الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف التقليد، الذي هو أنا

محمد الحاج صالح

2018 / 9 / 22
الادب والفن


المثقف التقليد، الذي هو أنا
كثيراً ما آخذ معي كتاباً عندما أسافر، و أحاول القراءة على الطريق و في خاطري دائماً تجول الفكرة أنني كاتب والكتاب يقضون وقتهم بالقراءة، وأن مظهر الإنسان وهو يقرأ في وسيلة مواصلات يعطيه هيئة المثقف. لكنني لم أجد يوماً وفي جميع سفراتي راحة حقيقة مع الكتاب ولا تعمقت يوماً في القراءة. أفتح الكتاب و أقرأ بضعة سطور، ثم أشرد و أبدأ بأحلام اليقظة. و الغريب أن جزءاً من أحلام يقظتي هو أنني أجبر نفسي أو أكسر على أنفي بصلة كما يقولون، و أراني و قد اعتدت على القراءة في الباص أو القطار، وأنني بت راضياً عن نفسي، و أنني صرت كاتباً مثقفاً يقرأ بنهم دون أن يرفع رأسه عن صفحات الكتاب. هذا يحدث كل مرة وفي كل سفرة.
هذه المرة سافرت بالباص إلى العاصمة النروجية "أوسلو" و كانت معي رواية لكاتب نرويجي. و حدث معي مثل ما يحدث كل مرة. أقرأ بضعة سطور، ثم أغرق في أحلام اليقظة. بضعة سطور فأحلام يقظة. بضعة سطور فأحلام يقظة، و أخيراً خيبة من أنني لن أكون مثقفاً إنموذجياً أبداً. لن أكون مثقفاً يقرأ بشغف أينما كان وحيثما كان. أبداً.
بعد يومين قضيتهما في العاصمة حان موعد عودتي إلى المدينة التي أسكنها "آرندال"، وهي تبعد مسافة تقل عن المايتين وخمسين كيلومتراً عن العاصمة. هذه المسافة تقطعها السيارات والباصات و القطار بالزمن نفسه. أربع ساعات. فالبلاد التي نعيش فيها هنا جبلية، و السرعات محدودة.
قررت أن آخذ القطار في رحلة العودة. القطار مريح و فيه كافتريا و انترنيت، و يتاح للمسافر طبعاً أن يتمشى في الممرات وأن يجلس في المرحاض ويطيل الجلسة.
قلت في نفسي بعد أن تجولت في عربات القطار وشربت شاياً: "والآن حاولْ أن تكون مثقفاً و تمسك الكتاب. حاولْ". و كان اللوم المختلط بالشعور بتقصير ما يدفعني حقاً لأنْ أعاود المحاولة.
بدأت القراءة، و كالعادة بعد بضعة سطور شردت مع الأحلام والتصورات. غصبتُ نفسي مرات و مرات على الخروج من الأحلام إلى القراءة، ولكن عبثاً. بضعة سطور، ثم سرحان وتصورات وخيالات.
لا أدرى كيف غرقت في القراءة. و لكنني أدري لماذا. فقد وصلت في قراءتي المتقطعة إلى مرحلة مشوّقة في الرواية. هكذا انخطفتُ تماماً ورحت أغوص بهدوء في عالم سحري من متعة اللغة، و الملاحقة اللاهثة خلف تعقّد المواقف، ومن لذة تلاعب العشيقين بجسدي بعضهما البعض، و من حصول اللامتوقع في سلسلة برع بها الكاتب أيما براعة وخلطها في مزيج عجيب. و مع كل هذا الغوص في الأعماق كانت تلتمع في نفسي بين فترة وفترة للحظة فكرةُ السرور من نفسي لأنني أقرأ باهتمام الآن، وأنني كسرت الحاجز نحو أن أكون مثقفاً قادراً على القراءة في وسائل المواصلات. كانت لحظات السرور هذه تمر سريعاً سريعاً، لأنني كنت حقاً مستمتعاً بالقراء ومأخوذاً تماماً.
سمعتُ من إذاعة القطار الداخلية أن المحطة القادمة هي محطة "نيلاوغ". في هذه المحطة يتوجب علي أن أبدل القطار، فالقطار الذي أنا فيه الآن هو قطار عابر بين المدن، وعادة ما تتفرع سكّة أخرى من محطة قريبة من بلدة ما، حيث يتنقّل عليها قطار محليّ.
كنت مستغرقاً في القراءة بعمق حتى أني ما تركت الكتاب بينما نظري يطوف فوق السطور. كان عليّ أن ألبس معطفي وأن أنزل حقيبتي من الرف و أن أقف عند الباب في الوقت المناسب. و لكنْ مهلاً، فالقطار الذي سأستقله نحو بلدتي لا يوجد فيه مرحاض، فهو مجرد قطار "قرية!" و رحلته لا تستغرق أكثر من ربع ساعة. وأنا الآن وكالعادة محصورٌ إلى درجة التنقيط. ما كنت يوماً قادراً على التخلص من عادة حبس البول حتى لا يعود هناك مجالاً. و ما زلت مثقفاً متعمقاً في القراءة و عينيّ تتطوفان بين الكلمات، عندما قررت أن أتبول قبل الوصول إلى المحطة، وبسرعة قطعت الخطوات بين مقعدي والمساحة البينيّة بين مقصورتين حيث المرحاض. دخلت وأنزلت بنطلوني ثم سروالي الداخلي بيد واحدة، إذْ أن يدي الأخرى ومازالت تمسك بالكتاب، وما إن شخب البول حتى شعرت أن القطار بدأ ينكبح و يتحول إلى السرعة اللازمة لدخول المحطة. قلت بنفسي دون حتى وعي كامل: "عندي وقت...عندما أنهي هذه الصفحة سأغلق الكتاب وأزرزر نفسي و أنزل...".
نسيت نفسي حقاً نسيت نفسي. و نسيت أن هذا القطار لا يتوقف في هذه المحطة سوى لدقيقة واحدة و كأنه قطار داخلي في مدينة، لا لسبب سوى لأن من ينزلون منه في هذه المحطة أو من يصعدون إليه هم آحاد قد لا يصلون العشرة.
لم أكن قد رفعت بنطلوني عندما بدأ القطار يتحرك. و بلهوجة وتعثر وارتباك وصلت إلى حقيبتي وارتديت معطفي. و لكن هيهات !كان القطار عندها قد تسارع وخرج من المحطة.
رأيت في وجوه الركاب تعاطفاً مع الاستغراب وكأنهم يقولون: أين كنت؟!
جلست متهالكاً خجلاً و أنا ألعن صورة المثقف القارئ في المراحيض و في وسائل المواصلات، عندما لحظتُ يا للهولْ أنني لم أسحب سحاب البنطلون وأن حزامي يلوح و ينسدل جانباه. لم أكبّله، نسيت. و الأنكى أن ذيلاً طويلاً من قميصي كان يندلع خارجاً من فتحة البنطلون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته