الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فتاة المومياء

رولا حسينات
(Rula Hessinat)

2018 / 8 / 19
الادب والفن


طقطقة الخشب تحت قدميها جعلتها تأنس لهذا المكان الذي للتو كانت تتراكض فيه خلف الحطب بين الأغصان المتشابكة، في الغابة الكثيفة والسفح المشرف على الوادي الأخضر؛ هي تحفظ صورته بالضبط بكل تفاصيلها، وحشوات الأعشاب في الشقوق الصخرية، ونبات الشومر ومواسم إنباته…سنوات عمرها الاثنتي عشرة جعلتها تعرف كل تفاصيل الأشياء، كما يمكن لأيّ كان أن يسألها عن مسكن طير الصقر الأبيض؛ الذي يسكن فوق الشجرة العملاقة التي لا يستطيع أحد الوصول إليها في أعلى الجبل، وجذعها الذي يتعدى محيطه الثلاثة أمتار…الوعورة التي كانت تحيط بتلك الشجرة لم تمنعها من تسلقها حتى بعد انزلاق قدمها مرة تلو المرة، لكن عنادها وتصميمها هو ما جعلها تصل إلى أعلاها وليس لأعلى المنحدر فقط وهي يمكن أن تكون أول من في القرية التي تمكنت من رؤية فراخ الصقر، وهي مكسيّة بالزغب الأبيض… الغريب في الأمر أنَّ الصقر حط إلى جانبها فوق الشجرة العملاقة، دون أن يؤذيها، لم يكن أحد ليصدق ذلك لو أنّها روته على مسامعهم من كبيرهم لصغيرهم، ولكنها كانت لا تروي الكثير، ولا القليل، ولكن الحادثة التي كان أغلب أهل القرية قد شهدوها وبعد أن صرخت أختها الكبرى جينا؛ وهي تجري بخطى واسعة إلى القرية بحمرة وجنتيها، وعينيها الزائغتين وجديلتيها اللتين تقفزان فوق ظهرها كجديين أسودين رشيقين…

كان المشهد عظيمًا ومخيفًا والأكثر خوفًا فيه قيام الصقر بحملها برويّة، وهبط بها إلى أسفل المنحدر دون أن يؤذيها، وحلق بعيدًا عائدًا إلى عشه، وهو يخفق بجناحيه…

اقترب أهل القرية على عجل، حيث كانت تسبقهم والدتها فطيمة، وهي تتلمس ابنتها وتتفقدها تحت إبطيها، ومن كتفيها…كل قطعة فيها دون أن تعثر على خدش واحد…

الكثير من الخوف والغضب امتزج بكلمات الأمّ التي لم تعد تحتمل تصرفات ابنتها الخرقاء أو المجنونة، والتي لا يمكن لأحد التنبؤ بها، والتي لا تناسب بنتًا في مثل عمرها…

الهاجس الذي كان يدور في مخيلة فطيمة؛ أنّها لم تكن المرة الأولى لتصرفات ميمونة فقد انطفأت النيران التي اشتعلت في الحظيرة، عندما دخلت إليها دون أن تمسها، و بمجرد دخولها إلى الحظيرة انطفأت، لم يصدقها زوجها رحيم الله آنذاك… رغم أنّ الوسواس المجنون بدا أكثر وضوحًا في حرصه على ابنته، وهو يحمل قلبًا جبانًا في خوفه على أولاده…: صديّق وجينا وميمونة بعد أن فقد ابنه الصغير وهيب الله؛ الذي لم يرتوِ من خضرة الحياة بعد، كما لم يرتوِ من حبه لصغيره الذي تعلم نطق الحروف، وهو لم يتعد التسعة أشهر… كان حينها يتقن كلمة: “أبي” ولكنّه قبل أن يصل للثانية من عمره؛ إلتقفه الموت بفكيه ولم يبقِ له من أثره سوى كلمة: أبي اشتاق إليك.” ميمونة لم تنطق الكلام بسرعة بل احتاجت لأكثر من عامين لتفك طلاسم ما تنطقه، ولكنّها كانت صامتة صمتًا يصيب بالجنون؛ الأشرطة التي تنسدل مع شعرها الأشقر جعلتها كمومياء محنطة…بوجه جميل.

هذا الاختلاف الوحيد الذي يمكن أن يجعله يطيل النظر تارة، ويخاف أن يطيله تارة أخرى… شعور يخترق قلبه بأنّ هذه الصغيرة لن تكون مجرد فتاة طبيعية ينتهي أمرها إلى زواج، وبيت وأطفال، ونشر لثيابهم الملونة والمختلفة بثقوبها الملونة بالرقع ، كما تفعل فطيمة…هي لن تكون أمًّا على الإطلاق؟! من تراه سيتزوج فتاة المومياء هذه؟! وإن كانت ابنته وإن كانت جميلة فهو لن ينصح أحداً بها…لطقوس الغرابة التي تعيشها، وربما قد تكون معجونة بها ! من يدري؟! ميمونة فتاة المومياء التي تشل تفكيره، وتفكير فطيمة لمجرد ذكر اسمها، ذكرياته تتوقف عندما تعثرت فطيمة وهي تحملها في بطنها؛ وقد نزفت الكثير من الدماء، والداية تنبأت بأنّها ستخرج حيّة وفي موعدها، وذهبت وهي تطيل النظر في البطن المستديرة، ثم أدارت ظهرها ومضت…لم تخبرهم بغير ذلك…كيف عرفت أنّها أنثى وأنّها لن تموت؟ّ! ظلا يقلبان الوجوه والحيرة تملؤهما…وبقي النزيف عشرة أيام ثم انقطع من غير دواء…وبعد أن انتهت أيام الحمل ولدتها فطيمة دون ألم، دون مخاض دون دماء…بماء لزج…كانت كقطعة باردة بيضاء بياض الثلج، لم تكن قطعة حمراء كما إخوتها، لولا جسدها الحار الذي تلسعه المياه الساخنة.

لم يكن ليظن أنّه مولود على قيد الحياة، ولكنها كانت بالفعل على قيد الحيّاة؟.

الأمر الذي لم يجد له تفسيرًا؛ أنّ جلد الصغيرة الناعم لم يحمر من أثر المياه الساخنة التي غسلتها بها فطيمة بعد أن قطعت الحبل السريّ!! وقد دعكتها بلطف كورقة ربيعية…الغريب أنّها بقيت بيضاء بعينين زجاجيين. النظرات الصامتة التي التقطتها عيناه…كانت تحمل خوفًا من الغموض من القدر الذي تحمله الصغيرة، ولا يعرفه أحد؟!

النور الذي تعلقت به ميمونة، وقلبها يرتجف لأول مرة؛ وهي تنتظر أن ترى شيئًا قبل خروجها من الغابة مع كمية الحطب…الشيء الذي تنتظره…هي لا تعرفه؛ لكنها تشعر بقرب حدوثه…الدوامة التي تدور فيها جعلتها تطيل الصمت، وأن تصوم عن الكلام وهي تنظر إلى المشهد أمامها للقرية الوادعة بين كتفي الجبلين، متراصة كبيوض صغيرة كتلك التي حملتها يومًا…ماذا لو بقيت حتى مغيب الشمس؟! لو بقيت حيث هي لفترة أطول حتى يختلط اللون الأصفر بالأبيض بالأحمر…ما الذي سيحدث؟ لا شك أنّ شيئًا ما جعلها تنصت لطقوس أخرى…

أعواد الأخشاب المرصوصة إلى جانبها بدت كأيدٍ مرفوعة إلى السماء… احتضنت البرودة في جسدها، نفخت في يديها لتخرج سحابة من البخار الأبيض جعلتها تغيب فيها؛ وهي تطيل في الغناء الطويل…بصوتها الجميل الرقيق؛ الذي لم تكن تسمعه لأحد، وكأنها أفطرت من صومها وخلعت ثوب النسك في معبدها…ما كانت تفعله هو الاكتفاء بالإنصات، وهز رأسها بالموافقة والفهم السريع… كان يكفي بأن ينطق أحدهم بحرف مما يريد حتى تأتيه به، وفي كثير من الأوقات كانت تأتي بالأشياء قبل أن يُنطق بها أو حتى يفكر بها أحدهم…وهذا الذي جعلها تبتعد عن نسيج الحكايات ، وعن الأعين الفضولية التي تصنع منها غريبة الأطوار.

إخوتها وجينا أختها الكبرى لم تكن بعيدة عن الآخرين؛ حين تؤوي إلى سريرها دون أن تنطق بكلمة، لمجرد أنّها تحمل الكثير من الخوف منها؛ فهي لا تحبُّ أن تعيش مع غريبة الأطوار. ورغم ذلك كله كانت تبقي على صمتها الذي لا يكلف أحدًا شيئًا لكنه قي الواقع ثمن باهض تدفعه ليبتعد الكثيرون عنها أكثر وأكثر…لتبقى وحدها فجميعهم سيفنون وستبقى هي!

لا تدري لم يأتها هذا الهاجس أو التفكير أو الحلم الواقع! وليكن ما يكون؛ هي تخشاه وتفضل أن تبقي على صمتها الدفين من أجل المحافظة على دفء عائلتها رغم برودتهم معها.

الثلوج التي بدأت تنهمر، والضباب الذي بدأ يهبط فوق القرية جعل فطيمة تنظر من النافذة المرة تلو الأخرى، وهي تتم وضع الثياب في الخزانة الصغيرة الخاصة بأولادها، وقد انتهت للتو من إعداد الحساء من البطاطا والزنجبيل والخبز الساخن الذي صنعته في الموقد الصغير…وقد كان غياب ميمونة قد جعلها تطلُّ برأسها من النافذة، ومن الباب، ومن العلية، ومن سطح البيت لتقبض على أثر لها…لكنها لم تعثر عليه في الهواء الذي ضرب رئتيها ببرودة أصابتها بكحة متواصلة، واحمرار في خديها…

أقسم عليها رحيم؛ بأن تستسلم لغرابة أطوار ابنتهم؛ فهي ليست المرة الأولى التي تبهرهم بعجزهم بمفاجأتها، وذكّرها بغياب الصغيرة في حقول القمح الممتدة في السهول البعيدة وراء الجبال…

نعم، هي تذكر ذلك اليوم ؛ اليوم الذي غابت فيه ميمونة ولم تتجاوز الثلاثة أعوام في الحقول ولم تظهر طيلة ثلاثة أيام، بقي كل من القرية يبحث عنها، وينادي باسمها دون جدوى حتى ظنّوا جميعهم أنّ هناك أمرًا جللًا قد حدث لها أو ربما أكلها الذبّاح وأسطورته؛ التي كانت تخيف الكثيرين…بكثرة ما نسج حول الذين ذهبوا بلا رجعة، ودون أثر.

وقيل: أنّ هناك رجلًا ينتشي بالدماء؛ يقتلهم، ويأكل الأجساد ويجعل الدماء في قوارير يخمرها لسنوات ليشربها بدل الخمر. لا أحد يدري من أين جاءت هذه الأسطورة! لكنه الخوف والغموض والفراغ الذي تدور فيه قريتهم البعيدة وسط الجبال في ثالوثه… ما استغرب له الجميع ظهور هذه الصغيرة بعد غياب شمس اليوم الثالث، وهي تحمل معها بيوضًا صغيرة بيضاء، لم يُعرف لها ذكر من قبل… لم يُعرف ما هي؟! ولكنها رغبت في إرقادها في سلة صغيرة قرب الموقد إلا أنّ المخاوف كانت من ظهور كائن غريب، لا يعرفون عنه شيئًا…فكان قدرهم؛ بأن يدفنوا البيوض تحت بيتهم، وفي اليوم التالي كان الفضول الذي قاد رحيم الله أن يكشف عنها، لكنه فوجئ بأنّها لم تكن موجودة…الصعقة التي أصابته حتمت عليه سؤال كل واحد من أسرته وكانت ميمونة أولهم، ولكنها هزت رأسها بالنفي…وبقي لغز اختفاء البيوض عالقًا في رأسه.

جلوس فطيمة وكحتها التي بدت أشرس من ذي قبل، وقد جعلتها تخشع، وهي تدعو من أعماقها أن لا تبيض القرية من حولهم إلا والصغيرة في أحضانها…

حلَّ المساء، وطقطقة الحطب كانت كفيلة بأن تجعل الفتيان يحيكون أساطير جديدة حول ميمونة غريبة الأطوار… حين سمعوا صوتًا مخيفًا تبعثرت له المكعبات الخشبية الصغيرة، التي كانوا يبنونها أمامهم كقلعة لها أسوار، في البداية كان الأمر حادثًا ما ربما يكون انهيارًا ثلجيًا…ولكن الهزة تكررت المرة تلو المرة، وفي كل مرة كانت أشد وأقوى من ذي قبل، لم يشعر أهل القرية إلا وهم يندملون مع كل شيء، وقد انفلقت الأرض إلى شقين وابتلعت القرية بمن فيها إلى جوفها المظلم…

لم يبق سوى الخراب…

لم يبق سوى السواد…

غابت الأرواح والأجساد معًا.

الثوان التي سبقت الفاجعة لم تكن كافية لينجو أحد… وقد غابوا في الظلام…وبقي الثلج الأبيض يكسو ما تبقى من خراب.

صوتها الذي أطرب السماء فاكتست باللون الأبيض، والأشجار التي بدأت تأتيها طوعًا من جذورها تتبع صوتها الشجيّ…

كل ما حولها يتحرك ناحيتها وكأنما تصبُّ روحها في الحياة…

الصوت الذي علا من حولها والأرض التي تدمدم من تحتها، لم تجعلها تتوقف بل أطالت الغناء حتى انفلقت الأرض بمصراعيها، وقد ظهرت أرض أخرى… أبقت نظرها معلقًا فيها وهي تغني بعينيها الزجاجيتين، وقد نهضت من تحت الثلج الأبيض…

الكثير من البيوت الغريبة…

الكثير من الكائنات التي لا تعرفها…

ولكنها بدت مألوفة…

قادتها قدماها الرقيقتان إلى أن تسير، وهي تغني، وتطالع الوجوه التي بدت وكأنها تنتظر ولادتها على يديها…غرابتها لم تزعجها؛ لقد نطقت أخيرًا…نطقت بكل ما فيها، بصوت عميق جعل الكثير من الأشياء تسير حولها، وقد حلقت فوقها في السماء البيضاء، ثمانية طيور بيضاء أظلتها بغيمة. لقد أدركت أنّها تلك البيوض الصغيرة التي دفنت لتعيش في مكان آخر، لم يكن بعيدًا عن قريتهم بل كان أسفل جبالها ومروجها وكسوتها البيضاء…

النور الذي بدأ يسطع كلما سارت بين البيوت الغريبة بأطرها الذهبية، والتي تصعد فوق بعضها البعض كعلب صغيرة مكدسة…

كل ما حولها بدا صغيرًا يصغرها كثيرًا؛ لقد بدت بطولها ورشاقتها عملاقة تسير على قدمين فوق الطريق الدقيق الملتوي…عندما كانت تنظر في الوجوه…بأشكالها الجديدة وأجسادها الصغيرة الغريبة عرفتها واحدًا واحدًا كما عرفت عائلتها واحدً واحدًا وجينا بعينيها الفزعتين.

الأجساد الغريبة بآذانها الطويلة، بضآلة خضراء اللون…

ورغم غرابتها وغرابة كل ما حولها…كان كل شيء معدًا كما لو كانت تنتظره.

لبثت طويلًا أمام كرسي العرش… ثم استدارت وهي تنظر لتلك الكائنات، وهي تنحني أمامهم وقد فتحت ذراعيها شاكرة لهم…والتصفيق فرحًا، جلست، وقد بدت كملكة للمدينة الغريبة حين هدر صوت عال…

خرج من حيث لا يعلمون؛ كان ضخمًا غريبًا مقززًا بعينين مخيفتين، وجسد عظيم، تبرز أنيابه من فكيه…حمل المدينة بين يديه؛ وقد حلق الجميع وهم يهتفون مرحبين… وميمونة تنظر إليه مبتسمة…لقد عرفته فهو من رأته في صغرها، وقد منحها البيوض الثمانية…حينها لم تكن تنطق ولم تبدو سوى كفتاة المومياء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في