الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السفينة - نقد

سعيد رمضان على

2018 / 8 / 4
الادب والفن


قراءة في قصة السفينة
لمحمد بن جماعة - تونس


تعمل هذه القصة على أحداث شرخ في شخصية الراوي / البطل ، مما يبدوا كأنه شخصيتين ، أحدهما يعبر عن التجربة الباطنية ، والأخرى تعبر عن الواقع الخارجي المعاش ، لقد بدا إن هناك تشويش من نوع ما ، وان الشخصية متوهمة تدخل في مجال المرض النفسي .. لكن الواقع أن الشخصية تتأرجح بين واقعها المعاش ، ومنطقة غامضة من الحلم الشفيف ، وهذا الحلم جعل الشخصية لا تظفر بحريتها التامة ، لأنها وقعت أسيرة له، مما جعلها فاقدة الإرادة ، .. وهذا الحلم يمكن التعبير عنه بأنه رغبة في الرحيل .. وتتجسم السفينة كرمز للرحلة ، لكنها ليست رحلة لبلاد أخرى .. بل هي رحلة أشبه برحلة إلى العالم الأخر ، فيما يبدوا كأنه يتمنى الموت ، مع إنها في الأساس رغبة عميقة في رحلة صوفية .. لأن السفينة تطفو أثناء وقوفها أو سيرها على الماء .
ومن المقطع الأول يشاركنا الراوي رغبته عن طريق تجسيمها أمامنا:
(في الواقع أنا لم أرها إلى الآن! ..وإنما أخذَتْ حيّزا كبيرا في ذهني، بل تجسّمت بشكلها ولونها، سفينة بشراعها وصاريها وحبالها وربّانها ومرافقيه.. أقول أنا لم أر بعد هذه السفينة، إلى يوم الناس هذا، ولكن بقوة حضورها في خيالي توزّعت في كامل كياني..)
إن المنطق الظاهر هو التخيلات .. فالسفينة تجسدت في الذهن ، هي ليست في الواقع لكنه يراها ، سفينة كاملة الصفات سيطرت على أعماقه وجعلته مسلوب الإرادة ،.. لكن الواقع إن ما يراه ليس تماما سفينة ، بل حدثا داخليا ، شيئا يتوضع في روحه ، لكن فيما بعد يذكر انه يرى السفينة واقفة في الميناء عندما يقول :
(ــ ها هي ترسو إلى الجانب الأيمن من الرصيف وليست ببعيدة عن سائر السفن الأخرى الراسية منذ شهور.. عجيب ما أرى، لم يهتمّ بها أحد، رغم طبيعة عمّال الرّصيف والرّبان والبحّارة.. فالجميع بطباع مجبولة على حب الاطلاع! ألا ينوي أحد استكشافها والتعرف إليها؟.. )
فهل رأى السفينة التي تخيلها فعلا رأى العين ؟ أم أن الحدث الذي تخيله قذف به خارج ذاته الباطنية، عبر الإسقاط ونجح في تحريكه من عالمه الباطني إلى العالم الخارجي بنجاح ؟
وهل يكون بذلك ضحية للوهم عبر أيجاد متخيل قذفه إلى العالم الخارجي ، باعتبار العالم الخارجي واقعا حيا وحقيقيا وملموسا ، فهو اكثر ثقة من التخيلات الباطنية ؟
المسألة شائكة .. وعويصة !!
فظاهر النص يقول إن صاحبنا مريض
وباطنه يؤكد إن صاحبنا ينقصه شيئا ويرغب في استكماله .
وقد رأى أن الاستكمال لن يتم إلا عبر رحلة .. أي الانتقال من مكان إلى مكان .. أو من حالة إلى حالة ، وقد نفيت مسألة الرغبة في الموت ، مرجحا حالة التصوف ، والسفينة تؤكد على هذا الترجيح لعدة لأسباب :
الأول : إن السفينة تطفو
الثاني : إنها تنفصل عن الأرض وتصبح منعزلة داخل الماء
والثالث : إن الماء يرمز إلى الطهر والنقاء
والرابع : التأنيث في كلمات : السفينة / أرها / حضورها .. وكلمات غيرها .. والتأنيث يشير إلى الرمزية الصوفية أو البحث عن الحقيقة .
والتصوف يحتاج إلى عزلة والصعود إلى مستوى معين من الأيمان مع الطهر والنقاء .. ولا يوجد سبيل إلى ذلك والإنسان مشدود إلى العالم الأرضي ، عالم المادة .. وهناك مقطع هام فعندما يذكر انه رأى السفينة يقول بعدها :
(عجيب ما أرى، لم يهتمّ بها أحد، رغم طبيعة عمّال الرّصيف والرّبان والبحّارة.. فالجميع بطباع مجبولة على حب الاطلاع! ألا ينوي أحد استكشافها والتعرف إليها؟.. )
هذا هو العالم الأرضي المجبول على حب المادة ، دون اهتمام بعالم الروح .
لكنه يؤمل بالخروج منه ، وأن يصبح متصوفا صاحب مقام تنكشف له الحجب :
(سأجعل لنفسي مقاما آخر! سأكون من الذين يتوقعون حدوث الأشياء ويستشرفون المستقبل !.. )
وبراعة النص تكمن في عملية التشابك بين عالمين .. فإذا كان بطل النص يرى إن روحه ترى الخلاص في التصوف ، فهو يرى انه ابن العالم الأرضي المجبول على المادة ، إن ذلك التشابك دفع بعمليه التوتر والصراع إلى طاقتها الخلاقة ، فالرغبة في التصوف هنا ليست هروبا .. بل هي احتجاج على عالم مادي ومظلم قاتلا للروح .. وهو يضع أمام هذا العالم المظلم عالما أخر نورانيا أجمل وأنقى بقوله :
(تعاودني صورتها كاملة في خيالي، لكن بشكل مختلف، أصبحت" نورانية"
ثم يؤكد على النور في مقطع أخر :
(السفينة نور ومن كتلة نور، ساكنة على صفحة الماء! )
ومرة ثالثة :
(الرّبان ينظر إليّ، غير عابئ بدهشتي.. لم يكن مرتديا ما ألفناه لدى الرّبّان.. قطعة من نور )
ويؤكد النص على وحده البطل وغربته في مقاطع :
(عجيب ما أرى، لم يهتمّ بها أحد )
(ـ اليوم أراها وحدي وغدا سيراها الجميع بأمّ أعينهم )
والوحدة تعنى إن يكون بعيدا عن الناس ، فهو مغترب عنهم ، مما يتوافق مع الرغبة في العزلة والتصوف .. لكن عمليه التصوف لم تتم ، إنها تفشل ،السبب واضح وبسيط، إن البطل غير مؤهل ، فمازال مشدودا لعالمه الأرضي بماديته ,, ينكشف ذلك في مقطع فريد :
(أغلق عيني ثمّ أفتحهما لأتحقّق ممّا أرى.. الأواني والأطباق الذّهبية والفضية مليئة بالغلال.. خطواتي على السفينة لا تحدث ضجّة - كالتي أستمع إليها الآن على الرّصيف- فتزداد شجاعتي للاطلاع على المزيد، حاولت أن ألمس بعض الأثاث ، فإذا حركت يدي نحوه إلا وابتعد عنّي مسافة أبعد! )
وبدلا من إن ينظر بنظرة روحية ، إذا به ينظر بنظرة مادية ، الذهب والفضة والغلال .. انه الطمع لنفس المادة التي تتحكم في العالم الأرضي ، وتمنع الإنسان من السمو الروحي والأخلاقي .. إن التجربة من بدايتها تفشل .. وسرعان ما يقذف به عائدا إلى الأرض مكانه الطبيعي ، كما يفشل أبطال الأساطير في ألف ليلة وليلة وغيرها، عندما لا ينطقون بالكلمة الصحيحة أو يتصرفون التصرف السليم ، بسبب انشغالهم بأشياء قليلة القيمة، فيطردون ولا يفتح لهم باب الكنز الحقيقي .
وهاهو بطلنا يجد نفسه مطرودا مثل أدم الذي طرد من الجنة وابتلى بالنسيان :
( تعاودني أسئلة رديئة: ماذا يصنع هؤلاء أصحاب الأردية النّورانية؟! ولماذا هذه السفينة؟ ولمن سأقصّ الحكاية؟.. فركت عينيّ جيّدا ومسحت عرقا خفيفا على جبهتي.. ورجعت قافلا من البيت إلى البيت.. !! )
إن الأسئلة التي عبرت عن النسيان تضمنت الشك ، كما عبرت أيضا عن الأحزان ، لقد رجع قافلا من البيت المأمول الذي حلم به ، إلى بيته العادي الذي عاش فيه قبل حلم الخلاص ، أو إلى وجود هو في الحقيقة وجود مقيد بقيد أرضي، بعيدا عن انطلاقات الروح الفريدة .
------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع