الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن والقُبَّرَة والمدينة!

فؤاد بلحسن الخميسي
كاتب وباحث

(Belahcen Fouad)

2018 / 8 / 15
المجتمع المدني


أجَّج تغريد القُبَّـرات في صمت هذا الصباح الباكر في داخلي سلسلة أسئلة وتأملات.
كيف حجَبَ وجودنا كأناس تعيش في المدينة وجودَ كائنات لطيفة، ملازمة ومجاورة لنا باستمرار، هي القبرات؟ كيف نُدرك هذه الكائنات اليوم؟ ما أهميتها؟ ولماذا أجعلها موضوعا لهذا النص العابر عبور الخاطرة؟
القُبَّرات أو القُبَّر، جمع قُـبَّرة! والقبرة عصفور صغير الحجم. تُسمى أيضا بـ «القُنْبرة» و«القوبعة» (من القُبَّعة، نسبة إلى تاج الريش الذي على رأسها بالنسبة للقبرة المُتَوَّجة)، ويفضل المغاربة تسميتها بالعامية بـ «الجَّوْجْ» (على ما يبدو، هذا الاسم مشتق من صوت تغريدتها).
ربما يكون هذا العصفور، بالنسبة لنا جميعا، أول ما عرفنا وشاهدنا من الطيور في صغرنا! وربما يكون تغريدها أول صوت لكائن حي - من غير البشر- طَرق أسماعنا ساعة كنا نُـصغي بإمعان لأصوات عالمنا الخارجي، سواءٌ ونحن بداخل أرحام أمهاتنا أو ونحن فوق مُهودنا! وربما يكون هذا الكائن أكثر الكائنات قربا إلينا مقارنة بغيره من الحيوانات عموما! وربما يكون أكثرها عددا أيضا داخل المدينة وحولنا!
كل هذا يدفعنا إلى إعادة اكتشاف القبرات من جديد، إلى تجديد علاقتنا واتصالنا بها، إلى رؤيتها بصورة مختلفة.
لكن، لماذا؟
أولا، أحب أن أنطلق من ملاحظة مثيرة. لاحظوا معي كيف اختار هذا الطائر أن يعيش ككائن مَدِيني. فاليوم، قد نفتقد -ولو نسبيا- القبرات في القرى (وهذا ما أسجله وأنا في بيت جدي القروي) بينما نجدها حاضرة بقوة داخل المدينة، إلى درجةٍ يمكن أن نقول معها أن القبرات أمست كائنات مدينية بامتياز. فما الذي جعل القبرات تختار العيش بالمدينة، إلى جانبنا؟ هذا سؤال كبير، يحتاج إلى بحث متخصص. لكن ما ألاحظه، هو أنها، وبالرغم من حَذرها الشديد منا نحن البشر، تبدو مستمتعة بعيشها بيننا: تُغرد بلا انقطاع، تقفز من هنا إلى هناك، تتراقص، تلعب بـ/حول أشياء تعود لنا، تُطور مهارات مثيرة (الاختباء، الفرار، البحث عن المياه، معرفة أماكن الطعام الذي يعود في الأصل للإنسان، إلخ)، وفي نفس الوقت تبدو مرحة، وغير ضجِرة أبدا. بل أكثر من هذا، إننا يمكن أن نسجل حالات تترك فيها القبرات أعشاشها في الأشجار لتبحث لها عن مساكن داخل البيوت السكنية خاصتنا. وهذا ما يزيد من قدرتها على التكيف معنا ويزيد من مَدَنيتها إذا أخذنا وجهة نظر إنسانية للموضوع كزاوية للظر!
لكن مع ذلك، وبقدر ما تقترب منا القبرات نبتعد عنها نحن!
نعيش في المدينة، وشيئا فشيئا، نفقد اتصالنا بالطبيعة. هذا الخوف من فقد هذا الاتصال، هو الذي جعلنا نغرس أشجارا على مداخل بيوتنا ونضع أغراسا على سطوحنا ونوافذنا (قد يقول أحدنا هذا تمسك بطبيعة البداوة فينا، التي ترتبط بالأرض والطبيعة. فليكن!). فلطالما ارتبط إدراكنا للجمال بجمال الطبيعة (أشجار، أنهار، مُروج، أزهار، طيور،...). واليوم، ومع هذه الأوبة لكل ما هو طبيعي وبيئي (الثقافة الإيكولوجية)، نجد أنفسنا نعيد اتصالنا مع الطبيعة مع كل المشاعر الدافئة التي ترتبط بذلك. فكيف تكون لنا هذه العودة من دون تجديد علاقتنا بالقبرات، القريبة مكانيا وصوتيا. لا بد أن نقترب منها لنعرف ذاتنا أولا ككائنات حضرية تتقاسم الفضاء مع كائنات أخرى، ولأهداف تربوية ثانيا. فمن الضروري أن نعيد تعريفنا لأنفسنا من خلال ما يحيط بنا، كما أن أطفالنا في حاجة إلى أن نلفتهم إلى طبيعة هذا المحيط، بمكوناته ومقوماته. ولا بد من أن ننطلق من اعتراف صريح بأن المدينة والمدنية بقدر ما ترتبط بالرخاء والحركية والأشياء المبتكرة، بقدر ما تُبعدنا عن حقائق و إيقاعات أخرى لا تقل أهمية (الطبيعة وأسرارها). وأنا أكتب هذه السطور، تذكرت الحسن الثاني، هذا الرجل المثير للجدل والموسوعي، الذي جمع بين حب السلطة والتأمل العميق، في آن، وهو يخطب أمام جمع من المهندسين المغاربة (1986) لما استَـنـكر واقع أن أطفال باريس ما عادوا يشاهدون العصافير فوق رؤوسهم بسبب تلوث المدينة هناك! إن من واجبنا أن نمسك بهذا الوعي بالمحيط الذي جسده هذا التعبير الذي عبر به الرجل عن مسألة حيوية بالنسبة لكل إنسان- الالتفات إلى المحيط وإلى جمالياته واعتباره جزء من الهوية. كيف لا وحياة القبرة تسري على هامش حياتنا، وجغرافيتها هي جزء من جغرافيتنا، أليست القبرة كائنا متوسطيا، يحب مناخنا وتضاريسه وغذاءه، كما نحن تماما!
الهوية؟!
نعم. ألم يربط محمود درويش بين القبرة والوطن والهوية والذاكرة، لما أنْشَد:
"كلّ ما أملكه في حضرة الموت:
جبينٌ وغضبٌ.
وأنا أوصيت أن يُزرع قلبي شجرهْ
وجبيني منزلاً للقبَّرهْ
وطني، إنّا وُلدنا وكَـبُرنا بجراحِك
وأكَـلنا شجر البلوط..
كي نشهد ميلاد صباحك..." / قصيدة «جَبِين وغضب»
ولما قال أيضا:
"... وعرفنا ما الذي يجعل صوت القُبرة
خنجرا يَلْمع في وجه الغُـزاة
وعرفنا ما الذي يجعل صمت المقبرة
مهرجانا .. وبساتين حياة! " «يوميات جرح فلسطيني».

أختم بالقول، لن نُـربي إنسانا على حب المدينة ما لم يحب إنسانها وحيوانها ونباتها أولا. والحب إما أن يكون أو لا يكون!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آلاف اليمنيين يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة


.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل




.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون


.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة




.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟