الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوليانا واستعادة الذات

عامر عبد زيد

2018 / 9 / 17
الادب والفن



البدايّة كما خطّها الراوي بقوله : " رائحة اللحظات القديمة تهيمن أحياناً كذكرى عذراء." هكذا كانت تلك المخيّلة السرديّة تسترد تخيلياً المرويّات الشعبيّة و الدينيّة وقد تحوّلت الى هويّة تمثلها جماعة لها ميراث خاص ربطها بهذه الارض وجعل منها علاقات حميمة :"

ثمة علاقات ورديّة لا يدركها البصر لكن القلب يستشعر بها، و اذا ما قدر لملايين الأقدام أن تطأ الارض التي وقفنا عليها أول مرة، أنا و أنت فأن المكان لا يقدر أن يكون عندي هو نفسه المكان من دون رائحتك التي اعرفها فيه."
فهذه الرائحة قد تكون استثمار الى الهويّة الأثنيّة للجماعة المسيحيّة و تجذير حضورها في المكان " إن الهويّة السرديّة على عكس "الذات الحميمة " التي تكون تأمليّة فقط ، لا تستطيع الاكتفاء بالمحادثة والتوافق وتقاسم "قيم مشتركة " .هي بحاجة إلى العزلة والتطوير الشخصي " واستعادة الذات " في تجاوز للأدوار الوالديّة والتفاعليّة الغراميّة ".(كلود دوبار ، 161-162،2008.)

فالخصوصيّة وليدة العزلة للجماعة واعتزازها بتراثها الخاص ومن ثم فإشارة المؤلف الى رمزيّة الرائحة تحيلنا الى وجود وهويّة لها حضورها العميق في هذه الارض التي تمثّلت حضوراً سردياً في رواية "يوليانا " التي صدرت عن " دار نوفل - هاشيت أنطوان" الفرنسيّة المعروفة على نطاق واسع من العالم. للكاتب العراقي نزار عبد الستار، التي تتمحور حول حكايّة العراق الإنسان لا العراق " الخبر"؛ العراق الحياة لا العراق عدّاد الموت .وهذه الاشارة الى موطن الحياة التي تعبر عن جوهر ما تنشده الرواية ولعل هذا واضح في قول غادامير :" فإن ما يفترض أن يقوله العمل يكمن التماسه فقط في باطنه " (هانز جيورج غادامير ،123،1997م)
1- الرواية :
إنّ البحث عن الرسائل التي تحاول إيصالها الرؤيّة هو بالتأكيد يجعلنا بإزاء بعدين الأول أن ندرس الرسائل من خلال التطرق إلى الحياة الاجتماعيّة التي تحضر في الرواية على اعتبارها مجموعة من الرسائل وان كانت متخيّلة ، والبعد الثاني أن ندرس الرواية بوصفها عملاً أدبياً وهذا يتطلب فهم أوفى للرسائل ، كعنصر أساسي في بنيته . (ت.تودوروف ، الأدب والدلالة ، 9 ،1996م.) وكلا البعدين لهما حضورهما في الرواية هذه في اختلاقها تلك الاحداث المتخيلة في حياة بلدة كرمليس المسيحيّة في السهل الشرقي لنينوى أواخر القرن الماضي إذ تقع كرامات تكون بطلتها القديسة يوليانا.، ((متتبعة حياة كل من جوجو الأب وابنه حنا اللذين يحافظان بنهجهما المتدين على سلوك ملتزم في درب الإيمان حين تظهر لهما القديسة يوليانا وترشدهما إلى طاقة الحب في أنفسهما(.) (مسيحيو الموصل في رواية عراقيّة)
فهذه الرواية بهذا التوصيف " تحاكي أسلوب الواقعيّة السحريّة من خلال قصّة مدينة صغيرة منسيّة وجيلين من الأبناء. بين الملحمي والديني والدنيوي، يعالج الكاتب بعين ثاقبة وقلم لمّاح ساخر مجبول بالتاريخ والأسطورة، عراق البارحة واليوم، وتحديدًا المجتمع المسيحي فيه". (مسيحيو الموصل في رواية عراقيّة)
فالتخيل الخلاق في اختراعه المكان والشخصيات هو يحاكي الفكرة بانفتاح آفاق الماضي على الحاضر إذ ينصهران معا في سرد عوالم تخيليّة من مقاربة واقع معاش فعلاً وهذا ما أشار إليه المؤلف وهو يسهم في تحديد الفضاء التخيلي للسرد ، بقوله :" يوليانا رواية تتحدث عن حياة تشكّلت في ظل الايمان بقيم الخير وهي تتطرق أيضاً الى مفهوم الحب الالهي وعلاقة ذلك بحاجة الانسان الماسة إلى العون الغيب" .وأضاف " وهي اشارات تسهم في تجذير البعد اللاهوتي للأحداث ومنحها حضور متعالٍ عبر حضور القديسة يوليانا التي تحوّلت الى قديسة بعد استشهادها وهي تدافع عن ايمانها المسيحي ضد الوثنيّة الرومانيّة ، وسرعان ما تتحول الى روح مباركة تفيض كرامة روحيّة على البلدة وتمنح الأحداث بعداً غيبياً ساحراً فيه يتجلى المقدّس داخل التاريخ . ومن هنا جاء توصيف المؤلف وهو يستعير مقولة الحب الإلهي من الفضاء الصوفي الاسلامي .
فالرواية بأحداثها المتخيلة تحاول مقاربة الواقع سرديا فهي توصف احداث وقعت بين عامي 1929 و1987 م، وهي مقسمة على ثلاثة أقسام إذ تدور الأحداث بين كرمليس والموصل وذلك في أجواء تسلط فيها الأضواء على حياة ثريّة بالوجع والتضحيات لكنها تتمسك بالأحلام.
وهي مكثّفة في الأحداث داخل البلدة وما فيها من أحداث وصراع بين القديم والجديد في حياة جوجو والجزء الثاني في رحيل جوجو الى الموصل وتحوله من التدين الى الخياطة وهناك يتزوج ويلد ابنه حنا وهي الأحداث التي ممكن تكثيفها :
"تبدأ أولى خطوط الراويّة مع توقف سيارة رئيس وزراء المجر السابق، الكونت بول تلكي، الموفد من عصبة الأمم في مهمة لتقرير مصير الموصل، في بلدة كرمليس بغرض التنزة لا أكثر. تنتهي زيارة الكونت المتخفي في زي مبشر بروتسانتي، لكنيسة البلدة وضريحي القديسة بربارة وخادمتها يوليانا، بتسجيل قناعته بأن الموصل وبلداتها تابعة لتركيا لا العراق، إلا أن مصير الموصل التي تنازلت عنها تركيا للعراق في النهايّة، يبدو كمصائر شخوص الرواية أيضا، التي تشكلها أيادي غيرهم من العابرين مصادفة أو عن قصد. لا يغير تقرير الكونت شيئا في جغرافيا العراق الوليد، لكن تشكيكه في امتلاك أهالي كرمليس لرفات القديسة يوليانا، يقود لرد الاعتبار لإيمانهم المجروح، ويصل حارس الذخائر المقدّسة من روما، على عجل، ومعه عظمة حقيقة لقديستهم، مختومة باسم النائب العام لقداسة البابا. وفي تلك الليلة المباركة، يولد "جوجو"، وينال بركة الموفد البابوي، عسى أن يعفيه الرب من عاهة العظام وعلة النطق وقبح الشكل التي توارثتها عائلته على مدى ألف عام.

لم تنفع بركة حارس الذخائر الإيطالي، في إعفاء جوجو من لعنة الوراثة وتشوهات الجسد، لكنها ربما منحته ذلك الإيمان العميق في رسالته الربانيّة. يتجول جوجو في كرمليس ؛ليعظ المؤمنين، ويوزع بركاته السريعة على الفلاحين وأصحاب المتاجر، ويتدخل بصليبه الفضي ليمنع وقوع الإثم، متلقيا الشتائم والركلات وضربات الأحجار في انكسار وألم لا يعزيه عنه سوى البيضات المسلوقة التي تعطيها له شمونيا التي تحبه في صمت، وكلمات القس يوسف كوماني، الذي لا يتزعزع إيمانه في نعمة معرفة لغة الأشجار التي منحها الرب لجوجو. وصل إلى البلدة غريب آخر، إسماعيل دنحا، ممثل شركة ساس الأمريكيّة العراقيّة. جالبا إلى كرمليس، ابنته آراسيا، وقصر حجري باسمها، وخطط لتطوير الإنتاج الزراعي في البلدة، وشراكة مع أبلحد بابكا الذي افتتح متجرا لمنتجات ساس وكازينو في وسط البلدة. لم يعد ما يؤرق، قديس كرمليس الأبله، شرور السينما والروك آند رول التي يخشاها القس كوماني لأسباب لا يفهمها هو، والأموال التي تذهب إلى جيب الشر في الكازينو الجديد، ولا حتى رفض خورنة الكنيسة منحه رتبه الشماس، بل الرسالة التي أخبره أبلحد أنه تلقاها من المؤمنين العراقيين في ديترويت في أمريكا، والتي يسألون فيها عن القديس الجديد الذي ظهر في كرمليس. نجح أبلحد في إقناع جوجو بالهجرة إلى أمريكا التي تبحث عن مخلص جديد. يرحل جوجو في النهايّة من بلدته التي لم تعد تشبه ما كانت عليه، لكن ليس إلى ديترويت، بل إلى الموصل، إذ يكمل أبلحد خدعته، ويزوجه لابنته المنغوليّة روز.
بخروج جوجو إلى الموصل، تتحول سرديّة الرواية عن كثافاتها وتشابك أحداثها وشخوصها الكثيرة إلى تداع محبب في رتابته وبساطته، يخفت حماس جوجو النوراني، ويتحول إلى أفضل خياط في المدينة، وينال عطف بتول، المومس، التي تعرف الموصل كلها مهنتها إلا هو. تلد روز لجوجو ابنهما الأول حنا، في العام نفسه الذي تزوجت فيه شمونيا، حبيبته السابقة، موظفا مرموقا في القنصليّة الفرنسيّة وتغادر هي الأخرى إلى باريس.
لا يرث حنا من جوجو تشوهاته الجسديّة وبلاهته فقط، بل أيضا عطف شمونيا الذي أصبح زوجها السفير الفرنسي في بغداد، والتي تنجح في إعفائه من الخدمة العسكريّة بخطاب موقّع من رئيس الجمهوريّة ، شخصياً، وإرساله للعلاج من السل في دير الربان هرمز، الذي يظهر له في صورة طبيب ويشفيه، وكذلك يرث علاقته بمومس أخرى، هي ياسمين ابنة بتول، التي يعمل لديها ويعيش معها في بيتها ويقع في غرامها. في زيارة أخيرة لكرمليس، تحدث المعجزة الثانية لحنا، وتظهر له يوليانا، التي ترحل هي الأخرى عن البلدة، منتقلة إلى العيش معه ومع ياسمين مباركة علاقاتهما. تنتهي الرواية برسالة يكتبها حنا إلى شعب كرمليس معتذرا لهم عن عدم استطاعته إقناع القديسة يوليانا بالعودة إليهم."
لكنها من ناحيّة اخرى منفتحة على الزمن الحاضر ولعل هو الزمن المنشود على الرغم من كونها خارج زمن الرواية الا أن النص على الرغم من أنه يتطرق إلى أحداث سابقة على ما حدث اليوم في الموصل ؛ الا أننا نجد الإهداء محاولة من قبل القاص الى منح الأحداث توقيعه الذي يمثل زمن المؤلف ، وهذا الإهداء يمثل انفتاحاً على الحاضر من خلال الانفتاح على المسيحيين الذين اخرجهم " داعش" الارهابي من الموصل في تموز من عام 2014م." مشدداً على أنهم -جزء من الهيكل الأول لوجود العراق ككيان- لكون ما حدث لهم جريمة كبرى غير مسبوقة ويجب إعادة الاعتبار إليهم." (مسيحيو الموصل في روايّة عراقيّة)
ومن هنا تسهم أحداث الرواية في اضاءة الحضور المسيحي وتجذره في المكان كوجود اصيل ولعل هذا ما يشير له المؤلف بقوله :" يوليانا ليست امرأة تمامًا، وليست قدّيسة فقط. هي مدينة. هي ضمير. هي القوة الصامتة تنطق حين يجب أن تفعل وتختار بعنايّة من تخاطبهم. يكفي أن تلامس قبرها، وأن تداعب طيفها، يكفي أن تكون مجنونًا قليلاً، مستبعدًا كثيرًا وفق نواميس البشر الضيّقة، يكفي أن تكون قلبًا أبيض، حتى تأتيك. ناحيّة الموصل، في دير صغير متواضع في قريّة كرمليس، ترفرف روح يوليانا على المدينة. هناك، تتواصل مع مريديها"
هذا التصنيف الروحي يمنح الرمز طاقت تأثير وهو يقارب بين الروحي والمادي بكل سلعيته من جانب من يحاول استثمار ما هو روحي من اجل تحقيق منافع ماديّة . وهذا مايمنح العمل انوجاده داخل الحيز الاجتماعي وان كانت المدينة متخيلة والعلاقات تبدو في السرد تقارب الواقعيّة السحريّة في استرجاعها للأحداث والجانب الفنطازي فيها ، ا انها بالتأكيد نحن ازاء سرد يختلف في جزء كبير منه عما تعودنا عليه من السرديات التاريخيّة في المرويات الرسميّة اذ ان " المعروف ان الرواية التاريخ فخرا ، والمحددة بمفهوم (الانتصار) حصرا ، لا تكون الا مع المفاخرة (القوميّة ) في بطولات الاجداد رجولتها وفروسيتها اما المفاخرة (الايديولوجيّة ) سيما الدينيّة فعادة تبتعد عن مفهوم الانتصار في المفاخرة التاريخيّة ، لتنحصر مع المفاخر الاخلاقيّة والإنسانيّة . (عبد الرزاق الجبران ، 63، 2012.م)، فالرواية تختلف في انها لا تريد تأكيد سلبيات المروي الرسمي .

2- المؤلف :
القاص " نزار عبد الستار " هو قاص وروائي ولد ببغداد عام 1967م. نالت روايته الأولى «ليلة الملاك» اهتماما واسعا لمغايرتها اللافتة ومنحت جائزة أفضل رواية عراقيّة عن اتحاد ادباء العراق عام 1999م وجائزة الابداع في العام نفسه وهي أرفع جائزة عراقيّة، كما حققت مجموعته القصصيّة " رائحة السينما " التي صدرت عام 2002م رواجاً كبيراً وعدها النقاد واحدة من أفضل وأهم المجاميع القصصيّة العراقيّة، وأعيد طبعها أكثر من مرة. (خورنة القوش ، يوليانا..)
حاول المؤلف في روايته هذا ان يستثمر جوانب متعددة في تأثيث فضائه السردي مستثمراً التاريخ والجغرافيّة من اجل تأكيد حضور ثقافي وهويّة احد مكوناتها كان ارث المسيحي وهذا مترجمته تاصيلات المؤلف المتنوعة ،مثل الإشارة المرويّة على الخطوط العامة التي تعلن عن المسافات الجزئيّة التي تتكون منها المسافة الكاملة بين بغداد والبصرة أو بغداد والموصل، على سبيل المثال .
ومن أفق الجغرافيّة التي استثمرها حتى يمنح مدينته حس واقعي مرتبط بالأرض نجده يقارب الأمر سردياً من خلال ما ينسجه من علاقات سرديّة متشابكة بين شخصيات عديدة، يلقي نزار عبد الستار الضوء على حياة المسيحيين العراقيين في مدينة كرمليس وكنيستها العتيقة، ، فهذا الصراع نجده ينفتح فيه التاريخي على الواقعي والمحلي على العالمي والروحي على المادي من من خلال تصارع مجموعة من القيم المتنافرة في الغاية والهدف الا أنّها تعبر عن هويّة لها وجودها وتمايزها عن غيرها بخصوصيّة ما إلا أنها أيضاً مشتبكة بالأرض . "هذا التوصيف للهويّة هو توصيف للثقافة وصلاتها بالأخر فالثقافة في قوامها هو " الحصيلة النهائيّة للتعلم ، أي المعرفة بأكثر معانيها عموميّة ".(د.هدسن ، 131 ، 1987م.)

3- الهويّة والسرد

على الرغم من إشاراته العابرة الى التحولات السياسيّة ، الا أن هذا لا يضعف من السرد وجماله إلى الحد الذي تبدو معه السياسة غير ذات صلة بأحداث الرواية، إلا أنها تترك القارئ مطارداً من السياسي واطيافه المختبئة ببراعة داخل طيات حبكته. تنساب الأحداث بين أحابيل ثيمات التنافس السياسي بين القوى العظمى، وبين كنيسة روما والبعثات التبشيريّة البروتستانتيّة، والمواجهة بين التقليدي والحداثي، الإيمان والعلم، سلطة الكهنوتي وبراءة الصوفي، الريفي والحضري، الديني والدنيوي، من من دون خدش لبراءة أبطالها وقسوتهم أو تشويش على استغراقنا في سحريّة تفاصيل حيواتهم الهشة. لا تطرح " يوليانا " حنينا إلى ماض أجمل متخيل، ولا مرثيّة على مآسيّة، بل تترك القارئ، متسامحا مع ذلك الماضي مع قسوته، وقابلا بمغادرة براءته من من دون ندم. هكذا فإن كانت "يوليانا" هي رواية عن الرحيل، إلأ أنها لا تعدمنا أملا في أن " الخطيئة هي رحم الخير…وأن الطيب يخرج من السي." (شادي لويس بطرس ، روايّة يوليانا)؛ فد تكون تلك المراجعة منفتحة على مراجعة اكبر للحاضر بكل تعرجاته كما يقول سيوران : "عند مراجعة مراحل مسيرتنا ، يكون من المذل أن نقف على أننا لم نتعرض إلى النكبات التي نستحق ، والتي كان يحق لنا نطمح إليها ". (سيوران ، 105 ، 2015م) وهكذا يمكن ان نفهم كيف يمارس السرد تقديم رسائل اجتماعيّة وجماليّة وهي تقدم سردا مصائر جيلين من مسيحيي العراق، جوجو الأب وابنه حنا، وترحالهما بين بلدة كرمليس ومدينة الموصل، ومتتبعا تحولات العالم من حولهما بين عامي 1929 و 1983م.إذ يظهر هذا من من خلال المتن الحكائي للرواية المتخيلة "يوليانا" . التي تمثل التراث الميثولوجي رافدا للأعمال الروائيّة التي تحاولُ إكساء موضوعاتها رداء عجائبيا، وتأتي هذه الرغبة للعودة إلى الحكايات الشعبيّة المُطعمة بما هو أسطوري وله جذور فانتازيّة في إطار مساعِ راميّة لتأسيس خطاب مغاير لما تتنباه المركزيات الأيديولوجيّة والسلطويّة، ناهيك عن مُعالجة العمل الروائي للمشتركات الإنسانيّة، ودعم مادته بما يقعُ خارج المرويات الرسميّة، التي تعملُ على قولبة المُعطيات الحياتيّة في مفاهيم مُصاغة على مقاس مُتطلبات آنيّة، من هنا غالبا ما تلتقطُ الرواية من الهامشِ وتُغطي مساحاتٍ حجبت عنها الأضواء، (كه يلان مُحمد ،ثنائيّة الهامش والمركز في روايّة «يوليانا») وهي هنا تنفتح على احد طيات الهويّة العراقي بكل تنوعها في سبيل انصهار افاق تلك الهويّة ؛ لأنه أيضاً من الضروري بل " من الطبيعي أن يكف الإنسان عن الاهتمام بالدين وأن يهتم بالأديان ، لأنه من خلالها وحدها يستطيع أن يفهم الروايات المتعددة لانهياره الروحي . (سيوران ، مثالب الولادة ، 105 ، 2015م)
هذا الافق يمحنا تنوع واستثمار تراث حي هو التراث المسيحي العراقي لكن هذه المرة نجده وقد تمثل في شخصيات من لحم ودم وهو يتحدث عن حياة تشكلت في ظل الإيمان بقيم الخير، وتتطرّق إلى مفهوم الحب الإلهي وعلاقته بحاجة الإنسان الماسة إلى العون الغيبي، وتتناول حياة ثريّة بالوجع والتضحيات لكنها تتمسك بالأحلام.
انا هنا ازاء مدينة متخيلة حاول من من خلالها الكاتب ان يعيد تشكيل التاريخ من من خلال السرد تشكيل يكثف تنوعات في الهويّة العراقيّة المسيحيّة وهي تمر بلحظات تتقاطع فيها بين الشرق والغرب بين روما وفارس القديمة إذ تميل الى المؤثر الروماني المسيحي على الرغم من أن المسيحيّة الشرقيّة كانت تختلف كونها كنيسة شرقيّة مقصيّة من روما التي كانت تقف حدودها الفرثين "هناك حدودا عند الخابور كانت قابلة للتفاوض السهل " (بيتر أم ايدويل ، 37، 2011.م
)
إلا أن الرواية تنحاز الى روما حضور وثقافة من خلال استعراضها للنضال التوحيدي المسيحي ضد الوثنيّة وكيف قاد هذا النضال الى قتل القديسة التي رفضت الزواج وحافظت على دينها .
والحدث الثاني الذي يأتي بعد سبات طويل ، وهذه المرة أيضاً تقاطع للهويّة بعد الحرب وحضور الغرب ليحدد اين تصبح الموصل مع بريطانيا أم مع تركيا وكان هذا الصراع تجلى كما مر بنا في تأكيد الحضور المسيحي واختلافه عن الأراضي التركيّة ودوره باستقلال الموصل المعلّقة بين الشرق والغرب .
كل هذه الكثافة في الأحداث تنزلق في السرد فتبدو هامشيّة امام غرائبيّة الأحداث وطرافتها فيبدو معها الجمالي يطغي بكل سحريته وعالمه المتخيل ؛ الا انه يظل متجذراً بعمق في واقع العراق وماضيه وتحولاته السياسيّة والاجتماعيّة. وهكذا تبدأ بوئرة المكان من جديد تدرك اختلافها مع ما مضى وتعاود اتصالها مع سرديتها الخاصّة وصلاتها تقوى مع هويتها المسيحيّة لكن هذه المرة تغادر حالة الخمول وتعصف بها الأحداث والتنافس الديني بين الأصوليّة وأطيافها الاسطوريّة وبين الكنائس التي جاء بها المبشرون من أهل الاصلاح الديني .كل هذا يمارس تعدد في المعنى ويجعل الذاكرة تغاير ما كانت عليه من اعتقادات ساذجة .
الى جانب هذا التعدد في الهويّة الدينيّة جاءت الحداثة بالترفيه الذي يخلق قطيعة مع اطياف الرهبنة .بإحيائه البعد الدنيوي وطابعة السلعي المادي وإحياء تلك الغريزيّة التي سوف تجعل القديسة في نهايّة المطاف تغادر المكان وتلتحق ب"حنا " في الموصل وترفض العودة الى البلدة التي فقدت بساطتها وطهرها الاول .
لا تفسد نعومة السرد إلى الحد الذي تبدو معه السياسة غير ذات صلة بأحداث الرواية ، إلا أنها تترك القارئ مطاردا من السياسي وأطيافه المختبئة ببراعة داخل طيات حبكته.
المواجهة بين التقليدي والحداثي، الإيمان والعلم، سلطة الكهنوتي وبراءة الصوفي، الريفي والحضري، الديني والدنيوي، " هكذا فإن كانت "يوليانا" هي رواية عن الرحيل، إلأ أنها لا تعدمنا أملا في أن "الخطيئة هي رحم الخير…وأن الطيب يخرج من السي".(شادي لويس بطرس ، روايّة يوليانا)
ويقيم القديس في الموصل مُبتعدا عن ضريح يوليانا، طاويا شوقه في مكنون قلبه لخادمة بربارة، كما أنَّ غيابه يخلف فراغا لدى شمونيا أيضا. يمتهنُ جوجو في مكانه الجديد الخياطة ويتوافدُ عليه الضُباط والعسكريون، ومن ثُمَّ يموت بداء السل أيضا، ليتصدر ابنه حنا المشهد، مرافقا مع شخصيات جديدة مثل بتول بقلاوة،وينقل الراوي على لسانها جملة تختصر لك تاريخ هذا البلد، إذ تقولُ صاحبة بيت الهوى (العراق بلد لا تعيشُ فيه المتعة ولا يستطعم البهجة، ولا يستطيع العيش لفترة طويلة بلا حروب) يتآلفُ حنا مع أجواء بيت بتول ويستأنسُ بياسمين، لكن عندما يُصابُ حنا بالسل يُرحلونه إلى دير الربان هرمز طلبا للشفاء، إذن على غرار والده يغادر البيئة المتآلفة. في الدير تستشفُ وجود صراع بين اتجاهين الأول يؤمنُ بدور العلم وضرورة الاقتناع به. أما الثاني ينكر اللجوء إلى العلم وينعت من يخالفه في هذا الاعتقاد مهرطقا. جدير بالإشارة أن ثمة مفردات وعبارات منتشرة في ثنايا الرواية، تضاعف الشعور بالطابع الروحاني للمناخ الروائي، مثل ما تسمعه من يوليانا مخاطبة جوجو بأن الإنسان يكون إذ يشتاق لا إذ يُدفن، هذه الصيغ أقرب إلى لغة المتصوفة. (كه يلان مُحمد ،ثنائيّة الهامش والمركز في روايّة «يوليانا»)
وكل هذه الاحداث الواقعة بين الخيال والواقع تخلق افق توقع الا انها سرعان ما تصطدم بالنتيجة التي لا يخالفها حضور المقدّس ولا جماليات ام جوجو فالنتيجة تبدو كأنها قدر لا خلاص منه إذ يبقى جوجو يعاني من الميراث القاسي على الرغم من ترحله من بلدته إذ البساطة وأجواء الاسطورة والواقع بين الغيب والماديّة .
"فهو من أسرة يعاني أفرادها عاهة، لذلك يعتقدُ بأن التوقيت الذي يبصرُ فيه ججو النورَ وحضور حارس الذخائر المقدّسة في البلدة، مؤشران إلى أنَّ الوليد عندما يكبرُ سيكون مُعافى من التشوهات الجسديّة (كه يلان مُحمد ،ثنائيّة الهامش والمركز في روايّة «يوليانا»)
الخاتمة
هذا السرد الذي يتناول المكان والإنسان وتحولات الزمان يستعرض أيضاً حال من الوجع تحاول التعلق بالغيب والشفاعة من اجل شيء من الأمن النفسي والذي يحيلنا الى تراث محكي او متخيل عن وقائع تجمع المقدّس بالدنيوي في روي متخيل لتلك العلاقة ." الشخص مشروع توليف ، يقبض على ذاته في تمثيل مهمة أو مثال للشخص .فالذات تكون تطلعا أكثر مما هي معاشة ". (بول ريكور 115، 2003م)
لهذا نجح بتشبثه بما هو غيبي وبتشدده في طقوسه وتأويلاته رغبةً منه من أن يقبض على تلك الذات وقد تجلّت في مقولات وسلوكيات متعاليّة .اذ يطرح النص سؤال لاهوتي ، هل بإمكان الإنسان أن يصنع له حياة بلا خطيئة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا