الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللامركزية المالية

أحمد إبريهي علي

2018 / 11 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


مقدمة:
راجع البحث الأسس النظرية لتقييم التحول نحو لامركزية اوسع في ضوء التجربة الدولية، لفهم الكيفيات التي تنتظم فيها اللامركزية المالية مع الأبعاد السياسية والأدارية. وينظر الى اللامركزية على انها درجة على مقياس متصل من دولة الحكومة الواحدة عالية التركز للسلطة المالية، والقيادة الأدارية، الى الفدرالية قوية المركز والأخرى غير المتمركزة. ولأن العراق محور الأهتمام، حاول البحث تسليط الضوء على اليات عمل النظام الحكومي في الدول عالية الدرجة من اللامركزية، ومحددات الأداء وبيان المتطلبات لتشكيل حكومات دون الوطنية، في العراق، يمكنها اداء الوظائف المنوطة بها في ظل النظام الجديد بشروط الكفاءة المعروفة.
ورغم ان تجربة دول منظمة التعاون الأقتصادي والتنمية كانت الأبرز في عرض وتحليل البيانات، لكن البلدان النامية والناهضة أخذت الحيز الأكبر في ملاحظة خلفيات نظامها الحكومي الحالي وتقسيم العمل بين الحكومة المركزية ومستويات الحكم الأخرى. ومع التنوع هناك الكثير من التماثل بين الدول ذات التعدد الأثني والديني ،والتي شهدت نزاعات وحروب داخلية، وفي موقفها من اللامركزية والفدرالية. وايضا، انتفع البحث من دراسات سابقة والأختبارات التجريبية لفرضيات شائعة حول علاقة اللامركزية بالنمو الأقتصادي، وتوزيع الدخل وتخفيف الفقر، والخدمات المقدمة للمجتماعت المحلية، والفساد المالي، وكذلك مدى اسهامها في معالجة النزاعات وإطفاء الحروب. والنتائج الأيحابية متوخاة في التصميم الجيد لعملية التحول، والبنية التي ستكون عليها الحكومات دون الوطنية، ومدى تكامل الجهاز البيروقراطي، وحضور وفاعلية الحكم المركزي الى جانب الحكم المحلي. كما لا يمكن اغفال دور المجتمع المدني واستعداده للرقابة والمساءلة، ونجاحه في توظيف الأنتخابات لمواصلة عملية الأصلاح والتطوير. ومن العناصر الأساسية المحددة لكفاءة اللامركزية تقسيم العمل بين مستويات الحكم حسب الأمكانات والمقتضيات الفنية، وعلى اساس خفض التكاليف لمجمل النظام الحكومي، كلها تساعد على رفع احتمالات النجاح والأزدهار.
ولا يخفى على ذوي الأختصاص والخبرة عدم توفر تقارير رسمية وبيانات نظامية كافية لدراسة واقع وآفاق اللامركزية المالية في العراق، وعبرقراءة قوانين الموازنة العامة وقانون المحافظات في تعديله الأخير، ومن خبرات العمل في الجهاز الحكومي، حاول البحث رسم ملامح ممكنة لعملية التحول في العراق، وبالقدر الذي يجعلها مفهومة بالمفردات المتعارف عليها لتحليل وتقييم الأنظمة الحكومية المعاصرة، وبالأخص في البعد المالي. وسوف يساعد الأسراع في استكمال وتطوير الأعداد المنتظم للبيانات الأدارية والمالية، وإصدرها في تقارير دورية على تنشيط البحث في هذا الميدان الحيوي، وانتزاعه من التصورات المسبقة نحو الوقائع والتحليل الموضوعي.
وليس القصد من هذه الورقة توثيق بنية وعمل النظام الحكومي المالي في العراق وبلدان المقارنة، او اقتراح تصميم بعينه لنظام مالي لامركزي بل الأسهام، قدر الأمكان، بتقديم معلومات وبعض التحليل ومعايير للتقييم قد تساعد في تنظيم عملية الأنتقال وإعادة تقسيم العمل بين الحكم المركزي والمستويات الحكومية الأخرى في العراق.

1. تفسير اللامركمزية المالية وتقييمها:
بعد الحرب العامية الثانية كان توجه دول العالم، متقدمة ونامية، نحو مركزية اشد، وربما جاء ذلك نتييجة الأهتمام بالوظيفة الأقتصادية للدولة، ومنها تسريع النمو والأستقرار على المستوى الكلي والتشغيل. ويتطلب اداء تلك الوظيفة دورا للحكومة على المستوى الوطني على درجة عالية من الأتساق وبادوات متاحة عادة عند المستوى المركزي، ومنها الضرائب وحجم الأنفاق الحكومي، والسياسة الكمركية، واسعار الفائدة وسواها. وفي الثمانينات اتجه الغرب نحو الليبرالية الأقتصادية الواسعة بعد موجة خصخصة منذ نهاية السبعينات. وإنهار الأتحاد السوفيتي مطلع التسعينات، واعتمدت الصين آليات اقتصاد السوق بقوة والتصنيع المعتمد على الصادرات الى الأسواق الكبرى في الدول المتقدمة وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى خلفية تزايد النزاعات الأثنية والدينية وما نتج عنها من عنف وخسائر بشرية واقتصادية لا يستهان بها اصبحت اللامركزية والفدرالية ضمن برامج الأصلاح وروجت لها المؤسسات الدولية ودول الغرب.
ولا شك ان دعم المؤسسات الدولية للتوجه نحو لامركزية اوسع له علاقة لا تخفى مع الليبرالية الأقتصادية بالأنسجام مع اعادة بناء وظيفي للحكومات. وتأكد فيما بعد انه مطلوب بذاته وبالتزامن مع تحول المؤسسات الدولية عن التنمية الأقتصادية، بعد انهيار الأتحاد السوفيتي، الى إهتمامات اخرى والتروج لها بقوة في الدول النامية. وفي هذا السياق برزت الأقلمة السياسية وزيادة ثقل الحكم المحلي مع الأشادة بالعولمة باشكال مختلفة، وفي هذه البيئة السياسية – الأيديولوجية انتعشت الهويات المحلية، وربما ظهرت اخرى الى الوجود السياسي لأول مرة وكانت قبل ذلك في نطاق ثقافي وربما مطلبي في الحقوق المدنية.
ووظفت الدعوة الى اللامركزية ادبيات نقد التجربة الحكومية في قيادة التنمية وما سمي الفشل الحكومي، وان حرية السوق هي البديل للخروج من المأزق الأقتصادي للدولة النامية، وذلك بتركيز النقد على الحكم المركزي. وانه لا يستطيع تخصيص الموارد بكفاءة وان الحكم اللامركزي اقدر على اداء المهام. وايضا ، يقال ان الحكم المحلي ضروري للديمقراطية التعددية إذ يُمأسس، سياسيا، مصالح المجموعات المتنافسة في صيغ ديمقراطية محلية. لكن نقل المهام الى المستويات دون المركز قد لا يأتي بنتائج ايجابية بمعايير التوزيع العادل للثروة والرفاه بل قد يلحق المزيد من الضرر بالضعفاء والفقراء، ومثل هذه المشكلات كافية لتبرير الأصرار على ضبط اللامركزية بمدى خدمتها لمصالح القاعدة الجماهيرية الواسعة في فرص عملها ومعيشتها ونفوذها في القرار.
ينظر الى اللامركزية من عدة ابعاد منها: عدد المستويات الحكومية، مناطقيا، بداية من الحكومة المركزية نزولا الى نهاية التسلسل الذي ينتهي عند موظف له صلاحيات ادارية، وتخصيصات مالية، ومجال جغرافي محدد وهو نطاق السلطة او المسؤولية. وتبعا لهذا المنطق مستويات الحكم في العراق اربعة: المركز ، والمحافظة ، والقضاء ، والناحية. وفي الصين ، على سبيل المثال خمسة مستويات. كما ينظر الى اللامركزية من جهة اتخاذ القرار، فعلى فرض اتخاذ كل القرارات في المركز تسمى الدولة مركزية قصوى، او بالعكس تتخذ عند ادنى مستوى حكومي توصف بلامركزية قصوى ، لكن في الواقع كلاهما لا يحصل بل لأيضاح المقصود بلامركزية القرار وقد يسمى النظام الحكومي مركزيا او لامركزيا ، بهذه الدرجة او تلك في كثيرمن الأحيان تخمينا لأنه لا توجد مسوحات دقيقية لآليات اتخاذ القرار في الدول ، ولذلك من الضروري التأني والتحفظ على تقييم النظم الحكومية حسب هذا المعيار. وايضا، هناك بعد آخر يتصل بالديمقراطية ويقاس بمدى اعتماد الأنتخاب في تشكيل مجالس ادارة او سلطة تشريع في مستويات الحكم دون المركز ، وهو المقصود باللامركزية السياسية. وكذلك ينظر الى اللامركزية من جهة سلطة التعيين، وكذلك بين حدين مثل ديمقراطية القرار ( 5-14 ، 12). والى جانب ما تقدم تبقى المقاييس الكمية اكثر موضوعية وتضمن الحياد ، وهي التي تسمح بمقارنات يعتد بها ومنها الحصص النسبية لمستويات الحكم من الأيرادات، والنفقات ، واعداد منتسبي الدولة،...، وغيرها.
واللامركزية، أوالفدرالية، المالية عنصر اساسي في عملية اللامركزة، لأن الحكومات دون المركز إن لم تكن لها ايرادات ذاتية وصلاحيات انفاق فهي، عمليا، جزء من الحكم المركزي الى حد كبير. لكن توزيع الايرادات والنفقات بين مستويات الحكم ليست مهمة سهلة. وهنا تثار مسألة الكفاءة إذ تقتضي وجود اجهزة بيروقراطية متكاملة الأختصاص والخبرة، بالأضافة الى وحدات الرقابة والتدقيق المتخصص، وقد لا تتوفر هذه الشروط للمستويات دون المركز او يمكن تشكيلها لكن بتكاليف باهضة، بسبب ما يسمى عدم القابلية للقسمة، وعلى وجه الخصوص في ادارة برامج الأستثمار.
ومن الصعب قبول درجة اعلى من اللامركزية دون رفع قدرة المركز على الضبط المالي لمجموع الحكومة وكل القطاع العام، والرقابة الكافية على اداء الحكم المحلي، وبخلافه تخرج اللامركزية عن نطاق العقلانية المتعارف عليها في المالية والأدارة.
ولذا، وعند دراسة تجارب الدول المتقدمة والعريقة باللامركزية والفدرالية، يلاحظ التفاوت بين درجات اللامركزية بين المهام والقطاعات ما يعني ان اللامركزية لا تكون بالمجمل ودفعة واحدة .
كما ان الأختلاف المحتمل في سياسات الحكومات دون المركز قد يؤدي الى ارباك اقتصادي ومالي ومنها، مثلا، نسب الضريبة والأعفاءآت، والتقييد او السماح لهذا النشاط او ذاك، ما يستوجب فرض ضوابط مركزية تضمن المصلحة الوطنية، وايقاء حضور وفاعلية المستوى المركزي بالتوازي مع جميع مستويات الأدارة.
ينطلق الدفاع عن اللامركزية المالية من مفهوم الكفاءة، وعلى انها تساعد في تعظيم الرفاه الأجتماعي وهو هدف الأنفاق العام. والفرضية التي يستند إليها ان السلع العامة Public Goods ليس لها سوق واسعار يعينها العرض والطلب، لذا فان التقييم يبقى ذاتيا ويعود الى افراد المجتمع انفسهم. والمجتمع الوطني كبير بطبيعته واكثر تنوعا ولذا تتباين تفضيلات الناس بشأن توزيع المهام بين القطاع الخاص والحكومي من جهة، وفيما يقدمه القطاع الحكومي من اصناف السلع والخدمات لدافعي الضرائب من جهة أخرى. واستنادا الى تلك المقدمة كلما كان المجتمع اصغرعددا ازداد احتمال تجانس التفضيلات وانسجام المالية العامة في تخصيصها للموارد مع تلك التفضيلات فتزداد فرص تعظيم الرفاه نزولا من المستوى المركزي الى المستويات الأدنى حتى اصغر وحدة مجتمعية يمكن استقلالها في الأدارة المالية( 6-7 PP، 13).
أي ان الحكم المحلي اعرف باحتياجات الناس واقدر على الاستجابة لها من الحكم المركزي، و يشجع الناس على الرقابة والمساءلة مما يساعد على تخصيص امثل للموارد لأرضائهم والفوز في الأنتخابات. كما ان محور الأهتمام في الأنتخابات المحلية هي ما تقدمه الحكومة من خدمات بينما على المستوى الوطني ، في رايهم ، تغلب مسائل اخرى على اهتمامات الناخبين.
ومن جهة اختلاف اولويات وسياسات الحكومات المحلية، يرى دعاة اللامركزية فيها ايجابيات لأنها تسمح بالأبتكار وتقدم للأفراد حرية اختيار مكان الأقامة الذي يناسبهم اكثر. وفي نفس الوقت يوسع الحكم المحلي، عبر تنوع السياسات، امكانية الأختيار وانتقال الناجح منها الى حكومات محلية اخرى بل وحتى على المستوى الوطني.
وتهتم المقاربات السياسية لمسائل اللامركزية والفدرالية بتوزيع النفوذ، والأستجابة لمطالب المجتمعات المحلية، وارضاء الجماعات الأثنية والدينية لتقبل البقاء في دولة واحدة مع مجموعة دينية او اثنية كبرى على المستوى الوطني، والتي تكون ثقافتها عادة غالبة ونفوذها اوسع في القرارات الحاسمة. وانها تقود الى توسيع المشاركة السياسية، والمساءلة، والكفاءة الأدارية والمالية. بينما المعارضون يرونها تؤدي الى موازنات مالية رخوة، وعدم استقرار اقتصادي كلي، إضافة على الزبائنية وتضخيم الجهاز البيروقراطي.
ولقد اعلنت العديد من الدول التوجه نحو اللامركزية وقد صدرت بالفعل تشريعات واعيد توزيع الصلاحيات، لكن التجربة بينت اختلافا كبيرا في النتائج الفعلية (2 P،5). و قد لا تكون اللامركزية بنفس الدرجة في ابعادها السياسية والمالية والأدارية، وهناك انطباع وحكم مسبق، بان اللامركزية تجعل الموظف المحلي اقوى، وهذا ليس صحيحا دائما، فمثلما تزداد صلاحيات المسؤول المحلي مع لامركزية اكبر يخسر نفوذ السلطة المركزية وامكانياتها السياسية الواسعة. وهذا صحيح في العراق، الى حد كبير، لأن القدرة على فرض القانون تتناقص مع الأبتعاد عن المركز وصولا الى اصغر مجتمع محلي ، حيث يتعاظم ضغط المصالح المنافية للقانون والثقافة والأوساط الأجتماعية المؤازرة لتلك المصالح.
بيد أن الفهم النظري، المجرد، لتقسيم العمل بين المركز والمستويات دون الوطنية يتغاضى عن مرحلة التطور الأقتصادي والأجتماعي، فثمة اسباب موضوعية للتمييز بين الدول النامية والمتقدمة في تقسيم العمل بين المركز وحكومات الأقاليم والمستويات الأدنى. ومن بين ما يثار ان المجتمعات المحلية لا تتاح لها المعلومات الكافية ولا تمتلك النفوذ السياسي لأجبار اصحاب القرار على حسن التصرف بالموارد. وقد يكون شاغلي المواقع الأدارية في المستويات دون المركز اكثر فسادا او يجدون انفسهم في اوضاع فاسدة. وعادة ما تكون مؤهلات البيروقراطية على المستوى المحلي ادنى منها في المركز، كما تفتقر الحكومات المحلية الى الأدارة المالية الجيدة. وقد تفقد الحكومة المركزية السيطرة على العجز مع لامركزية مالية واسعة، وفعلا لاحظنا ان جميع الولايات و الحكومات المحلية الأمريكية مدينة ونسبة الدين تتجاوز في اغلبها 100 بالمائة من ايراداتها السنوية، ومثل هذه المديونية تتجاوز قدرة البلدان النامية على تحملها بل تهدد كل النظام المالي بالأنهيار. ومما يذكر ان الحكومات المحلية في البلدان النامية تفتقر الى القدرة الأيرادية وصعوبة الأنفاع من الأسواق المالية على محدوديتها، وهذا صحيح تماما في العراق.
وهناك مسألة العدالة الأجتماعية فلو ان الحكم الأقليمي والمحلي، على سبيل الفرض، استقل تماما في الأقتصاد والمالية يتعمق تفاوت التطور وتوزيع الثروات والدخول ومستويات الرفاه بين مناطق البلد الواحد، ويبقى الحكم المركزي هو الأقدرعلى توجيه حركة الأقتصاد والتصرفات المالية نحو التكافؤ والتوزيع العادل لفرص الرفاه، ومواجهة هذا النوع من المشكلات وتدبير الموارد والتشريعات اللازمة لمعالجتها.
وان من شروط نجاح الحكم المحلي رسوخ تقاليد الثقافة المدنية والمؤسسات الرسمية الداعمة لسيادة القانون والنزاهة، وان لا تقع اللامركزية المالية في قبضة الزبائنية والشلل المتنفذة، وهذا عين الصواب في العراق. وعندما يراد ضمان الكفاءة الأقتصادية والمالية على المستوى الوطني انسجاما مع اهمية الأستقرار والتصنيع والنمو في البلدان النامية، فان تخلي المركز عن صلاحيات مالية وادارية يتطلب تطوير اجهزة الحكومة المركزية لتنسجم مع الوضع الجديد. أي استخدام اساليب ارفع، وبناء مهارات وانظمة معلومات للبيروقراطية المركزية، ومنظومة قيم تمكّن من الجمع بين التخلي عن الأدارة المباشرة وفي نفس الوقت القيادة والأشراف لضبط المركز المالي للقطاع العام بأكمله كي لا يتجاوز الحدود، والتدخل بالأدوات المناسبة لتندرج سياسات الحكومات المحلية بالمجرى العام للجهد التنموي.
دراسة اللامركزية المالية على المستوى التجريبي توصل الى استنتاج بانها ليست بذاتها ايجابية بل بكيفية تصميمها بعناية وتوفر شروط نجاحها وهي كثيرة ومنها ضمان المساءلة من المجتمع المحلي للسيلسيين المحليين وشاغلي مواقع المسؤولية. اما التواكل المتبادل بين المجتمع المحلي وحكومته في مكافحة الفساد فيؤدي الى نتاءئج سلبية، وعندما لا يعاقِب الناخب المحلي الهيئة السياسية هناك على تردي الكفاءة وعدم الأستجابة لأحتياجات الناس فقد تكون اللامركزية ضارة. اما حول علاقة اللامركزية المالية بالنمو الأقتصادي فالنتائج مختلطة عند النظر الى التجربة العالمية بأكملها قد يفهم أن اللامركزية تدعم النمو لكن على مستوى البلدان النامية لوحدها فالعكس ربما هو الصحيح.
ومرة اخرى ليس الحكم اللامركزي هو العلة في النجاح او الفشل بل الأسباب معروفة، والقصد من هذه المراجعات بيان صعوبة الجمع بين اللامركزية وتحقيق التحسين المطلوب في الأداء الحكومي وارضاء مطالب الناس في العمل والرفاه دون عناية فائقة لضبط العملية بأكملها ومن البداية على افضل وجه. وقد أظهرت التجارب ان الأحزاب الضعيفة من اسباب عدم ظهور النتائج الأيجابية المرجوة من اللامركزية، وفي هذا السياق ولسلبية المجتمع المحلي من جهة المساءلة والضغط بينت بعض التجارب ان التعيين المركزي للكادر الرئيسي في الحكم المحلي قد يكون اجدى لكن هذه الأطروحة تنقض اللامركزية السياسية. وفي مسألة الأيرادات كانت نتائج تقييم التجارب مختلطة ايضا فعندما يزداد اعتماد الحكم المحلي على ايرادات محلية وتندفع الحكومات هناك لزيادتها فوق حد معين تتكاثر وقائع الفساد. ومن جهة اخرى لوحط من تجربة روسيا ان تفويض الوحدات اللامركزية بصلاحيات اوسع في الأيرادات قلل من ايرادات الحكومة المركزية، وهو المتوقع، وفي نفس الوقت وبنفس المقدار انخفضت التحويلات المركزية اليها، وبالنتيجة لم تنتفع من تلك الصلاحيات الجديدة. وفي الدول التي تعتمد على الموارد الطبيعية يبدو ان ايجابيات اللامركزية المالية محدودة وذلك لغياب قاعدة ايرادات من غير الموارد الطبيعية التي يسيطر عليها عادة الحكم المركزي(2-4 PP ، 18).
كان يعول كثيرا على اللامركزية المالية لأنهاء التوتر بين المجموعات الأثنية – الدينية والحكومة المركزية واطفاء الحروب الداخلية. ولقد بينت اغلب الدراسات التي اعتمدت التحليل الكمي لعينات كبيرة من الدول والنزاعات انها اما ايجبية او ليس لها دور سلبي. لكن دراسة حديثة استخدمت بيانات للمجموعات السكانية على مستوى البلد الواحد، وميزت بين الأقليات والأكثريات على المستوى الوطني والمحلي، توصلت الى ان اثر اللامركزية المالية غير متجانس وسلبي على الأكثر (21-24 PP، 16). أي ان اللامركزية المالية قد تثير حفيظة الأقليات المحلية مثلما ان المركزية لا ترتضيها الأقليات على المستوى الوطني. وهناك راي خلاصته ان اللامركزية في الأيرادات تغذي نزعات الأنفصال، وتشجع المطالبة بخلق كيانات جديدة للأنتفاع من المزايا المفترضة للنظام الحكومي الجديد ... واجمالا تولد حركة ابتعاد عن المركز.
لقد جاء انهيار الشيوعية مع قوة التحول نحو اللامركزية، وقد شهدت دول اوربا الشرقية والوسطى تلك التجربة، مع انتقالها الى اقتصاد السوق، وفي بعضها لم تنتهي منها الى الآن. وهي تتفاوت في المدى الذي قطعته في التحول، فمثلا بلغت حصة الحكومات دون الوطنية 42 بالمائة من مجموع الأنفاق الحكومي في بيليروسيا وهي دولة متجانسة ولا تعاني مشكلات التعددية الأثنية، في حين لم تتجاوز في سلوفاكيا 6 بالمائة. وقد واجهت، تلك الدول، صعوبات جمة لتدبير مستلزمات الأنتقال في محاولة الوصول الى نجاح واضح. وتنتقد ، رغم الحماس في مغادرة النظام القديم، بعدم الوضوح في تقسيم المهام بين المستويات الحكومية، وفي حين اعطيت الحكومات دون الوطنية مسؤوليات اكبر بقيت ايراداتها الذاتية قليلة( 2-4 PP ،21). ويبدو ان الأعتماد على موارد محولة من المركز، او حصص من ضرائب الحكومة الأتحادية اضعف حوافز الحكومات دون الوطنية لأدارة الموارد بالكفاءة الأقتصادية المناسبة. وكانت اغلب الدراسات تعرض تصورات نظرية تفيد ارتباط اللامركزية المالية ايجابيا مع النمو الأقتصادي وتدلل على ذلك بتجارب دول اخذت باللامركزية المالية. وفي السنوات الأخيرة تزايدت الدراسات التي بينت العكس مع الأشارة الى ان العلاقة الأيجابية تحققت في دول متقدمة. ثم برز تفسير آخر لدى المتابعين ومن المؤيدين للتحول اللامركزي مفاده:ان العبرة ليست في تصميم اللامركزية المالية انما بالفاعلية القوية للمؤسسات الحكومية بصفة عامة، بمعنى عدم قدرة اللامركزية على ازالة اسباب الفشل من مجموع النظام الحكومي أي تحميل تبعات الفشل على التخلف.
وفي دراسة علاقة اللامركزية المالية بالنمو الأقتصادي في بلدان اوروبا الوسطى والشرقية، وبعد عزل اثر العوامل المسؤولة عادة عن النمو الأقتصادية ، مثل متوسط الناتج المحلي للفرد في الوضع الأبتدائي، ونسبة الأستثمار الى الناتج المحلي الأجمالي، وحجم السكان ، ومتغيرات اخرى، تبين ان علاقة اللامركزية المالية مع النمو الأقتصادي سلبية( 20-31 PP،21). وكان التفسير الذي تبناه الباحثون ان السبب يكمن في نقص الأيرادات الذاتية للحكومات دون الوطنية ، لكن المسألة تنتظر المزيد من التحقيق.
2 . النظام الحكومي و تجارب التحول نحواللامركزية المالية:
2 . 1 . اللامركزية في تعدد مستويات النظام الحكومي:
يمكن القول بعدم وجود دولة وحيدة السلطة، او دولة الحكومة الواحدة في الواقع بل هو مفهوم لم يعرّف اجرائيا على نحو حاسم، الى جانب عدم القطع في مفهوم الفدرالية، وعلى سبيل المثال اسبانيا تسمى في بعض الوثائق والدراسات فدرالية وفي اخرى تصنف من دول الحكومة الواحدة. كما ان المانيا وهي فدرالية رسميا ولم يُختلف بشأن هوية نظامها السياسي من هذا الجانب، ومع ذلك يوصف نظامها المالي، احيانا، بانه فدرالي ممركز تمييزا له عن سويسرا الذي يسمى فدرالي لامركزي Decentralized Federal. وفرنسا نظامها الحكومي أحادي، واحدي، وبريطانيا أحادي مناطقي أو مؤقلمRegionalized Unitary ، واسبانيا احادي لامركزي، واحيانا توصف اسبانيا وهولندا والسويد شبه فدرالية، والمانيا والولايات المتحدة فدراليات ليست نقية رغم انها فدراليات في نظامها الحكومي رسميا وفعليا ( 9 P ،8).
هذا في البعد المالي اما في الأبعاد الأدارية والسياسية فقد لا تكون بنفس المسافة عن المركزية او الفدرالية القصوى. ولا يقتصر عدم التحديد على اللامركزية بل ان تصنيف الدول الى فدرالية او غير ذلك قد يبدو تحكميا في بعض الحالات، وكذلك دول الحكومة الواحدة مجموعة ليست متجانسة. وقد يعبّر التردد او عدم التحديد عن واقع اختلاف الدول عند النظر في آليات عمل جهازها الحكومي، وبنية توزيع المهام والصلاحيات التي تفصح عنها البيانات، وهذه من نتائج اختلاف التكوين التاريخي للدول وخضم النزاعات والتسويات التي اوصلها الى ما اصبحت عليه.
تقوم الفدرالية تقوم على ثنائية او تعدد السيادة بين الحكومة المركزية والحكومات دون الوطنية، وتوزع الأختصاصات التشريعية بين كل من برلمان الأتحاد والمجالس التشريعية للكيانات الأخرى في الدستور الأتحادي. وعادة تكون شؤون الدفاع، والعلاقات الخارجية والأتفاقيات الدولية، وتنظيم التجارة العابرة للحدود والكمارك، والنقد والمصارف للسلطات الأتحادية، ولا تقتصر على هذه الأختصاصات، بل الضمان الأجتماعي واعانات البطالة، والقانون العقابي قد تختص به ايضا للسلطات الأتحادية كما هو الحال في كندا. وفي الفدرالية تستخدم مفردة السلطة المتبقية Residual Power والتي تعني ان المهمات غير المنصوص بها للأقاليم تكون للحكومة المركزية (6 P ، 4). والدستور الكندي يجيز للبرلمان الأتحادي ابطال قانون يشرع من الولاية لكن هذه الصلاحية لم يستخدمها البرلمان منذ مدة طويلة. وايضا يجيز الدستور اعلان بعض الأعمال في البناء التحتي وما الى ذلك بانها ذات مصلحة عامة، بمعنى انها ضرورية للدولة، ولذلك تتدخل السلطات الأتحادية في تنظيمها. ولتعديل الدستور في كندا يتطلب الأمر موافقة ثلثي الهيئات التشريعية على مستوى الولايات ويمثلون على الأقل نصف سكان جميع الولايات. ويحسم القضاء في نزاع الصلاحيات بين الأتحاد والولاية حسب مسؤولية الجهة عن العنصر الاكثر اهمية في موضوع الخلاف.
في الدول الفدرالية لا تتماثل التغطية الدستورية للأدارة المالية سواء في صلاحيات الأنفاق او الأيرادات بما فيها الضرائب. ومن النادر، عمليا، ان تكون الفدرالية في الجانب المالي ثنائية تامة Dual Federalism حيث تقسم السلطة بوضوح تام وفصل لا يسمح بالتداخل . وربما الأكثر شيوعا الفدرالية التعاونية والتي معها يبقى التفاعل والتشاور مع تشارك عمودي في الدور والمسؤولية، أي لا ينقطع حضور الحكم المركزي وقراره عند مستوى معين . وهناك حالات من عدم الوضوح والتداخل المستمر، والذي ينطوي على تبذير في الموارد وضياع فرص ولذلك تسمى هذه الفدرالية تنافسية، بالمضمون السلبي، واحيانا تمتدح إذ تساعد على الأبتكار في السياسات. وقد تحتفظ السلطات الفدرالية بالمسؤوليات وسلطة القرار في مسائل معينة ثم توكل المهمات التنفيذية للمستويات الأقليمية والمحلية ولذلك تسمى هذه الفدرالية تنفيذية ( 10P ، 8). والأصناف، تلك، ليست بالضرورة للدول بل لجوانب من الفدرالية فقد تكون ثنائية في مجموعة من الأنشطة لكنها تنفيذية في اخرى، وعلى سبيل المثال ورغم الدرجة العالية للفدرالية في سويسرا لكنها تنفيذية في مسائل معينة ينظمها القانون الأتحادي وتنفذ لامركزيا.
وثمة مبادئ لا بد ان تحترم وقواعد معروفة ضرورية لعمل الدول وادائها لوظائفها فالدولة منظومة من الآليات لتنظيم الحياة الأقتصادية والأجتماعية وحفظ امن الناس وحقوقهم . وفي العراق و اغلب بلدان العالم تتحمل مسؤولية التنمية وضمان اللحاق بالعالم المتقدم، وتبعا لذلك يخضع توزيع الصلاحيات الى تقيمم العوائد والتكاليف .
ومن الممكن الوصول الى درجة اعلى من اللامركزية بوسائل وسياقات سياسية مختلفة بهذا القدر او ذاك وللتبسيط ، يجري التمييز بين الحركة من اعلى او من المستوى المحلي في عملية اللامركزة، او اعادة توزيع المهام والنفوذ نحو الوحدات دون الوطنية.، ولكل من الطريقين مزايا ومثالب حسب معيار التقييم. لكن عموما وعندما تكون الأمكانات المحلية دون المستوى الكافي لبناء جهاز بيروقراطي فعال تصبح قيادة الحكم المركزي للتحولات ضامنة للتمكين . وفي كثير من الدول طرحت اللامركزية، والفدرالية، حلا دستوريا لخفض النزاع وبناء السلام ، ومنها سريلانكا والسودان، قبل انفصال الجنوب والآن ، والعراق ودول اخرى في المنطقة وخارجها. والنظرية التشاركية ، التوافقية، Consociational للديمقراطية تقوم على فرضية ان اقامة نظام حكم لامركزي، وخاصة بدستور فدرالي، يدعم الأستقرار في دول التعدد القومي والديني
من الأفضل النظر الى اللامركزية بكونها عملية Process وليست صفة، كما انها قد تبدا في ظل حكم تسلطي او تمثيلي، وهي ليست مرادفة ولا مرتبطة بالتحول الديمقراطي بالضرورة. لكن المركزية اكثر انسجاما مع الدولة التنموية، في حين اقترن التوجه نحو اللامركزية في دول امريكا اللاتينية بتخلي الدولة عن مهامها التنموية التقليدية نحو الخصخصة والليبرالية ( 3 P ،5). تقود الفدرالية واللامركزية نحو تقاسم عمودي للنفوذ والدور عبر نظام حكم متعددالمستويات، وأحيانا يسمح للجماعة الأثنية أوالدينية تأكيد هويتها الثقافية ووجودها السياسي وخدمة مصالحها، ضمن نطاق جغرافي اداري تستقل فيه عن نفوذ الأكثرية على المستوى الوطني. خاصة وان الأبحاث التي تناولت الحروب الداخلية في العالم باساليب التحليل الكمي والأختبار التجريبي بينت ان الأستقطاب الأثني - الديني من اسباب العنف. كما ان المظلومية ليست هي السبب الأرجح للحروب الأهلية، انما تستثمر في النزاع على السلطة والثروة بعلاقة طردية مع ضعف الحكومة المركزية وتوفر وسائل تمويل الحروب، والأنتفاع منها، والعدوى الأقليمية والدعم الخارجي للأطراف المتنازعة.
تتضمن عملية اللامركزية الأدارية، في تجارب بعض الدول نقل ادارة وتجهيز خدمات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية ... وغيرها الى المستويات دون المركزية. اما اللامركزية المالية فتتضمن زيادة قدرة الأدارات المناطقية، والأدارات المحلية، على تحصيل ايرادات من ضرائب ورسوم وتراخيص او بالأنتفاع من اراضي الدولة، وايضا زيادة التحويلات من المركز وتوسيع صلاحيات الأنفاق. واللامركزية المالية تدعم الأستقلال الأداري للمستويات دون المركزية ، خاصة اذا استندت الى موارد ذاتية، لكن اللامركزية المالية تتطلب قدر من الأستقلال الأداري لكن العكس غير صحيح.
اما اللامركزية السياسية فمن عناصرها الأساسية تكوين مجالس منتخبة في المناطق والبلديات، وهذه تتولى تعيين القادة الأداريين هناك، ومن امثلتها في العراق مجالس المحافظات وصلاحيات ادارة المحافظة. وعادة تتحاشى الدول الأستجابة لمطالب اللامركزية السياسية، إلا اضطرارا، وتتمنع عن زيادة اللامركزية المالية، ولا تمانع كثيرا في تحويل صلاحيات ادارية اوسع للمستويات الأقليمية والمحلية. ومن مبررات اللامركزية والفدرالية بصفتها لامركزية قصوى انها مناسبة للمجموعات السكانية من غير الأكثرية على المستوى الوطني. إذ تتيح لتلك المجموعات ان تكون اكثريات في كيانات حكومية بصلاحيات كافية لحمايتها من هيمنة المجموعة الأكبر.
ولقد اهتمت العديد من دول العالم باللامركزية في الربع الأخير من القرن العشرين والى يومنا هذا لازالت من مواضيع البحث في السياسة والأقتصاد والأدارة والقانون. وتتصل هذه المفردة بالعديد من الأبعاد المؤسسية ومتداخلة مع اللامركزية او الفدرالية المالية وكلاهما يُستخدم للدلالة على درجات مختلفة من توزيع الأيرادات والنفقات وصلاحيات الأدارة المالية بين مستويات النظام الحكومي.
وفي كثير من الدول طرحت اللامركزية، والفدرالية، حلا دستوريا لخفض النزاع وبناء السلام ، ومنها سريلانكا والسودان، والعراق ودول اخرى في المنطقة وخارجها. والنظرية التشاركية، التوافقية، Consociational للديمقراطية تقوم على فرضية ان اقامة نظام حكم لامركزي، وخاصة بدستور فدرالي، يدعم الأستقرار في دول التعدد القومي والديني
لكن الديمقراطية الليبرالية ومع درجة عالية من اللامركزية قد لا تكفي لتعويض الجماعات الأثنية والدينية عن طلب الأستقلال مثل حالة سكوتلاندا. وحتى الفدرالية قد لا تقدم حلا شافيا للمشكلة بدليل الباسك في اسبانيا، وكويبك قبل ذلك في كندا، كما ن الفدرالية كانت في يوغوسلافيا قبل الحرب الأهلية والتي انتهت الى تفتتها، وفي تجربة العراق ايضا عرض دستور عام 2005 الفدرالية على الأقليم بديلا عن الأستقلال ورُفضت حتى قبل ان تجرب ولا زالت مرفوضة.
ويشار في احد الأبحاث الى تحليل بيانات عن اللامركزية في 68 دولة منها 44 احادية الدستور وثمانية هجينة و15 فدرالية، ووجد ان اللامركزية تتدرج في الدستور الأحادي من الأدارية الى السياسية واخيرا المالية؛ وفي الدستور الهجين من السياسية الى الأدارية ثم اخيرا المالية؛ وفي النظم الفدرالية من السياسية الى المالية ثم الأدارية ( 24-25 PP ، 11 ). والمقصود باللامركزية السياسية وجود سلطات تشريعية منتخبة على مستوى الأقليم والمستويات الأدنى أي التمثيل والمشاركة، اما الأدارية فتنصرف الى صلاحيات السلطة التنفيذية، وتعرف اللامركزية المالية عادة بحصص الأقاليم والتشكيلات دون الوطنية Sub National Governments (SNGs) من الأنفاق والأيراد للحكومة العامة والتعبير الأخير يقصد منه كافة الحكومات من المركزية الى ادنى المستويات المحلية. وفي نفس المصدر من مجموع 191 دولة صنفت 25 منها فدرالية و22 هجينة و144 دولة بدستور احادي. وبين 1980 واواخر التسعينات ازدادات حصة الحكومات دون المركز من الأيرادات والنفقات من 15 بالمائة و20 بالمائة الى 19 بالمائة و 25 بالمائة على التوالي، واستمر اتساع اللامركزية المالية كما سيتضح.
العلاقة بين الديمقراطية والفدرالية معقدة ويبدو ان حبس الأستقلال الذاتي للمناطق والحكم المحلي ضمن تعريف بعينه للديمقراطية ينطوي على فرض وصاية ايديولوجية على المفهوم.
وبقيت الدول العربية وتركيا وايران كلها وحيدة الحكومة واللامركزية فيها محدودة، باستثناء الأمارات العربية لنشأتها، والحكم المحلي في دول المنطقة العربية اقرب ما يكون الى الوكيل التنفيذي للحكومة المركزية، ومصر من امثلتها الواضحة، ويعيَّن رؤساء الحكومات المحلية مركزيا، وحتى في حالة وجود هيئات منتخبة يقتصر دورها على المشورة والمراقبة.
في تركيا على سبيل المثال وهي الأكثر تطورا في الصناعة والناتج المحلي للفرد، باستثناء النفط ،بقيت نسبة الانفاق المدار من الحكومات دون الوطنية واطئة، وحسب احدث البيانات وصلت 10.7 بالمائة من مجموع الأنفاق الحكومي وهو في نطاق ربع المتوسط لدول منظة التعاون الأقتصادي والتنمية التي تنتمي اليها تركيا. وحصة الحكومات دون المركزية من مجموع الأيرادات 11.6 بالمائة، وهي متناسبة مع دورها الأنفاقي، وفي المجال الضريبي قليلة جدا إذ كانت حصتها من مجموع الضرائب 2.6 بالمائة. وتحفظ دول المنطقة التي ينتمي اليها العراق عن مسايرة التحول نحو لامركزية اوسع يستند الى اسباب موضوعية لا يمكن تجاهلها، و ينتفع العراق من استحضار تلك الأسباب في عقلنة عملية التحول وضبطها.
2 . 2 . تجارب في اللامركزية المالية والأنتقال الى مزيد منها:
لقد تباينت دوافع هذا التوجه بين دول ومناطق العالم: احيانا تُقترح لمعالجة عدم كفاءة الأدارة الحكومية، والأخفاقات الأقتصادية، وتفاوت التصنيع والنمو والرفاه بين مناطق البلد الواحد.
في دول الأتحاد السوفيتي السابق وشرق اوربا، مثلا، جاءت الدعوة الى اللامركزية في سياق تغير النظام الأقتصادي والتحول السياسي، وفي افريقيا لمعالجة النزاعات الأثنية والعشائرية، بينما في امريكا اللاتينية كانت الدوافع مختلطة بين الديمقراطية والليبرالية الأقتصادية. ومثلما تطرح اللامركزية ضمن برامج الأصلاح، ايضا هناك تساؤلات حول اخفاقها في معالجة مشكلات سياسية، او حتى الحفاظ على وحدة الدولة عند اشتداد الأستقطاب الديني والأثني ومنها يوغسلافيا وغيرها.
في افريقيا، على تفاوت دولها في الحجوم السكانية والجغرافية، جاءت التحولات نحو اللامركزية بعد نزاعات وحروب داخلية واختلفت في تصميم النظام اللامركزي للوقاية من النزعات الأنفصالية. وعلى سبيل المثال اختارت جنوب افريقيا واثيوبيا كلاهما درجة عالية من اللامركزية قوية المركز. واعتمدت اثيوبيا فدرالية التقسيم الأثني لمناطق الحكومات دون الوطنية، لكن جنوب افريقيا حاولت تحاشي تكريس الهويات الأثنية في مناطق الحكم، وتعمّدت استقلال المستوى المحلي للحكم عن الولايات، ونجحت في صناعة هذا التوازن، ويوصف نظامها بدولة الحكومة الواحدة المناطقية او المؤقلمة Regionalized Unitary Government. وفي الجانب المالي كلاهما بلغ درجة عالية من اللامركزية بين 45 بالمائة في الأولى و50 بالمائة في الثانية من مجموع الأنفاق الحكومي، رغم التباين الواسع بينهما في الأمكانية الأقتصادية بدلالة متوسط الناتج المحلي للفرد. وتدار انشطة التعليم والصحة وخدمات المدن، هناك، من الحكومات دون الوطنية SNGs مع ملاحظة سعة البلدين وحجمهما السكاني.
وفي نايجيريا مثلا اختلطت اللامركزية المالية فيها مع تقسيم عوائد النفط بين المركز والمناطق المنتجة. وعموما يزداد اعتماد اللامركزية المالية في افريقيا على تحويلات من الحكومة المركزية كلما كان حجم الدولة اصغر وأفقر. وعندما تحولت دول الى اللامركزية، مثل اوغندا، جاءت النتائج متواضعة واستمرت الهيمنة المالية للمركز، ونجد عند تحليل الأخفاق الى مصادره انها جميع عوامل التخلف مضافا اليها الأمكانات الفقيرة للمجتمعات المحلية في متطلبات الحكم الذاتي.
يتألف النظام الحكومي في البرازيل، بعد المستوى الأتحادي، من 26 ولاية ومقاطعة وللعاصمة صفة الولاية والبلدية في آن واحد، ودون حكومات الولايات 5507 بلدية ، كما كانت نهاية التسعينات. وتعين حدود الولايات مركزيا ولها صلاحية ترسيم حدود الكيانات التابعة لها وبموافقة السكان في كلا الحالتين. واهتمت دساتير 1966 و1988 بتوسيع اللامركزية المالية عبر تمكين الولايات والبلديات من موارد ضريبية خاصة بها . بيد ان الحكم المركزي بقي يستأثر بثلثي الأيرادات الضريبية، ويشرك الحكومات دون المركز بحصص من الضرائب الوطنية حتى اصبحت حصتها نهاية التسعينات 54.4 بالمائة من مجموع الضرائب ( 15-21 PP ، 13 ).
وفي الصين حدد الدستور ايضا مستويين للحكم بعد المركز: حكومات الأقاليم بعدد 32، منها خمس مناطق مستقلة ذاتيا واربعة مدن بضواحيها Metropolitan Cities ،وبعدها العديد من المحافظات والبلديات. و تعود بداية النظام الضريبي الحالي إلى اصلاحات الثمانينات، ثم قانون الأصلاح الضريبي لعام 1994 والذي استبدل حصة الحكومة من ارباح المنشآت الأقتصادية الحكومية الى ضريبة، وتبنى المزيد من اللامركزية المالية في جانب النفقات، و اعتنى النظام الجديد بتقسيم الأيرادات على المستويات الثلاث للحكم مع ان السلطة الأساسية بقيت بيد المركز، بل يوصف القانون من وجهة نظر البعض " اعادة المركزة" . وتأتي الأيرادات الذاتية لحكومات الاقاليم من ضريبة الدخل على المنشآت التابعة لتلك الحكومات وشركات القطاع الخاص، وضرائب الدخل الشخصي، وضرائب على الأعمال المالية والسكك، وضرائب على استخدامات الأرض ورسوم الطابع، ورسوم اجازات البناء ، وايضا تستلم حكومات الأقاليم 25 بالمائة من ضريبة القيمة المضافة المركزية. والحكومات دون الأقليم لها بعض الضرائب على المنشآت الأقتصادية ومصادر قليلة اخرى لكنها تستلم حصة من ايرادات الأقليم ( المصدر نفسه).
وبعد عام 1994 اتسعت اللامركزية الأدارية كثيرا بالأمر الوقع، ومع مزاولة الحكومات المحلية دورها على سعته لم تعد صلاحياتها الضريبية كافية لتحصيل الأيرادات المناسبة للأنفاق فنشأت في الصين ظاهرة الأيرادات غير الضريبية لحكومات الأقاليم والمستوىات الأدنى. فقد ازداد الأيراد غير الضريبي للحكم المحلي، حكومات دون المركز، 33 مرة عند مقارنة عام 2007 بعام 1993 ونسبة الى الناتج المحلي الأجمالي من 3.4 بالمائة عام 1993 الى 10.2 بالمائة عام 2010 .
وتفيد هذه المؤشرات ان الحكم المحلي عندما لا يجد القانون يساعده في تحصيل موارد ضريبية اكبر يلجأ الى صلاحياته الأدارية للوصول الى موارد ليست ضريبية. ويظهر ان اللامركزية المالية في الصين وخاصة في توسع الحكم المحلي بتحصيل ايرادات عبر بيع الأراضي ورسوم على الطرق وسواها من غير الضرائب قد اثار القلق، وبين الحاجة الى تطوير ادوات السيطرة المالية والرقابة المركزية على التصرفات المالية للحكم المحلي. وربما تفضي هذه التجربة الى تطوير النظام المالي في الدول الناهضة نحو ارساء ضوابط صارمة للأستقرار بما في ذلك منع الأعتماد على مصادر من خارج الموازنات وتقييد الصلاحيات المالية للأدارة التنفيذية بموجب خطط للأنفاق (186-187 PP ، 14).
والصين معروفة في الأيراد من خارج الموازنة والذي كان نهاية التسعينات حوالي 30 بالمائة من مجموع الأيراد وما يزيد على 90 بالمائة منه للحكومات المحلية. ويستنتج مما يكتب حول تقييم التجربة ان المركزية تبقى قوية في الصين مثل بقية دول آسيا التي تتحاشى التفريط بقوتها التي تراها اساس وحدتها ونجاحها الأقتصادي، رغم اشادة الخطاب الصيني باللامركزية والأنفتاح.
ومع تلك الملاحظات ينظر الى اللامركزية الأدارية والمالية في الصين بأنها من الأسباب الرئيسية لنجاحها الأقتصادي مقارنة مع الدول الأشتراكية السابقة وخاصة روسيا، وارى ان كان هذا التشخيص واقعيا فالعلة ليست في اللامركزية بذاتها فهي في روسيا كانت في التسعينات اعلى منها في الصين. بل ان قوة التحول في الصين مع ألأنفتاح واستراتيجية النمو بالأعتماد على الصادرات الصناعية مع مستويات اجور منخفضة وانماط استهلاك متقشفة تضافرت لصناعة ما يمكن تسميته، مجازا، الكتلة الحرجة، فأحدثت الدفعة القوية الأولى ومقومات استمرارها.
إتخذت الهند، واستنادا الى التعديل الدستوري لعام 1993 ، اجرءآت لزيادة اللامركزية واستحداث المستوى الحكومي الثالث سياسيا ( يعادل المحافظات في العراق)، واعطى التعديل الدستوري قدرا واسعا من الأستقلال لحكومات الولايات، الأقاليم، في تفسير وتنفيذ التعديل الدستوري. وكشف التعديل في وقته عن عدم تأكد والتباس حول السلطة السياسية والمالية للمستوى الثالث، و صدرفي عام 1996 قانون لتوسيح الحكم الذاتي نزولا ليشمل المجتمعات العشائرية ( 1 P ، 15).
وتطورت اللامركزية في الهند خلال تاريخ طويل بدايته عام 1882 في ظل الحكم البريطاني عندما صدر قرار الحكم الذاتي، وفي عام 1907 تشكلت اللجنة الملكية حول اللامركزية، وفي عام 1948 نوقش الحكم المحلي وادارة المستوى الثالث بإفاضة، ...، والى الوقت الحاضر.
وفي تقييم تجربة الهند، على المستوى الحكومي الثالث، وجد ان اللامركزية السياسية في مستوى رفيع من جهة المشاركة في الانتخابات وتمثيل النساء والفقراء ...، لكنها في الأدارة والمالية ضعيفة. إذ بقيت حكومات الولايات تستأثر بالصلاحيات المالية واالأدارية التنفيذية، بما فيها سحب او تنسيب المهام. وتفتقر حكومات المستوى الثالث الى سلطة الأنفاق واعداد الموازنات المالية، اضافة الى عدم الوضوح في تقسيم العمل بين المستوى الثالث وحكومات الولايات.
عندما تكون القدرة الأيرادية للمستويات دون المركزية واطئة سوف تعتمد فاعلية الحكومات المحلية على التحويلات المالية المركزية للأنتفاع من صلاحياتها الأدارية، وهو واقع الحال في العراق. وهنا تثار مسألة معايير توزيع الموارد المركزية للمستويات دون المركز. وقد كان الأعتماد على الحجم السكاني النسبي موضع انتقاد في بلاد اخرى. ومن جملة المؤاخذات على اللامركزية في باكستان ان الحكم المركزي يتردد عن تفويض مزيد من الصلاحيات الضريبية للمستويات دون المركز ، وبذلك تفتقر الأقاليم الى حوافز تنمية الأيرادات الذاتية ويزداد اعتمادها على المركز مع الزمن.
وفي نفس الوقت يقتصر تحويل الموارد المالية من المركز، الى حكومات الأقاليم، على معيار السكان، والذي قد يرجّح على اساس عدم التمييز بين مواطني البلد الواحد في الأنتفاع من الموارد الوطنية. لكن في نفس الوقت يعطل وظيفة الحكومة المركزية في معالجة مشكلة تفاوت التطور ومستويات الرفاه وربما حتى الدور التنموي عند عدم كفاية الموارد المحولة لأيصال المنطقة الى عتبة الأنطلاق لقصور شديد في البناء التحتي ، او شحة الموارد الطبيعية، او ضعف المزايا الجاذبة لللأستثمار وغيرها ( 433- 434PP ، 17).
في المانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال جاء النظام الفدرالي حصيلة التئام كيانات كانت مستقلة لتشكل دولة اختارت الصيغة الأتحادية، وليس تحول دولة الحكومة الواحدة الى النظام الفدرالي. المانيا مثلا كانت جغرافية توزعت بين العديد من الأمارات والممالك، الصغيرة والكبيرة، ثم اتجهت نحو التوحيد منذ منتصف القرن التاسع عشر، والخطوة الكبرى نحو الأتحاد في عام 1871 بعد حربها مع فرنسا. ويتألف الأتحاد الألماني من 16 ولاية. وفي المانيا الدور الأكبر في التشريع للأتحاد والأولوية للقوانين الأتحادية عند التزاحم، وتوصف الفدرالية الألمانية انها تعاونية، الى جانب تماثل القوانين على مستوى الولايات (14 P ، 4). والمقارنة بين المانيا وكندا تفيد الأختلاف في درجة استقلال الولاية عن سلطة الأتحاد، وهي في كندا اوسع بكثير مما في المانيا، والسياق التاريخي لتكوين الدول يفسر تباينها في مضامين النظام الواحد.
وتحولت اسبانيا الى الفدرالية عام 1978 واستحدثت حكومات المناطق مع عودة الديمقراطية، ومع التحول إنخفضت حصة الأنفاق المركزي الى 60.5 بالمائة عام 2001 عن 89.5 بالمائة عام 1980، لكن الأيرادات المركزية بقية مرتفعة بنسبة 78.5 بالمائة، ما يفيد ان الفدرالية المالية والمقصود بها درجة عالية من اللامركزية المالية، تتشكل في النهائية حسب ما تسمح به بنية الأقتصاد والشروط الموضوعيةواعتبارات الكفاءة لتقسيم مهام الأنفاق والأيرادات بين المركز والحكومات دون الوطنية SNGs ، ولم يظهر ان التحول كان سلبيا على النمو الأقتصادي بالمجمل لكن فاعليته اختلفت بين مستوى المحافظات والمناطق.
اختارت الفلبين نهاية الثمانينات التحول نحو نظام اكثر لا مركزية، بعد تاريخ طويل من تقاليد الحكم المركزي، لمعالجة مشكلات عدم التكافؤ التنموي بين المناطق والعنف السياسي. و يشار لتبرير ذلك التوجه الى الجغرافية وكونها من جزر عدة، وتكاليف النقل وصعوبة التواصل مع المناطق البعيدة عن العاصمة، ولأحتواء الحركة الأنفصالية ومراعاة التنوع الثقافي هناك ... وفي جنوب شرق آسيا آنذاك اكتسبت اللامركزية نفوذا في الراي العام وبرامج الأصلاح. وعلى ان اللامركزية تساعد على تحسين ايصال الخدمات الحكومية ودعم مبدأ الحكم التشاركي والذي عبر عنه قانون الحكم المحلي في الفلبين عام 1991 (1 P ، 9). وقبل ذلك في عام 1959 اتخذت خطوات نحو اللامركزية في الفلبين مع صدور قانون الحكم الذاتي المحلي واعادة تنظيم حكومات المقاطعات، ومنحت البلديات صلاحيات مالية بما فيها تحصيل ضرائب ضمن القوانين الوطنية، الى جانب دور اوسع في التخطيط واصدار لوائح تنظيمية، وفي هذا الأتجاه صدر قانون اللامركزية عام 1967 لزيادة الموارد المالية للحكومات المحلية، وفي عام 1972 تراجعت اللامركزية والغي نظام الأنتخابات المحلية، وصار التعيين لشغل مواقع المسؤولية في الحكم المحلي مركزيا، وفيما بعد اعيدت الترتيبات السابقة لأنقلاب عام 1972 . وفي عام 1985 وبعد انقلاب ، ايضا، اعيد اشراف رئيس الجمهورية على الحكم المحلي و في عام 1987 ومع اعادة صياغة الدستور اكدت مواده بنصوص صريحة ان تضمن الدولة الأستقلال الذاتي للحكومات المحلية، وان يصدر قانون ينظم شؤون الحكم المحلي، بما في ذلك التعيين والعزل والأنتخابات والمساءلة والموارد، في سياق لامركزية واضحة . ... وهكذا. ويفهم من تلك التجربة ان تنمية دور التشكيلات الأقليمية والمحلية في الأدارة والمالية الحكومية تجري ببطء، ولا يفسر هذا المنحى الا بالخوف من تخلخل النظام وفقدان السيطرة.

الهند دولة فدرالية وديمقراطية كبيرة، استثنائية في حجمها السكاني وتنوعها اللغوي والديني، وفي نفس الوقت حافظت على قدر من المركزية ربما وجدته ضروريا لفاعلية مجموع نظامها الحكومي لمواصلة التنمية والتماسك. وباكستان دولة فدرالية بنموذج آسيوي آخر بدرجة ادنى في اللامركزية والديمقراطية وشهدت اضطرابات في تاريخها السياسي وانقلابات. وماليزيا ايضا فدرالية وتوصف من البعض بانها شبه ديمقراطية وفدراليتها بالحد الأدنى من اللامركزية وهي متعددة اثنيا ودينيا، وفدراليتها تستند الى تاريخ طويل من وجود كيانات مستقلة منذ مطلع القرن السابع عشر، وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهرت اول صيغة رسمية لتنظيم دولة على اساس فيدرالي في ظل الأستعمار البريطاني. وبعد الحرب العالمية الثانية اخذت دولتها الحالية في الظهور وكانت سنغافورة جزءا منها قبل ان تنفصل في دولة مدينة مستقلة بمستوى واحد من الحكم، أي نموذج على النقيض تماما من الفدرالية بحكم الجغرافية.
وينظر الى اليابان مفارقا لأسيا في المستوى الرفيع لديمقراطيته الدستورية وضمن دول الحكومة الواحدة اعتاد على درجة واسعة من اللامركزية بحيث تجعله اقرب الى نظام شبه فدرالي. اما الصين ، وربما من زاوية اقتصادية على الأقل، قد توصف دولة الحكومة الواحدة المؤقلمة مثل دول اخرى بهذه الصفة ومنها جنوب افريقيا، او فدرالية الأمر الواقع Federalism De Facto اضافة على احتوائها هونك كونك مستقلة وبنظام مختلف.
وثمة قناعة تولدت لدى دارسي التجربة الآسيوية ان الفدرالية هناك لا تحاول عن عمد الأقتراب من النموذج الغربي، بل ربما تتشكل ترتيبات شبه فدرالية او هجينة تلائم الأستراتيجية الآسيوية لمعالجة النزاعات الأثنية والأنتفاع من المزايا الأيحابية لتحويل مهام وتفويض صلاحيات للحكومات بالمستوى الأدنى من المركز. وغالبا عند قياس التنظيم الحكومي الآسيوي بالمسطرة الغربية يكون التقييم متحيزا تتضاءل معه المزايا الأيجابية، وقد تكون الدول الآسيوية محققة في تجنبها للفدرالية الأثنية، او القومية، خاصة مع تأكيدهم بان السيطرة الأجنبية قد اسهمت في تعميق الأنقسام الأثني للمجتمع الوطني. ومن الأفضل، في نظرهم، عدم البناء على ذلك الأرث بل محاولة اضعافه بلامركزية او فدرالية هادفة لوحدة المجتمع في نهاية المطاف. لكن من جهة اخرى تطالب الأقليات الثقافية– الأثنية باستقلال ذاتي بصفتهم اللغوية او الدينية، لحمايتهم من هيمنة الأكثرية وتعده من لوازم الديمقراطية، وتبقى هذه المسألة مدار لنقاش وحوار او نزاع سياسي في انتظار الوقت المناسب لتسوية مستقرة.
2 . 3 . مالية الحكومات دون الوطنية في دول م.ت.أ.ت. OECD:
منظمة التعاون الأقتصادي والتنمية، في وضعها الحالي، تضم دولا متقدمة واخرى ناهضة، ومنها فدرالية، وأكثرها دول الحكومة الواحدة على تنوع في بنية نظامها ودرجة اللامركزية المالية. يتراوح متوسط الناتج المحلي للفرد بدولارات متعادلة القوة الشرائية PPP بين 18.0 الف دولار و 59.5 الف دولار كما في الجدول رقم (1) . ومع تفاوت واسع في الثقل النسبي للأنفاق الحكومي من 23.2 بالمائة إلى 58.3 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي. ولقد اظهرت هذه المجموعة تنوعا في المدى الذي وصلت اليه في اللامركزية المالية كما يبينه الجدول رقم (1)، وبالمتوسط كان انفاق الحكومات دون الوطنية من مجموع الأنفاق الحكومي 40.2 بالمائة عام 2014 وهو أعلى من المتوسط لدول الأتحاد الأوربي 32.9 بالمائة. ومن ملاحظة الضرائب والنفقات يتضح ان 78.6 بالمائة من إنفاق الحكومات دون الوطنية يمول بايراداتها الضريبية والباقي تحويلات من الحكومة المركزية وموارد أخرى، بينما تبدو مجموعة الأتحاد الأوربي بالمتوسط اكثر إعتمادا على تحويلا ت المركز إذ تمول ضرئبها 68.7 بالمائة من إنفاقها.
وقدم الجدول رقم (2) مؤشرات عن متوسطات نسبة التحويلات من مجموع الأنفاق الحكومي، للولايات المتحدة الأمريكية وكندا وعدد من الدول الأوربية كلها متقدمة، ولمدة طويلة للسنوات 1995-2016 ، واعلى وادنى ما وصلت اليه، ومنه ان المتوسط لجميع الدول وللفترة بأكملها 10.5 بالمائة من الأنفاق الحكومي، بين 3.3 بالمائة في المانيا و 18.5 بالمائة في هولندا، واعلى ماوصلت اليه في سنوات تلك الفترة 22.6 بالمائة في هولندا. ومن المعلوم ان اللامركزية ليست سياسية وإدارية فقط انما مالية، لكن اللامركزية المالية لا تقتصر على الأنفاق بل هي بالأيرادات، وليس من طبيعة الأمور إقامة لا مركزية تعتمد على تحويلات من الحكومة المركزية بنسبة تزيد على 50 بالمائة من مجموع الأنفاق الكلي وبصفة دائمة.
وحول تقسيم العمل بين الحكم المركزي والمستويات الأقليمية والمحلية هناك تفاوت فيما بين الدول المتقدمة، في بريطانيا مثلا تتولى الحكومة المركزية كل الأنفاق على الصحة وفي فرنسا بنسبة 98 بالمائة وفي هولندا 95 بالمائة من الأنفاق العام على الصحة تتولاه الحكومة المركزية. بينما لا تنفق الحكومة المركزية على الصحة في هولندا سوى 23 بالمائة وفي الدانيمارك 5 بالمائة فقط والباقي على الحكومات دون الوطنية. وفي التعليم ايضا تختلف سياسات الدول، في المانيا تتحمل الحكومات دون الوطنية 95 بالمائة من الأنفاق العام على التعليم، بينما في ايرلندا 22 بالمائة. تلك امثلة لأيضاح كيف ان نظام عمل اللامركزية المالية يخضع لسياسات وطنية وعلى مدى واسع من التنوع في ترتيب التعاون بين مستويات الحكم المختلفة.
الشكل رقم (1) يعرض واقع اللامركزية المالية بدلالة نسبة إنفاق الحكومات دون الوطنية من مجموع الأنفاق وتتدرج الدول من مستويات شديدة الأنخفاض الى ما يزيد على 50 بالمائة من مجموع الأنفاق العام. وبملاحظة هذا التباين يستنتج بسهولة ان اللامركزية المالية لا يعينها النظام السياسي، ومدى تبني الديمقراطية الليبرالية بل لها محددات موضوعية في الأقتصاد والجغرافية وتفضيلات المجتمع. والشكل رقم (2) في الأيرادات الذاتية للحكومات دون الوطنية يؤكد الأستنتاجات السابقة. واوضح الشكل رقم رقم (3) ان الدول لم تتقدم نحو مزيد من اللامركزية بنفس الوتيرة ، فقد تراجعت في بعض الدول وتحركت قليلا في اخرى وتسارعت ايضا في عدد مهم من دول العينة بين سنتي 1995 و 2015. ومن الشكل رقم (4) يفهم ومن تجربة المانيا وهي فدرالية ان اللامركزية قد تبقى متحركة ضمن مدى ضيق بعد ان تصل الدولة المعنية الى استقرار في نظامها الحكومي.
3 . عملية التحول نحو لامركزية مالية اوسع في العراق:
3 . 1 . في الأطار العام للتحول: اللامركزية موجودة في أي نظام اداري، وفي جميع دول الحكومة الواحدة، والدعوة الى اللامركزية، لكي تفهم موضوعيا، تعني اتخاذ إجراءآت لتقليل المركزية. وفي العراق، ايضا، كانت الأدارات المحلية والبلديات تعمل بقدر من الأستقلال المتعارف عليه في الأدارة الحكومية ولها موازنات مستقلة عن الموازنة العامة للدولة، لكن نطاق نشاطها في تطوير البناء التحتي والخدمات العامة بقي محدودا لأعتمادها على اموال مركزية ، لكن اللامركزية في العراق لم تكن سياسية،آنذاك، بل اقرب الى الوكيل التنفيذي للحكم المركزي .
اما في البعد الوظيفي -function-al للأدارة الحكومية في العراق فان تراتبية السلطة تقترن دائما بتفويض متسلسل لصلاحيات الوزير، اضافة على ان الكثير من الصلاحيات هي لامركزية بطبيعتها لأن القانون يعينها للموظف المختص: كما في دوائر تسجيل الملكية ونقلها، والتراخيص، والضرائب، والأحوال المدنية؛ اما الخدمات العامة، والتي تتولاها دوائر الوزارات، مثل التعليم والصحة فهي تقدم للناس لامركزيا بطبيعتها. وينصرف النقاش حول المركزية في قطاع الخدمات الحكومية الى التخطيط والموازنات المالية وبرامج الأستثمار وليس العمل اليومي لتلك الدوائر والوحدات الخدمية، كما ان اللامركزية الوظيفية دائما لها بعد جغرافي.
ولا يبدأ التوجه نحو مزيد من اللامركزية في العراق من فراغ لأن دوائر الوزارات التي يراد نقلها الى المحافظات موجودة هناك وسوف يتغير فقط ارتبطها الأداري، ويبدو ان مهام التوجيه والأشراف والقرار يجري فحصها، في اللجنة العليا للتنسيق، لتعيين ماهي السلطات المركزية التي تنتقل الى المحافظات تدريحيا. ونشير الى ان مركز المحافظة على صلة عمل دائمة مع دوائر الوزارات. والتي تتفاعل مع المحافظة في مرحلة تخطيط البرامج وفيما بعد اتخاذ القرار. ولمجلس المحافظة وسلطتها التنفيذية ثقل سياسي ومعنوي تكترث به الوزارات ودوائرها . ويتركز الأهتمام على تمكين المحافظات من استيعاب المنتسبين والمسؤوليات والموارد بعد تحويل مهام الوزارات التي بينها القانون الى المحافظات. ولقد سبقت اللامركزية السياسية الأبعاد الأدارية والمالية في العراق في ظل الدستور الجديد في العراق، وهذا مما يسهل عملية الأنتقال وما تقتضيه من اتصال وتشاور وترتيبات لأتخاذ القرارات خلال مراحل العملية المتدرجة.
ومن الأفضل التزام منهج موحد للتعامل مع الحكم المحلي والعملية اللامركزية، مع قدرة المحافظات على الأختيار والأبتكار في اساليب خدمة الأهداف، وربما البنية التنظيمية للأدارة، مع الأسراع في اعداد وتعميم ادلة موحدة للتخطيط، واعداد وتقييم وتنفيذ برامج الأستثمار والمشاريع، والأيرادات والتمويل ، فضلا عن تأكيد وحدة معايير المحاسبة والتدقيق وتقارير الأبلاغ المالي.
ان تصميم نظام مالي للحكم المحلي بحجمه المنتظر يتطلب معرفة تفصيلية بإدارة الموازنة ، كما هي الآن، وصلتها العضوية بالتخطيط والبرمجة والأدارة التنفيذية، وهي كلها تعمل سوية في حلقات لتبادل المعلومات وتحضير القرارات والقواعد التنظيمية والتعليمات والتدقيق والرقابة، وباختصار ملاحظة الشبكات التالية:
- تبادل المعلومات وتحضير القرارات بين وزارة المالية ومجلس الوزراء؛
- المراسلات والتنسيق بين دوائر وزارة المالية ووزارة التخطيط في البرنامج الأستثماري خاصة؛
- اتصالات وتبادل معلومات لأعداد الموازنة بين دوائر وزارة المالية والوزارات القطاعية والمحافظات؛
- اتصالات وتقارير لمتابعة المشاريع المدرجة والممولة، واقتراح مشاريع جديدة، بين وزارة التخطيط والوزارات والمحافظات في البرنامج الأستثماري؛
- حركة الطلبات والتعليمات والتخصيصات بين وزارة المالية والوزارات والمحافظات في سياق تنفيذ الموازنة ومتابعة تنفيذها وتعديلها؛
- شبكة اتصالات بين دوائر المحاسبة في وزارة المالية والوزارات القطاعية والمحافظات؛
- حركة مراسلات بين وزارة المالية والبنك المركزي والمصارف لتعزيز الأرصدة النقدية للموازنة والمدفوعات؛
- اتصالات بين الوزارات القطاعية، والمحافظات، والمصارف لأدارة المدفوعات.
ومن المهم ملاحظة إشتغال جميع نقاط الأتصال في الشبكات آنفة الذكر بانظمة عمل وضوابط ولها كوادر وتقاليد إدارة وهي، في نفس الوقت، بأمس الحاجة الى التطوير.
ومن غير الممكن للحكم المحلي، استنساخ تلك المنظومات وتكرارها في 15 محافظة، لأنه خارق لأمكانات العراق ولا يوجد في اية دولة فدرالية، فما هوالحل المناسب. إذ ينبغي ربط عملية التحول وتصميم اللامركزية المالية بمحاولة الأجابة المنهجية على ذلك السؤال، وتحديد النموذج الممكن إقتصاديا للتكامل وتقسيم العمل بين الحكم المركزي والحكومات المحلية. وقد يساعد استخدام نظام لمعلومات التكاليف كثيرا في معرفة مصادر كلفة الخدمات الحكومية المختلفة وتشخيص فرص خفضها، وخاصة السيطرة على المصاربف العامة Overhead Expenses بما يؤمن عدم ضياع موارد اخرى اصبح المجتمع بامس الحاجة اليها.
يزاول الحكم المركزي سيادته وسياساته في تنمية الأقتصاد، وتطوير قاعدة الايرادات بموازاة المورد النفطي في الجغرافية البشرية ذاتها، والتي هي في نفس الوقت تحت ولاية الحكم المحلي، وان الفهم العميق لهذه الثنائية من شروط النهوض الأقتصادي وإستكمال وتطوير البناء التحتي.
ولكي تنجح المحافظات في أستيعاب المهام المحولة بالكفاءة المطلوبة فالتدرج المبرمج هو الأفضل، وايضا نقل الأمكانت الفنية مع المهام والمنتسبين، وبخلافه يصبح الجهاز البيروقراطي في المحافظات عاجزا، وفي الوزارات فائضا معطلا. واذا اقتصرت العملية على ربط الدوائر المركزية في المحافظات بالحكم المحلي هناك فسوف تقطع تلك الدوائر عن امكانات الوزارات التي كانت متكاملة في نظامها،ومن النتائج المتوقعة لهذا الأنقطاع خلل كبيرفي الأداء. ويتعذر تقسيم المديريات العامة في الوزارات وتوزيعها حصصا الى المحافظات لأن نظام العمل غير قابل للقسمة ومن اساسيات عمل النظام تكامل الكوادر وتخصصاتها وخبراتها.
ويبدو، الى الآن، ان الجهازالأداري الحكومي لا يستطيع، او لم يتدرب على العمل خارج ممارسة صلاحيات ادارية وعلى نحو ميكانيكي رتيب، ولذلك تصبح السيطرة ضعيفة مع لا مركزية اوسع ما لم تتمرس مواقع المسؤولية على استخدام ادوات التحكم غير المباشربمنهجياتها المختلفة. كما ان من الضروري تأكيد المسؤولية الأدارية للحكم المركزي وواجباته السياسية في حفظ النظام العام والتزامه الأخلاقي تجاه الكل بجميع مستوياته ومفاصله، وان تلك الواجبات وهذا الألتزام مما يتضمنه مفهوم الدولة الواحدة ووحدة المجتمع الوطني.
3 . 2 . الأيرادات والنفقات: أصبح توزيع إيرادات المصادر الطبيعية من مفردات اللامركزية، والفدرالية المالية، وتزداد اهمية طريقة التوزيع مع درجة الأعتماد على هذا النوع من الأيراد. والعراق من الدول عالية الأعتماد على المورد النفطي ماليا، وفي العقود الأخيرة اصبح اكثر دول المنطقة المصدرة للنفط تمثلا لهذه الخاصية. وتصنف الدول المصدرة للهيدروكاربونات والمعادن في ثلاث مجموعات حسب علاقة الحكومة المركزية والحكومات دون الوطنية مع تلك الأيرادات: المجموعة الأولى لا تميز بين الأيراد النفطي او المعدني وبقية الأيرادات، يستوفى في موازنتها العامة ويخصص ضمن كل الأيرادات دون تمييز. والعراق كان من هذه المجموعة الى وقت قريب، ولا زالت الجزائر والسعودية ودول اخرى على هذا النهج. ومجموعة ثانية يأخذ نظامها المالي بالأعتبار منطقة الأستخراج فتكون لحكومة المنطقة المنتجِة حصة من ايرادات النفط والغاز اوالمعادن، وربما اغلب الدول على هذا الأسلوب لكن حصة المنطقة المنتجِة تتفاوت كثيرا من 50 بالمائة في الصين، وادنى منها في روسيا حيث إتجهت نحو مركزية متزايدة في السنوات الأخيرة، و 13 بالمائة في نيجيريا، وربما قريب من 5 بالمائة في ماليزيا ... وهكذا. وفي العراق حدد قانون المحافظات الأخير مبلغ مقطوع لبرميل النفط المنتج ومثله لمقدار من الغاز 150 متر مكعب ( 30-33 PP، 83 P ، 19). ودول هذه المجموعة تختلف في كيفية وصول حصة الحكومات دون الوطنية، في المناطق المنتجِة، فمنها ما يقتطع مباشرة من المنبع وفي اكثرها تستوفي الحكومة المركزية كل الأيراد ثم تدفح حصة الحكومة المعنية.
وفي الدول التي كانت تخصص للمناطق المنتجِة حصة كبيرة، ادى ذلك الى تفاوت واسع في توزيع الدخل اضطرت معه الحكومة المركزية الى معالجة الأمر بالضرئب والتحويلات الى المناطق ذات الدخل الأقل ومن أمثلتها كندا(19). اما المجموعة الثالثة من دول الموارد الطبيعية فاعتمدت مؤشرات لتوزيع ايرادات المورد الطبيعي ومنها : مستوى الخدمات، والقدرة الأيرادية لحكومة المنطقة، ومدى الضرر البيئي الذي يلحقها، ومؤشرات اخرى والسكان من بينها. وقد اورد قانون المحافظات العراقي المعدل، اضافة على السكان المحرومية، والعجز التنموي والخدمي وما في معناه، أي اقرّ اعتماد مؤشرات من غير السكان، ولكن ليس للمورد النفطي خاصة بل لجميع الموارد وان كانت في مضمونها للمورد النفطي لأنه لا يقل عن 90 بالمائة لحد الآن. ومن بين جميع دول العالم الأمارات العربية هي الوحيدة التي تنفرد الحكومات دون الوطنية فيها بكل الأيراد النفطي (32 P، 19 ). ومما له علاقة الأشارة الى ان مكونات ايراد المصدر الطبيعي تختلف بحسب النظام المالي للأنتاج النفطي، في عقود المشاركة في الأنتاج هناك رسم سيادي Royalty وحصة للدولة من نفط الربح وهو ما يبقى من قيمة النفط المنتج بعد استرداد الشركات لما انفقت، وضريبة دخل على الشركات المتعاقدة. وعند تقسيم الأيراد بين الحكومة المركزية وحكومة المنطقة المنتجِة قد تقرر حصة الأخيرة بنسبة من أحد او اكثر هذه المكونات او جميعها. لكن الأمر في العراق مختلف لأن نظام عقود الخدمة يحول كل الدخل الى الحكومة بعد استرداد الشركات لما انفقت والأجرة المقطوعة على البرميل. وهناك ضريبة دخل على شركات الخدمة ليست لها أهمية كبيرة، وايراد الضريبة هنا يماثل الموارد الضريبية الأخرى على ارباح الشركات.
امكانية المستويات المحلية، في العراق، على تحصيل ايرادات او تنمية القدرة الأيرادية الذاتية محدودة ومن المتوقع ان تبقى هكذا في الأمد المنظور، وربما نتيجة لضعف النظام المالي العام ارتباطا بواقع الأقتصاد واوضاعه التنظيمية ومنها غلبة النشاط الفردي والصغير والتعود على عدم الأكتراث بالأيرادات. ولقد بقيت انظمة الضرائب والرسوم، واساليب التحري والشمول، والمحاسبة الضريبية والتدقيق، وتقدير الأموال والدخول والمكاسب الخاضعة للضريبة وجبايتها، بسيطة بل ومتخلفة. ومع ذلك فقد ظهرت بوادر تحرك ايجابي اذ تشير البيانات الى 10.142 ترليون دينار بلغتها الأيرادات غير النفطية عام 2016 منها ضرائب ورسوم 4.532 ترليون دينار، ويبقى هذا المبلغ منخفضا بالمقاييس النتعارف عليها ( صفحة 67 ، 6). ولذلك لا نتوقع تمكن العراق وعلى المستوى المحلي من تكوين اساس مالي بالأنسجام مع مستوى اعلى من اللامركزية.
ويكاد ينعدم إسهام الأيرادات الذاتية للمحافظات في تمكين اللامركزية المالية، وللتعبير عن ضآلتها وصفت ايرادات بابل والبصرة والنجف بالمتوسط للفرد بأقل من عشر الواحد بالمائة من متوسط مجموع الأيرادات الحكومية للفرد في العراق (iv P ، 20).
وعلى سبيل المثال امانة بغداد وهي بلدية العاصمة، التي ربما يقترب سكانها من ربع السكان الحضر في العراق، كانت ايراداتها 89 مليار دينار عام 2015، حسب مصادر صحفية، وهو مبلغ ضئيل لا شك في ذلك رغم امكاناتها الكبيرة والمتنوعة. وايرادات محافظة البصرة عام 2013 تقريبا 166 مليار دينار وهي من المحافظات ذات القدرات الأيرادية العالية نسبيا، وتبعا لذلك قد لا يتجاوز سقف الأيرادات الذاتية المحلية مبلغ ثلاثة ترليون دينار، بعد تطويرها، إلا بسياسات مغايرة للمألوف وعلى حساب الأيرادات المركزية. أي ان الحكم المحلي في العراق يبقى معتمدا على التحويلات من المركز ربما بما لا يقل عن 90 بالمائة وهوغير مألوف في اللامركزية والفدرالية المالية في العالم.
التحويلات الى المستويات المحلية وصلت عام 2012 عند أعلى مستوياتها بالمبلغ وثقلها النسبي من مجموع الأنفاق. وفي موازنة جمهورية العراق لذلك العام كانت مجموع النفقات 117.123 ترليون دينار: منها 37.178 ترليون دينار للاستثمار ؛ و 79.954 ترليون دينار للنفقات الجارية. وخصصت الموازنة 6.184 ترليون دينار لتنمية الأقاليم والمحافظات؛ ثم 1.676 ترليون دينار لنفس الغرض من الأستثمار؛ ومبلغ آخر 1.073 ترليون دينار. وضمن بنود الموازنة نلاحظ مبلغ 0.232 ترليون دينار للمجالس المحلية؛ و للادارات العامة والمحلية في المحافظات 0.479 ترليون دينار نفقات جارية و 7.305 ترليون دينار استثمارية بمجموع 7.784 ترليون دينار. وبذلك يكون المخصص للمستويات المحلية 15.198 ترليون دينار، بعد طرح حصة الأقليم، 17 بالمائة، من مخصصات تنمية الأقاليم والمحافظات. وعلى فرض ان حكومة العراق بمختلف مستوياتها تتصرف بنسبة 86 بالمائة من مجموع الأنفاق في الموازنة، والباقي يدار في كردستان، يصبح مجموع الأنفاق تحت تصرفها 100.726 ترليون دينار، وبذلك يكون الأنفاق على المستوى المحلي، أي المحافظات والمستويات التالية والتابعة لها، بنسبة 15.1 بالمائة تقريبا من مجموع الأنفاق الحكومي. وبعد اكتمال تحويل الوزارات الخدمية الأربع، الصحة والتربية والبلديات والزراعة يزداد المبلغ بمقدار 17.117 ترليون دينار تخصيصات تلك الوزارات من الموازنة العامة ليصل مجموع الأنفاق المدار محليا الى 32.315 بنسبة 32.08 بالمائة بالمائة من مجموع الأنفاق، عند المقارنة مع الدول الأخرى للتحويلات من المركز الى المستويات اللامركزية، وهي من أعلى النسب في العالم.
وفي عام 2013 وعلى نفس الأسس في التقدير كان مجموع المخصص 14.716 ترليون دينار للأدارات المحلية والدوائر العامة على المستوى المحلي، بنسبة 12.4 بالمائة من مجموع الأنفاق المخطط خارج كردستان. وعند اضافة تخصيصات الوزارات التي تنتقل الى الحكم المحلي بمبلغ 19.325 يرتفع مجموع المبالغ المحولة من المركز الى الحكم المحلي ليصل 34.041 ترليون دينار بنسبة 29.29 بالمائة من مجموع الأنفاق. واذا ما تم نقل دوائر بقية الوزارات التي بيّنها التعديل الثاني لقانون المحافظات وهي الأسكان والتعمير، والعمل والشؤون الأجتماعية، والمالية، والرياضة والشباب ترتفع نسبة ما تتصرف به المحافظات من المال العام كثيرا. و ونكتفي بتقديرات سنتي 2012 و 2013 لأن ما بعدهما اوضاع استثنائية، وهي مؤشرات اولية في انتظار اصدار الجهات المختصة لتقارير متسقة حول الأيرادات والنفقات على المستوى المحلي. ولا تشمل تلك المبالغ والنسب مخصصات " البترودولار" للمحافظات المنتجة للنفط والغاز والنفط المصفى في تلك المحافظات، وخصصت موازنة عام 2011 مبلغ 1.634 ترليون دينار على اساس 1 دولار لبرميل النفط الخام المنتج او المصفى او لمقدار 150 متر مكعب من الغاز(7). وعند فرض 5 دولار للبرميل المنتج او المصفى والكمية النظيرة من الغاز، وفي حالة تطبيقها، فد تقترب المبالغ المحولة من هذا الباب الى 10 ترليون دينار، وهي كبيرة وتؤدي الى تفاوت في درجة اللامركزية المالية بين المحافظات، فضلا عن فرص الرفاه، ولذلك ربما يعاد النظر بها. لكن المبلغ المقرر دفعه للبرميل المصفى قد دفع مثله عندما انتج ، وايضا يختلف الأساس التفسيري لهذه المدفوعات. فاذا كان القصد التعويض عن الأضرار البيئية فهذه تنتمي الى سبب آخر والأفضل ان تدرج ضمن ضرائب البيئة والتي تشمل ليس التصفية فقط بل جميع مصادر التلوث، وقد تناولها القانون بان اجاز للمحافظة فرض ضرائب عن تلويث البيئة.
ولا يمكن النظر الى تعويض المحافظات المنتجة بمعزل عن الدستور الذي يساوي بين المحافظة المستقلة والأقليم في كل شيء، أي ان النظام فدرالي سياسي بصفة شاملة في نصوصه، ومن جهة أخرى قد يحصل خلط بين الوضع الخاص لكردستان في الدولة العراقية والنظام الفدرالي. وربما هناك غموض بشأن الكيفية التي يمكن ان يعمل فيها النظام الحكومي في العراق على نحو مغاير عما كان عليه. ومن أعقد المشاكل التي تواجه العراق وكردستان في الحاضر والمستقبل في كيفية ايجاد صيغة لجعل هذه العلاقة نظامية ومنسجمة مع مرجعيات محترمة لتعريف الحقوق والألتزامات، وفي نفس الوقت ممكنة سياسيا.
3 . 3 . قانون المحافظات وما بعده: يتطلب تنفيذ قانون المحافظات العراقي، رقم 21 لسنة 2008 المعدل، اصدار قواعد تنظيمية لكيفية عمل نظام اللامركزية المالية في اعداد وتنفيذ الموازنة، والضبط المالي، وعلاقتها باستراتيجية المحافظة للتنمية الأقتصادية وتطوير البناء التحتي. وقد بين القانون في التعديل الثاني، حزيران 2013، ابواب الأيرادات: تحويلات من الموازنة المركزية، واضاف الى معيار السكان المحرومية وتوازن التنمية بين المحافظات؛ ومن اجور الخدمات التي تقدمها وعوائد مشاريعها الأستثمارية؛ والضرائب والرسوم والغرامات ؛وبدلات بيع او ايجاراموال الدولة المنقولة وغير المنقولة؛ وبدلات ايجار الأراضي المستغلة من قبل الشركات؛ وضرائب تعويض التلوث تفرض على الأنشطة الأنتاجية ؛ ونصف ايرادات المنافذ الحدودية؛ وخمسة دولارات عن برميل النفط المنتج او 150 متر مكعب من الغاز ومثلها عن برميل النفط المصفى. وكان القانون مقتضبا في ادارة النفقات وضوابط تخصيصها.
ولكن القانون لم يغلق فرص تطوير اللامركزية المالية، وخاصة امكانية توسيع ايراداتها الذاتية استنادا الى قوانين اتحادية سارية او تصدر فيما بعد. وهنا ايضا تتأكد الحاجة الى اعداد دليل شامل يساعد المحافظات في تطوير مهامها الأنفاقية، وفي الأيرادات، ارتباطا مع اللامركزية الأدارية ، التي مارستها. وشكّل القانون هيئة سماها تنسيقية برئاسة رئيس مجلس الوزراء تتولى نقل "الدوائر الفرعية والأجهزة والوظائف والخدمات والأختصاصات " التي تمارسها وزارات : البلديات والأشغال، الأعمار والأسكان، العمل والشؤون الأجتماعية،التربية، الصحة ، الزراعة، المالية، والرياضة والشباب الى المحافظات. وتنقل تلك الدوائر مع اعتماداتها المخصصة لها بالموازنة العامة والموظفين والعاملين فيها، ويبقى للوزارات دور التخطيط للسياسات العامة.
ولم يقيد القانون المحافظات سوى بالصلاحيات الحصرية للسلطات الأتحادية المنصوص عليها في مواد دستورية، وجاء هذا الأطلاق في الوظيفية التشريعية والرقابية لمجلس المحافظة، كما في ممارسة المحافظ للصلاحيات المقررة في الدستور والقوانين . وايضا في المهام المشتركة تكون الأولوية لقانون المحافظات على القوانين الأتحادية الأخرى عند التعارض. وعند التشاور مع الوزارات حول مختلف السياسات وفي حالة عدم الأتفاق تعمل المحافظة بما تراه.
ويفهم من القانون، كما هو الدستور اصلا، ان اللامركزية في العراق ستكون واسعة جدا، وهي سياسية وادارية ومالية، والسلطات المركزية مقيدة بصلاحيات لا تتجاوزها. والأفضل من ذلك ، فيما ارى، مراجعة الدستور وتعديله نحو توازن في السلطة والدور. ثم ما فائدة تخطيط الوزارات للسياسات العامة اذا كانت المحافظات في النتيجة تعتمد ما تراه مناسبا حسب نصوص القانون رقم 21 لسنة 2008 المعدل. وربما حصل التباس في فهم السياسات العامة فهذا التعبير مترجم اصلا عن Public Policies وهي جميع السياسات التي تنظم عمل الدولة واداء اجهزتها للوظائف المطلوبة، بما في ذلك ادامة وتطوير البناء التحتي والخدمات العامة في التربية والتعليم والصحة .... وغيرها ، وهنا عام بمعنى Public وهو شامل للحكومة وكل ما يتبع الدولة. وعند ترجيح سياسات المحافظة على سياسات الحكومة وفي نفس الوقت نقل وظائف الوزارات الى المحافظات اين تزاول السلطة الأتحادية واجبها الدستوري في السياسات العامة وحفظ النظام. وان نصوص الدستور قد تنطوي على قدر من التناقض، هنا او هناك، ولا بد من عرضها عند التفسير والتشريع على مبادئ اساسية تستمد من مفهوم الدولة ووحدتها ووظائفها والعنصر الجوهري في وجودها وهو السيادة.
والقانون الذي قرر نقل مهام ثمان وزارات الى المستوى المحلي لم يتناول بالحد الأدنى كيف تدار تلك الأنشطة وكيف ستنتظم العلاقة بين الرئيس التنفيذي ورؤساء دوائر القطاعات الخدمية المنقولة مركزيا. وعلى وجه الخصوص، ولأن نسبة السكان الحضر في العراق تزيد على 70 بالمائة، تصبح ادارة المدن بعد حل وزارة البلديات اهم مسؤوليات المحافظة، وكان الأولى الأشارة الى الأدارة المالية للبلديات والحفاظ على استقلالها كما جرت تقاليد الأدارة المحلية في العراق.
ولولا هذه الحساسية من المركز والتي عكستها نصوص الدستور وتبناها قانون المحافظات يمكن للمحافظ ان يتولى دور الوكيل التنفيذي للحكم المركزي، بالأشراف والنسيق، ومن خلال مجموعة يرأسها، على كل النشاط الحكومي هناك، وادارة عملية التطوير الشامل للمحافظة. واغفل القانون مساألة التعاون بين المحافظات. وهي غاية في الأهمية في العديد من المجالات للأستفادة من وفورات الحجم الكبير للأنشطة المشتركة.
ان استقلال الحكم المحلي عن المركز بالشكل الذي صوره القانون يفترض قطعا قوة المجتمع المحلي، ودور الأنتخابات وهذه مسألة تبقى موضع نقاش ومراقبة.
يفهم من تجربة دول منظمة التعاون الأقتصادي والتنمية ان دور الحكومات دون الوطنية في الأستثمار العام قريب الى 65 بالمائة بالمتوسط التجميعي، وهي لا تتمكن من هذا الأنجاز الا بالتعاون والأعتماد المتبادلين مع المركز بلا انقطاع. وهو ما نحتاج اليه في العراق، ولحد الآن لا يفهم بان توسيع اللامركزية في العراق يجري ضمن اعادة بناء شاملة للقطاع الحكومي لضمان التخصيص الأمثل للموارد لأستقصاء الكفاءة وتسريع نمو الأقتصاد غير النفطي وهذا النقص من المخاطر التي تهدد مستقبل الأقتصاد العراقي.
والمسألة الأصعب في مجال ادارة المشاريع الأستثمارية الكبيرة والتي تتطلب دوائر متكاملة فنيا قد لا يكون من المجدي ماليا للمحافظة تكوينها والأحتفاظ بها من اجل ادارة عدد قليل من المشاريع الكبرى في تطوير البناء التحتي بين فترات زمنية متباعدة . وهذ ا العامل المهم في كيفية الملائمة بين خفض التكاليف الأدارية، والتي تنتقص زيادتها من فرص الرفاه لأهل المحافظة، وزيادة الأستقلال الذاتي في ادارة الأنفاق العام هناك.
العراق له تجربة واسعة في اللامركزية المرفقية والتي تمثلت في المؤسسات المستقلة ماليا واداريا وهي كل الشركات العامة في جميع القطاعات والمصارف، واخرى فيما يسمى الدوائر غير المرتبطة بوزارة ومنها امانة بغداد اكبر بلدية في العراق، والهيئات المستقلة. وللملائمة بين التوسع في اللامركزية المناطقية، المحافظات، ومشكلة صعوبة تحقيق الكفاية والتكامل المطلوب في الجهاز البيروقراطي، يمكن استحداث تشكيلات جديدة تعمل على اساس اللامركزية المرفقية تقدم خدماتها لجميع الجهات التي تحتاجها. ونقترح في هذا الصدد تكوين شركات متخصصة عالية الأهلية بإدارة برامج الأستثمار والمشاريع، وتعمل هذه التشكيلات المستحدثة بالأجرة، لمساعدة المحافظات بل وحتى الدوائر المركزية في ادارة برامج التطوير والمشاريع. وبذلك تقتصد المحافظات بمواردها بالأستغناء عن دوائر مكلفة لأعداد وثائق المشاريع والتصاميم وتحليل العروض والأحالة ومتابعة التنفيذ ... والكثير من التعقيدات التي كانت من اخطر بؤر الفساد المالي في التجربة السابقة.
يتطلب الأمر منظومة مؤشرات معيارية تربط بين مدخلات ومخرجات الأداء الحكومي على المستوى المركزي ودون المركز ومنها في جانب المدخلات الأنفاق والمنتسبين وفي المخرجات معدلات الخدمات للفرد حسب الأنشطة الخدمية من تعليم وصحة ... وغيرها ، وألأنجازات في البناء التحتي : الطرق، ومنظومات الصرف الصحي، ومياه الشرب ، والأبنية الخدمية ... وسواها هذا اضافة على الأهتمام بالأداء الأقتصادي متمثلا بنمو القطاعات السلعية وخاصة الصناعة التحويلية ومجمل نمو الأقتصاد غير النفطي. وعلى المستوى المركزي، خاصة، لم يعتنى بمافيه الكفاية، لحد الآن، بمنهجيات الأشراف والتوجيه والضبط على المستويات الكلية والوطنية ومنها: الحسابات الأقتصادية التجميعية على المستويات الوطنية ودون الوطنية، ولم تجمّع ايرادات ومصروفات الحكومة العامة، التي تشمل المركزية وحكومات دون المركز والوحدات المستقلة الأخرى على المستوى المحلي. ولم تعد بانتظام ميزانية عمومية موحدة للقطاع العام الذي يشمل الحكومة العامة، آنفة الذكر، وجميع الكيانات التابعة للدولة بما فيها المنشآت الأقتصادية العامة والهيئات المستقلة، للسيطرة على المركز المالي للقطاع العام وتغيراته وعناصر تلك التغيرات. وان وضوح المقاصد وتحديد المسؤوليات والمساءلة وقبل ذلك المبادئ الناظمة للعلاقة بين المواطن والدولة، وقيم الناخبين والمعايير التي تنبثق عنها في قياس اداء شاغلي المواقع القيادية، والتي تحكم عملية تداول تلك المواقع هي المسألة الجوهرية في الديمقراطية.
ثم ان العراق بأمس الحاجة لرفع كفاءة الأداء ومباشرة نهضة اقتصادية واسعة وهنا لا بد من وضع الحكومة المركزية امام مسؤولياتها، وهذه تتطلب توازن النفوذ والدور بين المستوى المركزي والحكومات دون المركز. وفي هذه المسألة تظهر ضرورة اعادة النظر بالدستور من اجل الأزدهار والنمو والعدالة الأجتماعية.
اللامركزية في العراق اوسع من ان تحصر في دوائر المحافظة والقانون رقم 21، بل لا بد من تنسيقها مع واقع لامركزية دوائر الوزارات ضمن النطاق الجغرافي للمحافظة وامكانات تلك الدوائر متمثلة في تخصيصاتها المالية وجهازها البيروقراطي. وان التنسيق بين: الصلاحيات الأدارية والموارد الذاتية، والمحولة من المركز، مع صلاحيات الأنفاق في غاية الأهمية لأنجاح اللامركزية والحكم المحلي في العراق.
وايضا، ثمة حاجة لأمعان النظر في تقسيم المسؤوليات الأدارية في مهام تقديم الخدمات العامة بين المركز وحكومات المحافظات، وحسب متطلبات الكفاءة والمساءلة والرقابة، ومن هي الجهة الأقدر على ضمانها. و مما له علاقة بمستقبل اللامركزية المالية تنمية الموارد الذاتية لتمويل الأنفاق المحلي والتي تعتمد على اهلية الجهاز المالي للمحافظة، ومسار التنمية الأقتصادية هناك والتي من شأنها توسيع قواعد الضرائب والرسوم المحلية. ومثلما يفتقر العراق الى قدر مناسب من الموارد غير النفطية من اجل مواكبة مجموع الأيرادات للطلب المتزايد على الأنفاق الحكومي ، كذلك تفتقر المحافظات الى موارد مالية من الأنشطة الأقتصادية للمحافظة ويتزايد اعتمادها على التحويلات المركزية، وهي نقطة الضعف في اللامركزية المالية في العراق. ويبقى التنسيق على المستوى الوطني ضروريا لتجنب التنافس السلبي بين المحافظات في تسهيل الأعمال واستقطاب الأستثمار، او المبالغة في الضرائب، فيما بعد، او اتخاذ اجراءآت تعرقل حركية الموارد بما فيها العمل بين المحافظات وتلك الحركية، وما تعنيه من سعة ووحدة فضاء الموارد، من اساسيات النمو الأقتصادي.
خاتمة:
راجع البحث تجارب متنوعة في اللامركزية المالية في تناسبها وتلازمها مع اللامركزية الأدارية وبمختلف درجاتها السياسية، في أنظمة الحكومة الواحدة والفدرالية، متمركزة ولا مركزية، تستند الى اقرار دستوري او بالأمر الواقع، لدول متقدمة واخرى نامية او ناهضة، كبير ة الحجم السكاني او مقاربة للعراق او ادنى حجما من سكانه. ولا يخفى ان حدود البحث لا تسمح بتوثيق تلك التجارب بتفصيل كافي. لقد بنيت ااستنتاجات البحث على ما تيسر من دراسات وثّقت النظام الحكومي وبيانات اللامركزية المالية والفدرالية، عن الدول التي توفرت عنها، لمعرفة المسارات الممكنة واقعيا واستشراف آفاقها في العراق . وتبيّن بوضوح انها عملية طويلة الأمد ولا تبقى على وتيرة واحدة .
كما ان اللامركزية او الفدرالية، في الممارسة الواقعية، يتعذر فهمها ومن داخل آليات عملها من النصوص الدستورية والقانونية. وهي متصلة على مقياس متدرج وأبعد ما تكون عن الثنائية: مركزية ولا مركزية، او فدرالية ولا فدرالية. وهي عملية اكثر منها صفة ثابتة للدولة ، وخاصة في العالم النامي والدول الناهضة والتي لم تصل لأستقرارها النهائي في البنية السياسية والأدارية والمالية. وتتفاوت الأشواط التي بلغتها اللامركزية بين ابعادها السياسية والأدارية والمالية. وعموما الأيرادات الذاتية والتحويلات من الموازنة المركزية الى الحكومات دون الوطنية هي القيد على ما يمكن ان تصله اللامركزية الأدارية. وكلاهما تتوقف فاعليته، والكفاءة ومدى خدمة الأهداف التي وجدت من اجلها اللامركزية، على التوازن المناسب في السلطات والوظائف بين المركز والحكم اللامركزي، وايضا على استعداد المجتمع المحلي لمساءلة الهيئات الحاكمة هناك والرقابة عليها، وايضا مدى حضور الثقافة المدنية وسيادة القانون. وتصطدم اللامركزية بالمؤهلات الواطئة للجهاز البيروقراطي، وضغوط مجموعات المصالح المتنفذة والفساد الأداري والمالي. ويستفاد من التجارب ان من الخطأ الحكم مسبقا على افضلية النظام الأكثر لامركزية في النمو الأقتصادي والعدالة الأجتماعية وانهاء احتمالات النزاع والحرب والنزعات الأنفصالية. ان اللامركزية لا بد من النظر اليها في سياق حاجة العراق الى تطوير جذري للنظام الحكومي على اساس الكفاءة في اداء الوظائف، ومن تجلياتها النوعية العالية والكلفة الواطئة. ويتطلب الأمر التحرك نحو تكوين اساس للأيرادات الذاتية في المحافظات ، ضمن برامج للتنمية الأقتصادية تلعب الجهود والمبتكرات المحلية الدور الأكبر فيها، وذلك لتستند اللامركزية على اسس موضوعية رصينة. ومما له صلة يبدو ان الأقتصاد المعتمد على صادرات الموارد الطبيعية اقل اهلية في اللامركزية من الأقتصاد الأعتيادي، بمعنى ان نتائج التوسع بعيدا عن المركز قد تنطوي على نتائج ضارة ان لم يعتنى بتصميمها جيدا. ومن الضروري تجنب البناء على هفوات الدستور انتظارا لأعادة صياغته حسب افضل قواعد العمل في الدول الناجحة، أي كيف يغمل النظام على افضل وجه، وو ضع اللامركزية على مسار التطور الأقتصادي والأداري والأجتماعي دون حسمها في فترة قصيرة بعد تاريخ طويل من النزاع وأضطراب خيارات المجتمع.
ان البحث في المركزية واللامركزية يختلف عن تقييم اداء الحكم المركزي بعد عام 2003 وقبل ذلك بعد الجمهورية او منذ تأسيس المملكة، بل هو البحث في شروط حماية " بذور الزمن" ، الحلم، ان لم يكن مستقبلا منشودا لعراق صناعي واقتصاد مزدهر بالأمن والعدالة الأجتماعية واطيب ثمار الحضارة.
المصادر:
(1) Wyplosz, Charles, The Centralization- Decentralization Issue, European -union- , 2015.
(2) Treisman, Daniel, Defining and Measuring Decentralization: A Global Perspective, Department of Political science , university of California, March 2002.
(3) www.oecd.org, OECD Fiscal Decentralization database .
(4) Polten, Eric, P. and glezl, Peter, Federalism in Canada and Germany: Overview and Comparison, Polten and Associates, 2014.
(5) Falleti,Tulia,G. A Sequential Theory of decentralization and Its effects on the Intergovernmental Balance of Powewr: Latin American Cases in Comparative Perspective, Kellogg institute, Working Paper No. 314, July 2004.
(6) البنك المركزي العراقي ، النشرة الأحصائية السنوية لعام 2016.
(7) موقع وزارة المالية، قانون موازنة جمهورية العراق لسنوات مختلفة.
(8) Dafflon , Bernard, and Madeies, Thierry, Decentralization: A Few Principles from the Theory of Fiscal Federalism, afd, Notes and documents No. 42, June 2011.
(9) Brillantes, Alex B., and Moscare, Donna, Decentralization and Federalism in the Philippines: Lessons from Global Community.
(10) OECD , Subnational Governments In OECD Countries: Key Data, 2016 edition, OECD.
(11) Harverd.edu/fs/pnorris/Acrobat/Driving Democracy, Chapter Seven.
(12) Treisman, Daniel, Defining and Measuring Decentralization: A Global Perspective , Department of Political Science University of California, Los Angeles, March 2002.
(13) Kee, James Edwin, Fiscal Decentralisation: Theory as Reform< The George Washington Univercity.
(14) Tong, Jinzhi, et al," Fiscal Decentralization, Multi- Level Government Competition and Local Non- Tax Revenue: Dynamic Spatial Panel Model Estimation Based on Provincial Data from 2000- 2010", Journal of Chinese Tax & Policy( 2013)Volume 3 , Special Issue, The university of Sydney.
(15) , Johnson, Craig, Decentralization in India: Poverty, Politics and Panchayati Raj ,Overseas Development Institute, Working paper 199, London , February 2003.
(16) Tranchant, Jean-Pierre , Does Fiscal Decentralization Dampen All Ethnic Conflicts? The heterogeneous Impact of Fiscal Decentralization on Local Minorities and Local Majorities, MPRA, 2010.
(17) Khattak, Naeem Rehman, et al, Fiscal Development Review 49:4PartII (Winter 2010) PP. 419-436.
(18) Leschenko, Natalie, andtroschke, Manuela, fiscal Decentralization in Centralized states: The Case of Central Asia, working Paper No. 261 April 2006, Osteuropa _ Intitut Munchen.
(19) UNDP, Natural Resource Revenue Sharing, Natural Resource Governance Institute, UNDP September 2016.
(20) World Bank, Decentralization and subnational service delivery in Iraq: status and way forward , Report No: AUS17063, March 2016, GGO23 ,Middle East and North Africa, World Bank.
(21) Rodriguez- Pose, andres, and Kroijes, Anne, Fiscal Decentralization and Economic Growth in Central and Eastern Europe, LSE, LEQS Paper No. 12/2009.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية