الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاميرات آدمية (قصة قصيرة)

احمد الباسوسي

2018 / 7 / 30
الادب والفن


اذا كنت تعتقد انك تسير في الشارع من دون ان يراقبك أو يتبع خطواتك أحد فانت واهم، جرب ان تنظر خلفك فجأة وانت تسير، سوف تكتشف ان شخصا ما يتتبعك، يطلق أعيرة عيونه النارية بين كتفيك. انها حقيقة لاينبغي ان تسخر منها، أو تقلل من درجة أهميتها. لم يعد في هذا العالم شيء تستر به عورتك، تأكد انك تسير في الشارع هذه الأيام من دون سروال، لكنك تتوهم انك مستور بسروالك الذي اشتريته من احد شوارع وسط البلد التجارية المشهورة ببرنداتها العالمية. ذات مرة بينما كنت اتسكع في شارع سليمان بالقرب من ميدان التحرير، كنت بمفردي، فاجأتني امرأة بدينة، وجهها مخروطي مثل كوز ذرة كبير مغلف بالخضار جلبوه توا من الأرض، أنفها كبير مقوس مثل الخطاف الحديدي الذي يرفعون به السيارات المتعطلة في الشوارع. مدت كفها الثقيل تصافحني، تهيبت الأمر من الدهشة، شعرها المشعث، اسمالها الممزقة، يشيان بانها امرأة غير طبيعية مثل المشردين الذي اعتدنا الاصطدام بهم في الشوارع هذه الأيام. ابتسمت من جفولي، مازال كفها الثقيل معلق في الهواء، أخبرتني بهدوء انها تعرفني جيدا، تعرف كل تفاصيلي، شقتي الفقيرة التي اقطنها في الحي الشعبي، ومديري في العمل الذي يتلذذ باذلالي كلما طاف عليه خيال وجهي، وزميلتي التي عشقتها لكنها ركبت قطار الراحة من اول محطة وتزوجت من شخص يملك محلا تجاريا لبيع الموبايلات، وتفاصيل راتبي الذي اتسلمه أول كل شهر، والأماكن التي يتسرب اليها بسرعة، حتى تفاصيل تلك المرأة البائسة التي تهاتفني عبر الفيس بوك تعلمها جيدا. ارتعبت، مال وجهي نحو الشارع المتخم بالسيارات والبشر والأسرار، بحركة تلقائية رغما عن ارادتي تسلل كف يدي الأيسر يتحسس خلفي، مكان البوكسر النظيف الذي ارتديته في الصباح، لاحظت ذلك بسرعة، اخبرتني وقد بدا يبين على وجهها علامات الملل وعدم الاكتراث، " اطمئن، مايزال في مكانه، لونه أزرق في اخضر مقلم". ضوضاء الشارع تتصاعد داخل رأسي من جراء تلك الآلة الرهيبة التي تنغرس في الاسفلت وتبقر باطنه بواسطة السن الحديدية الغليظة المدببة الرهيبة التي تعمل عن طريق ضغط الهواء فتشق الاسفلت الجامد وتصدر صوتا لايطاق، هذا الصوت القبيح الهادر قادر على استثارة التوتر والتهيج لدى جميع المتواجدين في محيطة. واجهتها بحسم بعدما تيقنت انني اقف أمامها عاريا تماما " والآن ماذا تريدين مني؟"، اجابت بسرعة ومن دون تفكير " احتاج نقود للسفر والعودة الى منزلي في بني سويف". تحسست بنطالي، اخرجت حافظة نقودي المحشوة بأوراق كثيرة لا لزوم لها، اصطادت أصابعي ورقة فئة العشرون جنيها، قدرتها لزوم السفر والذي منه، دارت عيونها لاهثة مفجوعة ما بين حركة اصابعي والمحفظة المنتفخة بالاوراق غير النقدية، كأنها بهتت من مرأى العشرون جنيها، كانت تتوقع ورقة بمائة أو مائتين، اتسع نطاق الاحباط، قالت " دائما انت هكذا شحيح في كل شيء، عواطفك ونقودك، السفر يحتاج أكثر من ذلك"، خبطتني هذه العبارة بقوة على جمجمتي، سخن الدم في عروقي ورأسي، "هذه الوقحة تجاوزت كل الحدود"، ترددت قليلا قبل ان أضع الورقة في كفها الثقيل، دهمتني موجة مفاجأة من الحياء والرعب بينما اقف عاريا تماما أمامها وهي تراقبني بهذه الطريقة، وتحملق في تفاصيل خلاياي،كأنها تبتزني وتساومني. على العموم كفها الغليظ كان أسرع من ترددي، ادركت اني سوف اعيد ورقة النقود داخل المحفظة وانصرف لحالي ولن أخضع لابتزازها، اسرعت بخطف الورقة من بين اصابعي بسرعة، أشهد ان هذه السيدة قارئة جيدة للافكار والمشاعر. جفلت عنها بسرعة اتلفت يمينا ويسارا، لم يعد يشغلني في هذا العالم سوى التفكير في الكاميرات التي تترصدني وتخترق ملابسي وجلدي وتكشف كل شيء. انها كاميرات آدمية تترصدك وتتبع كتفيك في الشوارع المزدحمة، من يومها وقد اعتدت ان اتلفت يميني ويساري، استدير بكامل جسدى فجأة في حركة التفافية لأكشف ما الذي يجري خلف قفايا، مسألة مرهقة وفي غاية الصعوبة، كنت في كل مرة استكشف امورا تجري خلف ظهري لم اكن اتحسب لها. ذات مرة كان هناك رجلين وامرأة يسعون خلفي، يتحدثون بالهمس واللمز، المرأة في كامل زينتها، اربعينية على ماتبدو في تلك الترهلات التي تتبعثر في بطنها وجانبيها، والساقين الممتلئتين المكتنزتين داخل البنطلون الأسود الجذاب المثير، بشرتها ما تزال تقاوم التجاعيد المتحفزة للانقضاض على هذا الجمال الخمري المسكين الذي افتقد طراجته توا، والعيون السوداء المدهشة ترشق في كتفي، والرجلان بكامل هيئتهما، يغوصان في بدلتين من طراز قديم للغاية صنعهما ترزي عجوز يستأجر دكان ايجار قديم منذ خمسون عاما في زاوية الشارع الذي أسكن فيه الرجلان يشبهان بعضهما تماما، ملامحهما مألوفة، صاحب الوجه البيضاوي يثرثر، والمرأة والرجل الآخر صاحب العيون العسلية يتأنجان، ذراع المرأة عالق بذراع الرجل، انوفهم ورائي، عيونهم ورائي، لاتغادرا كتفي. كلما اسرعت الخطى، اسرعوا، كلما ابطأت، ابطأو. واذا توقفت، توقفوا. سخنت عروقي من الغيظ، هؤلاء الثلاثة يراقبونني بالتأكيد، قررت استجوابهم، توقفت في زازية من الشارع في انتظارهم، تحولت ابصارهم عني، استكملوا سيرهم من دون ان يعيروني أدنى اهتمام، تملكني الخوف، زادت سخونة العروق، انفاسي تتدافع بكثرة في الهواء الساخن الخانق، لم يعد لي سيطرة على عيوني وهي تنفلت في جميع الاتجاهات تبحث عن الكاميرات الآدمية، ثلاثتهم المرأة والرجلين تجاوزني بمسافة كبيرة، وكاميرات كثيرة أخرى تركض خلفي تهمس وتثرثر وتكتب التقارير. قادني خوفي بشجاعة خلف ثلاثتهم، اسرع كلما اسرعوا، اتمهل كلما تمهلوا، دخلوا زقاق ضيق ينحشر فيه الرجال والنساء والاطفال الذين يملأون المكان ضجيجا وفوضى، يتسع كلما اقتربت من الشارع المفضي الى شقتي في ذلك البيت القديم الآيل الى السقوط، دخلوا البيت المقابل القديم الآيل للسقوط أيضا، تأملت اقفيتهم وخلفياتهم، خلفية المرأة مميزة للغاية، مثيرة، رجراجة، الرجل الذي يثرثر معها توقف فجأة، نظر خلفه، في اتجاهي، ورغم ذلك لم ينبس، قررت أن اخبره أني اعرفه جيدا، وأعرف تفاصيلة وخاصة ما يتعلق بتلك المرأة الفرسة صاحبة الخلفية الرجراجة، استجمعت كل ما املك من مكر وخبث، تحرك لساني رغما عن ارادتي، نطق اسمه واسم صاحبه الرجل البيضاوي الوجه، اخبرتهم بهدوء خبيث عن امتحانات التلاميذ التي يبيعونها كل عام، وعن الوان بوكسراتهم الداخلية التي يرتدونها الآن وكذلك تلك الموجوده داخل دواليبهم، وأخبرتهم كذلك عن مقاسات اعضائهم الداخلية بدقة مدهشة، وعن هذه المرأة الفرسة التي نجحوا في اغوائها الليلة لتمضية السهرة في الشقة المشتركة التي يستأجرونها من الباطن، في مقابل ان ينجح ولديها الفاشلين في المدرسة. تفرسا وجهي بدقة، لم يبين أي استغراب أو دهشة على ملامحهما التي اكتست بالامبالاة تقريبا، المرأة التي بصحبتهما ابتسمت وطالبتني بالكشف عن الوان ملابسها الداخلية، اضطررت أن أجفل بعيناي بعيدا عنهم مكتفيا بسماع دعوتهم للسهر معهم تلك الليلة، كانت الدعوة تتردد خلف ظهري بالحاح.
د.احمد الباسوسي
يوليو2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با