الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كوكب الهوى / ميلاد مدينة

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2018 / 8 / 11
الادب والفن


نص في المكان
كوكب الهوى/ ميلاد مدينة
حسن كريم عاتي

في إمبراطورية تتمدد على اتساع المدى، لا يوقف تمددها الأفق،أو امتداد البصر، فإذا كان النظر يحده سراب يتلاصف في أطراف الفيافي والقفار، فالرؤية المؤكدة في معرفة تأريخها تؤكد امتدادها إلى خلف ذلك السراب. ولم يظهر أي وهن في كيانها . فالحكومة الجديدة لأسرة نبيلة يسري الدم النبوي فيها كانت قد انقلبت على سابقتها منذ أعوام قليلة، فتركت الأسرة المنهارة أشلاء أبنائها تتبعثر في الآفاق ، ولم يجرؤ أعيانها وقادتها على الإعلان عن النفس، فاكتفوا بالتستر أو الهرب أو القضاء موتاً مبرماً في أرجاء دولة كانت تدين لها بالولاء أمصارها جميعاً. فكان خلفائهم الجدد يزدهون بعنصر القوة الجديد ،فأرجاء الإمبراطورية القديمة جميعاً بدلت ولائها، لتصبح تدين للخليفة الجديد في الإمبراطورية الجديدة.

غير إن أيه حاضرة من تلك الإمبراطورية لم تكن مضمونة الانتماء إليها. وان أعلنت ذلك. فتجربة الأمس تحضر اليوم. فتغير الولاءات يكون بتغير ولاة الحواضر واستبدالهم. وما يخبو تحت ذلك السطح ليس مؤكداً دائماً. وهو ما يجعل الخوف يتسرب إلى نفس الخليفة الجديد. فالشام محكومة الانتماء للدولة المنهارة. والكوفة منتمية إلى دولة سبقتها، انهارت أيضاً. والوقوف في أية مدينة من تلك العواصم لدول سابقة يعني الارتماء في أحضان المجهول.

ذلك ما أكده أهل الكوفة بتحريضهم الجند على الخليفة الجديد، في بادرة أولى لإيقاع
الوهن في دولة متنامية. فأخذ عنصر قوته زاحفاً بهم إلى أرض جديدة يؤسس فيها عاصمة مفقودة لإمبراطورية اُستلمت حديثاً. غير إن قلق الخليفة ازداد مع إدراكه إن الهاشمية ، العاصمة المتوقعة التكوين والحديثة النشأة، لن تكون ملائمة لعاصمة الأرض المملوكة له. فبعث رسله في خارطة عنكبوتيه تجس منابع الأمن والرخاء في أرض مملكته، عسى أن يكون حضه أفضل في اختيار حل لازمة الإمبراطورية.

لم يكن للأرض على اتساعها ما ينم عن انتماء مؤكد للدولة الجديدة، أو حتى الإحساس بحياديتها ، باستثناء أرض خراسان البعيدة ، التي انطلقت منها قافلة الوثوب على الأسرة المنهارة السابقة عليها. فالأرض تتربص انقلابا ًيحدث حين الغفلة ولو لهنيئة. ذلك ما اقلق الخليفة على مستقبل قد تنتهكه سيوف الخصوم في الثغور أو في الأمصار التي اعتلت تاريخ الدولة والناس، وانتمت إلى دول تهالكت واهترأت وتلاشت دواوينها، وان لم تندرس.

كان الخليفة على دراية بتفاصيل تلك الأمصار والثغور. وعلى معرفة بأساليب إنشاء القوة الخفية التي تنام تحت عصا الطاعة، ضامرة العداء، لأنه كان أحد أهم روادها قبل انقلاب السلطة إليه. وان الركون إلى الدعة يعني ابتهالاً لليلة تشرق شمساً ملونة في صبحها بغير الطيف الذي غربت عليه. فتكون اشراقة النهار على خليفة جديد وولاة جدد وأمراء جيوش تتلون راياتهم بلون تغير الميول للانضواء تحت شعاع شمس الدولة الجديدة أو إعلان العصيان، لتتلقفهم سيوف حداد تبيح الدم وتسبي الزرع والضرع ، وما أضمروه من رخاء الدولة الآفلة. التي عدمت الرجاء بعودتها سليمة أو عليلة.

كان الخليفة الجديد كل الجدة في دولة جديدة كل الجدة أيضاً ، يعرف بكل الجد الذي تميز به ذلك. فلا يؤتمن عنصر الدولة الذي تقوم عليه هيبتها، من قادة أو جند، من النكوص على الخليفة، إن لم تكن خشيتهم منه تتراءى بين الحاجبين. علامة انتماء الى الخوف المتربص بين أصابع الخليفة الجديد وهو يمسك بقوة على مقبض السيف المغمض عيناً ويفتح عيناً باتساع الخطر.، حين يُغمد الى نصفه في غمد مغطى بالجواهر والألىء والأحجار الكريمة التي تدفع الشر وتجلب البركة. وباتساق ملائم مع ألوان أحجار مماثلة لها ترصع التاج الإمبراطوري، وبين قادة دفع بهم الثراء الى تقليد الخليفة بإظهار الشجاعة والثراء والتهور، مع خشيتهم المقارنة التي تدفع الى شك الطمع بالتاج الإمبراطوري العقيم ، الذي ينظر منه الخليفة الى كل سلوك بمدى تقويم دعائمه أو الشك في محاولة ثلمه، الذي عقوبته السيف والنطع، وبين حاشية من زخرف اللون البشري ، ولون الأثاث المقترن بالأبهة. فلم يكن اختيار العاصمة مكان نزهة أو استرخاء. بل مكان الأمر والنهي، مكان العفو والعقوبة ، مكان التقدم بالجيوش الى الأمصار الخارجة عن الطاعة والوفود القادمة لإعلان الولاء. كما حدث فيما بعد في البصرة والكوفة والحجاز عند بدء بناء عاصمته وأثناءه. مكان عصابة الإمرة في الجيوش المتقدمة الى الثغور لردع الممالك والإمبراطوريات المجاورة أو إثارة فزعهاـ والتي لم تنس ما فات عليه ما يزيد على قرن واحدٍ ما سلبتها الدولة الجديدة من أمصار وديار وهيبة مثلومة معلقة على راياتها، بانتظار ارتخاء يد الخليفة للانقضاض عليه مجدداً، ثائرة لمجدها الملطخ بوقائع الهزائم التي تسترد فيها نفس الراحة والآمان، في دولة تتوسع متى شاءت وبالاتجاه الذي تشاء. فكان يأتيه الخراج من مشرق الشمس ومن مغربها. ولم يكن للجنوب أو للشمال من مندوحة إلا إرسال البريد محملاً لبيت المال ما يفترض وصوله من خراج. لم تكن العاصمة بيت مال يخزن فيه الأبيض والأصفر. فهو بيت العطايا على حجم ما يمنحه الموهوب من راحة للخليفة أو حجم ما يوفره من اطمئنان له في خدمة بهية للحضرة البهية المشرقة بوجه الخليفة الجديد.

فلم يكن للقصيدة من ثمن ، إلا بمقدار ما تمنحه من كبرياء احتقار الخصوم. لتتراكم النعوت ، تلال غرور لخليفة لم تجود بمثله ارض الله . فتتسع العطايا باتساع قاعدة تل المديح الممتد من إيوان القصر المزمع بناءه ، أو في أروقته، أو في أزقة المدينة المنتظرة البناء، حتى قوائم كرسي العرش، أو شيوعها على السنة الأحبة والخصوم تخليداً لمجد بدأ البناء به منذ أمد ليس بالبعيد، لتتسرب الى المحال والأزقة والدروب ، ولتنحدر مع مجرى أي من نهري المدينة التي تمد يدها لتغرف ما تشاء من أيٍ منهما. فالأول يلامس أذيال ثوبها من الغرب. والثاني تندى به جبهتها عند مشرقها.

ذلك ما انتظره الخليفة لأمد، قلقاً ، عسى أن يحظى بهبة إلهية تجود بها طوالع النجوم وأفلاك السماء التي تدور في جوف الكون الذي لا يحس عمقه إلا في النفس وفي ليل القرية التي بات بها وتركها الى غيرها، ليعود إليها مجدداً. وحين ترجل من جواده فيها، اخذ يذرع الأرض جيئةً وذهاباً في قلق يطفو فوق الجبين تقطيبه. لم يفك أسارها إلا قول وزيره عند عودته إليه من الدير القديم.

- خبر القيه إليك وأريحك من هذا العناء.
- قال: ما هو؟
- قلت : إن هؤلاء الرهبان معهم علم، وقد اخبرني راهب هذا الدير باسم من يبني مدينة هنا، ولم يكن اسماً لك أو لقباً أو كنية، انه يدعى (مقلاصاً).
فما كان من الخليفة إلا أن سجد في الموضع الذي هو فيه. واخذ سوطاً يذرع به. فأدرك الوزير إن الخليفة لحقه العناد. ولم يكتم ما اعتلج به فؤاده . فقال له:

- أظنك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه؟

فلا يظن بمثله اللجاج في أمر كهذا. فالعاصمة مكان صنع الأمراء ، ومن يرسل منها بكتاب مختوم بختم الخليفة ، ليعود من أرسل إليه خال الوفاض، إلا من غضب قد يقوده الى حد السيف. ومن ذهب به يعتلي المنبر في صلاة الجمعة ، ينادي بالناس:
- أنا الأمير وغيري فلا...
بل إن للسجع محله في إقصاء الأمراء، عندما تمتنع عليهم طواعية اللغة في ديباجة كتاب، أو استلذاذاً للنغمة التي يخلقها. فقد قال أحد الولاة يوماً:
- لم يخلعني إلا السجع. لعن الله السجع.
فتكون أمصار الإمبراطورية على توجس مما يرد به البريد القادم من العاصمة، عسى أن يكون خيراً! وخشية الشر فيه؟ فتدفع الأمصار بريدها من هذا التوجس بإعلان الطاعة مقرونة بالولاء الذي لا شائبة فيه، مع ما يسند الإمبراطورية من مال ، يدخل بيت المال وبيت الخليفة. يهبه لمن يشاء. فهو(( قفل الله على ماله ، إن شاء فتحه، وان شاء تركه مغلقاً)). فتكون رسل الولاة متزينة بجلباب ما تتوقعه في الخليفة من زهد أو ترف. فترى الرسل في ضنك ظاهر . شعث ، غبر، عند لقاء الخليفة حين يظن به البخل أو الزهد أو حب التقشف. وفي ثراء يبهر أبناء الولاية وحاشية الخليفة في عاصمة الدنيا إن كان عكس ذلك.

فلا تكون الإمبراطورية بهذا الوصف إلا برأس السلطة فيها -الخليفة- وفي مقر الدولة -قصره- وفي مستقر الحكومة –العاصمة- وبذلك تكون العاصمة ، الملك والمملكة ، القوة والبطش، الطمع والتعفف، البخل والسخاء، الأمراء والجند، العامة والخاصة، الأمصار والثغور، العيون والعسس للدولة وأعدائها، الدواوين والكتاب، الجواري والمحظيات، الشعراء والصعاليك، المتصوف الزاهد والفضولي الانتهازي، طريق التجارة وطريق الحرب، بيوت الله وبيوت الخنا، مكان البغض ومكان الحب، أبواب الرزق وأسباب قطعها.

فالعاصمة تختصر الخليفة والإمبراطورية معاً، في حدود الأرض التي يختارها الخليفة مقراً جديداً له، بعد أن أتعبته ، ومن سبقه . مدن تعلن انتمائها إلى غيره أو تضمره،غير انه يدركه. فلم يترك خصوم الأمس الأقوياء على امتداد دولتين انهارتا قبله فرصة كافية لجس نبض الأرض لمعرفة ما تبوح به في باطنها من حب أو بغظ. وحيث انه في طي الكتمان ، فلا يمكن الاعتماد على الحدس وحده لاتخاذ قرار الاستقرار في مدينة لم يكن متيقناً من ولائها له حد أن يكون ما يقف فوق كتفيه حقيقة أيضاً. فلا يمكن الاعتماد على حسن الطوية لعموم الأمراء والجند والعامة والسوقة. فإنها تدق طبول العصيان ، وتبزغ
من آفاق لم يكن بالإمكان توقعها،كما حدث لدولته الزاحفة في بدء إعلانها، ، والذي استغرق الترتيب له عقوداً، انفجر في يوم تلته أيام انتصارات بإعلان الراية الجديدة شعاراً لدولة جديدة. غير انه لم يفلح ، أو من سبقه ، في فض سر الأرض المنتمية إليه. فالكوفة أو الشام أو المدينة أو أرض الكنانة أو أرض الري أو خراسان أو سمرقند أو بخارى... جميعها لها من عيوب الانتماء القاتلة له. لم يترك محلاً لاحتمال اختيارها موطناً للخليفة أو الخلافة، ولا يؤتمن الغد من غدر يخبأ تحت عمائم أو جلابيب أو بيوت أو أزقة أو ثغور.. فاتساع أرض الإمبراطورية يمنح الخديعة احتمالات تتسع على تعدد الملل والنحل والمصالح ونقائضها. ولا يؤتمن العطاء سبيلاً وحيداً لشراء جميع الأشياء الممكنة المؤلفة للخديعة ووقوع المحذور الذي ثمنه رقاب ورقاب.

فلا يكون خروج الخليفة من الهاشمية مختاراً طريقاً محاذياً للماء إلى مشرق الشمس. وان انحرف عنها قليلاً نحو الشمال، يمثل نزهة إمبراطورية يحف بها السرور وتكتنفها البهجة. إنها ما جاد به الجد. ومبعثه القلق للبحث عن عاصمة جديدة لدولة جديدة. تنتمي إلى ما سبقها من حيث الاعتقاد، وتختلف عنها من حيث الانتماء. إنها مدينة يُطلب لها أن تكون مثل الكوفة أو البصرة أو المدينة أو الشام، بل وتتفوق عليها.

أرض بكر . يُشد إليها رحال المطايا من أطراف الأرض. لتكون مركز الدنيا، وصرة الأرض. قبلة الأمصار والثغور. تُحرث لها طرق جديدة في أرض لم تكن لها الأهمية نفسها قبل أن يتخذها الخليفة مقراً لملكه. فيكون اشتراك كل ذي ضلف أو خف سوية في حرث طرق جديدة بين جميع المدن والقرى لتتجه بحركة غير محسوبة نحو قطب جديد في أرض جديدة. ولتغير القوافل وجوه حركتها على ضوء المتغير الكبير الجديد. فتستحدث الشام طريقاً. والبصرة طريقاً. والكوفة طريقاً. خراسان طريقاً.واليمن طريقاً. ومصر طريقاً. كلها جديدة لتنمو مدن وقرى كان النسيان يطويها، لتبعث العاصمة حيوية غير متوقعة فيها. وتضمر مدن وقرى كانت مزدهرة لاجتناب القوافل السير إليها. ولتبعث حركة التجارة مع المركز الجديد الحياة في مهن وحرف تستوردها العاصمة في أعمالها الجديدة. وتنتكس مهن وحرف في المدن المتروكة بعيداً عن عاصمة الخليفة المستحدثة. وليكون طريق الحج قد اختار قافلة ومدن وأزياء ورياش تناسب الأبهة المستحدثة في الدولة المستحدثة في العاصمة المستحدثة..ولتُعرف أنهار وجداول لم تكن تهم أحداً سوى قوافل الحرب في صعوبة اجتيازها. فتبنى القناطر والجسور عليها لتشكل شرياناً يربط اليابسة بين ضفتيه. وتبنى القصور والأطيان. وتُقطع الأرض المهملة
لتكون مصدر ثراء للقادة والأمراء .. لتزدهر رياض جديدة، قطوفها دانية من فاكهة لم تكن معروفة سابقاً. وحدائق غناء بزهور برية ، قبل أن يستوطنها الخليفة ، لتصبح نزهة الأنظار على سعة الأمصار. وتستحدث نافرات الماء المرفوع بدلاء تُدورها البغال،
لتسقط شلالات ماء رقراق لنزهة الناظر في الطرقات ، أو للوضوء في بيوت يبنيها الخليفة لله. وترصف الطرق بحجارة تجلب من بعيد . لتكون العاصمة جامعة مانعة من خوف الخصوم وسرور الأحبة. يتربع الخليفة عليهما معاً. ويحسب لكل احتمال حسابه.
ذلك ما كان يفكر به الخليفة . ولو قال له اليعقوبي ، ما قاله بعد بنائها بمئة وأربعين وسبع من سنين القمر ، لما خطر للخليفة ببال أن تكون كما قال:
((جزيرة بين دَجلة والفرات، دَجلة شرقيها، والفرات غربيها، مشرعة الدنيا. كل ما يأتي في دَجلة من واسط والبصرة والأبلة والأهواز وفارس وعُمان واليمامة والبحرين وما يتصل بذلك فإليها ترقى وبها ترسى. وكذلك ما يأتي من الموصل وديار ربيعة وأذربيجان وأرمينية مما يُحمل في السفن في دَجلة وما يأتي من ديار مصر والرقة والشام والثغور ومصر والمغرب مما يحمل في السفن في الفرات فيها يحتط وينزل ، ومدرجة أهل الجبل وأصهبان وكور خراسان...)).

فهي واسطة العقد في مدن الزمان ، على ما أجمع عليه قول الحساب، وتضمنته كتب الأوائل من الحكماء . عليها أن تقع في الإقليم الرابع . وهو الإقليم الأوسط ، الذي يعتدل فيه الهواء في جميع الفصول والأزمان. فيكون الحر فيها شديد أيام القيظ، والبرد قارساً في أيام الشتاء، ويعتدل الفصلان، الخريف والربيع، في أوقاتهما. وب((اعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء (تحسن) أخلاق أهلها. و(تنظر) وجوههم . و(تتفتق) أذهانهم حتى (يفضلوا) الناس في العلم والفهم والأدب والنظر والتمييز والتجارات والصناعات والمكاسب والحذق بكل مناظرة ، وإحكام كل مهنة وإتقان كل صنعة. فليس عالم أعلم من عالمهم ولا أروى من راويتهم ولا أجدل من متكلمهم ولا أعرب من نحويهم ولا أصح من قارئهم ولا أمهر من متطببهم ولا أحذق من مغنيهم ولا ألطف من صنائعهم ولا أكتب من كاتبهم ولا أبين من منطقيهم ولا أشعر من شاعرهم ولا أفتك من ماجنهم)).

ستكون محور الأرض، وعاصمة الإمبراطورية . تدور الأماني والطموحات حولها. وتدور الدسائس عليها. ولحفظها يفترض الخليفة وقوف جيوش الخصوم والأعداء صباح كل يوم خارج أسوارها، من دون علم مسبق منه بها. فيكون للمدينة خيار نزع رداء الطاعة عنه ، ولبس رداء العصيان له. إن لم تكن قد حصنت نفسها من انتحار سريع يرغمها الأعداء عليه. وهو ما يجعل من تأسيس المدينة ،العاصمة، تأسيساً لدولة لا تأفل شمس العالم القديم عنها. فحيث تغرب تكون خيوط الفجر نسجت صبحاً عند مشرقها. وحيث صقيع بلد بسمك رمح في ثغر منها ، تكون الأرطاب قد نضجت في ثغر أخر. وحيث ينكص طرف من المملكة عن النصرة، تكون الأطراف الثلاثة الأخر قد اجتمت
جيوشها لردها إلى مسالك الطاعة، وقطع رؤوس الخصوم فيها. وحيث إن خراج الأمصار والمدن والثغور تترى بالتناوب لبعد الأمكنة بينها، فان بيت المال يملء في كل حين بالأبيض والأصفر، وبكل ذات حافر أو ضلف. وبشر من اللون الأبيض والأسود والأحمر والأصفر. وإذا جفت ارض لاحتباس المطر عنها، تكون أراض أخر فاضت أنهارها لبناً، وعادة غلتها إلى العاصمة. فلا مناص من الاختيار الحساس والدقيق .

فالمدينة المنوي بناؤها تمتلك الحياة والموت. الخير والشر. الأمل والقنوط ،للخليفة وخصومه. فحصانتها تجعل من النقيض الأول حصة الخليفة، والوهن فيها يمنحه النقيض الثاني. وحيث إن تاريخ العائلة النبيلة وتضحياتها منحت نفسها بمسؤولية مناطه الخليفة، فعليه صيانة ذلك التاريخ. ومن المؤكد إن الغد متصل بنسله إلى يوم القيامة. فلم يكن من الحكمة المجازفة بمستقبل النسل والحرث والدين معاً، ليتركه للصدفة ولرحمة الخصوم الذين لم يرحمهم أي ممن سبقه في نزاع الكراسي العقيم، على امتداد تاريخ الإمبراطورية الذي لم يمض عليه أقل من نصف قرن تلا القرن الأول.

فأقاليم الأرض السبعة، لم تكن بعيدة عن متناوله في يوم البحث عن العاصمة، أو في تاريخ لاحق عليها إن قرر الخليفة ذلك. فاختار الإقليم الرابع الذي كان بين يديه. والذي قال عنه الجغرافيون والفلكيون وأرباب معرفة الطوالع والنجوم والسحرة وضاربي الرمل :
انه إقليم بابل أوسط الأقاليم السبعة التي يتكون منها العالم، وأكثرها عمراناً واعتدالاً. فصيفه صيفاً حقاً. وشتاءه شتاءً حقاً. وهو على اتساعه بين الهند والبحر المتوسط، ليس جميعه ملائماً ليكون عاصمة. والإمبراطورية تشمله جميعاً. فلا بد من خيارٍ أدق تفصيلاً. وأكثر حصافة في التحكم بإقليم بابل على اتساعه. فلا بد من جوهرة العقد (العاصمة) لتتحكم ، على بعدها بجميع الأقاليم. وان تدرك جميع الحواضر والبوادي، أناس مدر ووبر، الفيافي والقفار، الرياض والأنهار. من قرب العاصمة حضوراً نفسياً، ليكون الخليفة من خلالها حاضراً. ولتكن الإمبراطورية موحدة بشخص حاكمها. ولتكن قبلة الجميع في جميع المواسم والشهور والأيام، بعد مكة ، التي تكون قبلة الدين حسب. ولتكن العاصمة قبلة الدنيا. وقد تساعدها الظروف أن تجمع الدين والدنيا معاً. وهو ما قاله فيما بعد بلداني معروف عنها. إنها:
((كالجوهر القائم بنفسه، والبلدان دونها كالأغراض التي لا قوام لها إلا بما هو أثبت بها
وأغنى عنها، فالدنيا(هي) والناس أهلها. والطاعنون (عليها) هم الطاعنون على اختيار الخلفاء ، والطاعنون على الخلفاء هم الطاعنون على الأنبياء، والطاعنون على الأنبياء هم الطاعنون على رب الأنبياء)).

فيكون بذلك اختيار الخليفة للعاصمة الجديدة اختيار رب الخليفة لدولة الخليفة المتمثلة بعاصمته. فباسم الدين عنوان الخلافة تحكم الدنيا عنواناً للضد في الآن نفسه. فالمقبل من الأيام يدعم يقين الخليفة على إقبال الفتن وتتفتق الأرض عن جيوش جديدة ورجال حكم طامحون بكرسي الخلافة. لابد من مواجهتها بحزم . وأكثر ذلك حزماً ، أن يكون مأوى الرأس آمناً في مدينة تدين له بالولاء عن يقين أو بالقوة. فوهن العاصمة شر مستطير، يُغري الخصوم بسهولة الإيقاع بها.

من المؤكد ستغير الأرض مسالكها، فتستحدث طرقاً جديدةً، وتوصل الكوفة والبصرة والشام والحجاز والمدينة ومصر وخراسان وبلاد ما وراء النهر بالمدينة الجديدة. فترسم قوافل الميرة والعيس طرقاً جديدة وتستحدث قناطر وجسور على جداول وانهار. وتلغى بالتدريج طرق العالم الذي سبق إنشاؤها. فتكون مجاهيل أرض كشفت أسرارها الطرق المستحدثة إليها. فلا تكون طرق البريد السريع تسير في قفر . بل محطات تؤسسها حاجة الدولة للتواصل وحاجة العامة إلى رغيف خبز ، لا يزدهر ما لم يحط رحاله في المدينة الجديدة، عارضاً بضاعة لا تبور في صيف أو شتاء، أو ليل أو نهار. فهي أما محطة استقرار أو ارتحال. فلا يُظن بكسادٍ أو بوار لبضاعتها. فللشتاء فاكهة ، وللصيف أيضا. فشتاء الشمال صيف الجنوب. وبضاعة الشرق تتسرب كقطرات ماءٍ من بيت أصابع الكف إلى الغرب مروراً بالمدينة أو تستقر بها. ولا يكون للشمال محور مرور إلى الجنوب إلا مروراً بها. فجعل السبل مقرها ومستقرها وافتراقها وتشعبها من المدينة الجديدة. كراية تتبعها المدن إلى حيث تقف أو ترتحل أو حيث تحب أو تكره أو حيث تغضب أو تفرح. فذلك مرهون بالخليفة الذي اختارها قائلاً:

((هذه والله المدينة التي أعلمني أبي، أني أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي من بعدي. ولقد غفلت عنها الملوك في الجاهلية والإسلام)).

فتفتحت أسارير الخواص والعوام ، لفرح كشف غوامض الأرض التي يقفون عليها ، وهم يرون نهران يفيضان عسلاً ولبناً، ويمخران فج الأرض حرثاً وضرعاً وأمناً بتمترس المدينة خلفهما، من عدو متربص أو ثغور ثائرة. واستذكروا قول ابن عباس:



((أوحى الله إلى دانيال الأكبر أن أفجر لعبادي نهرين واجعل مغيظهما البحر، فقد أمرت
الأرض أن تطيعك ، فأخذ خشبة وجعل يجريها في الأرض والماء يتبعه ، وكلما مر بأرض يتيم أو أرملة أو شيخ كبير ناشدوا الله فيحيد عنها. فعواقيل دَجلة والفرات من ذلك)).

فكانت بشرى رخاء قادم يشمل العامة بفورة الخير ، وهم يرون الخليفة يذرع سورها الأول ويدعوا المهندسين ويأمرهم بخط الرماد على اثر الذرع الذي يؤشر على نهر الصراة . ويأمر بنقل أبواب مدينة (الزندرود) الخمسة التي صنعتها الشياطين لمدينة سليمان النبي إليها. فجعلها أبواباً داخلية في السور التالي لسورها العظيم. وأضاف واحداً منها لباب البصرة الخارج . وجعل باب خراسان الذي عملته الفراعنة خارجاً من سورها، وقد حمل إليها من الشام، وجعل للكوفة باباً جُلب منها. وللشام باب صنع فيها.

((فكان تحول الخليفة من الهاشمية إليها والابتداء ببنائها سنة خمس وأربعين ومائة وذلك يوم العاشر من مردا ذماه سنة إحدى وثلاثين ومائة ليزدجر وأخر يوم من تموز سنة ألف وثلاثمائة وسبعين للأسكندر والشمس يومئذ في الأسد ثمان درجات وعشر دقائق ، وزحل في الحمل درجة وأربعين دقيقة والمشتري في القوس ست درجات والزهرة في الجوزاء ثلاثين درجة، وعطارد في الجوزاء أربع وعشرين درجة والرأس في الجدي خمسا وعشرين درجة)).

ذلك ما أفادت به النجوم لميلاد بغداد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي