الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شونة زنبقة البزل - من ذاكرة الأنهار

فلسطين اسماعيل رحيم
كاتبة وصحفية مستقلة

(Falasteen Rahem)

2018 / 10 / 11
سيرة ذاتية


لا اذكر على وجه التحديد متى بلغت علاقتي بالزنبق نضجها لكني اذكر كيف بدئت حتما ، وكيف صار لوردة بيضاء تستقر في قلب البزل ، ذلك النهر الذي يقال ان والدي شقه للبساتين كي ترمي عبره الماء الزائد عن حاجتها ، فيمضي الماء إلى النهر جارا معه ملوحة الارض، البزل كان هذا اسمه، ولكي تكتمل قصة البزل يجب ان أحدثك اولا متى تعرفت الى هذا النهر الذي ولدت في حجرة طينية على مقربة منه، كان ذاك في يوم تشريني جميل بحسب رواية أمي
كنت يوما طفلة حين نزلت اليه بغية قطف زنبقة بيضاء ، قرأت عن جنيات يسكن قاع النهر ، وكنت اسمي وانا اهبط واترصد كل ما يأتي به النهر من حركة تنذر بقيام جنية من نومها، كان يغريني منظر الطحالب الخضراء التي تسبح مع حركة الماء ، الشنبلان ، هكذا كنّا نسميها ، كنت اخشى ان تغطس قدمي في مكان لا أراها فيه، لا اعرف كيف ومتى تعلمت ان لا أضع قدمي في مكان لا اراه، كنت طفلة صغيرة مسكونة بالحذر ، النهر الذي تقول أمي بأنها رمت بسري اليه، فاكتسبت صفاته، ا أخافه جدا ، صورة الطفلة في قلب صندوق من الفلين وهي تبكي وتصرخ لا تفارق راسي، ورعبها من الماء المحيط بها مازال يسكنني ، لا اذكر كم كان عمري حينها ، ولكن كيف لذاكرة ان تحفظ هذا الغور العميق فتتذكر ان لوحة الفلين تلك كانت لتحمل طفلة دون الثالثة في اكثر تقدير
مثل أخطبوط يمد أذرعه الكثيرة ليطبق على صيده بحنكة خبير بالموت المدهش ، وبحكمة عنكبوت ينسج خيوطه الواهنة فيوقع فراشة قادها الفضول لشبكته التي ظنت ان أجنحتها فيها من القوة لتعبث بلزوجة جوعه ، أخيط أيامي بتلك الخبرة التي اورثتنياها الايام التي لم أعد اعرف عددا لها
الترقب يقتل الطموح كما تقول صديقتي
التي طالما كانت تدفعني لخوض المجهول بدون حسابات
وكنت أظنني عاقلة بما يكفي لان اعرف أين أدس خردة الأحلام الباقية في جيب قميص الامس ، لم أكن اخشى السنين قطعا لم يخفني يوما تبدل ابتسامتي ولا تهدل شفتي بهذا الشكل ، كنت أراني الطفلة التي تعبث بكل شي لكنها لا تقرب شبكة العنكبوت بل وتنش عنها الفراشات وتعلم الطريق اليها بعظمتين وجمجمة ، وتزرع درب النهر بقطع الحجر الجارحة وبالزجاج كي تنش الأولاد عن حتفهم ، فللنهر أخطبوط يسرق كل يوم منهم واحدا ولا يشبع
كنت حذرة بما يكفي لان أعيش حتى الان
غير اني نسيت هاجسي ذاك وكل الآشياء التي كنت احب ان تحيا معي
وبقيت على حذّر ولكن ممن ؟ لست اعرف
فلا نهر هنا ولا بستان تموت فراشاته ان قصدت وردة نائية
نسيت ان أحدثك عن علاقتي بالزنبق
الزنبقة وردة النهر البيضاء التي تتوهج في الليالي المقمرة ، كانت تسبح على صفحة نهر البزل وهو النهر القريب الذي أخبرتك انه كان يشق بستان ابي، اذكر اول تعرفي الى الزنبق كان في ذاك النهر الذي تمنعني امي ان أسبح فيه لانه يورثني الشرع وهو الاسم الذي يخص الطفح الجلدي الذي يصيبني بعد كل مرة أنزل فيها اليه لأسرق زنبقة
البزل يذكرني بام علي المرأة العقيم زوجة صاحب اجمل بستان
ام علي التي ورثت كنيتها عن اسم زوجها حسين العليوي والذي لم يكن له من زوجة غيرها ، أم علي التي كانت لها ضفائر طويلة تتجاوز حدود شيلتها، فلا تهتم بتغطيتهن، وخال على خدها، هكذا كنت اذكرها ، كانت تدخن بشراهة سجائر اللف و تغفو الى جانب البزل وهي ترعى الغنم ، لا اذكر اني رايتها غير مرة واحدة في طفولتي قبل ان تموت
اذكر صوتها الابح ، واذكر رعبي منها وهي تتوعدني بالخطف ، تحببا وكنت ارى ذلك ارهابا لي، حتى استحالت في راسي أيقونة للشر ، تلك السيدة التي كانت تربي كلابا كثيرة ، كنت اتخليها تطعمهم الأطفال الذين تخطفهم، أم علي كان بستانها يختلف عن كل بساتين المعموره ، كان كثيف النخل والشجر المثمر، وفِي ارضه تزرع انواع الخضر ، في حين تبدو بساتيننا حوله جرداء وبور، لم ينج بستانها من غاراتنا نحن الصبية الجائعين ، وكانت ارض أم علي وقفا لشهيتنا فنغير عليها أوقات الظهيرة ، وقت قيلولتها، لنقطف القليل ونتلف الكثير فتهاجمنا كلابها الشرسة، التي كانت تحرس بستانها من الطفيليين امثالنا،
شونة هذا هو اسمها ، توفيت في زمن مبكّر من طفولتي، اذكر هذا جيدا على الرغم من أني كما قلت لم ارها الا مرة واحدة عن قرب، كان وجهها نظيفا جدا وابْيِضَا، عكس لون نساء القرية، يقال ان زوجها أتى بها صغيرة جدا من المدينة، ويقال انها كانت تلد أطفالا ميتين، فصنعت عرائس لها واختارت لهن اسماء، ويقال أيضا ان كلابها هم في الحقيقة اولادها.

واذكر ايضا ان زوجها عاش طويلا بعد وفاتها ولم يتزوج ، وحين بلغ من العمر عتيا ، استغل ضعفه أقارب له وجيران، صادروا منه كل ذاكرته ومقتنياته، وحين توفي وضع أقاربه يدهم على بساتنه الذي كان الأحب الى قلبي وصار عبارة عن ارض مهجورة
وأنهم هدموا داره ايضا
ولم يعد احد يذكر شونه الملقبة بام علي، المرأة التي تدخن بشراهة وهي ترعى الغنم الى جوار نهر البزل الذي اندثر هو الاخر
لكنه ظل حاضرا بزنبقه في ذاكرتي وحاضرة معه شونه
ونعاجها ودخانها وصوتها الابح








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح