الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصعود إلى أعلى

سميح مسعود

2018 / 8 / 14
الادب والفن


خطر لها في ومضة خاطفة أن تكتب قصتها، استعادت لقطات عاشتها في الماضي. أمسكت القلم وأخذت تسجلها على صفحات من أوراقها في حروف صافية، تتزاحم الأحداث فيها، تشتد وطأتها في حياتها، سجلتها من دون نزوع منها إلى المبالغة.
عادت بذاكرتها إلى الوراء، بدأ التوتر يزداد في أعماقها وهي تتذكر سنواتها الأولى. أغمضت عينيها تتذكر مكانها الأول، بيت أهلها ومدرستها الأولى... دونت على أوراقها كيف كانت دائما في المقدمة بين زملائها القدامى، تتمتع بالجرأة وبقدرة ملحوظة على التحدي، كانت الأذكى والأكثر ثقافة. تقف متحدثة بطلاقة أمام المدرسين والمدرسات، ويكثر الحديث حولها بأنها مغرورة لا تتكلم إلا الفصحى.
كانت تنظر إلى من حولها بنظرات التحدي وتقول لهم: "سترون غداً من أكون". تألمت كثيراً في صغرها لأن ذكاءها جعلها وحيدة. لم يكن لديها الوقت الكافي للأصدقاء، اهتمت فقط بالقراءة وتحقيق أعلى مراتب النجاح، كان يهمها أن تثبت لوالديها، وبخاصة لوالدها أنه لا ضير أن تكون فتاة!
منذ أن وعت، تصدرت دائماً مركز القيادة، فمنذ صف الروضة عرفت هزيمة واحدة لا تنساها، حدثت عندما تغلّب عليها أحد الأطفال في مسابقة ثقب البالون، ونال الجائزة الأولى. منذ ذلك اليوم قررت أن لا أحد غيرها سيحصل على الجوائز، سواء العلمية منها أو الرياضية، وأنها ستكون دائماًفي المرتبة الأولى.
رغم نجاحها كانت تسمع همهمات سخرية دائمة حولها، كان أبناء عمومتها يستسيغون تحقيرها ونعتها بالمتخلفة والغبية.. سخروا أيضاً من شكلها معتبرين أنها بين أفراد عائلتها "فرخ البط القبيح". كانت بين الأخوات الكثيرات تلك السمراء البشعة. أختها الكبرى بيضاء وعيناها خضراوان أخاذتان، والأخت التي تصغرها فاتحة اللون وعيناها شهلاوان.
لم تشعر بالقلق لمثل هذه التعليقات، كانت مفعمة بالأمل ومليئة بالتوقعات، ترد على الساخرين منها بصوت عالٍ: "سأصبح مهمة في المستقبل، سترون غداً من أكون".
فيما كانت تكتب على أوراقها أجزاء ًمن سيرة الصبا، توقفت عن الكتابة، أغمضت عينيها وأخذت نفساً عميقاً، وعادت إلى تلك اللحظة المظلمة في حياتها يوم باعوا روحها للشيطان وهي في السادسة عشرة من العمر.
لم يستغرقها الكثير من الوقت للعودة ثانية للكتابة عن ألمها وعن سرقة طفولتها وبراءتها. بدأت خيوط السرقة مع ضغط نفسي مريع ألم بها في يوم زواج رفضته جملة وتفصيلاً، أُجبرت عليه، لا تستوعب حتى الآن لماذا استمر زواجها لست سنوات. اتسع مدى ثقلها كأنها عشرات القرون، عاشت فيها بمرارة دائمة، تعرضت فيها للإهانة والضرب من زوجها... كدمات زرقاء كانت تظهر كثيراً حول عينيها، ذاقت طعم الإساءة في المعاملة من كل أفراد أسرة زوجها؛ أمه وإخوته لم يرحموها، كونها أصغر فرد في العائلة.
كانوا كلهم قساة عليها... وفي ذات يوم وصل السيل الزبا، رفع زوجها السكين في وجهها، أراد قتلها فهربت منه، لاذت بالفرار مع طفلها إلى بيت أهلها، رفضت الرجوع إليه، قالت له " لا " كبيرة، ثأرت فيها لكرامتها.. لم تستجب للمصالحة معه.، وبعد مسيرة طويلة في المحاكم تخلصت منه.
أزاحت عن كاهلها عبء ظلم زواج وزوج فاشل... استعادت رباطة جأشها وأخذت تهتم بالدراسة من جديد، واصلت دراستها الجامعية تداعبها أحلام طفولتها من جديد وتحثها لتصبح من المشاهير في بلدها، كما كانت تقول دوما لمن حولها. مرت سنوات الدراسة بسرعة، ومع نهاية السنة الأخيرة اجتازت بتفوق كبير امتحاناتها النهائية في كلية الطب، وأصبحت طبيبة متميزة، ثم واصلت التخصص واعتلاء درجات الترقي درجة تلو أخرى حتى أصبحت مشهورة في مجال البحوث العلمية.
بدأت بعدها تُحصي ما خلفته أيامها الماضية.. روحها المحطمة ، وأشرعتها الممزقة. لم يكن لديها الوقت الكافي للتعرف على نفسها من جديد، لتصلح أشرعتها... نظرت حولها، لم تجد من يهدىء روعها... سارت وحدها تجر حطامها، كلهم يرون قوتها كطبيبة متميزة ملهمة ومؤثرة، ولا أحد
يرى أنها في داخلها مجرد بقايا امرأة سُلبت براءتها وتعرضت للأذى وهي صغيرة في مرحلة المراهقة.. لم يدركوا حاجتها للمساعدة.
ظلت متعطشة إلى يد تمتد لدفع مركبها وسط بحر هائج تتلاطم أمواجه العاتية في كل الاتجاهات. تطلعت دوماً إلى من يساعدها على رتق أشرعتها وهي تصارع الأمواج في لجة البحر. ولكن تلك الأمواج لم تأتها سوى بأسماك القرش من البشر الذين حاولوا نهشها، فكونها مطلقه جعلهم يعتقدون أن بإمكانهم امتلاكها، ظنوا وظنوا.. ولم يعلموا أنها سَنّت مخالبها وتحصنت خلف قلاعها رامية بهم بعيداً... تعاملت معهم بحذر شديد وظلت محصنة بقوتها وصبرها.
مرت السنون وهي وحيدة، أرهقها التجديف المتواصل في وسط الأمواج العاتية. غرقت في الشفقه الذاتية. لم تعد ترى نور الشمس ولا جمال الماء الرقراق وانعكاس الألوان والأشجار على صفحة الماء.
واصلت التحديق في قعر قاربها قائلة: "تعبت. كم ظلمتني الحياة. كيف السبيل إلى الخلاص".
فقدت القدرة على التركيز وزادت إيغالاً في الوحدة، أرادت إظهار ذكائها وقوتها وجمالها، حققت إنجازات علمية كثيرة على المستوى الدولي، ورغم كل هذه الإنجازات، كانت تقول للمقربين منها: "كان بأمكاني أن أصيب أكثر لو أن الأيام أتاحت لي الفرصة في وقت أبكر من حياتي ولم اضطر إلى مصارعة الميدوسا".
أحست مع الأيام أنها خائرة القوى، روحها مستنزفة، كتبت على أوراقها بحروف نافرة كبيرة عن قساوة استنزاف الروح، وعن صعوبة الخروج من قاع بئر عميق وجدت نفسها فيه. لا أحد يمد يده لها كي يحمل عنها صخرة سيزيف.
رغم تغييرها مكان إقامتها، وتحقيقها إنجازات متميزة في المجالات المهنية، بقيت تلاحقها لعنة سيزيف.. واصلت تحمّل ألم اللعنة، لا أحد يمد يده لعونها، لا أحد يتجرأ بمد يده ليرفع الصخرة عنها.
توقفت لحظة عن الكتابة. قرأت ما كتبته على أوراقها، وفجأة أحست بشعور داخلي غريب، لم تعد تحس بالانكسار، ولا بلعنة سيزيف. سمعت صوتاً يقول لها بوضوح تام : "لا حاجة لأن تنزلي وتأتي بالصخرة ثانية إلى أعلى، أتركيها مستلقية عند قدم الجبل، واستمري وحدك الصعودَ إلى أعلى. انظري فقط إلى ضوء الشمس، هناك مكانك الحقيقي".
في هذه اللحظة قررت بإصرار أن تغلق الجزء الذي كان مظلماً في داخلها إلى الأبد، وأن تفتح صفحة جديدة من حياتها مفعمة بالحيوية، تستوحي فيها من تفوقها المهني مقاربات لتفهم حياتها تفهما ًأفضل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع