تكمن في تلاقي الرغبة الأمريكية في "تحويل العراق الى بلدٍ ريعيّ" بمثيلتها لدى الكثير من حكّامنا وبرلمانيينا ووزرائنا وقادتنا السياسيين .. الرغبة الأمريكية سببها تحقيق الأرباح والمكاسب لأمريكا واقتصادها , فيما رغبة حكامنا منبعها تحقيق الأرباح الشخصية واستمرار تنمية ثرواتهم الخاصة وبالتالي ايداعها في البنوك التي تقع في النهاية تحت السيطرة الأمريكية وهذا الأمر يحولهم الى رهائن لدى الأدارة الأمريكية , إذ بمجرد وقوف احدهم بالضد من المصالح الأمريكية توضع اليد على امواله المودعة بالبنوك ويجري التلويح بإضبارته وفيها جرائم فساده ولصوصيته .
حكومة الخضراء تستخدم العنف والرصاص الحي ضد المتظاهرين المطالبين بنظام مدني خال من الفساد , وبإجراءات عملية لأعادة الحياة والنشاط للأقتصاد العراقي بالأضافة إلى استرداد الأموال المسروقة من سرّاقها ومعاقبتهم ومطاردتهم دوليّا . ويبدو هذا منطقيا إذ ليس بيد السارق غير العنف للأحتفاظ بغنيمته .. انهم فتحوا المجال الوحيد للتوظيف , الشرطة والجيش , وتوسعوا بالقبول فيها الى درجة كبيرة وها هم اليوم يجنون الفائدة من هذا , يدفعون الشباب الذين هللوا للوظيفة , وهم في العادة من الفقراء الذين طحنتهم ظروف العراق في العقود الثلاثة الماضية , يدفعونهم لاستخدام العنف ضد اخوتهم من المحتجّين على هذا البؤس الذي يمزق العراق وشعبه ... إنها نتائج التدريبات التي كانت ترعاها الولايات المتحدة في الأردن للمتطوعين في سلك الشرطة بعد الأحتلال مباشرة . ولكن السؤال هو : ما الذي سيجري , وكيف سيكون القمع وما هي قسوته عندما تبدأ القاعدة التابعة للناتو والتي يزمع الحلف الأطلسي افتتاحها في العراق في الخريف القادم كما أعلن رئيس القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط "جوزيف فوتيل" وهذه القاعدة ستكون مهمتها "تدريب قوات الأمن العراقية" . وحسب الأخبار إن هذه القاعدة ستضم 250 عسكريا مع "عربات مدرعة ومروحيات وطائرات مسيّرة" (حسب وكالة "رووداو")
هناك اليوم موضوعان من الممكن ان يكونا بوابة للفوضى والصراعات بين القوى السياسية داخل البلاد , الأول هو هذا الفساد المستشري والذي صار أبطاله يتحدّون كل القيم والأعراف وربما يتباهون بما حققوه من نتائج باهرة على صعيد المغانم الشخصية ولا يبالون بما انتجه من التردّي بالخدمات ومستوى الحياة العراقية . أما الثاني فهو موضوع الأنتخابات والنتائج التي تمخضت عنها والأعتراضات التي رافقتها والتي ادّت الى اتخاذ قرار إعادة الفرز والعد يدويا .
في الموضوع الأوّل ستكون التظاهرات وسيلة للصدام وفي الثاني ستكون اعتراضات القوى السياسية المدججة بالسلاح بوابة للصراع والفوضى وكلا الموضوعين سيقدّم مبرّرا لقيام قوّة عسكرية متنفذة بإيقاف كل شيء والأمساك بصولجان السلطة لحين استتباب الأمور وبدعم من السفارة الأكبر في العالم لأن أمريكا اكتشفت ان العودة للدكتاتوريات السابقة هو الأفضل بعد ان اكتشفت زيف قناعتها بكونها القطب الأوحد عالميا , وهي اليوم تفضل العودة للأساليب التي كانت سائدة أيام الحرب الباردة ومنها إعادة الجزمات العسكرية للأمساك بإدارة بلدان النفوذ .
هناك نكتة أمريكية تقول
(Be nice to America´-or-we ll bring the democracy to your country )
( كن لطيفا مع أمريكا وإلا سنجلب "الديمقراطية" لبلدك)
يبدو إن العراقيين لم يكونوا لطفاء مع أمريكا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قميص -بركان- .. جدل بين المغاربة والجزائريين


.. مراد منتظمي يقدم الفن العربي الحديث في أهم متاحف باريس • فرا




.. وزير الخارجية الأردني: يجب منع الجيش الإسرائيلي من شن هجوم ع


.. أ ف ب: إيران تقلص وجودها العسكري في سوريا بعد الضربات الإسرا




.. توقعات بأن يدفع بلينكن خلال زيارته للرياض بمسار التطبيع السع