الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديوان الحيرة العظيمة - 9/2

أحمد عبد العظيم طه

2018 / 8 / 20
الادب والفن


حكاية الفقير وروحه


كان فقيرًا، مُعدمًا..
ولهذا السبب المُقدس تحديدًا
كان يَمتلكُ روحًا كالجمرةِ العظيمة
تَتْقِد منذ مَولدِهِ

فلَمّا دَخَلَ شبابهُ عليهِ
وأصبحَ على زهرتهِ ينامُ
تَصاعدَ صهدُ روحه إلى ذروةِ الصهدِ
فمَلكَ عليه جميع كيانه وبدنه
حتى أنه كان يُحرِقُ الأرض التي يتمددُ عليها
"وإن يَدن ذبابٌ أو باعوضٌ يَسقطُ مُحترقًا"
وكان يُلهبُ أوجُهَ الناس بأنفاسهِ وبصرِهِ
ويصهرُ المعادن الصلبة، فينفصِلُ الخبيثَ عن الطيبِ
وكان يَعرفُ الأحياء في أصلِها، والأشياء منذ بدايتها

ولمْ يَكنْ مُلْتَفِتًا لشيء، وغير مَعْنِيٍّ بذلكَ كله
"فخارجه كانت تقوم الأرض بما عليها"
إنما تعنيهِ ذاتهُ فقط، كأي أحدٍ، وكأي شيءٍ حيٍّ وميت
بذلك التجرد التام من أيةِ عاطفة وهمية
أو سذاجة تَنمُ عن وجودِ غيره.

هو كان مُتأزّمًا بروحِه ذات الطبيعة الحارقة
فكان يَحترق من الداخل ويُعذَّبُ بتلك الحرارة الغائرة
والصهد الذي تحول إلى لهيبٍ "أشمل من الصهد كما يَرى"
إثر تحول روحه التي كالجمرة العظيمة إلى جمرةٍ أعظم
تُشعُ بلهيبها "الذي أوتيَ القدرة على تحمُلهِ كما أوتيَ الروح"

كان يُدركُ قِيمَة الحرارة الخالقة
وقيمة الفقر الذي صيّرَها بروحهِ.. فصارتْ واستقرتْ
وكان يستعذبُ عذابها الذي يُنشِئ أشياء تتحركُ دائمًا،
وأشياء أخرى تَثورُ وتَسكنُ..

فحَمَلَ بداخلِهِ عالمًا ناقصًا
غير العَالَم الآخر "الذي يَعرفه ُالآخرون"
عَالَمًا يُحبُه ُويَجتبيه بحرارتِهِ، ثم صهده، ثم لهبه الأقوى
......
فكان يَنسخُ الكون بسرعةٍ رهيبة، وإتقان ووجل عظيمين
لأنه يُريدهُ كاملاً "غير مَنقوص العوالِم"

حتى إذا دَخلَ شبابه ُعليه وأمسى على زهرتهِ يَقفُ
تَصاعدَ لهبَ روحه إلى ذروة اللهبِ
فتَوقفَ الإنشاءُ، وتَوقفَ النسخُ
وجَرى انفجارٌ بالداخلِ كالذي يحدث بالسماواتِ البعيدةِ
"وكان مِن قوة اللهب"

وقال الذين رَأوهُ أنه قد أضاءَ برهة
وسَمِعَتْ أمه دَويًّا أَرهبَ قلبها "وكانتْ على مقربةٍ"

أما عنهُ..
فكان يَعلمُ أنها الأكوان تَفنى "مِن أجلِ كمالِها الشخصي"
وأنه لمْ يَكتمِل ما يَتكونه بَعد..
فصارَ مُطمئنًا ولمْ يَتعس
ولم يَشقَ بانفجارهِ "الذي أبادَ ما نَسَخَه، وشَرْذَمَ نَفسه إرَبًا"

قال: سأسيحُ بما تَبقى مِن وهجي
"زمانًا بالزمنِ، ومسافة ًبالأرضِ"
ثم أعود إلى الداخل، فأجمع شِرذمتي...
وأعاود النسخ، وصُنْع ما أبغي.

وإذ يقول لفقرِهِ: ما أنا بناسِيكَ، وتاركُكَ، ومُهمِلُكَ.. غير عامٍ واحد
أنأى بهِ عنكَ، وعمّا أحوي من لمسةِ الضرر..
ثم أرِدُّكَ وترِدُّني كالماءِ يَعودُ من سقطتهِ إلى العُلَا..

وعندئذٍ أخرج عَينهُ من قاعِهِ إلى أفقِهِ
"فصارَ بينهما حجابٌ، وخواءٌ كثيف"

وكان أن ركِبَ البرَّ والبحرَ العميق
وساح بالأراضي النائية، والبلاد العامرة...
وجدْفَ في الحياةِ رِدحًا، يَأكلُ ويَشربُ..
ويَعملُ ويَرتاحُ، ويَنعسُ..
ويُكلمُ الناس، ويَنكِحُ النساء...

ومضى يَنْمُو، ويَربُو كالعير حين يُطلقُ في برّيةٍ من الكلأِ
"فلما استمْرَأها الذي تحللَ من العهدِ"
أصابه خدرٌ وخمولٌ، ومضى مُنسابًا إلى قمةِ اليُسرِ، والبَسطِ..

ومضى عام فقال: إنْ هو إلا عام مِن الدهرِ.
فمضى عامين..
"وكان قد ثَقُلَ كما يَثْقُلُ الماء على الزيتِ فيرسو أسفله"

ولقد يَعْجَبُ –إذ يتفكر– ذات مرة، كيف يَتكلّفهُ الناس تكلُّفا!
وتَنْشُدهُ النساءُ بكثرة!
وهو الذي يَدري أمر حرارته الحارقة
ومُقام لهبه في النارِ، ووهجه بالوهج

"فلمْا نَظرَ بداخِلِهِ إلى عمقِهِ، فوجئ الذي لم يتوقعْ"

وشَهقَ الذي دَخلَ على نفسهِ فوجدها جثة هامدة
وقد ماتتْ أشيائُها موتًا كظيمًا..
وإنها قد خمَدَتْ وابتَرَدَتْ، مَنْ كانتْ تأججتْ وانفجرتْ..
واستقرتْ قِطَعُهَا على القاعِ كالكومِ الهزيلِ...

وإذ يدِبُّ أصابعهُ في جمرِ روحه
يَثور هشيم يَذروهُ فزعه، وحسرته، ونواحه
على ما كان مِن روحهِ
ومِن فقرهِ "الذي أضاعه وهو يَعلمُ أنه الحق"

وقال الذي مصابهُ بالروحِ والفقرِ: أيا لَهَفًا على فقريِ
وعمرًا طاحَ بالعمرِ
أرى رسمي يَرِفُ هنا
وروحًا أدري لا أدريِ!

صِرنا على جزءٍ لنا
فرَاغَ الكلُ كالطيرِ ...
.....................
..............................










في معيةِ البدائي



كان البدائيُّ بدائيًّا
ويَعْلمُ أنها غابة، وأنها موطنه ُ

* تنويه "البداءة هنا ليس معناها الجهل"

فكان لا يَريمُ عن طبيعتهِ التي فطرهُ الله عليها
وكانت طبيعته قوية كالفهد إذ تَروغ ُ
وكالصقر إذ تَنقضُّ
فلمْ تُشوههَا ضباع، أو ثعالب، أو طير آخر..
ولمْ تَمسّها الفئران، وحيوانات الظل..
باختصارٍ.. طبيعة لم تتسلط عليها الطبيعة.

وكان البدائيُّ يَعْجَبُ إذ يَرى بني جنسه
وقد شوّه بعضهم بعضًا
فصاروا أخلاطًا مُشوهة ً
وفصائل قد تجذمتْ طبيعتها، فباتتْ مجذومة الطبع ِ
وظل هو البدائي الوحيد الذي حَفِظتهُ طبيعتهُ، فحَفِظها..
وصارتْ لا تقبلُ النقشَ، ولا الخمْشَ، ولا النحتَ
كأصلبِ من الماس، وأثقلُ من الهمِ،
وأشدُ ثباتًا من الجبل الشاهق، فلا تتزحزح...
وبها يأكلُ ويشربُ، ويحيا
ويرى، ويسمع، ويتأمل، ويتكلم
ويعيش بُرهتهُ التي قُدِّرَتْ له ما بين الأزل والأبد.

فكان إن يأكل ويشرب
يَستمتعُ بالشبع، وافتراس ما عنّ له ُ
فتشبع أظافرهُ التي من بدنِهِ
وترتوي بصدرهِ غُلته
ويَهنأ ويَرتاح إذ سَفكَ ما سَفكَ

وكان إذا لقِيَ الأنثى
عاملها في فطرتها المطموسةِ تحتَ غطائِها وتَشَوّهِهَا
فكانت تئنُ وتصرخُ من قوة الفهمِ
وتُفجَعُ فيما مضى من عيش ٍبلا هذا..
ولا تدعهُ إلا أن يروغ، أو هي قاتِلَتُه

وكان إذ يَرفع عينه إلى الأعلى يَرى الله بقلبهِ..
ويَراهُ فيُربّتُ على قلبهِ وطبيعَتِهِ، ويُباركُ فيهما
فيَنشرحُ البدائي، ويرعد صوته في البرّيةِ
لا يَفقهه غيرُ الشياطين، والجمادات، والأشجار، والطرُقات
فيفسحون مكانًا، وإنه يَسمعهم، ويفهم ما ينطقون
إذ يتقولون عليه في ظهره
ثم يُخاطبونه حين يمُر يقولون:
لكَ الهيبة والخشية والطوع يا خلقة الله العجيبة
أنتَ أولُ مَن عَرَفَنَا! ونحن نَعْرِفُكَ جميعًا
وإنكَ لمن المُؤيَدِينْ..

فينتشي البدائي ويمشي مُختالاً، فخورًا
ولكن دون دنسٍ من كِبْرٍ، أو غبنٍ، ولا يَغُرَّنَّه بالله الغَرور.

وكان إذا وَرَدَ الماء، بحرًا كان أم نهرًا
انفلق الماء، وأخرج عُمْارُهُ بلا جلبةٍ، وأضاءَ قعرهُ
ذلك مِن شدة البصر المُتطلع
وصفاء الأفكار الآتية بلا وحي، تلك المغروسة بالجوهرِ والقلبِ
فتهدأُ الأجواءُ. ويَنكشفُ البدءُ. ويَتَرَتَّبُ الخَلْقُ، وكلُ شيءٍ حي.
ويَهيمُ البدائي في الماء يَقرأهُ ككتابٍ مِن الماءِ
حتى إذا أنجزهُ، دَخَلَهُ كنبعٍ طفقَ بالماء
ثم يَخْرُجُ ببللِهِ آيةً للمتأملينْ
ويَنظرُ إلى السماءِ مُمْتَنًّا أنْ آنَسَه ُالله بالماء...

هكذا كان البدائيُ مُتدبّرًا
يَنظرُ الأشياء مِن عمقها، حتى قعرِها
ويَلِجُها مِن العيون، تلك الأبواب الأُولى

فلما نظر بعينِ البقرةِ، بَكتْ طُهرًا وخجلاً
ونَطقتْ عليه بالحقِّ قالتْ: أيها الحبيبُ المباركُ...
فكلّمَهَا ورآها مُبارَكةً في نفسها –التي خلف عينها–
فعَلِم ما كان يُجادلُ فيه نفسه
قال: يا مباركة من الله إننا إخوة فاطْمَئِني...

وكان لا يُكلّمُ دابةً في الأرض إلا هلكتْ من فجأة القول
وقبضة الطَّولِ، والحَولِ، عدا البقرة
تُكلمه، يُكلّمها، ويسيران قطيعًا كريمًا

وإنْ يَقول البدائي في نفسهِ: لستُ وحدي.
يَنظرُ إلى السماءِ مُمْتنًا أنْ آنسه ُالله بالبقرة...

ويَمضي غير عابئٍ بالأجناسِ جميعًا
ولا بجنسهِ الذي شوه بعضه بعضًا، وضاع ما بهِ منه
فصارَ جنسًا مَجذوما

كان لا يَأبه إلا لأنثى شاردة
أو ذَكَر يَلمحُ في عينه اليسرى آثار اليقين

فلما رآه جفِلَ الذي كان مُوقنًا
وقال: إني أعوذ بالله منكَ إنْ كنتَ شريرًا
فضحكَ البدائي وأصلحَ له نفسه
ثم تلى عليه البدء، وأعاده سيرته الأولى

فجُنَّ الذَكَر مِن الفجأةِ، والهول
ثم ماتَ فاغرًا قلبه
وظلتْ روحه البهيجة تَجوس الغابة هائمةً حول البدائي
تَحرسه، وتَكاد تتلبسه مِن فرطِ الحبِ

فرفعَ البدائي وجهه إلى السماء دامعًا، مبتسمًا
ودعا الله للميِّتِ، وامْتَنَ له أن آنَسَه ُبالروح

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

وهكذا كان البدائيُ يُعيد البدء إلى الوهم
إلى الفكرةِ الأولى
ثم يُرجِعهُمْ إلى الله
الواحد. البادئ. المُعيد.

وكان ذلكَ ما وَرَدَنَا مِن سيرتِهِ العطرة
فرَحْمَةُ الله عليهِ، حيًا كان أَمْ ميتًا.
.......







بابُ الغاوِينَ



* مُدخلٌ صادق

إنَ ذلكَ لكُمْ.
وحُجَةٌ عليكمْ.
وهو عَودٌ أبديٌّ لِذَات النَفْسِ
التي مِن الأكيدِ أنكمْ سَتَذْكُرُونها
حُبًا، وبُغضًا، وما بينهما.
ولكنني لنْ أتذكرها
فأنا لمْ أَغِبْ عني قَط
ولمْ أَمُتْ مِن قَبل.

وكان التنبيه واجبًا
وضرورة صارخة.


* نَصٌ أمين

إلى كل الناس الذين يَفهمونَ بأعيُنِهِمْ
ويَمْتَلِكونَ ألبَابًا ضخمةً لها ألسِنةٌ صَمُوتَةٌ.
إلى المُعْجزِينَ في تَصَوُّرِهِمْ. والقادرةُ عليهمْ أفكارهمْ.
والقاصِرةُ عنهمْ مُدرَكاتهمْ وأحوالهمْ.

إلى المُؤَيَدَينَ مِن الله بثقةٍ يَستحيي الله مِنْ رَدِّها
فلا حاجةَ لهمْ إلاهُ.
وإلى المُقربينَ حقيقةً. والمَمْدودِينَ بالقوةِ والمَشُوُرَةِ.
والمُسْتَعْدَلِينَ بالتَنويهِ.
وإلى الذين تَكُونُ جانِيَة عليهمْ مَوازِينهُمْ وعندهمْ خبَرهمْ.
والذين على درايةٍ بعِلْمِهِمْ بجَهْلِهِمْ ولا يُخاتلونَ أنفُسهمْ
بالرسوخِ والضياعِ وقتَ الجوع والنَشوة.

وإلى الخارجِينَ على الدائرةِ المَسْكونةِ، عن قناعةٍ وبَأسٍ صُلْبٍ
والتاركينَ القَطَا يَنامُ ليلاً ونهارًا لأنهمْ صالحينَ بالفعلِ.
وإلى الداخلينَ على الذي يَتكلمُ مِنْ داخِلِهِمْ في عقولِهِمْ بأيْدِيهِمْ
والمُفترضِينَ إمساكه، والمُوقنِينَ بظهورِهِ، والجاحِدِينَ لوجودِهِ
والمُتَيَّمِينَ بهِ، والمُتَهَورِينَ عليه.

وإلى المُنفرِجَة أرواحهمْ مِنْ فَرْطِ الراحةِ الحَقْةِ،
والسلام الذي يَفهمه ُصاحبُهُ كَنَفْسِهِ

إلى الكلِّ الجميعِ بعاليه..
إلى كل الذين تَسبِقهمْ/ إلى..
لهُمْ هُمْ.. لَكُمْ أنتُمْ
وإليكَ خاصةً أيُّها المُندهِشُ، وبقلبِكَ فَرَح ٌوحَلٌّ.

لكمْ جميعًا.. أتَوَجه ُبالروحِ التي تَأتَمِنونَ.
وبالتعبِ الجليلِ عن الظهورِ، إلا رمزًا واضحًا.
وبالزهق ِمني وفيكمْ.
وبالأملِ العَصِيِّ على التَشبيهِ، لأنه ضئيلٌ كعَدَدِكُمْ.
وبالتشَوّهِ الذي يَنقلبُ إما حِكْمَةً وإما فُجُورًا.

لكمْ جميعًا أقول: إنكمْ أُناسٌ نُبلاء، ولا يَبْلُو عناصركمْ
سِوى المَواقِف العسيرة، والأسئلةُ الأعسر.
ولستمْ أنذالاً كالذين يَبكونَ أحدهم حيًّا
ويُنادمونه ُمَيتًا.

لذا سأسألكُمْ سؤالاً عسيرًا، وحيدًا، طويلاً، ليس كالأسئلةِ تمامًا
بَلْ هو كلكزةِ كَتِفٍ على حين غرة.
وعلى عَجَلٍ سَنَفْتَرِضُ جميعًا أنَ "موسى"
قد ألقَى بعَصَاه، فإذا بها عصًا ليس أكثر، ولا تَأكُلُ الحِبال
وأنها فاسدةٌ بالقُدْرَةِ، وحَطبٌ غليظٌ بالواقِعِ.
أفيَسْتَحِقُّ عندئذٍ أنْ يَبقى بلا عونٍ
ولا رِفْقَةٍ تُهَيّئُ له الفِرارُ مِن المَلأِ الكافرِ
وأنْ يُتركَ يَتَألّبُ على وجودِهِ، ويَتَألب الوجود عليه
مُفكّرًا في خَسارَتِهِ الجَشِعَةِ حتى الصَرَع ثم المُخَدّر
ثم الصَرَع مرةً أُخرى.
وأنْ يُوُدّعَ البَحرَ كالجُثَثِ، ولا يَنْزِلُه ُكالنازلينَ،
الفاتحِينَ الماء وهُمْ له مُتَدَنْسِينَ ومُهَيئَينَ أنْ يَطّهروا ؟؟؟

سيَقولُ الكافِرُ: تلكَ حياةٌ.
ويقول المُؤمِنُ: هذا مَكتوبٌ.
وهما سِيّان كبعضِهِما في قوليهما.
وسَيَقولُ المَعْنِيونَ بكتابي: ما هذا إلا نحنُ وإنّا لنا مُصدقين.

وسيَندمُ الذين يُزايدونَ بأنفُسِهِمْ فيه، وجميعهم بالكتابِ فاعلِون
وعارفونَ أنه موسى ولا يَستَحِقُ ذلكَ، وأنه ليس بخارق ٍفي الأرضِ
ولكن السماء لا تُكلِم أحدهم جُزافًا. ولَسَوفَ تَضطربونَ أو تَطْرَبونَ
فلا هَذيِ ولا تِلكَ.. فقط تَعالوا مُهادنين.
يا أيها الناس الذين تَعتَصِرُهُمْ آمالهم كالحِزمَة، ويعْمِيهم خوفهم كالنورِ الشديد
وليسوا على ذواتِهِمْ بقابضين، وإنْ فَعَلوا –ولنْ يَفعلوا– فهُمْ غير حاكمين
عَدا المُحَيِّينَ منهم بأرواحهِمْ، وألسنتهِم، والمُتوارِيةُ قلوبهمْ كالأَجِنَّةِ
فهؤلاء على الطُرُقِ، ثم المسارات، ثم الظنّ، وخَلْفَ البيتِ هُمْ يَتَحركون،
ناظرينَ مَوطِأ أرجُلِهمْ أو السماء، ولا يُبصِرونَ ما بينهما، ولكنهم سيَصْدِفونَ،
أو يَجِدونَ عمّا قريبٍ أو بعيد.

وإنه ليس بشِعرٍ، ولا بكلامٍ جميلٍ تَسْتَنْكِفُه ُالأفكار، وليس بقبسٍ مِن الذي هو حقٌ
سِوى في السَمعِ، والنَظَرِ، والحق. ذلك للعِلْمِ والتأكيدِ ألا يُأَوّل باطلاً، ولِجَذْبِ الروح
لِمَا سَيَجري مِنْ طَلبٍ يَئوسٍ كرسالةٍ*بها سِر في زُجاجةٍ تطفو على الماءِ،
يَتَأكّلُهَا المِلْحُ، وتُحرِقُها الشَمسُ، ويُنْهِكُها العصفُ، فكَمْ سَيَلبَثون؟
الرسالةُ، والرسولُ، وسِرُّهُما معًا شائِعان.
إنَ اليأسَ لشيطانٌ قَعيد، إذ يُقْسِمُ لِحامِلِهِ أنهم لا يُلتَقَطون، ولن يَصِلوا سِوى الماء،
ولنْ يَقَعوا في شَبَكٍ مَشْدودٍ لِحَيٍّ مَوصول، فَمَنْ للشياطينِ غير الله
يُحْرِقُهمْ، أو يُصْلِحَ أبدانهمْ، فيَنهضُ أحدهم عن ظَهري، ويَبْطِلُ عنه سَمعيِ،
فما أُخْفيكُمْ نَصَبي، وما أسْتَعْلِي على الألمِ، وضِيق الوحْدَةِ، والشَجَنِ،
وجرأة الذَنْبِ فيما استُودِعْتُ مِنْ سِرٍّ ثَقيلٍ كَكِتْمانِهِ، أو أوسَع ثِقَلا.

أفأجهرُ؟.. أم أنني قد جَهَرتُ، وجَأَرتُ بالفِعلِ، وجَحَدْتُ مِنْ بعد إيماني
الذي أُوتِيته ُرِزقًا يَسقُطُ فوق الأُذنِ، والعينِ، وما خلفيهما.
كسقوطِ الماء على ظامئٍ يَبكي مِن الظمأِ، إنْ تُشفق عليه يَبكِ، وإنْ تَسْقِه يَبك.
ذلكَ بعد كُفرٍ هو أحْكَمُ سَطْوَة، وأَمْكَنُ مِن الفقرِ على النَفْسِ.

(.. وكانتْ نَفْسي أَنْفَذُ عُمْقًا مِن الأرضِ، وأَثْبَتُ فِتنةً مِن الدُنيا، ولا يُدانيها
عَنَتا ووعورة غير القَتْلِ، ولمْ يُجاذِبَها أحد إلا خَبَّلَتْهُ، فشَرَخَتْ أعز ما بهِ،
ثم أسْلَمَتْه ُنَفْسَه ُتَأكُلُه ُويَأكُلُها حتى يُقْضَى تُخمةً أو قهْرًا. وكانتْ نَفْسِي
وحيدةً، لأنها غريبةٌ في الوحشِ، فلا تَأنسُ لشيءٍ مخلوق ٍمَخافةَ جَهْلِهِ أنْ
يُجبِرُها على موتِهِ، حيثُ لا مُطْلَق غير الخَلاء، ولا مَرجِع غير المِخْلَب.
وكانتْ تَسعى، وتَقفُ، ثم تَسعى مَزِيدًا. حتى انعدَمَ الأملُ، فجاء الذي نَزَلَ واصْطَفَى،
فبانَ ووضِحَ، فمَحَى آيةَ الظن، وبنى قليلاً، وهدم كثيرًا ...
فارتاحَ الذي خُصَّ. واندَحْتُ عن نَفْسي، فإذا هي أثرٌ بعد عَينٍ،
وبغتة للمُبصِرِ، إذ يَرى بموضعِ نَفْسِهِ الكلمات مَنشورة في الخواءِ الحَيّ،
وإنه يَسمعُها ويَعيِ، إنما لا يُتقنُ قولها رسمًا أو نُطقًا، وغير مُكلّفٍ بالمَعنى
فيَمْتَنِعُ عليه كامتناعِ الظِلِّ على التَجَسُمِ.
وكنتُ أَعتَمِلُ حُزنًا، ثم بَهجةً، وأتوجسُ مِن هذا الكيان العظيم الذي نما عِلمي إليه،
فَكِدْتُ آلفه ُولا أخرُجُ مِن الشهادةِ له. ذلكَ حتى جاءني الرُعبُ الرحيم
"وإنه إحساسٌ يُميتُ ويُحْيِيِ "إذ اتّحَدَتْ الكلمات عليَّ، وطَفقَ الحقُ كالعِبارةِ،
فأيقَنْتُ كيقين الواحدِ بنَفْسِهِ، وأُعْطِيتُ سِرًا لا يَجوزُ لأحدٍ غيري، وشيئًا هو
كمفتاحِ الدخولِ ولي بهِ إرادةٌ قُصوى – دَعَوتُ الشيء عصًا– فإذا جازَ
السِرُّ عن وَهَنٍ في الكَتْمِ أو فَخْرٍ في سَكْرةٍ مِن الخَمْرِ،عَجزَ لساني وعَجِزَتْ يدي
، فَفسَدَ إفشائي وفَسدَتْ العصا.
وهي الآن فاسدةٌ بالقُدرةِ، وحَطَبٌ غليظٌ بالواقِعِ...)

فمَنْ سَيُنيخُ البلاغة عن النَصّ
ثم يَذبَحُها ويُلقيها للمَلأِ الكافر "فَيَنْفَضونَ مِن حولي"
فأبدو عِندَه ُويَظهرُ لي..

فالسرعةُ السرعة.. العَجَلُ العَجَل
ذلكَ أني أَدهمُ الأرضَ بكتفي لأدخُلَ
ولن أُبالي بصمتِ غيركم، أو أُفجَعُ إثر صمتِكُمْ
ولنْ أنْتَظِر أحدًا منكمْ في أزلٍ أو أبدٍ
ولكنني سأُرِيه هناك.. حيثُ يَعرِف.

* الرسالة
مِن المُتأذي للحقِ، ومِن الصمتِ، ومُضطرات القول
،وتَقَوُض الرُكن الشديد... أنا.
إنني هنا.... لستُ قابعا بالمدى
ويَلحَقُنِي النِداءُ لأني أَقَعُ في الظُلْمَةِ،ولستُ بعيدًا
والريحُ عاملةٌ.
فاستجيبوا لي صوتًا، أو اضرِبوا لي نارًا لأرى وآنس
وأسلُكُ نحوكمْ.
فقط أزيحوا المَلأ الجاهل بالظلمةِ مِنْ حولي
انتزِعوني أُنتَزَعُ لكمْ
ولستمْ دوني ولستُ دونكمْ
فافقهوا صاحبكم
فقط أدركوا قبل أنْ يَستدركَ عليكم احتكامي للحَزْمِ
واكتتاب الدهر. وخَتْمُ الأمر.
"ولا أتَحَنّنُ سِمانًا أو عِجافًا. فقط أُنوهُ لِكبدي ذا العزمِ
لئلا يُنعَتَ مُقصِرًا، ولذوي الوعيِ المُنزه عن العِيِ واللغو
وأنتمْ أُناسٌ تَفهمونَ كما تَفهمون".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81