الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقاطعات بين الأديان 14العادل المعذب ....صبر أيوب

عبد المجيد حمدان

2018 / 10 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تقاطعات بين الأديان
14
العادل المعذب ....صبر أيوب

خلافا لما اعتدنا عليه في الحلقات السابقة ؛ التجوال بين أديان المعمورة ، والتنقل بين القارات ، سأكتفي في هذه الحلقة بالتجول بين ديانات الإقليم . ولأن الإمبراطورية البابلية ، في حقبتيها الأولى والثانية ، بسطت سلطانها على بلدان الإقليم ، ونقلت إليه حضارتها ، علومها ، فكرها ، آداب ديانتها ، ثقافتها ، وفي المقدمة لغتها الأكدية التي غدت لغة الإقليم السياسية والدبلوماسية ، من جنوب مصر إلى أواسط فارس ، لذلك كله ، سأكتفي بنقل أسطورتين للعادل المعذب ، أو ما نتعارف عليه شعبيا بصبر أيوب . واحدة تعود لمطلع إمبراطورية بابل الأولى ، إلى ما قبل أربعة آلاف سنة ، أي إلى ما قبل التوراة بألف سنة ، والثانية تعود لوقت مقارب لميلاد توراة موسى ، نعقبهما بروايتي التوراة والقرآن لذات الأسطورة المعروفة باسم أسطورة أيوب .
1
العادل المعذب :
الأسطورة البابلية الأولى ، والتي حملت اسم "العادل المعذب "، و"لأمجدن سيد الحكمة "، و"العادل الذي يتألم " ، دَوَّنها مؤلفوها على لوحات فخارية ، تهشم أكثرها بفعل الزمن ، وجمعها علماء الآثار من كسر متفرقة بين متحفي استنبول وفيلادلفيا ، بعضها كامل ،وأكثرها مشوهة ، وتم نشرها في العام 1954 ، حسب ديوان الأساطير ، المجلد الثاني .
تحكي الأسطورة قصة عذاب لا تحتمله طاقة البشر لشخص اسمه : شوبشي –ميشري – شاكان . لفت نظر مدوني الأسطورة أن شوبشي هذا اشتهر بصلاحه ؛ بإيمانه وطاعته للآلهة ، باتمامه لطقوس العبادة ، وتقديمه المنتظم للقرابين الحية ؛ العجول السمينة والخراف الوازنة ، الفواكه والثمار المختلفة ، وللقرابين السائلة ؛ الجعة الممزوجة بالعسل والنبيذ الصافي ..الخ ، يضاف لذلك خدمته للقصر وإخلاصه للملك ، وقناعته أن طاعة الملك هي الطريق لكسب رضا الآلهة ، وبالتالي حيازة رضا القصر فالمكانة السامية فيه تأتي كنتيجة مؤكدة . لكن الآلهة كان لها رأي آخر . أخضعته لامتحانها القاسي ، الذي لم ير هو ، وكل المحيطين به مبررا له ، واعتباره عقابا يتنافى مع ما عرفوه من عدالة الآلهة .
تبتدئ الأسطورة بكلمات تمجيد شوبشي للإله ميردوك ، لينتقل منها إلى الشكوى من تخلي الإله عنه . يقول :" إلهي أهملني وغاب عني إلى الأبد . إلهي تحولتَ وابتعدتَ عني . وعني افترق الملهم الخَيِّر الذي كان يرافقني ، وهرب ملاكي الحارس الذي كان يرافقني . هرب ملاكي الحارس مفتشا عن غيري . سلبت مني حيوتي وأعتم مظهر رجولتي . ذهبت صحتي الجيدة ، ودفعة واحدة رُفِعت عني كل حماية " .
ينتقل شوبشي للحديث عما بدأ يلاحظه من إشارات نذر شؤم لما سيحل به من نكبات يختمها بالقول : " مخيف هو حلمي عندما أنام ليلا " . ومنها ينتقل للحديث عن فقد حظوته في القصر وطرده منه . " والملك نفسه ، الكائن الإلهي ، وشمس شعبه ، لسوء طالعي لم أستطع تهدئة غضب قلبه . رجال البلاط لا يكفون عن مراكمة العداء ضدي " . ... "إنهم جسم واحد وليس لهم سوى فم واحد موجه ضدي " ....... " ولساني الذي كانت الثقة تميزه تمكنوا من لجمه . أنا الذي كانت شفتاي سهلة الحديث ، أصبحتُ مثل أصم – أبكم . ونداءاتي التي كانت مرفوعة الصوت أجبرت على الصمت . رأسي الذي كنت أحمله عاليا انحنى حتى الأرض " ..... " وأنا الذي كنت أتنقل متبخترا كسيد ، تعلمت أن أسير متسترا بالجدران . من السيد الرائع الذي كنته تحولت إلى عبد " . وبعد شرح لكيفية انفضاض الناس عنه ، وحتى تخلي أسرته وكأنه لم يكن من لحمها ، يشكو ظلم الإله قائلا :" الذي يتحدث عني بلطف تُعَد له حفرة قبره . يُرْفع إلى القمة من يعلن المخازي بصددي . يُعين الإله من يتحدث عني بأقوال لا يستحسن قولها ، ولكن الذي يتشفع لي يستعجل الموت طريقه إليه ، وأما الذي يردد المخازي بشأني فملاكه الحارس يحتفظ له بصحة جيدة " .
وينتقل شوبشي إلى نعي ضياع أملاكه قائلا : " ولم أجد واحدا يرافقني ، ولم أر أحدا يشفق على حالي . وَوُزِّع كل ما أملك على العبيد والرعاع . طردوا من حقولي الألالا ، نشيد الحصادين المبهج ومثل نطاق عدو أحالوا إلى الصمت ملكي . جعلوا شخصا آخر يأخذ مكاني في الطقوس المقدسة ، وسمحوا لغريب إقامة طقوسي . لم يعد النهار غير تحسر ، والليل شاغله النحيب . الشهر كله أنين والسنة بكاملها يملأها الأسى ..........."
تتوالى المصائب على شوبشي . يبحث عن تفسير لما يحل به من بلاء فلا يجد جوابا . يتضرع للإله ميردوك، لكن الإله يشيح بوجهه عنه . يتوجه بالرجاء للإلهة زربانيتو – زوجة ميردوك ، لكنها لم ترفع رأسها . لكل ذلك يصرخ :" الشر يتفاقم حولي ولا أجد أي بارقة للعدالة " . وتنتاب شوبشي الحيرة وهو العابد الزاهد المخلص ، لأن ما يحل به وكأنه الكافر الزنديق ، الذي لا يؤدي أيا من واجباته تجاه الآلهة ، وساردا تلك الواجبات والعقوبات المتوجبة على عدم القيام بها ، وليصرخ في ختامها :" وكنت أعتقد حقا أن كل ذلك كان مُرضيا للإله . ولكن ما هو حسن لنا ، هل يكون إذن مسيئا للإله ؟ وهل ما تكرهه أنفسنا يمكن أن يكون مرضيا للإله ؟ من الذي يمكنه التعرف على إرادة الإله في السماء ؟ ومن يستطيع تفهم المقاصد الإلهية في الأعماق السحيقة ؟ أين يمكن للبشر معرفة طرق الإله ؟........ أسائل نفسي أمام هذه التناقضات ، دون التعرف على مغزاها العميق ، وأنا المرهق تعبا فإن عاصفة تلاحقني " .
والعاصفة التي تلاحق شوبشي تتمثل في سلسلة الأمراض التي بدأت تداهمه :" استولى علي مرض موهن ، وهبت نحوي ريح شريرة من أعماق الأفق . ومن سطح العالم السفلي انتشرت نحوي الحمى دي- أو " ، يعتقد المترجم أنها حمى الجدري . ويأخذ شوبشي في سرد ما أصابه من أمراض ، لم تترك جزءا واحدا من جسده دون إصابته بعلة مضنية . وطال زمن مرضه : " طُرحتُ في فراشي وكأنه السجن ، لم يعد الخروج يمثل سوى أنيني . وإلى معتقل تحول بالنسبة لي بيتي . صار جسدي غلاف شوائب " ..... و" أطرافي المقطعة الأوصال ممدودة في جهة وأخرى . في مزبلتي مثل ثور أمضيت ليالي ، ومثل خروف تمرغت في برازي " . ولأن علله أعجزت العرَّافين والمُعَزّْمين ، أخذ ينوح قائلا . " لم يأت الإله لعوني ، ولم يأخذ بيدي . ولم تشفق علي إلهتي ولم تقترب مني . كان قبري مفتوحا ، وزينتي الأخيرة كانت منذ الوقت جاهزة . وحتى قبل موتي كان قد تم إعداد مرثاتي . جميع أهل بلدي قالوا عني :" إنه عومل بشكل غير عادل ....." .
وبالرغم من كل ما حل به ، لم يفقد شوبشي الأمل في رحمة الإله . ثم توالت عليه الأحلام . حَلُمَ أولا بشاب خارق الجمال جاءه بنبأ شفقة الإلهة عليه . وحلم ثانيا بالكاهن المكلف بالتطهير ،وقد ظهر له وهو يحمل بيده غصن الطرفاء المطهر . وفي حلم ثالث رأى فتاة جميلة المظهر جلست قرب فراشه . طلب منها أن تشفع له فاستجابت لطلبه . وفي حلم أخير رأى شابا ملتحيا وعلى رأسه عمامة ، وكان هو مُعَزِّم المملكة . قال :" ميردوك بالذات قال لي ، أرسلني لأقول لك :" إلى شوبشي – ميرشي – شاكان احمل اليسر " .
وبدأت عُقَد عِلله تنفك واحدة بعد أخرى . استعاد عافيته . استعاد أملاكه واستعاد مكانته بين الناس . كما عاد يؤدي طقوس عبادته واستأنف صلواته :" وعلى بوابة الخلاص التقيت مردوك . وعلى بوابة منتهى الكمال قبلت رجل زرباتينو ، ولم أتوقف أمامهما عن الصلاة ، والرجاء والدعاء . وضعت أمامي البخور ذا الرائحة الزكية . كدست الهدايا والقرابين والهبات . ضحيت بثيران سمينة ، وذبحت خرافا وازنة . قدمت قرابين سائلة على قرابين سائلة ، من الجعة الممزوجة بالعسل والخمر الصافي . وإلى ملهم الخير ، وإلى الملاك الحارس ، وإلى المساعدين الإلهيين ضمن جدران الإيساجيل – معبد الإله مردوك – بواسطة تقدمات غزيرة نورتُ مزاجهم ، وبواسطة موائد طعام وفيرة أبهجتُ قلوبهم " .
2
حوارية بابلية حول العدالة الإلهية :
يشير ديوان الأساطير ، المجلد الثاني ، أن مؤلف هذه الحوارية الفلسفية الوجودية ، شبه الدينية ، هو الحكيم ساجيل – كينا - موبيب الذي عاش في زمن الإمبراطور نبوخذ نصَّر الأول ( 1124 -1103 ق.م ) . الحوارية تدور بين متشكك – شكاك – في العدالة الإلهية ، يوصف بسيء الحظ ، وآخر مؤمن بهذه العدالة ، ولذلك يوصف بالحكيم . ولأنني تخيلت ردود الفعل على هكذا حوار لو حدث اليوم ، أي بعد 3100 سنة من الحوار الأول ، فقد استقر رأيي على نقله للقارئ كاملا ، بعد حذف مقدمات التبجيل والتكريم لكل فقرة حوار . بقي القول أن مسجل الحوار رَمَزَ للمتشكك بالحرف ش ، وللمؤمن بالحرف م .
ش : " ..... لم أكن قد بلغت أشدي بعد عندما انقض علي العذاب . أنا آخر أخوتي ، وقد حرمني القدر من الذي ولدني ، وأمي التي ولدتني ذهبت إلى بلاد اللاعودة . أمي وأبي تركاني دون أحد لرعايتي ؟"
م : " ....... وأراك بدلت تقاطيعك المنيرة بمظهر معتم . آباؤنا مآلهم السير على طريق الموت ، ومنذ الأزل اجتياز نهر العالم السفلي . ولكن إذا نظرت إلى البشر في مجموعهم ، فليست المصادفة أثرت بِكرا لا حيلة له . والسمين ممتلك الثروات من الذي يسَّر حاله ؟ وحده يبلغ النجاح من تطلع نحو وجه الإله . ووحده ،عند الآلهة ، المتواضعُ يراكم الكثرة " .
ش : "........ عليك إذن سأطرح سؤالي . أصغ جيدا إلى حديثي . أعرني للحظة انتباهك ، استمع إلى كلماتي . جسمي منهار ، واستمرار الهزال حرمني من سيمائي . أُبْعِدَ عني نجاحي وزالت الكثرة من يدي . الانهيار العصبي والهموم أعتما تقاطيع وجهي ، وقمح حقولي أضحى بعيدا عن إشباعي ، والجعة القوية التي أملك ، الجعة حياة البشر ، هي قليلة جدا لكي تروي عطشي . هل ستتأمن لي حياة رغيدة ؟ أود معرفة كيفية التوصل إليها ."
م :" ........لقد فرضت على عقلك التيه وعدم الصواب ، وجعلت من حكمك الممتاز حكما أعمى إلى الأبد وباستمرار . سوف يعاد إليك ما ترغب به ، ولكن حمايتك السابقة سوف تستردها بواسطة الصلوات ، وبتقديم تضحيات القرابين ، فإن آلهتك ، عندما يسكن قلبها ستعود إليك . والآلهة الذين لم يمنحوك الرخاء سوف تتملكهم الشفقة أمام تضرعاتك . أدر وجهك دوما نحو تطبيق العدالة ، وسيدك الكلي القدرة سيظهر نحوك طيبته ، ويبعد عنك غضبه ، ويمنحك عطفه " .
ش : ".......... الحمار الأخدري ، هذا الحمار الوحشي الذي يتخم نفسه من نتاج حصادنا ، هل يعير أذنا صاغية للكاهن الذي يؤكد تحقيق إرادة الآلهة ؟ والأسد المفترس الذي لا يأكل إلا أجود اللحم ، هل يقوم بتقديم قربان طحين لتهدئة غضب الآلهة ؟ والحديث الثراء الذي تضاعفت حقا ممتلكاته ، هل يزن من أجل مامي – الإلهة الأم – الذهب الثمين ؟ أتقاعست أنا عن تقديم القرابين ؟ لقد صليت إلى الإله ، بكل تقوى قدمت للآلهة قرابيني بانتظام ، وكلماتي كانت صادقة " .
م :" ......... أجل يمكنك أن تشاهد في السهوب الحمار الوحشي الرائع الجمال ، ولأنه يكحت الأرض التي يدوسها يتوجه السهم نحوه . هل تريد أن تتأمل عدو الماشية ، هذا الأسد الذي ذهب تفكيرك إليه ؟ من أجل الأضرار التي يرتكبها فإن الحفرة قد أعدت له . أما الحديث الثراء التي تتراكم أرزاقه ، فإلى النار وقبل دنو ساعته ، فإن الملك غالبا ما يحيله إلى اللهب . هل ترغب باتباع الطريق الذي اتخذه هؤلاء ؟ أحرى بك أن تسعى إلى محاسن نعمة الإله الدائمة " .
ش :" .........رأيك ممتاز يا أفضل الشركاء ، إلا أن كلمة واحدة فقط أريد إضافتها أمامك . إنه لطريق سعادة هو الذي يتبعه من لا يبحثون عن الإله ، بينما يتحول إلى الفقر المتدينون المتحمسون للآلهة ، ويفقدون ممتلكاتهم . منذ أيام شبابي توجهت بنفسي نحو إرادة الإله بالتعبد والصلاة بحرارة وورع ، وفتشت عن الآلهة . ومثل نير حملت عبوديتي دون فائدة . لم يمنحني الإله غير العوز عوضا عن الغنى . الأكسح يفوقني ، والمجنون يسير أمامي . والنذل يبلغ القمة وأنا يُنتقص من قدري " .
م :"..........على الرغم من ذكائك ، فكل ما تكرره هنا باستمرار لا معنى له . لقد تخليت عن الحق وهزئت بنوايا الإله ، ورغبت في داخلك أن تتوقف عن ممارسة الطقوس الإلهية . في داخلك نسيت الأنظمة الحقيقية لاحتفالات الآلهة . مقاصد الإله بعيدة عنا كما هي بعيدة أعماق السماوات . لا يسعنا أن نسمع ما يخرج من فم الآلهة ، ويبقى البشر عاجزين عن فهمها تماما . أفكار الآلهة تبقى متعذرة على البشر ، ومن المحال على البشر التعريف بطرق الآلهة ، لأن الأرض قريبة من عقلهم ......" .
ش :" ........مهما نظرت إلى هذا العالم فالإشارات تتناقض . كلا ، فالإله لا يسد الدرب أمام الشيطان . انظر إلى الأب الذي يسحب القارب في القناة بينما كبير أبنائه يرتكب الفسق في فراشه . أما أنا الذي تذللت أمام الإله ما الذي ربحته بالمقابل ؟ هاأنذا راكع عند رجلي من هو أدنى مني مرتبة ، والرجل الفظ ميسور الثراء يعاملني بازدراء " .
م :" ....ها أنت بسبب عذاب نفسك تسيء معاملة الإله . قلب الإله بعيد عن متناولنا كما هي بعيدة عنا أعماق السموات . شاقة هي معرفته والبشر يجهلونها . الذين خلقتهم أرورو – الإلهة الأم – بيدها هم كائنات حية بشكل متساوي . ولماذا إذن يولد البكر وهو أضعف من الذي يليه ؟ مهما حاول البشر التعرف على مقاصد الإله فإنهم يجهلونها " .
ش :"انتبه إلى ما أقوله يا صديقي وحاول تفهم أفكاري . يشاد بكلمات الوجيه الذي انغمس في تجربة الجريمة وتُحَط قيمة البائس الذي لا يضر أحدا . يُستمر في تكريم الشرير الذي يمقت العدالة ، ولكن يطرد العادل المتنبه إلى إرادة الإله . يُملأ بالذهب كنز القرصان ، ولكن عنبر المسكين يفرغ من مؤونته . تُزاد سلطة الرجل المتعجرف الذي كل شيء لديه خطيئة ، ولكن الضعيف نقضي عليه ويُطرد الهزيل . أما أنا العديم الأهمية فإن حديث الثراء يضطهدني " .
م :" ملك الآلهة نارو - إنليل – خالق البشر ، وزولومار – إيا – المجيد الذي شكل الصلصال ، والملكة التي صنعتهم مامي السنية ، وهبوا البشرية محاكمة عقلية مبهمة ، وما زودوهم به إلى الأبد ليس الحقيقة بل الخطأ . ولذلك فالكلمات الرنانة يتم التحدث بها لصالح الغني ، " إنه ملك ، يقال عنه الثروة ترافقه ". ولكن الفقير البائس تساء معاملته وكأنه لص . تُغدق عليه النميمة ويتم الاستعداد لقتله . تلصق به كل الشرور بشكل كاذب ، لأن لا حامي له وبالإرهاق يتم القضاء عليه ، ويُطفأ مثل شمعة ".
ويختتم المتشكك الحوارية بالتوجه من جديد لطلب عون الآلهة ، لأنه لم يعثر على بديل ولم يكن لديه خيار آخر . يقول :" أنت شفوق يا صديقي فاعتبر إذن قلقي . تعال لمساعدتي . أنظر إلى ألمي . واعلم : أنني كنت ساهرا ، ومُحْتَرِما ، ، وراجيا ، ولم أجد قط ، ولو للحظة واحدة ، العون أو المساعدة . مشيت دون ضجيج في ساحات مدينتي ، وصوتي كان دون دوي وكلمتي منخفضة . لم أكن رافعا رأسي ، وكنت أنظر إلى الأرض . لم أكن متبجحا ، وكنت مثل عبد بين جميع زملائي . ألا فليمنحني الآلهة الذين أهملوني من جديد عونهم . والآلهة التي هجرتني لتعد من جديد إلى معاملتي بشفقة " .
3
التوراة – سفر أيوب :
يمتد السفر في الكتاب المقدس – العهد القديم أو التوراة – على مساحة 42 إصحاحا . من غير السهل تلخيصه ، أو اختصاره ، دون المساس بجوهره الذي ، كما رأيت ، يتمثل في الحوار مع أصدقاء ثلاثة جاءوا لعيادته ومواساته ، وامتد على مساحة ثلاثين إصحاحا .
يبدأ الإصحاح الأول بوصف أيوب :" وكان هذا الرجل كاملا مستقيما يتقي الله ويحيد عن الشر ". ثم ينتقل لتعداد ثروته ، وبعدها يلخصها في عبارة واحدة :" فكان هذا الرجل أعظم كل بني المشرق " .
وتبدأ محنته على النحو التالي :" وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب ، وجاء الشيطان أيضا في وسطهم * فقال الرب للشيطان من أين جئت . فأجاب الشيطان الرب وقال : من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها * فقال الرب للشيطان : هل جعلت قلبك على عبدي أيوب ، لأنه ليس مثله في الأرض . رجل كامل ومستقيم ، يتقي الله ويحيد عن الشر * فأجاب الشيطان الرب وقال : هل مجانا يتقي أيوب الله . أليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية . باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض * ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه في وجهك يجدف عليك * فقال الرب للشيطان هو ذا كل ما له في يدك ، وإنما إليه لا تمد يدك . ثم خرج الشيطان من أمام وجه الرب " .
بهذا التوكيل من الرب ، صب الشيطان النازلات على رأس أيوب . تعددت وسائل الشيطان في إبادة قطعان ماشية أيوب وأملاكه ، وحيث ظل واحد فقط ينجو من الكارثة ليبلغه خبرها . وجاءت خاتمتها بسقوط البيت على أبنائه التسعة وبناته الثلاث ومقتلهم جميعا . " مزق أيوب ملابسه وجز شعر رأسه وخر على الأرض وسجد ، وقال : عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى هناك . الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركا " . خاب ظن الشيطان ، ولم يجدف أيوب بحق الرب .
وفي الموسم التالي لمثول بني الله أمام الرب ، تكرر وجود الشيطان ، وسؤال الرب عن كيفية وأسباب وجوده . كما تكرر جواب الشيطان ، وتحذير الرب له من التعرض لأيوب الذي خيب ظنه ولم يجدف . أجاب الشيطان بأن النازلات وقعت بمال أيوب وأبنائه ولم تصب لحمه وعظمه ، ولو أنها أصابت اللحم والعظم فإنه سيجدف في وجه الرب . هنا أعطى الرب الشيطان صلاحية مس أيوب في لحمه وعظمه . ضرب الشيطان أيوب بقرح رديء امتد من باطن قدمه حتى هامته . وما كان من أيوب إلا أن أخذ شقفة ليحك بها جسده وهو قاعد وسط الرماد . وكان أن حرضته زوجته على الخروج عن كماله ، ولكنه لم يستجب ولم يجدف بحق الرب .
4
حوارية أيوب مع الأصدقاء :
وكان لأيوب ثلاثة أصحاب من ثلاثة بلدان مختلفة ، هم : أليفاز التيماني ، يلدد الشوحي ،وصوفر النعماني . سمع الثلاثة بما أصابه فجاءوا لمواساته وتعزيته . ولأنهم صعقوا لمرآه قعدوا سبعة أيام على الأرض إلى جانبه ، دون أن ينطق واحدهم بكلمة . بعدها بدأ أيوب الكلام شاكيا ، فمتذمرا من عدم التفات الرب لحاله ، مفتتحا حوارا معهم امتد من بداية الإصحاح الثالث حتى نهاية الإصحاح الثاني والثلاثين . ولأن الثلاثة لم يجدوا ، في خاتمة هذا الحوار ، ما يمنكهم من الرد على حجج ومداخلات أيوب ، فقد آثروا الانسحاب ، وليحل محلهم محاور جديد ، هو أليهو بن برخئيل البوزي .
ولأن الحوار طويل ،عميق وغني في ذات الوقت ، ولأنه يشكل جوهر الموضوع كله ، كما أرى ، فقد اجتهدت في اختيار ونقل مقاطع قصيرة منه ، بادئا باسم قائله ، مؤملا وضع يد القارئ على هذا الجوهر .
أيوب ، وفي أول كلام له قال :" ليته هلك اليومُ الذي وُلِدتُ فيه والليلُ الذي قال قد حُبِلَ برجل * ليكن ذلك اليوم ظلاماً ، لا يعتن الله به من فوق ، ولا يشرق عليه نهار ......... لِمَ لم أمت من الرحم . عندما خرجت من الرحم لِمَ لم أسلم الروح * لماذا أعانتي الرُكَب ولِمَ الثدي حتى أرضع ........" . وردا على أليفاز التيماني : " ليت كربي وُزِن ومصيبتي رُفِعت في الموازين جميعها لأنها الآن أثقل من رمل البحر ..... يا ليت طُلبتي تأتي ويعطيني الله رجائي * أن يرضى الله بأن يسحقني ويطلق يده فيقطعني * فلا تزال تعزيتي وابتهاجي في عذاب لا يُشفق أني لم أجحد كلام القدوس ......" ... " ... أنا أيضا لا أمنع فمي . أتكلم بضيق روحي ، أشكو بمرارة نفسي * أبحر أنا أم تنين حتى جعلت علي حارسا * إن قلت فراشي يعزيني مضجعي ، يفرج كربتي ، تريعني الأحلام وترهبني برؤى فاختارت نفسي الخنق الموت على عظامي هذه ....... حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني ريثما أبلع ريقي * أأخطأت . ماذا أفعل لك يا رقيب الناس . لماذا جعلتني عاثورا لنفسك حتى أكون على نفسي حملا * لماذا لا تغفر ذنبي ولا تزيل إثمي لأني الآن أضطجع في التراب ، تطلبني فلا أكون " .
يلدد الشوحي : " هل الله يُعَوِّج القضاء أو القدير يعكس الحق * إذا أخطأ إليه بنوك دفعهم إلى يد معصيتهم * فإن بكَّرت أنت إلى الله وتضرعت إلى القدير * إن كنت أنت زكيا مستقيما فإنه الآن ينتبه لك ويُسلم مسكن بِرِّك * وإن تكن أُولاك صغيرة فآخرتك تكثر جدا .......".
أيوب :" صحيح . قد علمت أنه كذا . فكيف يتبرر الإنسان عند الله * إن شاء أن يحاجه لا يجبه عن واحد من ألف * هو حكيم القلب وشديد القوة . من تَصَلَّب عليه فسلم " ...." هوذا يمر علي ولا أره ويجتاز فلا أشعر به * إذا خطف فمن يرده ومن يقول له ماذا تفعل * الله لا يُرَدُ غضبه " ... " لو دعوت فاستجاب لي لما آمنت أنه سمع صوتي * ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويكثر جروحي بلا سبب * لا يدعني آخذ نفسي ولكن يشبعني مرائر * إن كان من جهة القوة يقول هأنذا ، وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني * إن تبررت يحكم علي فمي ، وإن كنت كاملا يستذنبي " . ..." إن أخطأت تلاحظني ولا تبريني من إثمي * إن أذنبت فويل لي ، وإن تبررت لا أرفع رأسي . إني شبعانٌ هوانا وناظرٌ مذلتي * وإن ارتفع تصطادني كأسد ثم تعود وتتجبر علي * تجدد شهودك تجاهي وتزيد غضبك علي . نُوَبٌ وجيش ضدي " .
صوفر النعماني : " ...ولكن يا ليت الله يتكلم ويفتح شفتيه معك * ويعلن لك خفيات الحكمة إنها مضاعفة الفهم فتعلم أن الله يغرمك بأقل من إثمك * أإلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي * هو أعلى من السموات فماذا عساك أن تفعل . أعمق من الهاوية فماذا تدري * أطول من الأرض طوله وأعرض من البحر * إن بطش أو أغلق أو جمَّع فمن يرده * لأنه هو يعلم أناس السوء ويبصر الإثم فهل لا ينتبه * أما الرجل ففارغ عديم الفهم وكجحش الفرا يولد الإنسان " .
أيوب :"..... ليتك تواريني في الهاوية وتخفيني إلى أن ينصرف غضبك وتعيِّن لي أجلا فتذكرني * إن مات رجل أفيحيا . كل أيام جهادي أصير إلى أن يأتي بدلي " ......" إن الجبل الساقط ينتثر والصخر يزحزح من مكانه * الحجارة تبليها المياه وتجرف سيولها تراب الأرض ، وكذلك أنت تبيد رجاء الإنسان * تتجبر عليه أبدأ فيذهب ، تغير وجهه وتطرده * يُكَرَّم بنوه ولا يعلم أو يصغرون ولا يفهم بهم * إنما على ذاته يتوجع لحمه وعلى ذاته ينوح عظمه " .
أليفاز التيماني :" ألعل الحكيم يجيب عن معرفة باطلة . يملأ بطنه من ريح شرقية * فيحتج بكلام لا يفيد وبأحاديث لا ينتفع بها * أما أنت فتنافي المخافة وتناقض التقوى لدى الله * لأن فمك يذيع إثمك وتختار لسان المحتالين * إن فمك يستذنبك لا أنا وشفتاك تشهدان عليك " .
5
الرب يحاور أيوب :
واستمر هذا السجال على طول الإصحاحات حتى كانت مرافعة أيوب الأخيرة ، والتي امتدت على طول الإصحاحات ؛ التاسع والعشرين ، الثلاثين ، والحادي والثلاثين . ولأن محاوري أيوب الثلاثة لم يجدوا ما يمكنهم الرد به ، انتقل الحوار إلى محاور جديد اسمه أليهو بن برخئيل البوزي . تواصل وعظ أليهو على طول الإصحاحات التالية حتى الإصحاح الثامن والثلاثين ، وحيث كان لا بد من تدخل الرب ذاته . ولأن حديث الرب عن تعداد معجزاته طويل ، ومن غير الممكن إيراده كله ، فقد اخترت مقاطع منه ، آملا أن تعكس جوهره .
بدأ الرب إجابة أيوب من العاصفة ، قال :" من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة * أُشْدُدِ الآن حقويك كرجل ، فإني أسألك فتعلمني * أين كنت حين أَسستُ الأرض . أخبرْ إن كان عندك فهم * من وضع قياسها . لأنك تعلم . أو من مد عليها مطمارا * على أي شيء قُرِّتْ قواعدها أو من وضع حجر زاويتها " ....." هل في أيامك أمرتَ الصبح . هل عرَّفتَ الفجر موضعه * ليمسك بأكناف الأرض فيُنْفَضَ الأشرار منها " ......" هل انتهيتَ إلى ينابيع البحر أو إلى مقصورة الغمر تمشيت * هل انكشفتْ لك أبواب الموت أو عاينتَ أبواب ظل الموت * هل أدركتَ عرض الأرض . أخبِرْ إن عرفته كله " ......" أدخلت إلى خزائن الثلج أم أبصرت مخازن البرد * التي أبقيتها لوقت الضر ليوم القتال والحرب * في أي طريق يتوزع النور وتتفرق الشرقية في الأرض * من فرَّعَ قنوات للهطل وطريقا للصواعق * "......" هل تربط أنت عقد الثريا أو تفُكُّ رُبُطَ الجبار * أتخرج المنازل في أوقاتها وتهدي النعش مع بناته * هل عرفتَ سنن السموات أو جعلت تسلطها على الأرض * أترفع صوتك إلى السحب فيغطيك فيضُ المياه * أترسل البروق فتذهب وتقول لك ما نحن * "
أجاب أيوب الرب وقال : ها أنا حقير فماذا أجاوبك * وضعت يدي على فمي * مرة تكلمتُ فلا أجيب ومرتين فلا أزيد " .
" أجاب الرب أيوب من العصفة فقال : الآن شُدَّ حقويك كرجل . أسألك فتعلمني * لعلك تناقض حكمي فستذنبني لكي تتبرر أنت * هل لك ذراع كما لله وبصوت كصوته ترعد * تزين الآن بالجلال والعز والبس المجد والبهاء * فرِّقْ فيض غضبك وانظر كل متعظم واخفضه * انظر إلى كل متعظم وذلْلِهُ ودُسِ الأشرار في مكانهم * اطمرهم في التراب معا واحبس وجوههم في الظلام * فأنا أيضا أحمدك لأن بيمينك تخلصك " .
أجاب أيوب الربَّ :" قد علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر * فمُرْ ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة ، ولكني نطقت بما لم أفهم ، بعجائب فوقي لم أعرفها * اسمعِ الآن وأنا أتكلم . أسألك فتعلمني . بسمع الأذن قد سمعت عنك ، والآن رأتك عيني * لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد " .
وكان أخيرا أن أنهى الرب امتحانه لأيوب ، " ورفع الرب وجه أيوب ، ورد الرب سبي أيوب لما صلى لأجل أصحابه ، وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفا * فجاء إليه كل أخوته وكل أخواته ، وكل معارفه من قبل وأكلوا معه خبزا في بيته ورثوا له وعزوه عن كل الشر الذي جلبه الرب عليه وأعطاه كل واحد منهم قسيطة واحدة وكل واحد قرطا من ذهب * وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه وكان له أربعة عشر ألفا من الغنم وستة آلاف من الإبل وألف فدان من البقر وألف أتان * وكان له سبعة بنين وثلاث بنات * وسمى اسم الأولى يميمة واسم الثانية قصيعة واسم الثالثة قرن هَفُّوك * ولم توجد نساء جميلات كبنات أيوب في كل الأرض وأعطاهن أبوهن ميراثا بين أخوتهن * وعاش أيوب بعد هذا مئة وأربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال * ثم مات أيوب شيخا وشبعان الأيام " .
6
أيوب في القرآن :
كما هو دأب الرواية القرآنية في الإيجاز ، توزعت أسطورة أيوب على أربع سور هي : النساء ، الأنعام ، الأنبياء ، وص .
في الآية 163 من سورة النساء جاء : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا لنوح والنبيين من بعده ، وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا } .
أما في سورة الأنعام ، فقد نصت الآية 84 على : { ووهبنا له إسحق ويعقوب كلاً هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته > داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } .
ولأن ذكر أيوب في سورة مدنية – النساء - وثانية مكية – الأنعام - اقتصر على تأكيد نبوته ، دون الإشارة لابتلائه ، فقد ورد ذكر بلائه في سورتي الأنبياء وص المكيتين .
نصت الآيتان 83و84 من سورة الأنبياء على : { * وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم ورحمة من عندنا وذكرى للعابدين } .
ونصت الآيات 41، 42، 43، 44 من سورة ص على :{ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنُصْبٍ وعذاب * اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب * وخذ بيدٍ ضغثا واضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نِعم العبد إنه أواب } .
ولأن الآيات السابقة أشارت لابتلاء أيوب ، كما لاستجابة الرب لدعائه وشفائه بإيجاز شديد ، اعتنى الحديث ، وتفسيرات المفسرين ، بمهمة الشرح والتفصيل . وبما أن الآيات أكدت على نبوة نوح فقد ركز الشراح والمفسرون على تقصي نسبه ونسب زوجته . أعادوا نسبه ليوسف – الجيل الرابع – ، ومن ثم عبر يعقوب وإسحاق إلى إبراهيم . كما اتفقوا على أنه كان على ثراء واسع ؛ مال وقطعان كبيرة من الماشية ، الإبل والبقر ، من حيوانات الجر ومن الخدم . كما اتفقوا على مكانته الاجتماعية الرفيعة ، وأنه كان له عشرة من الأبناء والبنات .
لا يشير الشراح والمفسرون إلى أسباب ابتلاء الله لأيوب ، ولكنهم يتفقون على أن الضربات المتتالية ذهبت بما كان لديه من ثروة ، ومن مكانة اجتماعية ، فابتلاء جسده بالمرض . واختلف الشراح والمفسرون بخصوص مرضه ، منهم من قال أنه الجرب ، ومنهم من قال أنه الجذام ، واتفقوا على أن الناس ، حتى أهله وأخوته ، اعتزلوه بسبب ذلك ، ولم يبق له غير زوجته التي واصلت إطعامه وخدمته ولقيت بسبب ذلك عنتا كبيرا .
إذاً ، وعن طبيعة المرض ، ينقل لنا الحديث عن ..عن ..عن عبد الله بن عبيد بن عمير : " كان لأيوب عليه السلام أخوان فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه ، من ريحه ، فقاما من بعيد . فقال أحدهما للآخر : لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا ! فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط . فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع ، فصدقني . فصدق من السماء وهما يسمعان . ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني . فصدق من السماء وهما يسمعان . اللهم بعزتك وخرَّ ساجدا . ثم قال : اللهم لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني ، فما رفع رأسه حتى كشف عنه " .
وعن ، عن .....أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أيوب النبي ، عليه السلام ، لبث بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه به ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين . قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به . فلما رأى حال أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب : ما أدري ما تقول ، غير أن الله يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكَفِّر عنهما كراهية أن يُذكر الله إلا في حق . قال : وكان يخرج لحاجته ، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ . فلما كان ذات يوم أبطأ عليها ، فأوحى الله إلى أيوب أن اركض – اضرب – برجلك هذا مغتسلك بارد وشراب ، فاستبطأته فبلغته تنظر ، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من بلاء وهو أحسن ما كان . فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى وإنه على حال ، فوالله ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا . قال : فإني أنا هو . وكان له أبدران ؛ أبدر القمح وأبدر الشعير ، فبعث الله سحابتين ، فلما كانت إحداهما على أبدر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض ، وأفرغت الأخرى في أبدر الشعير الوِرْقَ – الفضة – حتى فاض " .
وعن ابن عباس قال : " وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب فجلس في ناحية ، وجاءت امرأته فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله ، أين ذهب المبتلى الذي كان هاهنا ؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب . فجعلت تكلمه ساعة فقال : ويحك أنا أيوب ! قالت : أتسخر مني يا عبد الله ؟ قال : ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي . وقال ابن عباس : ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم . "
وعن وهب بن منبه :" أوحى الله إلى أيوب : قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسلْ بهذا الماء فإن فيه شفاءك ، وقرِّبْ عن صاحبتك قربانا ، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك " .
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" بينا أيوب ، عليه السلام ، يغتسل عريانا خرَّ عليه جراد من ذهب فجعل يحتثي في ثوبه ، فناداه ربه : يا أيوب ، ألم أكن أغنيك عما ترى ؟ قال : بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك " . رواه البخاري . وفي رواية أخرى : خرَّعليه رَجْلُ جراد من ذهب .
وأخيرا وفي رواية للإمام أحمد بن حنبل ، فقيل : يا أيوب ، ألم يكفك ما ما أعطيناك ؟ قال : أي ربي ، ومن يستغنِ عن فضلك ؟
7

قراءة :
والآن ، ونحن نعرف الكيفية التي تنتقل بها الرواية ، أية رواية ، من جيل لجيل ، بذات اللغة ، وفي إطار ذات الثقافة ، ما يضاف لها وما يحذف منها ، وما يستبدل من لغة السرد فيها ، حتى يأتي وقت لا يتبين القارئ صيغة الأصل منها ، يخطر لنا سؤال : إذاً كيف يكون الحال ، وهي تنتقل من لغة إلى لغة ، ومن ثقافة إلى ثقافة ، وأيضا حين يطول امد هذا النقل لقرون وقرون ؟ وإذاً مجددا ، والقاريء لا تفوته ملاحظة الصنعة الإنسانية ، شديدة الوضوح ، في الروايات السابقة كلها ، فهل يجانبه الصواب حين يستنتج أن الرواية البابلية هي الأصل ، وان الروايتين ؛ التوراتية والقرآنية هما الفرع ؟
لا يقلل من قدر مثل هذا الاستنتاج أن الرواية البابلية لم تعر انتباها لمبرر الإله في ابتلاء العادل المعذب ، فيما تعيد الرواية التوراتية أسباب ابتلاء الله لأيوب إلى كيد الشيطان ، واستجابة الإله لهذا الكيد . هذه الاستجابة التي لا بد تذكر القارئ برفض إبليس لأمر الله بالسجود لآدم ، وباستجابة الله لطلب إبليس بأن ينظره إلى يوم يبعثون ، وبرد الله على تهديد إبليس بإغواء البشر وبإخراجهم عن طاعة الله ، بوعيد ملء جهنم ممن ينجح إبليس في إغوائهم – الآيات من 12 إلى 18 من سورة الأعراف - ، وليتساءل القارئ من بعد ذلك : من يسير من ؟ أالله يسير إبليس أو الشيطان أم العكس ؟ وأيضا لا يقلل من قدر الاستنتاج أن القرآن أضفى صفة النبي على العادل المعذب ، أو أيوب ، فيما تتطابق الحوادث الرئيسية في الروايات الثلاث .
كما لا يقلل من قدر الاستنتاج أن الرواية التوراتية ، والمحدثون ، في الرواية القرآنية ، اعتمدوا أحداثها الرئيسية ، أن هذه الرواية التوراتية مزجت بين أسطورة العادل المعذب والحوارية البابلية . إذ يلاحظ القارئ أن حوار الرواية التوراتية ، يتقمص فيه أيوب دور الشكاك في الحوارية البابلية ، يطرح ذات الأسئلة من حيث الجوهر ، فيما يرد محاوروه الأربعة بذات طرح المؤمن في الحوارية البابلية . وبالرغم من أن الرواية القرآنية لا تشير من قريب او بعيد إلى تذمر أيوب وشكاواه ، وحتى شكوكه ، ورفضه لحجج وتمنيات محاوريه ، كما ترددت طويلا في الرواية التوراتية ، وعلى العكس نزهته الرواية القرآنية ، من منطلق نبوته ، عن مثل هكذا زلل ، إلا أن القارئ لا يعثر في أي منها على مبرر منطقي معقول ومقبول ، لعودة الإله ورفع ابتلائه عن العادل المعذب ، في الرواية البابلية ، وعن أيوب في الروايتين التوراتية والقرآنية . ونختم بسؤالين : 1-هل تعرض المرء لكوارث مادية ، وهو ما يحدث لملايين البشر في كل حين ، ولرزء في الولد والأهل ، وهو أمر متكرر الحدوث في الماضي والحاضر أيضا ، ووهل تعرضه للإصابة بمرض جلدي فتاك ، مثل الجدري ، الجرب أو الجذام ، وهو أيضا ما حدث لملايين البشر في السابق ، قبل كشف علوم الطب عن االوقاية منها ، واضطرار المبتلى ، كما حدث لأيوب ، للصبر على بلواه ، ثم البرء من المرض واستعادة الثروة ، هل يستحق التفسير الذي ذهبت إليه الروايات الثلاث ؟ 2- ترى ما الذي تكون عليه ردات الفعل الآن ، لو نشر موقع فكري ، أو ثقافي ما ،حوارا مماثلا للذي طالعناه في الحوارية البابلية ؟ أترك الجواب ، كما المقارنة بين فكر أجدادنا قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة وفكر معاصرينا الآن ، لك عزيزي القارئ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يجدر بهذا أن نسميه بحثاً و ليس مقال
منال شوقي ( 2018 / 10 / 9 - 07:30 )
أكثر من رائع
و سأعاود قرائته مرات
شكراً جزيلاً


2 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2018 / 10 / 9 - 10:58 )
تحياتي ويسعد صباحك . كل الشكر والتقدير لك

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س