الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذباب أو الندم(جان بول سارتر):العود الأبدي للفكر

بلال سمير الصدّر

2018 / 8 / 28
الادب والفن


الذباب أو الندم(جان بول سارتر):العود الأبدي للفكر
....أورست:كلا أنا لااشكو،بل أنا لا استطيع ان اشكو،فلقد حبوتني حرية مثل حرية هذه الخيوط التي تتخطفها الريح من بيوت العناكب،فتطفو على بعد خمسة اشبار من الأرض،أنا لست اثقل من هذا الخيط وزنا وأنا اعيش مثله في الهواء،وأعلم أن ذلك من سعادة الطالع ولطالما قررته حق قدره.(هنيهة) من الناس قوم يولدون ملتزمين:هؤلاء الناس لا اختيار لهم وانما قذف بهم في طريق ما،وفي نهاية هذا الطريق عمل ينتظرهم،هو عملهم،فيسيرون واقدامهم عارية تقرع الأرض فيحفيها حصاها.افتعتبر انت من سوقى الامور متعة الوصول الى مكان ما؟وهناك آخرون،قوم صامتون يحسون في اعماق قلوبهم بحمل الصور الارضية المضطربة،تبدلت حياتهم لأنهم في يوم من ايام طفولتهم،في سن الخامسة أو السادسة...حسن جدا هؤلاء الناس ليسو من عظماء الرجال.

اقتباس من مسرحية الذباب على لسان البطل اورست
مسرحية الذباب أو الندم هي مسرحية سارتر الأولى التي كان قد كتبها عام 1943 يعتمد فيها على النص الاسطوري الشهير (اليكترا) ليصيغ منه قالبا عن الحالة الوجودية للأنسان،والحالة هي الحرية كعنصر وجودي واحد مكثف تدور من حوله هذه المسرحية أو الغاية من هذه المسرحية،لأن الكلمة بالنسبة لسارتر يجب ان تعبر عن غاية.
اليكترا،التي ظهرت كعقدة-وهي معكوس عقدة اوديب- قائمة على آجا منون التي تخونه زوجته (كليمانسترا) مع اورجست ويقومون بقتله لحين حضور اورست الابن ليحقق الانتقام....
تبدأ المسرحية عند سارتر بالخيار،أو نتيجة الخيار،فالذباب قد داهم مدينة ارجوس،والذباب ليس لعنة الهية نتيجة الجريمة،بل الذباب هو تعبير مادي يحاكي الفعل الشعوري ألا وهو الندم،فالذباب منتوج القرار البشري الحر وليس وليد لعنة الهية وهو الأمر الممكن تصوره عند البداية بقراءة هذه المسرحية،فالذباب هو نتيجة الخيار،والاختيار قد يكون احيانا لعنة ونقمة وليس نعمة فقط وهذا عين فكرة سجناء الطونا التي كتبنا عنها سابقا.
إذا البدايات محكومة بالمبدأ الوجودي الحرية،وأورست قادم لتغيير القرار....لتغيير القدر الذي خلقه الخيار سابقا،وهذا ان دل على شيء،فسارتر يقول بوضوح ان الوجودية المحكومة بالقرار الحر ليست مثالية على الاطلاق،بل هي فلسفة انسانية تخضع للانسان أولا واخيرا والانسان لن يحكم عليه ابدا بالكمال...فالذباب قد حضر منذ قبل 15 سنة وهو الزمن الذي قتل فيه آجا منون،فالندم سيحاصر شعبا بكامله ماديا-من خلال الذباب-ومعنويا ايضا من خلال الشعور نفسه...لنتأمل في هذا الاقتباس:
يقول اورست:أهذا هو العدل؟حوائط ملطخة بالدماء،وملايين من الذباب،وقيظ لافح،وشوارع مهجورة وقاحلة ةاله له سحنة القتيل،وحشرات في عقر دارها تقرع صدورها من سطوة الارهاب....وهذا الصياح،هذا الصياح الذي لايطاق...أذلك ما يرضي جوبيتر؟!
جوبيتر بالنسبة للأسطورة هو كبير الآلهة،ولكن بالنسبة لسارتر هو الاله؟
في هذه المسرحية يبدو سارتر شاكا بين وجود الاله وعدم وجوده،ولايبدو بانه قد وصل بعد الى البكاء المر الحريق على الخدعة التي يعيش بها البشر،ألا وهي خدعة وجود الله،وهذه قضية يجب مناقشتها من عدة زوايا...
بالنسبة لسارتر،أورست هو المحكوم بالأرادة الحرة بحيث تبجو فكرة الارادة الحرة أكثر تكثيفا وتركيزا من مبدأ الحرية المسؤولة.
فالأفعال عند كل الشخصيات غير محكومة بالقدرة الذاتية،بل تبدو محكومة بالقدرة الالهية،لإن اورجست يبدو بأنه مسير وليس مخير عندما قتل آجامنون.
يقول جوبيتر مخاطبا أورجست:
الجريمة الأولى التي انا ارتكبتها لما خلقت الانسان سجلت عليه الفناء،فماذا بقي لكم أنتم يا معشر القتلة؟
أن تنفذوا حكم الموت في ضحاياكم؟
رويدك!رويدك! ان هؤلاء الضحايا يحملون في انفسهم براعم الموت.واقصى ما في وسعكم هو ان تعجلوا قليلا بتفتحها.أتدري ما كان سيحل بآجامنون لو لم تجهز عليه؟ كان سيموت بنزيف المخ بعد ثلاثة اشهر على صدر جارية حسناء.ولكن جريمتك قد اسدت الي معروفا.
أورجست:قد اسدت اليك معروفا؟أكفر عنها منذ خمسة عشر عاما،وانت الذي جنيت ثمارها؟ يالتعاسة
جوبيتر:وهل في ذلك عجب؟!ما اسديت الي معروفا الا لأنك لاتكفر عنها.لأني لا احب من الجرائم الا مايدفع ثمنه،وقد احببت جريمتك بوجه خاص،لأنها كانت جريمة عمياء صماء جاهلة بنفسها عتيقة،اشبه بكوارث الطبيعة منها بعمل الانسان.انك لم تعارض مشيئتي لحظة واحدة:بل طعنت في نشوة من الهياج والخوف...
ثم...وبعد قليل من الحوار,يؤكد جوبيتر الحقيقة الغائبة عن المسرحية:
....ذلك ان الناس احرار...أحرار يا أورجست انت تعلم وهم لايعلمون.....
أكد فلاسفة الاعتزال المسلمين على مبدأ حرية الخيار القدري،وأكدو ان الله لايمكن ان يفرض عليك شيئا ثم يحاسبك عليه ولو حدث ذلك لاتهم الله بالظلم-تعالي الله سبحانه وتعالى-وهذا يعتبر في غاية التجديف-من وجهة نظرهم طبعا-وطبعا ومع تقديسهم للعقل توصلوا وخاضوا في اشياء كثيرة أولها واهمها انكار الجبر انكارا تاما.
واشياء اخرى على شاكلة انكار السحر وانكار الصفات الالهية....
وعند رضوخهم للعقل اكدوا وجود الله وفي نفس الوقت انكروا حتمية القرار الجبري ونسبوا القرار الى الانسان نفسه.
موضوع القدر هو من الموضوعات الشائكة في الفلسفة الاسلامية ونهانا رسولنا الكريم عن الخوض فيه،ولكن الحالة تقريبا مشابهة ان لم تكن مطابقة،فالقرار عند الطرفين-عند سارتر وعند المعتزلة-سواء كان محكوما بجبر الهي أو حرية بشرية فهو لن يقود دائما الى صواب...فالناس بين جنة وجحيم والذباب لن يغيب عن اورجوس بعد أن يحقق اورست انتقامه....
وهذا دليل على ان العقل البشري والفلسفة الانسانية تظل تخوض في متاهة أو دوامة الاسئلة الكبرى...
هل هو عود ابدي بالنسبة للفكر...
يعترف الاله عند سارتر بالحرية التي يمتلكها الافراد،وبذلك تكون العدالة من شئن البشر وليس من شئن اي سلطة عليا،فإذا آمنا بذلك،فهل الانسان لن يحكم عليه بعد ذلك بالندم؟!
يستطرد سارتر في هذه الاسئلة الشاكة المتسائلة،وهي افكار ليست ذات بعد يقيني واضح بحيث من الممكن ان تكون مسرحية الذباب دفتر مفتوح من الاسئلة التي اراد سارتر ان يتشارك بها مع القارئ.
فالحرية تم منحها للأنسان لخدمة الرب،أو ان الرب منح هذه الحرية للأنسان لغايات معينة،فسارتر ينادي بالقرار الحر،ويعتبر ان الذنب الالهي هو خلق الانسان حرا،وان الاله هجر الانسان...
فكرة هجران الاله للأنسان واضحة في التفكير الوجودي السارتري واحد المبادئ الاساسية لهذه الفلسفة،فإذا كان الاله موجودا فهو قد خلق البشر ومن ثم هجرهم في هذا الكون بحيث اصبحوا يتخبطون في اتخاذ القرار،والاله لاينظر اليهم في مصائبهم على الاطلاق...
وفكرة الهجران-أو الاهمال-تحمل بعض النواحي المثالية لأنها اعتبرت ان الحق في وجود اله وهو مايجب ان يكون وليس ما هو كائن...
يقول اورست مخاطبا جوبيتر:
...بالامس فقط كان لي عذر وانت عذري في الوجود،لأنك طرحت بي الى العالم لأخدم نواياك،وكان العالم وسيطة شمطاء تحدثني عنك دون انقطاع.وقد هجرتني....
يصل سارتر الى ان الحل من التخلص من السلطة الالهية أو بالمقدرة البشرية فهي مبنية على القرار،وهذا القرار قد يؤدي الى خير أو شر،وعلى شتى الاحوال سيظل الانسان محكوما بالندم...
ان كنا نرى سارتر في الذباب شاكا فلاحقا هو سيصل الى الالحاد الكامل...
في الحقيقة،الحرية هي الأمانة التي عرضها الله على الجبال فرفضت ان تنوء بحملها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا....
واذا نظرنا الى الأمور من هذه الزاوية فالحياة برمتها هي بلاء...والموت ايضا
(انا خلقنا الموت والحياة لنبلوكم ايكم احسن عملا)
لم يستطع سارتر على الاطلاق الاحتفاظ بالجو الاسطوري للمسرحية ولا ان يشعر به القارئ،لأن الغلبة كانت للغائية الوجودية على المسرحية برمتها...
بلال سمير الصدّر
17/8/2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة