الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التراث الثقافى بسيناء - جزء ثالث

سعيد رمضان على

2018 / 8 / 24
الادب والفن


القضاء العرفي
-----------
مجتمع سيناء البدوي لا يعرف نظام المحاكم بالمعنى المتعارف عليه , ولا توجد فيه قوانين وضعية وصيغ قانونية ، لكنه يمتلك ثروة من قواعد وأحكام تراكمت على مر السنوات نتيجة لخبرات طويلة ، هذه القواعد والأحكام تجمعت في القانون العرفي واحد أهم عوامل وجوده هو طبيعة المجتمع البدوي وترحاله المستمر , في إقليم تسيطر عليه صحراء مترامية الأطراف , وفى هذا الحيز المكاني الواسع يتم الحركة بين أماكن متعددة , تتكرر تبعا لإيقاع زمني معين ، ولمجابهة المخاطر الناتجة عن هذا الترحال ، وعزلتهم النسبية ، كان يلزم تكاتف أفراد القبيلة ، وهو ما يعنى أن يكون الولاء لها والطاعة لكبارها وشيوخها ، والنزول على أحكامهم فيما يطرأ من مشكلات وأحداث تواجههم ، وهو ما أوجد القانون العرفي الذي يتحقق من خلاله عمليه الضبط للمجتمع , لكن هذا الضبط تحكمه عوامل ( فالروابط القرابية تعتبر عاملا وأداه للضبط الاجتماعي باعتبارها الوحدة المسئولة عن توقيع العقوبة على أفرادها حين يخرج احدهم على أنماط السلوك والقيم والتقاليد ) (4)
وروابط القرابة في المجتمع البدوي بسيناء تحدد حقوقا والتزامات تقوم بين أعضاء الجماعة القرابية مما يساعد على تماسكها واستمرار قيام العلاقات القوية بين أفرادها , إن هذه العلاقة تعمل على قيام المجتمع البدوي بتوعية أجياله باستمرار بطبيعة الجزاءات التي تفرض على مختلف أشكال الخروج على الشرعية الاجتماعية البدوية , حتى يتم حماية الفرد وحماية الجماعة القرابية , وقد يطرح سؤال هو : كيف يتم حماية الجماعة القرابية من جريمة قام بها فرد ؟؟ الإجابة تكمن في امتداد المسئولية مطبق في هذا المجتمع , بمعنى أن المسئولية لا تطبق فقط على الشخص الذي ارتكب الجريمة , بل المسئولية ( تمتد إلى الجماعة القرابية التي ينتمي إليها وتحديدا تسمى جماعة الخمسة أي خمسة أفراد ينحدرون جميعا من اصل واحد مشترك خلال خط الذكور في خمسة أجيال بالطول ) (5)
أن تلك المسئولية القرابية هي احد الضمانات لتنفيذ الجزاءات العرفية وتضغط في اتجاه التنفيذ , لكنها تضغط أكثر في عمليه الوقاية , بإلزام الجماعة بتوعية الفرد بفوائد السلوك القويم وان الخروج عليه سيقابل بالعقوبة , وإهمال الجماعة القرابية تلك التوعية سيعود عليها بالجزاء إذا خرج فرد منهم عن المعايير الموضوعة
والقضاء العرفي سبق القانون المدني في تحديد اختصاصات كل محكمة وكل قاض، ويستند إلى بنود محددة ويقرر عقوبات لا يخرج عنها أحدا، فالقضاة هم كبار مشايخ القبائل والعائلات، التي يذعن جميع الأفراد لها بالولاء ، وهو بذلك يعتبر الدعامة الرئيسية في تحقيق الضبط الاجتماعي رغم انه( لا يصدر أحكاما بالسجن أو الإعدام ) (6) لكنه يحقق أعلى مستوى من التراضي بين أفراد المجتمع البدوي .
وما اقصده بتراكم ثروة من القواعد والأحكام على مر السنوات , ليست سنوات قريبه , بل يرجع اصل القانون العرفي مع بداية البداوة , وهى ضاربه في أعماق الزمن , وتعتبر أول مرحلة من مراحل تطور المجتمع , إن وجود القبيلة أساسا يعتمد على وجود قوانين تحافظ على تما سك القبيلة وتحمى بنائها التقليدي وتواجه صراعات الخارج ومشكلات الداخل ،
وإذا كان القضاة هم كبار مشايخ القبائل والعائلات، فأن عدم الإذعان لأحكامهم يهدد وجود القبيلة نفسها , والراوي في السير الشعبية أدرك هذه الحقيقة وذكرها في أكثر من موضع , وفى سيرة عنترة وهى من أقدم السير التي ذكرت حياة القبائل والبداوة والترحال , عندما يرفض احد الفرسان نصائح حكيم أو شيخ القبيلة , فأن المعنى هو رفض للتراث الثقافي السائد , فتكون النتيجة الدمار وأراقه الدماء وتشتت أفراد القبيلة وسبى نسائها , وليس المقصود الطاعة العمياء للسلطة , لأن السلطة في المجتمع البدوي ليست متحكمة أو متعسفة وظالمة ، بل هي أساسا معنوية , فهم يحترمون الشورى في الشئون العامة ، أن المقصود الالتزام الخلقي أمام المجموع من اجل المنفعة العامة .
ويتصف رجال القضاة بالموضوعية والنزاهة والشرف ، ويعتبر قضاة الصلح من أهم الأشخاص الذين يمنعون التوتر والنزاع بين عائلتين أو أكثر والذي ينشأ لأسباب منها القتل قبل أن يتطور النزاع ويثير حربا ، أما إذا أفضى النزاع بين الأفراد لجروح فتحال إلى قاضى القصاص الذي يقيس الجروح ويحكم تبعا لطول الجرح أو عرضه . ويختص قاضى "المنشد " بقضايا العرض والشرف وفى مجال الأحوال الشخصي يختص القاضي "العقبى " أما الزيادى فينظر في مسائل المال والإبل ويمكن الاعتراض على حكمه عبر القاضي " الضريبي " هناك جرائم يتم إنكارها ، ويحوم الشك أحيانا حول مرتكبيها دون تأكيد ، نظرا لعدم وجود شهود ، وهى جرائم تحال إلى " المبشع " وسمي بذلك لأن أحكامه تنتج بعد طرق يجريها على المتهم كلحس معدن محمى بالنار .
لقد عرف البدو كيفية وضع قوانين تعترف بها القبائل والعشائر كقانون غير مكتوب ، لكنه لم يوجد أساسا لمجرد توقيع عقاب أو قصاص بل من اجل حماية بناء القبيلة واستمرار بقائها ، ولذا فقد وجد في هذا القانون قواعد تقضى بعقد أحلاف بين القبائل لتبادل النفع العام تبعا لاتفاقيات معينه تعقد ، ومنها السماح لأحد القبائل التي هدد منطقتها الجفاف بالرحيل إلى منطقة قبيلة أخرى للعيش فيها والرعي بها ، وإذا قامت تلك القبيلة بذلك دون تحالف فسيعتبر ذلك تعديا يحتكم فيه إلى القانون العرفي .
ومن الشخصيات التي تساعد القاضي العرفي ما يطلق عليهم بـــ " أهل الخبراء " لخبرتهم في مجالات الأراضي والإبل والأجور والنخيل ، واشهرهم هو قصاص الأثر وهو بسبب في خبرته يعتبر في حكم قاض ، وتستخدمه أحيانا قوات الأمن المصرية لمطاردة الخارجين عن القانون وتجار المخدرات ، عمل القصاص في القضايا يبدأ بعد الواقعة مباشرة قبل ضياع الأثار ، و يعتمد على تتبع الخطوات من مكان الجريمة لتحديد اتجاه مرتكب الجريمة عبر أثاره التي يتركها على الرمال ، ويعيق عمله الطرق الإسفلتية فلا تظهر عليها أي أثار وتتلف السيارات أي اثر بسيط قد يكون فوقها , وعملية قص الأثر ليست صناعة يتعلمها الإنسان مثل ما يتعلم العمل على ماكينة ما ، بل هي موهبة فطرية، تتطور من التجارب وعادات الآباء والأجداد . ويقول الأخباريون (*) أن عملية قص الأثر تتعدي الإنسان إلى الحيوانات التي تأكل المزروعات ، وقصاص الأثر يعرف من أين جاءت ومن يمتلكها . وإثناء زيارتي لمزرعة احد الشيوخ بجوار بئر الشهداء بمدينة الحسنة , أشار لي على اثر في مزروعاته قضمت بواسطة جمل ، ثم حدد لي من خلال الأثر على الرمال اتجاه الجمل واسم صاحبة أيضا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81