الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن المساواةِ والتفاوت بين البشر: جَانْ جَاكْ رُوسُّوْ مُسْتَعَاْدَاً

حكمت الحاج

2018 / 8 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(قراءة في أصل التفاوت بين الناس)

كان الشاعر الراحل محمد الماغوط*، الذي يلقب بالأب الشرعي لقصيدة النثر العربية، هو الذي قال بصريح العبارة في آخر لقاء تلفزي له مع قناة الجزيرة الإخبارية، قبل يومين من وفاته (وكان الماغوط قد توفي الاثنين (3/3/2006) عن عمر ناهز 72 عاماً) ان الشاعر الحقيقي هو الذي يرفض أية تسوية مع السلطة. وكما راح طوال الوقت الماركسيون العرب واللينينيون منهم بصفة خاصة ينظرون بعين الريبة إلى الماغوط وشعره النثري، بل والى جيل شعري ثوري بأكمله، بحجة انه إنتاج البورجوازية الصغيرة، معرقلين بذلك حركة الفكر العربي المعاصر الحقيقية إلى الثورة الشاملة، راحوا كذلك يهملون ما أمكنهم الإهمال، وبنفس الحجة تقريبا، تراثا طبقيا ثوريا حقيقيا يمثله فيلسوف السياسة وابن الشعب البار، جان جاك روسو، الذي قال عنه كارل ماركس تلك الكلمة الساطعة: (لقد رفض روسو دائما كل تسوية مع السلطة القائمة). ويقول أحد أهم دارسي روسو في الفرنسية انه يمكن ان نملأ مكتبات كاملة بكل ما كتب عن روسو ولكن من الغريب إننا لا نجد ببليوغرافيا كاملة عن أعماله. هناك نقد كثير وجه إلى روسو معتمدا بالخصوص على الحجج التي كتبها روسو نفسه في كتابه الشهير المثير (الاعترافات) فأظهرت هذه الكتابات روسو طفلا مدللا مهووسا متناسية العظمة التاريخية لعمله. وهنا انضاف سبب واه آخر كي تحجم الانتلجنسيا العربية في فترات المد اليساري عن روسو وأفكاره العظيمة.
ولكن، لماذا الآن نستعيد روسو؟
عن هذا التساؤل غير البريء سوف يجيبنا د. نور الدين العلوي ذلك الباحث الاكاديمي التونسي الذي قدم لنا مؤخرا ترجمة عربية جديدة لكتاب جان جاك روسو ذائع الصيت: (أصل التفاوت بين الناس) قائلا انه إذا لم يكن الإعجاب بنص روسو كافيا لترجمته فان التعلم منه يظل باستمرار ضروريا للعودة إليه باللغة المتاحة، ولان لغة روسو الأم لم تعد متاحة للكثير من مريدي العلوم الإنسانية نتيجة مشاريع الترجمة العشوائية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، ولان نصوص روسو في ظل تراجع القراءة توشك ان تختفي من الرفوف، إلا ان تكون تحفا خاصة، فان التنقيب عن روسو وتقريبه إلى قراء العربية يصير مطلبا ملحا دون أن ينفي ذلك ان قيمة روسو تظل فوق الاعتبارات الظرفية للقراءة وهو ما يجعل نصه فوق الزمن.
لقد تداول الناس لجان جاك روسو بشكل واسع كتابه في العقد الاجتماعي واقتطفوا منه ما يروق لكل خطاب ولكل ظرفية غير ان بقية نصوص روسو لم يتم تداولها بنفس القدر رغم أنها تقع موقعا مركزيا في فكره الاجتماعي، ولعل كتابه أصل التفاوت بين الناس يحتل مكانة لا تقل أهمية عن العقد الاجتماعي في عقد أعمال روسو لكنه لا يبدو متداولا بنفس القدر، ويعود ذلك في تقدير المترجم إلى أسباب عديدة منها ضعف الترجمة المتاحة وتأخرها وسيطرة الفكر الماركسي والترجمات الماركسية السوفيتية بالخصوص للفكر الماركسي وتطبيقاته التي أغنت قراء العربية عن العودة إلى غيرها ممن لم يطرح خططا عملية لإنهاء التفاوت بين الناس، فضلا على ان الديموقراطية السياسية التي تأسست على فكر روسو لم تصل قراء العربية بعد لذلك لم تصر الحاجة إلى روسو ضرورية للفهم والتحليل ثم بناء العمل الديموقراطي.
ان نص روسو بمجمله هو مادة أساسية للطلبة المتدرجين في الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية يقربهم إلى الفلسفة السياسية والى الفكر الاجتماعي لكيلا ينحصروا في شعبة من شعبه أو مذهب من مذاهبه التي تعلم الرؤية الضيقة والأفق المحدود. ونص روسو مادة أساسية كذلك للمختصين في العلوم الاجتماعية يبنون عليه التفكير في نشأة التفاوت الاجتماعي والصراعات المترتبة عنه منذ أن "تجرأ أحدهم وسيج أرضا وقال هذا لي"، إلى حين عولمة رأس المال المتوحش الذي يعيد توزيع الفقر على صعيد عالمي. وروسو كذلك مجملا أو مفصلا للسياسي الذي يزعم رعاية العقد الاجتماعي ويتحيّز لفئة دون أخرى ليستمر قائما يتمتع بالجغرافيا وينسى التاريخ. وغير هؤلاء كثير فروسو لمن يبحث عن بداية سليمة منذ قرنين أو يزيد ويدور حول نفسه ولا يجد مخرجا في تراثه ولا في تراث الإنسانية الواسع الخصيب حتى يفقد عواصمه واحدة تلو الأخرى.
لا غرو أن يعلق الدكتور العلوي مترجم الكتاب وهو الروائي الفنان أيضا، بهذه الكلمات المضمخة باللغة الأدبية الجزلة، ولكن قد يكون روسو أكثر من ذلك أو أقل لكنه اسم في العلوم الإنسانية لا يمكن المرور فوقه والادعاء بسلامة التكوين. وعسى أن تقرب هذه الترجمة نصا من أهم نصوص روسو إلى أهل العربية فلهم إلى روسو حاجة لا تؤجل، كما يؤكد مترجم الكتاب.
ومفيد أن نذكر القارئ بعيدا عن هذه الترجمة انه ثمة ترجمتين أخريين لأصل التفاوت بين الناس. أما أولاهما فقد قام بها عادل زعيتر ونشرت سنة 1954 ببيروت، وأما الثانية فقد نشرت سنة 1991 بموفم للنشر بالجزائر وقد قام بالترجمة بولس غانم وقدم لها ربيع عبد الكريم الشيخ، ولم يرد في ثنايا الترجمة أي تعريف للمترجم والمقدم. وإذا خطر لأي قارئ أن يسأل لماذا ترجمة ثالثة لنفس النص فإن د. نور الدين العلوي يقول بكل ثقة إنه يدعوه إلى أن يجري مقارنة فعلية لا سطحية للترجمات الثلاث وسيكفيه ذلك للإجابة.
لكن القارئ سيجد أيضا أنّ المترجم الثالث، د. العلوي، قد تداول الترجمة بعنوان هو "أصل التفاوت بين الناس" في حين أن المتن يتضمن لفظ اللامساواة وقليلا ما تم استعمال لفظ التفاوت. ويبدو انه قد اضطر إلى ذلك لأن العنوان الأول قد تم تداوله وشاع بين الناس فصار عنوانا وحيدا قد يوحي استبداله بوجود كتابٍ ثانٍ فضلا على أن لفظ اللامساواة لم يدخل العربية إلا حديثا وهو من الاشتقاقات التي لا تحظى بالإجماع المعجمي رغم سعة التداول، على حد زعم المترجم، ورغم انه أدل على اختلاف المكانة الاجتماعية من لفظ التفاوت. ويأمل مترجم الكتاب أن تثير الترجمة الجديدة نقاشا حقيقيا حول هذه المفاهيم والاصطلاحات مثلما نتمنى أن تثير النقاش حول الترجمة الأقرب للفظ (Discours) هل هو الخطاب أم المقال أم المقالة أم الرسالة أم هي معان تتغير في سياق تطور اللغة.
يقول جان جاك روسو في معرض حديثه عن أصل التفاوت بين الناس بأن جميع أسباب رقي الإنسان لا تفتأ تبعده عن حاله الأصلية، وأنه، كلما حشدنا معارف جديدة، زدنا تخلياً عن الوسائل التي بها نكتسب أكثرها أهمية، وأنه قد أصبحنا، هكذا، نبتعد عن الحال التي تمكن من معرفة الإنسان ابتعاداً يقاس بنسبة انصرافنا إلى دراسته من هذا المنطلق كان لا بد لروسو وفي محاولته لاستكناه أصل التفاوت بين الناس، وكان لا بد له من النظر في هذه التغييرات المتتابعة التي طرأت على تكوين الإنسان عند توليه البحث عن الأصل الأول للفروق التي تميز بين الناس، وكان لا بد له من النظر في هذه التغييرات المتتابعة التي طرأت على تكوين الإنسان عند توليه البحث عن الأصل الأول للفروق التي تميز بين الناس، لأنهم، بإجماع آراء البحّاث، كانوا متساوين تساوياً طبيعياً، ما كان عليه كل نوع من أنواع الحيوان، قبل أن تحدث فيه العلل الفيزيقية المختلفة بعض الفروق المميزة التي نراها اليوم. ذلك وبالنسبة لروسو كان لا يمكن القول بأن جميع هذه التحولات الأولى، أياً كانت الأسباب التي سببتها والعوارض عن كل ما يشوهها.
وقد بدأ روسو في محاولته هذه أولاً بسوق بعض البراهين مقدماً بعض الافتراضات، لا أملاً بحل المسألة، بل قصد إيضاحها وحصرها في نطاق حالها الراهنة. وهذا الأمر ليس بالسهل إذ أنه يمثل بحوثاً بالغة حد الصعوبة، والتي لم يفكر فيها إلا قليلاً حتى الآن، وهي وحدها مع ذلك ما بقي للإنسان من الوسائل لإزالة الكثير من العقبات التي تحجب عنه معرفة أسس المجتمع الإنساني الحقيقية، وجهل طبيعة الإنسان هو الذي تعريف الحق الطبيعي غير معيّن ومحوطاً بالغموض. ويقول روسو بأن هذه الدراسة نفسها، دراسة الإنسان الأصلي وحاجاته الحقيقية ومبادئ واجباته التي طرأت عليها، قد غيّرت، دفعة واحدة وعلى نمط واحد، جميع أفراد النوع، ولكن ربما أن بعضهم قد كمل أو فسد واكتسب صفات حسنة أو سيئة لم تكن ملازمة لطبيعته قط، فإن الأفراد الآخرين ظلّوا على حالهم الطبيعية زمناً أطول: ذلك كان مصدر التفاوت الأول بين الناس وهو الذي يسهل إثباته هكذا إجمالاً أكثر مما يسهل تعيين علله الحقيقية تعييناً دقيقاً. ذلك يلخص فلسفة روسو في هذا المجال. انها فلسفة بقدر ما تحمل من الوعي والتمرس في طبيعة الأشياء هي تحمل تأملات الإنسان التي تستلهم من فطرته السليمة النظرة المتجردة الأساسية، هي أيضاً الوسيلة الصالحة التي يمكن التذرع بها لإزالة تلك الصعوبات الجمة التي تحيط بأصل التفاوت الخلقي الأدبي، وبالأسس الحقيقية للهيئة السياسية، وبحقوق أعضائها المتبادلة ما بينهم، وآلاف من المسائل الأخرى المماثلة التي لا تقل أهميتها عما يحوطها من غموض.
جان جاك روسو (1712- 1788) فيلسوف وكاتب ومحلل سياسي سويسري أثرت أفكاره السياسية في الثورة الفرنسية وفي تطوير الاشتراكية ونمو القومية. وتعبر مقولته الشهيرة "يولد الإنسان حرا ولكننا محاطون بالقيود في كل مكان" والتي كتبها في أهم مؤلفاته "العقد الاجتماعي" تعتبر أفضل تعبير عن أفكاره الثورية وربما المتطرفة. كتب روسو الذي يحلو لبعض شارحيه أن يلقبه بابن الشعب عمله الأول رسالة في العلوم والفنون سنة 1750 في الوقت الذي كانت فيه قوى الشعب (من غير النبلاء والاكليروس) تجمّع قواها استعدادا للهجوم الشامل على النظام القديم. وكانت هذه الفترة خصبة بالأعمال العظيمة في مجالات الفكر المختلفة كالفلسفة والعلوم والطبيعة والتاريخ والأخلاق والحقوق الخ.. وكانت تضع تصورا جديدا للعالم وتقضي على النظام الإقطاعي والاستبداد والذي كانت الكنيسة الكاثوليكية تعمل وحدها على دعمه إيديولوجيا.
صارت الآداب في منعرج القرن بشكل رئيسي آدابا ملتزمة أو مناضلة على الأقل في عنوانيها الأكثر بروزا. وقد عبرت عن مجملها عن مطالب الشعب المحروم من كل حقوقه السياسية والقائم ضد النظام الإقطاعي الذي كان يسمح لأقلية من الطفيليين بالعيش من بؤس الشعب وتعطيل نمو قوى الإنتاج واكتمال الوحدة الوطنية.
لقد توحد الشعب ضد الحكم الملكي المطلق وضد النبلاء الإقطاعيين وضد الكنيسة التي كانت مركز تجمع كل الأفكار المناهضة للأفكار الجديدة نحو سنة 1750 تجمعت كل القوى الشعبية لتكون جبهة موحدة وتقود المعركة الأخيرة نحو الثورة الفرنسية.
غير ان الشعب لم يكن طبقة اجتماعية منسجمة، كانت الغالبية الواسعة منه تتكون من المزارعين الريفيين الصغار الذين كانوا يحتملون كل حقوق الإقطاع وضرائب الملك في حين ان البرجوازية المكونة من كبار الملاك يستفيدون من النظام الضريبي القائم ومن الاستبداد وكانوا هم بدورهم يستغلون الشعب البائس. أما في القرى فقد كان المزارعون الفقراء الملزمون بالقوانين التقليدية للمجموعات الريفية يقومون ضد المزارعين الكبار الذين يستغلون الأراضي طبقا للأساليب الرأسمالية الجديدة وفيما بين مواسم الزراعة كانوا يخضعون لاستغلال التجار الذين يشغلونهم في المنازل مقابل القوت اليومي فقط. أما في المدن فكان الحرفيون الصغار يعانون من المنافسة القوية للصناعات التحويلية وفي سنوات المحل كان أفواج من ضعاف الحال يموتون جوعا فيما يغتني المضاربون على الحبوب.. وقبل أن تتجلى هذا المواقف المتناقضة تحت راية الثورة فإنها تجلت في النظريات. كان البرلماني الكبير والنبيل الإقطاعي مونتسيكيو المرتبط بالنظام القديم يحاول في أعماله المصالحة بين النظام الإقطاعي والتطلعات البرجوازية أما فولتير والموسوعيون الأكثر جرأة منه فكانوا يقومون بوضوح ضد النظام القديم ويمثلون مطالب البرجوازية التقدمية وفولتير نفسه وهوليتيس ودي هولباخ فكانوا من المصرفيين وأصحاب الأموال وكان برنامج هؤلاء يسير باتجاه التاريخ وينحو إلى تقوية القوى المنتجة. وفي المجال الفلسفي فإن البعض منهم يذهب إلى حد الدعوة المادية ويعتقدون أن الإنسان قادر بالعلم وحده على الوصول إلى ماهية الأشياء وتنمية الحضارة وتأمين السعادة على الأرض. كانوا يؤمنون بالتقدم أما في السياسة وإذا اتفقوا على أن ساندوا أطروحات ديموقراطية في مواجهة الاستبداد فإنه لا يمكن أن نعتبرهم ديموقراطيين. لقد كانوا كرماء ويريدون تأمين سعادة الشعب ولكن لم يكن من رأيهم أن هذه السعادة تكون من عمل الشعب بنفسه أي من الدهماء الفاقدة للأنوار وللحس السليم كما يقول دي هولباخ ولأنهم برجوازيون فقد كانوا يحذرون من الدهماء المضطربة ويرون أن إقامة حكم العقل هي من مهام قلة من الرجال المستنيرين.
لكن حكم العقل كما يقول انجلز ليس إلا حكم البرجوازية وقد صار مثاليا فبعد الأرستقراطية بالميلاد تقوم الأرستقراطية بالمال فلا يقوم الحكم إلا باستغلال الطبقات الشعبية، والبرجوازية الصغيرة المتوافقة مع البرجوازية الكبرى ضد النظام القديم ليس لديها أي داع للقبول بتطور الرأسمالية الذي يدفع بها إلى الخسران والحرمان من الملكية وهي لا تربح شيئا من الإقطاع وهي تعاني من النظام القديم ولكن هل كانت فعلا متفتحة على الأفكار الديموقراطية؟ لم يكن لهذه الطبقة من برنامج اقتصادي فعال فهي تتمسك بلا أمل بملكيتها الصغرى المحكوم عليها بالفناء تاريخيا وليس لديها أمل إيجابي يأتيها من النظام القديم. إن طموحاتها تتحول إلى أحلام طوباوية: نظام من المساواة الاجتماعية يصير فيه كل المواطنين ملاكا صغارا، ولأن هذا الحلم يتناقض مع التطور الاقتصادي الذي لا مرد له فانه لا يمكنها إلا ان ترثي مسيرة التقدم التي ترى فيها تراجعا أي تراجعها الذاتي لذلك نظرت هذه الطبقة نظرة حذرة إلى التقدم العلمي وسيلة التقدم ولم يمكنها ان تثق في العقل دون ان تحفّظ.
في هذا الإطار يجب وضع أعمال روسو كما يقول المبرز الجامعي الفرنسي ج.ل.لوسركل المختص بروسو وفكره والذي قدم لهذه الطبعة التي بين أيدينا في أصلها الفرنسي، وعلق على النص الأصلي لروسو، الذي أعطى لمجموع الطبقة البرجوازية الصغيرة إيديولوجيا، لقد كان روسو في نفس الوقت متقدما أكثر من الموسوعيين وأكثر منهم ورعا، كما يقول لوسركل، وكان أكثرهم حزما وعمقا في التفكير السياسي وهذا هو التناقض العميق في أعماله والناتج لا عن ضعف في عبقريته بل عن الوضع المتناقض للبرجوازية الصغيرة التي كان ينطق باسمها.
ولد روسو بجنيف سنة 1712 وسيكون من قبيل الغمط لكل أثره الفكري ان ننظر إليه كمواطن من جنيف كتب فقط لأهل جنيف ومن اليقين انه عندما كان يكتب العقد الاجتماعي كان يجهل كل شيء عن دستور جنيف. ان روسو ينتمي إلى فرنسا ليس لأنه متحدر من أسرة بروتستانتية التجأت إلى جنيف من فرنسا في القرن السادس عشر فقط بل لان ثقافته فرنسية بالكامل وقد ساهم بدور فعال في الثقافة الفرنسية والحياة السياسية بفرنسا.. غير ان انتماءه إلى جنيف قد لعب دورا مؤثرا على بعض أعماله، لقد ولد على مذهب كالفن أي على دين فرداني أكثر عقلانية وأكثر صرامة وتقشفا من الكاثوليكية (ان الإصلاح الديني حسب ماركس كان هو المرحلة الأولى من الثورة البرجوازية) خاصة وان جنيف كانت جمهورية وكان روسو يفخر طيلة حياته انه من بين رعايا ملك فرنسا الذين ولدوا في جمهورية واللقب الوحيد الذي يحمله أبدا هو "مواطن من جنيف". كان أبوه ساعاتيا وأسرته تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة ولا يعتبر روسو نفسه متحدرا من الطبقات الفقيرة جدا، وقد ولد كما يقول في الاعترافات في عائلة تتميز عن الشعب بأخلاقها ولكنه وجد نفسه بسرعة متروكا لحاله فانتمى إلى الشعب. لم يكن أبوه رجلا مستقرا وكان وهو يصلح الساعات يجبر ابنه على أن يقرا له روايات عاطفية ولكن يجبره كذلك على قراءة كتب عن الرجال العظماء. وقد غادر الأب جنيف دون ان يهتم مطلقا بجان جاك والذي كان قد فقد أمه قبل ذلك وذات يوم هرب ليقضي ثلاثة عشر سنة من عمره متسكعا عرف خلالها كل المهن وكل أشكال البؤس حتى انتهى في حماية سيدة شابة ثم صار عشيقا لها. كانت السيدة بدورها امرأة مغامرة وبلا مبادئ. ثم اعتنق الشاب الكاثوليكية بنية انتهازية فيما يبدو وصار تابعا يعلم الموسيقى بدون سابق معرفة بها وكان يقرأ كثيرا وتعلم أن يصنع نفسه بنفسه بشكل منهجي.
ثم عاد يقيم في باريس بشكل دائم هذه المرة. وبدا يعرف بين الناس بأنه موسيقي وكاتب مسرحي وفي هذه الفترة عاشر عاملة بنزل وكانت امرأة أمية تماما وقد أنجب منها خمسة أطفال أودعاهما جميعا بالتتابع في بيوت الأيتام.
وسع روسو علاقته بين الفلاسفة فإلى جانب ديدرو وكوندياك اللذين صار من خلصائهما. وفي صيف 1749 سجن ديدرو في حصن فانسان وفيما كان روسو ذات عشية يزور صديقه في سجنه وقع على نشرية تعلن المسالة المطروحة من قبل أكاديمية ديجون "هل ساهم تقدم العلوم والفنون في تلويث الأخلاق أم في تطهيرها؟". وكتب لاحقا في الاعترافات "في لحظة قراءة ذلك السؤال انفتحت أمامي عوالم أخرى وصرت أنسانا آخر". وكان ذلك مدخل روسو إلى الشهرة والمجد.
لقد كان روسو في أول حياته يترك حوله انطباعا بأنه معذب ومنبوذ وغير ودود وغير قادر على التحكم في نزواته ولكن ذلك يعود بالأساس إلى الطفولة التي عاشها حيث ترك لشأنه بلا رعاية وتعرض منذ الطفولة الأولى إلى ضغوط المجتمع ولقد وقع بين أحضان امرأة مغامرة والغريب ان هذا الطفل والذي كان مؤهلا ليصير منحرفا وساقطا من المجتمع بنى رغم ما تعرض له شخصية قوية وكون نفسه بنفسه ولا يمكن ان نحكم على سلوك روسو من خلال القيم المسيطرة الآن أو من خلال الإمكانات المتاحة الآن في التربية ولكن من خلال الواقع الحقيقي في لحظة روسو الاجتماعية التي عاشها بنفسه فلقد كان من الممارسات الشائعة في القرن الثامن عشر ان يتخلى الآباء عن أولادهم لبيوت الرعاية دون تأنيب ضمير وكانت تلك إحدى ممارسات الطبقة الأرستقراطية. ولقد كان روسو دائما يفتقد المال ولقد كان روسو مثل الآخرين ولكن الأخطر من ذلك انه حاول لاحقا ان يفرض نظرية في التربية مضادة لطريقة الأرستقراطيين ولكن أيام تخلى عن أطفاله لم تكن نظريته قد نضجت بعد ويبدو انه تعذب كثير في شيخوخته مما فعل بأولاده في بداية حياته ويبدو انه هنا كان ضحية أكثر مما كان راغبا.
كان يمكن لشخص آخر غير روسو أن ينحني ويتأقلم أما عبقرية روسو فكانت أن يظل واقفا منتصبا وفي مقابل أن يكون رجل صالونات أي نسخة أخرى مصغرة من فولتير كما أريد له، فإنه أصر على أن يكون جان جاك روسو مواطن من جنيف وسيفضح أكاذيب مجتمع يعيش بعضه التخمة ويعيش أغلبه اشد أنواع البؤس.
في سنة 1761 و1762 أصدر روسو كتبه الثلاثة الأهم وهي: هيلويز الجديدة والعقد الاجتماعي وأميل. وكان للكتب الثلاثة طابع تعليمي. فقد كان روسو حتى ذلك الحين يفضح المجتمع القائم على التفاوت في الثروات بسبب نهم الإنسان في زمنه. وقد بين في أعماله تلك لمعاصريه صورة الإنسان الجديد أو المتجدد. وهذه الأعمال الثلاثة تتكامل ضمن مخطط أكبر كان يريده روسو:
في العقد الاجتماعي وضع مبادئ مجتمع ديموقراطي قائم على المساواة حيث يمكن للناس ان يكونوا مواطنين تحركهم الفضيلة أي ان يكونوا وطنيين.
في كتابه هيلويز الجديدة اقترح روسو في مقابل فساد الطبقة الأرستقراطية مثالا أخلاقيا يقوم على العفاف الأسري واقترح في مقابل النبالة والشهامة والايروسية حياة عاطفية نظيفة. لكن تفكير روسو في زمنه دفعه ومن اجل بناء مجتمع سليم إلى إعادة تكوين الفرد وهو الدور الذي يحتله كتاب أميل (Emile) في مخطط روسو التربوي المتوافق مع قوانين الطبيعة.
أدى نشر كتاب (أميل) إلى مطاردة روسو، فقد منع البرلمان الكتاب من الصدور وأعلن مؤلفه مطلوبا للعدالة وكان على روسو أن يهرب باستمرار. وأطلق ارشيدوق باريس ضده "فتوى" ولم يكن البروتستانت أكثر وداً لهُ من غيرهم فحكم عليه في جنيف فهرب إلى منطقة نيوشاتيل فأثار القساوسة العامة ضده فالتجأ إلى جزيرة سان بيير في منطقة بارن فلم يتأخر مجلس شيوخها بطرده فعبر الالزاس إلى إنكلترا حيث دعاه الفيلسوف ديفيد هيوم، ولكن سرعان ما اختلف الرجلان، فعاد روسو إلى فرنسا وظل يعيش شريدا إلى أن استقر أخيرا بباريس سنة 1770 عندما عفي عنه من قبل السلطة القائمة.
لقد كان كتاب "الاعترافات" سيرة لروحه ولمشاعره أكثر مما كان سيرة لحياته وهو عمل خارق من وجهة نظر التحليل النفسي وهو مرافعة قيمة عما كان يجده ولم يكن دائما عادلا مع أعدائه وهو في نفس الوقت غنائية إبداعية بل هو إحدى أروع القصائد الغنائية العالمية. إن روسو هو سيد الأدب العاطفي الغنائي والذي سيزدهر في الحقبة الرومانسية. لقد كان لفردانيته طابع إيجابي ففي الوقت الذي كان الفرد الشعبي سجينا في الأطر الإقطاعية ومهانا ومحروما من حقوقه خرج الفرد المسمى روسو ليثبت مكانته غير القابلة للتعويض ويكتشف في نفسه غنى الروح غير المحدود ويكشف للعالم كنوز الحياة الداخلية للإنسان وكل القوى الكامنة في الشخصية الإنسانية.
أفلم يكن إذن شاعرنا الراحل الكبير، ابن الشعب البار أيضا، والخارج من أتون الطبقات، محمد الماغوط، ينهل من معين روسو، ربما تأثرا بسيرته في "الاعترافات"، أو تأثرا بمواقفه وأفكاره، وهو يقول في آخر كلمات له على شاشة التلفزيون، إن الشاعر الحقيقي هو الذي يرفض كل تسوية مع السلطة القائمة؟

* هوامش:
أولا: صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب "أصل التفاوت بين الناس" سنة 2005 بتونس عن دار ومكتبة المعرفة المرحة لصاحبها الناشر بدر الدين الدبوسي. وقام بالترجمة الدكتور نور الدين العلوي وهو روائي تونسي يعمل أستاذا لعلم الاجتماع بالجامعة التونسية، يكتب الرواية والقصة القصيرة ويهتم بروسو ضمن اهتمام أوسع بالمسألة الاجتماعية وبالترجمة لمفكري عصر النهضة ومن رواياته المنشورة ريح الأيام العادية سيريس 1998 ومخلاة السراب المركز الثقافي العربي 2001 والمستلبس دار الجنوب 2005.
ثانيا: في لفتة تعبر عن مدى الاهتمام الذي باتت تبديه الولايات المتحدة بالشؤون السورية، عبرت واشنطن عن "حزنها" لرحيل محمد الماغوط ووصفت الخارجية الماغوط بأنه كان مدافعاً عن الحرية والعدالة. وكان الماغوط قد توفي بعد صراع مع المرض وعقود من الإهمال الرسمي، رغم تنبه الحكومة إليه عام 2002 حين منح وساماً من الرئيس السوري بشار الأسد. لكن من المعروف أن كتاباً أقل شأناً منه لقوا رعاية ودعماً من جانب الحكومة، بل إن كثيراً من الذين شاركوا معه في أعماله المسرحية والفنية (من ممثلين وغيرهم) كان حظهم من الاهتمام والمكاسب ما يفوق ما حصل عليه الماغوط. كما عانى الماغوط خلال حياته الأدبية من السجن السياسي، وفي أواخر حياته أضيفت إليها المعاناة من الوحدة.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية آدم ايريلي: إن "الماغوط كان حقاً فريداً، كان مثقفاً يرفض المساومة وصوتاً مستقلاً من اجل الحرية والعدالة في العالم العربي". وتابع المتحدث في بيانه: إن "إنتاجه وحياته يشهدان على قدرة الفرد والروح الخلاقة". وختم بيانه بقوله: "نتقدم بأصدق التعازي إلى عائلته ومحبيه الكثر". وكانت ذكرت صحيفة "الحياة" اللندنية إن الماغوط توفي "على أريكته في الصالون وكان في يده اليمنى عقب سيجارة وفي اليسرى سماعة الهاتف" إثر إصابته بنوبة قلبية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س