الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفكار أولية حول مفهوم * الطرب * (3)

زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)

2018 / 11 / 6
الادب والفن


------------------------------------
وأما عن فهم حال الإنسان المطروب ، فقد رأيتُ أن وصفه جاء بين الناس على نحو رأيين متباينين :
الرأي الأول يقول : بأن الطّرب هو نقيصة إدراكيه في الإنسان ، تشي عن ضعف المدارك وتشوش الوعي، وبأنه أمرٌ يُشابه حال الوَلَه تقريباً ، لذا وجب اعتبار الطرب عتبة من عتبات الجنون و والهوى ، والنظر الى المطروب على انه فهم ذائب في أجواء الهيام ..
لأن الانسان المطروب يكون في حالة منفلشة من الوجد اللاعقلي ، وقد يغيب عن وعي ذاته ، ويغفل عما يفعل من سلوك غريب ( عبارات – ايماءات – كلمات -) ، أو يسهو عن وعي ما يدور حوله ، إلى درجة تجد هذا المطروب و كأنه أصبح وجوداً ثملاً طرياً تماماً بما يسمع أو يرى ..
وتكون حينئذٍ كل خلجاته تقريباً ، مشرئبة ومتحفزة ، تنبض بما امتلكت من أقاصي الفرح والبهجة أو بما نالت من مرامي الحزن أو النشوة ..
ولهذه الأسباب وسواها ، يصرُّ أصحاب هذا الرأي على القول
بأن الموسيقا أصلاً هي كينونة حسية لا علاقة لها بالعقل والوعي ، بل هي تجريد حسي محض ، وإن أثرها ينحصر في الشعور وحسب ، ولا يمكن البتة ، التعبير عنه بدقة أو القبض على حدود تأثيراته بشكل تام .
لكون مجال مسارها واستقبالها الحس أولاً ،
ولأن رياضها البديعة لا تحفل أصلاً ، إلا بما يجود به الوجدان من خلجات ثانياً ،
ثم ما ترهز به العواطف من دفء المشاعر الجياشة ثالثاً..
طبعاً أنا أقول كل هذا ، ولست مبالغاً ، نظراً لكمية الخفّة والإفعام والذوب طرباً ، التي رأيتها أنا شخصياً بأم عيني ، وخبرتُها بذاتي – مغنياً أو عازفاً أو مشاهداً – وعاينتها وهي تعتري بعض الناس ، وهم يعيشون و يتلوّون في تلك الحالات النفسية القصوى ، من ذهول أو شرود ، أو استغراق..أو حزن أو غبطة .. الخ .
أما الرأى الثاني – و الذي أجدني معه – فقد جاء في فهم الطرب وحاله على النقيض مما سبق،
إذ رأى هؤلاء أن الموسيقا هي بالضرورة نظامٌ متكامل محكم بقواعد وأسس، هذا من جهة ، وأنها عبارة عن جملة أساليب معقدة في تقديم المشاعروالهواجس ، وإظهار العواطف ، وضبط الإنفعالات المسكوبة في أيقونات مختلفة ، (من صوت وصمت وحركة..) ، من جهة ثانية ..
ثم لا ننسى أن الفنون كافة – ومنها الموسيقا بالطبع - هي في جوهرها ، تحول الفكرة الى أثر مادي محسوس ، و تتم من خلال عمليات ذهنية معقدة وتراكمات للفهم الإنساني تمتد لأجيال وأجيال .. وتأخذ في مسارات تطورها الكلي نظام لا محالة ،
ولطالما كل نظام هو عقل ما بالضرورة ، بحسب المنطق الهيغلي ..
فإن حال الطرب لايمكن أبداً ، أن نُصبغَ عليه حالة اللاعقل ( او نختصره بالتغييب السلبي أو نضعه تحت مسمى التلاشي والهيام في المسموع فقط )
وكما يقال ، الموسيقى ، مهما كان الصوت والبناء اللذان يفترضانها ، تبقى محض ضوضاء لامعنى لها ، مالم تمس العقل ..
ولهذا فإن حال الطرب الناتج عنها يتطلب حدوثه - في زعمي - نوعاً من التركيز والانتباه الشديد ، والإنسجام مع قدرة العازف أو المطرب ، قبل مرحلة الإنطلاق و التسامي بالوجدان إلى ملكوت الغبطة أو الاسراء بالروح الى إثارات الحزن أو مدارات الفرح ..
و التي تأتي لاحقاً ، من خلال مهارة معينة في العزف، أو مفاجأة مبتكرة في التنويع الغنائي، أو أو إنبلاج رخامة صوتية آسرة، وموهبة في تطويع ما يسمى "العربات الصوتية" ، مع التأكيد حين حصول هذا الإبداع ، على علامات موسيقية ونغمية بعينها ،
تكسوها تلك البحّة أو تحملها تلك الطبقة من الصوت ، وهكذا إلى أن تصل بعد ذلك إلى أذن المستمع الرهيفة برنين خاص ، وبنكهة صوتية شفيفة ، تُحلّق به إلى حال من حالات " التجلي الرحماني" كما يقول عنه ذواقة مدينة حلب ، وهو التجلي السامي الذي تبحث النفس فيه عن كنه ذاتها بكل صدق ووجد ..
قصارى القول : بالنسبة لي أيضاً ، فإن حال الطرب بالذات ، هو الحال الوجداني المُتفرد والفني الخاص لشعب من الشعوب، و يمكن أن تقدمه الفنون كافة ، لكن تبقى درجته في الموسيقى – في إعتقادي - هي الجانب الاكثر حساسية وعمقا وتأثيرا واظهارا له ..
وذلك لما تتمتع به الموسيقا من تكثيف للسمات ( روحية ثقافية اجتماعية...) ضمن كليات ومدركات مجردة ، يتم التعبير عنها عبر طبقات الأصوات ودرجات الصمت .. في الغناء والموسيقى..
وعليه نستنتج أن الطرب هو حال من أحوال النّفس يؤثر عند حدوثه على معظم حركات الجسد ،
حيث تصبح فيه لواعج الإنسان مترنّمة بخلَجات المشاعر و عبرات الوجدان المتنوعة ( تارة فرح، وتارة حزن، وتارة شوق).
وهو - أي الطرب - مزيةٌ وجدانيةٌ شرقيةٌ (عربية تركية فارسية و ...الخ ) وظاهرة وجدانية إنسانية معقدة ومميزة ، ولا منازعة عليها البتة - في تقديري - بين موهوبي التذوق الفني والموسيقي ابداً ..
للحديث بقية ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا


.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية




.. -صباح العربية- يلتقي نجوم الفيلم السعودي -شباب البومب- في عر


.. فنان يرسم صورة مذيعة -صباح العربية- بالفراولة




.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان